الناسسقوط بشار الأسد، الرئيس الفار والمخلوع

أنا قاضية من حمص… ما مستقبل مهنتي في سوريا الجديدة؟/ نوارة محفوض

07.04.2025

أنا شخص أؤمن بالقانون، وبأن يكون القانون هو المرجع في الحكم وإدارة البلاد، أحلم بسوريا آمنة وحرة لجميع أبنائها وأن نعيش جميعاً متساوين أمام القانون، ولكني أخشى اليوم أن المناخ العام في المدينة تغير، ارتدت حتى اللحظة أربعة من زميلاتي الحجاب بحكم أن مدراءنا اليوم في العمل هم شيوخ، وبررن الأمر أنهن يرغبن في تجنب أي موقف مزعج، وأعتقد أن العدد سيزداد.

تتوالى الشهادات حول ارتكابات متعددة تطاول مجموعات مختلفة في سوريا.

يوثق هذا المقال شهادة قاضية تعيش وتعمل في مدينة حمص حول الأحداث والتطورات في عمل القصر العدلي في المدينة منذ انهيار النظام الأسد وحتى اللحظة، ونتحفظ عن ذكر الاسم حماية للقاضية لضرورات أمنية.

عملت نوارة محفوض، وهي باحثة في مجموعة “السلم الأهلي” في حمص، على توثيق وكتابة الشهادة.

أدخل القصر العدلي في حمص صباحاً لأبدأ نهار عمل جديداً، تطالعني على يمين المدخل لافتة عُلقت منذ أيام قليلة “من يحرر يقرر”، يتآكلني القلق من المستقبل الغامض وأكمل طريقي إلى مكتبي.

أنا قاضية، وسأمتنع عن التصريح باسمي خوفاً من أي تبعات قد تهدد أمني الشخصي، عملت وعشت في مدينتي حمص لسنوات طويلة. دخلت قوات المعارضة السورية إلى حمص في 6 كانون الأول/ ديسمبر الماضي، تابعت بعدها طريقها إلى دمشق وسقط النظام السوري في الثامن من الشهر ذاته، توقف بعدها العمل في جميع المؤسسات الحكومية لفترة. وعند استئناف العمل في القصر العدلي بحمص دُعيت مع زملائي القاضيات والقضاة لحضور اجتماع مع ممثل السلطات الجديدة. كانت هيئة تحرير الشام سيطرت على العاصمة وأعلنت تدريجياً تشكيل حكومة مؤقتة وتعيين السيد شادي الويسي وزيراً للعدل فيها. كنت قرأت أن السيد الويسي خريج كلية الشريعة، وقد شغل مناصب عدة في حكومة الإنقاذ التي حكمت إدلب سابقاً، من ضمنها المدعي العام ووزير العدل، وقد عرف عنه تطبيق أحكام الشرع الإسلامي لا القانون الوضعي.

وصلنا يوم الاجتماع المعلن إلى القصر العدلي، على الباب الخارجي استقبلنا شباب مسلحون، طلب أحد منظمي الاجتماع منا نحن القاضيات  تغطية رؤوسنا، تجاهلت غالبيتنا الطلب ودخلنا المبنى، ولكن، وعلى باب قاعة الاجتماع أخبرونا أن من ترغب في حضور الاجتماع عليها أن تغطي شعرها، وألا إجبار ولكن من لا ترتدي غطاء الرأس عليها أن تعود الى المنزل. أسقط في يدنا، تبادلنا النظرات المستسلمة وأخرجت كل منا الشال الذي وضعته استعداداً لهذا الموقف في حقيبتها. أصروا بعدها على أن تجلس النساء والرجال في جهات مختلفة من القاعة، وكان رجال يحملون السلاح يملأون القاعة، يقفون خلفنا، حولنا، وفي مقدم القاعة، كنا جميعا نشعر بالرهبة.

بدأ الشيخ أبو عبدالله الكلام، وهو من إدلب، عُين رئيساً جديداً للقصر العدلي، كان يرتدي جلابية وذقنه طويلة وغير مشذبة، وكان يرافقه شيخ مصري اسمه أبو محمد  لم يتم تعريفه بأية صفة رسمية. أعلن الشيخ عبدالله أنهم سيعملون على تغيير بعض القوانين لتتناسب مع الشرع الإسلامي، وأن الشرع هو مصدر التشريع في المستقبل. وشرح أنهم سيستعينون بمجلة الأحكام العدلية الصادرة أيام الخلافة العثمانية (مجلة الأحكام العدلية وضعتها لجنة من العلماء في الدولة العثمانية، وهي عبارة عن قانون مدني مستمد من الفقه على المذهب الحنفي، وتشتمل على مجموعة من أحكام المعاملات والدعاوى والبينات، وضعتها لجنة علمية مؤلفة من ديوان العدلية بالأستانة ورئاسة ناظر الديوان سنة 1286هـ). تكلم الشيخ المصري أيضاً، ثم فتحوا الباب لتلقي الأسئلة.

سأل أحد القضاة، وهو مسيحي الديانة، عن دوره في المستقبل في حال كان الشرع الإسلامي مصدر التشريع، ألا يعني ذلك أن كل القضاة يجب أن يكونوا مسلمين؟ وكيف يمكن لمثله أن يكون له مكان في مستقبل هذه البلاد بالتساوي مع جميع أبنائها، وأن يساهم في بنائها؟ أجاب الشيخ أبو عبدالله: “أنت مواطن عربي سوري، لا تسألني هذا السؤال! لكن نحن سنحكم بالشريعة الإسلامية بالنهاية”. تركتنا هذه الإجابة المراوغة غارقين في الحيرة. ماذا عن القاضيات النساء؟ بدأ السؤال يعتصر قلبي. ترك الشيخ عبدالله الإجابة معلقة، “هذا القرار متروك للأيام، يوجد مذهبان مختلفان، أحدهما يقول إن المرأة لا تولى القضاء نهائياً. المذهب الثاني يقول إن المرأة تولى القضاء في ما عدا قضاء الحكم. علينا أن ننتظر ونرى كيف سيصوت مجلس القضاء الأعلى في المستقبل”. (تمنع المذاهب المالكية والشافعية والحنابلة تولية القضاء للمرأة أو لغير المسلم تماماً، بينما ينص المذهب الحنفي جواز تولي المرأة القضاء في الأموال من دون القصاص والحدود.)

خلال حديثه، أشار الشيخ عبدالله إلى النظام السابق مراراً بالنظام النصيري البائد، فقاطعه أحد القضاة: “تقول إ/نك هنا لتعمل على طمأنتنا، ولكنك تستخدم صفة النصيري!” (نصيري هي الصفة التي يستخدمها بعض الإسلاميين للإشارة إلى أبناء الطائفة العلوية، بهدف نسبها إلى مؤسس الطائفة موسى بن نصير دلالة على أنها طائفة باطنية مارقة تتهم بالغلو).  “قرابة خمسين قاضية وقاضياً هنا هم علويون، وأنا أحتج على وصفك النظام بأنه علوي  أساساً!”، أضاف القاضي زميلنا. “وهل تنكر أن النظام استغل الطائفة؟” صرخ الشيخ عبدالله، أجاب زميلنا: “النظام استغل منتفعين من كل الطوائف!”، قاطع الشيخ المصري زميلنا هنا قائلاً: “إنها مجرد زلة لسان بحكم أننا اعتدنا استخدام هذا التعبير في إدلب”، وانتهى الاجتماع بعد هذه النقطة.

غادرنا الاجتماع وقلوبنا يملأها الخوف، بدأ الكثير منا بمناقشة الأمر وإبلاغ الأصدقاء والمعارف، اجتاحت مواقع التواصل الاجتماعي حملة احتجاج، ونوقش الأمر بشكل واسع في المجتمع الحمصي، فتراجعت الهيئة عن التعيينات، أعلن عن تعيين مدير جديد للقصر العدلي هو السيد أبو حذيفة حسن الأقرع، أبحث عن صفحته على فيسبوك، تطالعني خطبة يلقيها من على منبر جامع الجيلاني في بابا عمر في 14 كانون الثاني وهو باللباس العسكري ويرتدي جعبة السلاح: “الله أكبر يا أمتي كبري، واستبشري بالعز والسلطان، الله أكبر يا أمتي أبشري واستبشري يا أمة الإحسان. الله أكبر يا أمتي جلجلت وتكبكب الأعداء في السلطان، الله أكبر يا أمتي والجهاد طريقنا، هذا سبيل ربنا في الفرقان. انتصرنا على أكبر طاغية في هذا الزمان، على آل الأسد وشبيحتهم، وعلى روسيا وعلى إيران وعلى حزب الشيطان… تكبكبوا وسقطوا والحمد لله”، يقول صارخاً ويكبر الحشد. في مكان آخر كتب معلقاً على زواج جماعي أقيم في حلب قبل سقوط النظام لأربعين شابا وصبية من حفظة القرآن: ” من الذي أباح هذا الاختلاط؟ من الذي أباح دخول النساء على الرجال أو العكس؟ من الذي أباح للمرأة أن تدخل إلى صالة أو ملعب للزفاف؟ كنا في حفل تكريم في المسجد، والآن في عرس جماعي في صالات وملاعب. حسبي الله ونعم الوكيل، هذا من المنكرات التي لا ينبغي السكوت عليها”، احتوت صفحته أيضاً على صور له وهو يتكلم إلى مقاتلين في “معسكرات الإعداد” في مناطق الشمال السوري عندما كانت خاضعة للمعارضة السورية.

السيد الأقرع خريج كلية الشريعة، كما وزير العدل في الحكومة المؤقتة السيد شادي الويسي. وقد وردت معلومات أن التعيينات في القصور العدلية عبر البلاد مشابهة، إذ تم تعيين شيوخ وخريجي شريعة في درعا وطرطوس وريف دمشق ومحافظات عدة.

درج

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى