أبحاثسقوط بشار الأسد، الرئيس الفار والمخلوع

مقومات متاحة.. المعجزة الاقتصادية السورية بين التحديات والفرص الممكنة/ عبد العظيم المغربل

2025.04.05

تشهد سوريا اليوم مرحلة مفصلية على المستويات الاقتصادية والسياسية والاجتماعية، حيث تسعى البلاد للخروج من تبعات أكثر من عقد من الحرب، وذلك بعد سقوط نظام الأسد، وبينما تستمر الأزمة الاقتصادية نتيجة التضخم وارتفاع كلفة المعيشة، ونقص الموارد الأساسية، والعقوبات الاقتصادية، تُطرح تساؤلات حول إمكانية تحقيق معجزة اقتصادية سورية، على غرار تجارب دول أخرى تجاوزت مراحل الدمار نحو نهضة اقتصادية، مثل ألمانيا بعد الحرب العالمية الثانية التي نجحت في إعادة بناء اقتصادها خلال فترات قصيرة نسبياً.

ما هي التحديات الاقتصادية الراهنة أمام المعجزة الاقتصادية السورية؟

تراجعت حدّة العمليات العسكرية بشكل كبير جداً في أجزاء واسعة من البلاد مقارنة بسنوات الحرب، إلا أن الواقع الأمني لا يزال غير مؤمن بالشكل المناسب بالرغم من حصول تقدم سياسي واضح؛ حيث يقول في هذا الإطار الباحث الاقتصادي أدهم قضيماتي في مقابلة مع تلفزيون سوريا: “بالرغم من تقدم العملية السياسية بطريقة صحيحة، إلا أن الوضع ميدانياً ما زال يحتوي على بعض العثرات الكبيرة، مثل استمرار مشكلة قسد في شرقي سوريا، والمشاكل في الجنوب السوري، ومشاكل فلول النظام في الساحل، وهذا ما يجعل المستثمر ينحجب عن الاستثمار في البلاد”.

بجانب ذلك، ما يزال الاقتصاد السوري يواجه أزمات هيكلية عميقة تضعف قدرته على التعافي والنمو. إذ ما تزال الليرة السورية تشهد تدهوراً مستمراً أمام العملات الأجنبية، مما أدى إلى تآكل القدرة الشرائية للمواطنين، في ظل انخفاض الدخل وارتفاع كلفة المعيشة، ما زاد الضغوط على الطبقات الفقيرة والوسطى، وجعل الوصول إلى الاحتياجات الأساسية أكثر صعوبة.

كما أن العقوبات الغربية، خصوصاً الأميركية، تستمر في فرض قيود صارمة على التعاملات المالية الخارجية، وتقليص تدفق الاستثمارات الأجنبية، وإعاقة استيراد المواد الضرورية لإعادة الإعمار. وتحدّ هذه العقوبات من قدرة الاقتصاد السوري على الاستفادة من بعض الإعفاءات والتراخيص من العقوبات الأوروبية، مما يزيد من عزلة البلاد الاقتصادية ويُفاقم الأزمة المالية.

في الوقت نفسه، لا تزال البنية التحتية الأساسية في حالة تدهور مستمر، حيث تعاني شبكات الكهرباء والمياه والاتصالات والطرق من ضعف كبير، مما يشكّل عائقاً رئيسياً أمام أي جهود لإعادة إحياء القطاعين الصناعي والزراعي بشكل مستدام. ويتفاقم هذا التحدي مع استمرار نزيف رأس المال البشري، حيث فقد الاقتصاد السوري خلال سنوات الحرب والنزوح جزءاً كبيراً من الكفاءات المهنية والعمالة الماهرة، ما انعكس سلباً على مستويات الإنتاجية، وأضعف القدرة التنافسية للقطاعات الاقتصادية المختلفة، وزاد من تعقيد جهود إعادة الإعمار والتنمية.

الدروس المستفادة من المعجزة الاقتصادية الألمانية

رغم اختلاف السياقات بين ألمانيا ما بعد الحرب العالمية الثانية وسوريا اليوم، إلا أن التجربة الألمانية تقدم دروساً قيّمة يمكن الاستفادة منها في صياغة نهج اقتصادي سوري يهدف إلى تحقيق تعافٍ مستدام.

أولاً: قامت ألمانيا الغربية بإجراء إصلاحات اقتصادية جذرية بمجرد انتهاء الحرب، تضمنت إلغاء القيود المفروضة على الأسعار، وإعادة هيكلة النظام المصرفي، وتحفيز المنافسة الاقتصادية، مما أسهم في استقرار الأسواق وتعزيز الإنتاج. في الحالة السورية، لا يمكن تحقيق أي تعافٍ اقتصادي دون إعادة هيكلة السياسات المالية والتجارية، وخلق بيئة أعمال تحفّز على الاستثمار والإنتاج.

ثانياً: لعب القطاع الخاص دوراً محورياً في المعجزة الاقتصادية الألمانية، حيث تم منحه حرية أكبر في اتخاذ القرارات الاستثمارية، مما أدى إلى انتعاش سريع للقطاعات الإنتاجية. في سوريا، يتطلب تحقيق أي انتعاش اقتصادي تحرير السوق من القيود البيروقراطية والفساد، وتمكين الشركات الصغيرة والمتوسطة، وإطلاق مشاريع استثمارية تساهم في تحريك عجلة الاقتصاد.

ثالثاً: لم يكن النمو الألماني مجرد مصادفة، بل جاء نتيجة تخطيط اقتصادي استراتيجي يهدف إلى إعادة بناء البنية التحتية، وتعزيز الصناعات التصديرية، وتحقيق الاستقرار النقدي. تحتاج سوريا اليوم إلى رؤية اقتصادية شاملة تُبنى على تخطيط طويل الأمد، يشمل تطوير القطاعات الحيوية مثل الزراعة والصناعة والخدمات والتعليم والصحة، وضمان الاستقرار النقدي والمالي.

رابعاً: استفادت ألمانيا من برنامج “مارشال” الذي وفّر لها الدعم المالي لإعادة الإعمار، ولكن العامل الأهم كان قدرتها على خلق بيئة استثمارية آمنة جاذبة لرأس المال المحلي والأجنبي. في سوريا، ورغم غياب دعم مالي دولي مماثل، فإن تحسين بيئة الاستثمار، وتقديم حوافز واضحة، وإنشاء صندوق ثروة استثماري، وطمأنة المستثمرين المحليين والدوليين، يمكن أن يكون مفتاحاً لجذب الأموال الضرورية لتحريك الاقتصاد.

خامساً: أدركت ألمانيا أن إعادة بناء البنية التحتية هو شرط أساسي للنهوض الاقتصادي، ولذلك تم توجيه جزء كبير من الاستثمارات نحو إنشاء شبكات طرق حديثة، وتطوير الموانئ والقطاعات الخدمية. في سوريا، يمثل إعادة تأهيل الكهرباء والمياه والطرق والاتصالات أولوية ملحّة، نظراً لأثرها المباشر على تحسين بيئة الأعمال وتشجيع الإنتاج المحلي، لكن الكلفة العالية لإعادة تأهيل هذه البنية التحتية يحفّز الإدارة الجديدة للبلاد على التوجّه نحو خصخصة قسم من هذا القطاع، خصوصاً محطات الكهرباء.

سادساً: لعب التعليم والتدريب المهني دوراً رئيسياً في المعجزة الاقتصادية الألمانية، حيث تم التركيز على إعداد كوادر مؤهلة قادرة على تلبية احتياجات سوق العمل الجديد. في سوريا، يُعدّ الاستثمار في الموارد البشرية وتطوير التعليم والتدريب التقني أمراً مهماً لرفع كفاءة القوى العاملة وتحفيز النمو في القطاعات الإنتاجية.

سابعاً: اعتمدت ألمانيا على سياسة نقدية صارمة تهدف إلى تحقيق استقرار العملة والسيطرة على معدلات التضخم، وهو ما عزز ثقة المستثمرين والمستهلكين. في الحالة السورية، فإن أي مسار اقتصادي ناجح يجب أن يتضمن سياسات مالية ونقدية واضحة، تضمن استقرار قيمة الليرة السورية، وتحدّ من التضخم، وتوفر بيئة نقدية مستقرة للاستثمار والتجارة.

المقومات الداخلية لتحقيق المعجزة الاقتصادية السورية

رغم الأزمات العميقة التي يواجهها الاقتصاد السوري، لا تزال هناك مقومات داخلية يمكن أن تشكّل نقطة انطلاق نحو التعافي وإعادة البناء إذا ما تم توظيفها بشكل مدروس وفعال.

يُعدّ رأس المال البشري والكفاءات المهنية من أهم هذه المقومات، حيث تمتلك سوريا شريحة واسعة من المتعلمين وأصحاب الخبرات في مجالات الهندسة والطب والعلوم والصناعات الحرفية، بالإضافة إلى المغتربين الذين حصلوا على تعليم متقدم في مختلف البلدان. يمكن لهؤلاء أن يلعبوا دوراً محورياً في إعادة الإعمار وتحقيق التنمية الاقتصادية، لا سيما إذا تم توفير بيئة عمل مستقرة تحفّزهم على البقاء أو العودة من الخارج للمساهمة في نهضة البلاد.

الموقع الجغرافي الاستراتيجي لسوريا يمنحها ميزة لوجستية مهمة، إذ تربط بين الشرق الأوسط وأوروبا، مما يجعلها محوراً رئيسياً للتجارة والنقل. الاستفادة من هذه الميزة تتطلب تحقيق الاستقرار الأمني وتطوير البنية التحتية، بما يشمل الموانئ والطرق والسكك الحديدية، لتحويل سوريا إلى مركز إقليمي لعبور البضائع والطاقة.

القطاع الزراعي يُعدّ أحد أعمدة الاقتصاد السوري، نظراً لتوفر الأراضي الخصبة، والمناخ المتنوع، والموارد المائية، واليد العاملة الماهرة. هذا القطاع قادر على تحقيق الأمن الغذائي وتعزيز الصادرات الزراعية إذا تم تحديث أساليب الإنتاج، وتحسين تقنيات الري، وتشجيع الاستثمار في الصناعات الغذائية التكميلية. ويقول الباحث الاقتصادي أدهم قضيماتي في هذا الإطار: “إنه من الضروري تطوير القطاع الزراعي”، مشيراً إلى أن سوريا كانت تتمتع بقدرة تصديرية كبيرة قبل عام 2011، ويمكن أن تحقق اليوم اكتفاءً ذاتياً يعزز إيرادات النقد الأجنبي إذا ما عاد القطاع إلى مساره الإنتاجي السابق.

الصناعات التحويلية والتقليدية كانت ولا تزال جزءاً أساسياً من الاقتصاد السوري، حيث تتمتع البلاد بتاريخ طويل في الصناعات النسيجية، الغذائية، وصناعة الأدوية. دعم هذا القطاع يتطلب تقديم حوافز للمستثمرين، وتحسين البنية التحتية، وخاصة في مجال الطاقة، وتحديث خطوط الإنتاج لتعزيز القدرة التنافسية في الأسواق المحلية والعالمية.

التجارة والأسواق الإقليمية كانت دائماً جزءاً رئيسياً من النشاط الاقتصادي السوري، ومع تحسن العلاقات الإقليمية والاستقرار الأمني يمكن لسوريا أن تستعيد مكانتها كمحور تجاري عبر تعزيز التكامل الاقتصادي مع الدول المجاورة، وإقامة مناطق تجارية حرة تجذب الاستثمارات وتزيد من تدفق السلع والخدمات.

ريادة الأعمال والاقتصاد الرقمي يمثلان نافذة جديدة للنمو الاقتصادي، حيث يفتح انتشار الإنترنت والتطور التكنولوجي آفاقاً واسعة لخلق فرص عمل جديدة، خاصة من خلال دعم المشاريع الناشئة في مجالات التكنولوجيا، والتجارة الإلكترونية، والخدمات الرقمية. الاستثمار في هذا المجال يمكن أن يساهم في إدماج الشباب السوري في الاقتصاد العالمي وتوفير فرص عمل مبتكرة تدعم التنمية المستدامة.

ماذا تحتاج سوريا لتحقيق المعجزة الاقتصادية؟

لتحقيق نهضة اقتصادية حقيقية متمثلة في معجزة اقتصادية سورية، تحتاج البلاد إلى تنفيذ إصلاحات جذرية وشاملة، تبدأ بتحقيق الاستقرار الأمني كشرط أساسي لأي انتعاش اقتصادي أو استقرار سياسي واجتماعي. لا يمكن لأي اقتصاد أن ينمو في ظل بيئة مضطربة، حيث تؤدي الأوضاع الأمنية غير المستقرة إلى عزوف المستثمرين وتراجع الثقة بالسوق. لذا، فإن تعزيز الاستقرار الأمني وإيجاد حلول مناسبة للأزمات الداخلية والخارجية سيكون المدخل الرئيسي لتحفيز النشاط الاقتصادي واستعادة ثقة المستثمرين المحليين والدوليين.

إن الاستقرار الأمني سيساهم بشكل كبير في الدفع نحو الاستقرار السياسي وتحسن العلاقات بين سوريا ودول العالم، وهذا بطبعه يساهم في دفع الدول الغربية إلى إلغاء العقوبات المفروضة على البلاد؛ حيث تشكل هذه العقوبات حاجزاً مانعاً لأي تنمية اقتصادية.

بالتوازي مع ذلك، يجب العمل على تحسين بيئة الاستثمار من خلال تجهيز قوانين وإجراءات إدارية جديدة ومتطورة، وتوفير حوافز ضريبية وجمركية، وإنشاء مناطق اقتصادية خاصة تشجّع على جذب رؤوس الأموال المحلية والأجنبية؛ حيث إن تسهيل تأسيس الأعمال، وحماية حقوق المستثمرين، وضمان المنافسة العادلة، كلها عوامل ستساهم في تحريك عجلة الإنتاج وتعزيز النمو الاقتصادي.

وفي هذا الإطار، يقول الباحث قضيماتي: “إن تسهيل عملية المعجزة الاقتصادية يحتاج قبل كل شيء إلى إصلاح المنظومة القانونية للاستثمار والتجارة، بحيث تكون مناسبة لجذب الاستثمارات”.

كما أن إصلاح القطاع المصرفي يُعد ضرورة ملحّة لتسهيل تدفق الاستثمارات وتحفيز النمو، وذلك عبر تطوير النظام المصرفي ليصبح أكثر مرونة وكفاءة، عبر تخفيف القيود على التحويلات المالية، لا سيما تلك القادمة من المغتربين السوريين، الذين يشكّلون مصدراً مهماً للعملة الصعبة.

وفي هذا السياق، يقول الباحث قضيماتي: “إن إصلاح القطاع المصرفي يساعد على تدفق الأموال عبر القنوات الرسمية، وهذا يعزز من قيمة الليرة السورية بسبب تشكل احتياطي أجنبي نقدي، كما أن القطاع المصرفي يدخل في تمويل بقية القطاعات الاقتصادية”.

إلى جانب ذلك، يتعيّن على سوريا إعادة بناء القطاعات الإنتاجية، وخاصة الزراعة والصناعة التحويلية، نظراً لدورهما الحيوي في تحقيق الأمن الغذائي، وتقليل الاعتماد على الاستيراد، وخلق فرص عمل مستدامة، وذلك عبر دعم المزارعين من خلال توفير قروض ميسّرة، وتحسين أنظمة الري، وتحديث البنية التحتية الزراعية، كلها إجراءات ستساعد في استعادة دور القطاع الزراعي. وبالمثل، فإن إعادة إحياء الصناعة التحويلية، ودعم الصناعات التصديرية، وتبني سياسات تحفيزية للشركات الصناعية، سيكون له أثر مباشر على تحسين الميزان التجاري وتعزيز الاقتصاد المحلي.

وفي ظل الأضرار الجسيمة التي لحقت بالبنية التحتية، تحتاج سوريا إلى استثمارات ضخمة في شبكات الكهرباء، والطرق، والمياه، والموانئ، والاتصالات، إذ تُعدّ هذه القطاعات حجر الأساس لأي عملية إعادة إعمار ناجحة. ومن أجل تحقيق ذلك، ينبغي تعزيز الشراكة بين القطاعين العام والخاص، والاستفادة من التمويل العربي والمنح التنموية، مع ضرورة وضع خطط واضحة تضمن تنفيذ مشاريع البنية التحتية بكفاءة وشفافية.

بشكل عام، لا شك أن تحقيق المعجزة الاقتصادية السورية يتطلب مواجهة تحديات معقدة وطويلة الأمد، إلا أن التجارب الدولية مثل المعجزة الاقتصادية الألمانية تؤكد أن الدول التي شهدت دماراً واسعاً يمكن أن تنجح في إعادة بناء اقتصادها إذا تبنّت استراتيجيات سليمة، وقامت بإصلاحات جذرية، وعزّزت التعاون الإقليمي والدولي.

إن تحقيق المعجزة الاقتصادية السورية لن يكون ممكناً دون تنفيذ هذه الإصلاحات الجوهرية، التي تمثل الركائز الأساسية لأي اقتصاد يسعى إلى التعافي والنمو والتنمية المستدامة. ولكون سوريا تحتاج إلى ضبط الأمن وصفر مشاكل في العلاقات الدولية، فإنها بحاجة إلى رؤية اقتصادية شاملة تقوم على استثمار مواردها بشكل مدروس، وإعادة هيكلة قطاعاتها الإنتاجية، وخلق بيئة استثمارية جذابة، بحيث تتمكن من تجاوز أزمتها الاقتصادية والانطلاق نحو مستقبل أكثر استقراراً وازدهاراً.

تلفزيون سوريا

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى