العبور بسوريا إلى الأمان المجتمعي والتداول السلمي للسلطة/ د. علاء الدين آل رشي

7/4/2025
ليس الحديث عن سوريا اليوم ترفاً نظرياً ولا محاولة متأخرة لتجميل الواقع، بل هو استحقاق وجودي يستوجب مراجعة جذرية لعقل الدولة والمجتمع معاً.
لقد أصبح من الضروري إعادة التفكير في أدوات الخروج من الأزمة، وتحديد شروط العبور نحو أمان مجتمعي حقيقي، وبناء منظومة سياسية قائمة على التداول السلمي للسلطة، لا على الهيمنة، ولا على توازنات الخوف.
أولاً: المطبات الراهنة وإعادة إنتاج الأزمة
هناك تفكك اجتماعي واضح، وغياب لثقة المواطن بالمؤسسات، وتحلل في منظومة القيم الجامعة.
لقد أنتج النظام عبر عقود طويلة عقلية أمنية مغلقة حولت السياسة إلى مرادف للولاء، وأفرغت المؤسسات من مضمونها، وخلقت طبقة من المستفيدين ترتبط بوجود السلطة لا بوجود الدولة.
هذا الواقع لا يمكن تجاوزه برفع شعارات أو مواقف عاطفية، بل لا بد من تفكيك بنية التفكير التي سادت لعقود، ومواجهة آثارها على مستوى التعليم، والإعلام، والعلاقات الاجتماعية، وحتى داخل الأسرة السورية نفسها. فالمأساة التي نعيشها اليوم ليست فقط بفعل الحرب، بل نتيجة تفاعل عوامل منها الفراغ السياسي، والتجريف الفكري، وانعدام المشاركة المجتمعية الحقيقية.
ثانيًا: الأفخاخ المزروعة واستراتيجية الإرباك
لقد نجح النظام خلال سنوات الصراع في زرع سلسلة من الأفخاخ، كان هدفها إرباك المشهد وتشويه البدائل.
من هذه الأفخاخ: تحويل المعارضة إلى مزيج غير متجانس من المشاريع المتضاربة، بعضها مرتبط بأجندات خارجية، وبعضها فوضوي الطابع، وبعضها اندفع نحو التطرف كرد فعل على الانسداد السياسي.
كما عمد النظام إلى تفريغ بعض المناطق من سلطته عمداً، ليتيح الفرصة لصعود نماذج غير قادرة على إدارة الحياة المدنية، ثم استخدم هذه النماذج لتأكيد روايته: “أنا أو الفوضى”. هذه الاستراتيجية لم تكن عشوائية، بل جزء من رؤية مدروسة هدفها خلط الأوراق، وتشويه كل مشروع بديل، وجعل المستقبل يبدو أكثر قتامة من الحاضر.
ومن ضمن الأفخاخ أيضًا: تكريس الهويات الفرعية بديلاً عن الهوية الوطنية الجامعة، واستخدام الخطاب الطائفي والمناطقي لتفتيت المجتمع السوري، وهو ما أوجد حالة من الانكفاء والتوجس المتبادل بين مكونات البلاد.
ثالثًا: ضرورة تغيير العقلية السائدة
لا يمكن لأي مشروع إصلاحي أن ينجح دون تغيير جذري في العقلية العامة السائدة، سواء لدى من في السلطة أو لدى النخب المعارضة أو حتى على مستوى الرأي العام. لا يمكن الاستمرار بعقلية التخوين، ولا بمنطق “كل من ليس معي فهو ضدي”. العقلية المطلوبة اليوم هي عقلية المشاركة، العقلية التي تؤمن بالتعدد، وتحترم الحق في الاختلاف، وتسعى إلى إدارة التنوع لا إلى قمعه.
نحتاج إلى ثقافة جديدة ترى أن الوطن ليس مشروعًا أيديولوجيًا مغلقًا، بل مساحة مشتركة للجميع، يتم فيها تقاسم السلطة، وتوزيع المسؤولية، وتكريس مفهوم الحقوق والواجبات على قدم المساواة. لا يمكن بناء دولة حديثة إذا بقيت المفاهيم التقليدية للزعامة، والتفويض المطلق، والاستقواء بالأمن، هي التي تتحكم في المشهد.
رابعًا: الأمان المجتمعي… ما قبل السياسة
قبل أن نتحدث عن الانتخابات والدساتير والمؤسسات، لا بد أن نتحدث عن الناس: عن الأمان النفسي، عن المصالحة الاجتماعية، عن استعادة الروابط المنهارة بين مكونات المجتمع. لا يمكن تحقيق أمان سياسي دون أمان مجتمعي يسبقه.
والمصالحة هنا لا تعني مجرد إسقاط المسؤوليات أو القفز فوق الجراح، بل تعني بناء سردية جديدة للمستقبل، قائمة على الحقيقة، والاعتراف، والعدالة، والمشاركة في صياغة العقد الاجتماعي الجديد. هذه المصالحة لا بد أن تُصمَّم بشكل مهني، عادل، شفاف، يراعي حقوق الضحايا، ويمنع منطق الانتقام أو التصنيف الجماعي.
خامسًا: التداول السلمي للسلطة… منطق الدولة لا منطق الغلبة
واحدة من أعمق مشكلات الحكم في سوريا كانت في مصادرة السياسة، واحتكار السلطة، وإخضاع المؤسسات السيادية للمزاج الشخصي، بدلاً من أن تكون أدوات لخدمة المجتمع والدستور. لهذا، فإن الدعوة إلى التداول السلمي للسلطة لا تعني تغيير الأشخاص فقط، بل تعني تغيير فلسفة الحكم نفسها.
لا يمكن بناء مستقبل مستقر على سلطة لا تعترف بحق الاختلاف، ولا تؤمن بدورية الحكم، ولا تفصل بين السلطات. الدولة ليست امتدادًا للعائلة، ولا للإرث التاريخي، بل مشروع دائم لإدارة الحياة العامة بناء على التمثيل والرقابة والمحاسبة. وإذا لم يتم إعادة تعريف مفهوم الشرعية، فلن يكون هناك استقرار حقيقي، بل مجرد هدنة هشة.
التداول السلمي للسلطة يجب أن يُصاغ على شكل قواعد واضحة، لا استثناءات، تبدأ من صياغة دستور جديد يعيد تعريف العلاقة بين المواطن والدولة، ويضمن الحق في التعبير، والتنظيم، والرقابة الشعبية على الأداء العام.
سادسًا: كيف ننظر إلى المستقبل؟
المستقبل لا يبنى على الأمنيات، بل على خطط واضحة وواقعية. علينا أن نفهم أن الانتقال من حالة الاحتراب إلى حالة الدولة ليس انتقالًا آنيًا، بل عملية طويلة تتطلب توافقًا وطنيًا، وإرادة سياسية، وتحييدًا حقيقيًا للتدخلات الخارجية.
الخطوة الأولى نحو هذا المستقبل تبدأ من بناء مشروع وطني جامع، يتجاوز الانقسامات السياسية والطائفية، ويرتكز على مبادئ العدالة والحرية والمواطنة. كما ينبغي العمل على إصلاح مؤسسات التعليم والإعلام، وتحقيق العدالة الانتقالية، وتطوير الاقتصاد الوطني بعيدًا عن الاحتكارات والفساد.
أما على المدى القريب، فثمة أولويات عاجلة يجب التركيز عليها، منها: إطلاق سراح المعتقلين، الكشف عن مصير المفقودين، وقف العمليات الأمنية العشوائية، تمكين المجتمع المدني، وإنهاء التمييز القائم على الانتماء السياسي أو المناطقي أو الطائفي.
من الخوف إلى العقل
لقد سادت سوريا لعقود حالة من الخوف: الخوف من الدولة، من الآخر، من المستقبل. واليوم، نحن أمام فرصة نادرة لكسر هذا الخوف وبناء عقل سياسي جديد لا يقوم على ردود الأفعال، بل على الوعي، وعلى إدارة الخلاف، وعلى استعادة الثقة بمفهوم الدولة لا السلطة.
لا أحد يملك وحده مفاتيح الحل، ولا أحد يستطيع أن يفرض مستقبلًا على الجميع. لكن ما يمكن أن نتفق عليه، هو أن لا أحد يريد لسوريا أن تبقى رهينة للخوف، أو أن تعيش أبدًا على هامش التاريخ.
إن تجاوز المطبات، وفهم الأفخاخ، وتغيير العقلية، والبدء بمشروع الأمان المجتمعي، هي مقدمات ضرورية لعبور حقيقي نحو وطن يعيش فيه الناس بكرامة، وتدور فيه السلطة لا الرؤوس.
المصدر : الجزبرة مباشر
كاتب سوري