أبحاثتشكيل الحكومة السورية الجديدةسقوط بشار الأسد، الرئيس الفار والمخلوع

الدبلوماسية السورية الجديدة وأنماط التعاون الدولي/ مهيب الرفاعي

الإثنين 2025/04/07

شكّل نظام الأسد كتلة سياسية ودبلوماسية لا يستهان بها في الشرق الأوسط استطاعت أن تحكم سوريا لمدة 54 عاماً، واستطاع الأسد أن يفرض سيطرته على سوريا لعقود عبر مزيج من القوة العسكرية، والمناورات السياسية، والتحالفات الاستراتيجية، والعلاقات العامة وتشكيل الرأي العام حول بعض القضايا الاقليمية. عندما تولى حافظ الأسد الحكم، كانت سوريا تعاني من اضطرابات سياسية متكررة وانقلابات متوالية، لكنه تمكّن من ترسيخ سلطته مستفيداً من شبكة أمنية قوية وسياسة توازن دقيقة داخل الدولة، مع تعيينات بحسب الولاء الحزبي والأمني للأسد، واستطاع أن يفرض نفسه كقائد قومي، مستخدماً سياسة الاحتواء تارة والقمع تارة أخرى، مع تامين غطاء دولي بحكم شبكة العلاقات الخارجية والمناورات الدبلوماسية، مما مكّنه من البقاء في الحكم وسط أجواء متقلبة داخلياً وخارجياً.

سياسة سوريا الخارجية في عهد نظام الأسد

كانت السياسة الخارجية المتقنة والمراوغة إحدى أبرز أدوات الأسد في تعزيز موقعه في المنطقة. انتهج براغماتية واضحة، سمحت له بالمناورة بين القوى الكبرى، خصوصاً الاتحاد السوفيتي والولايات المتحدة. من جهة، وثّق علاقاته مع السوفييت، الذين قدموا له دعماً عسكرياً واقتصادياً ساهم في صمود النظام السوري أمام التحديات الإقليمية، ومن جهة أخرى، لم يقطع الأسد خطوط التواصل مع الغرب، بل استغلها لتحقيق مكاسب سياسية واقتصادية عند الحاجة. أما في الصراع العربي-الإسرائيلي، فقد تبنّى موقفًا أكثر براغماتية، دعم الفصائل الفلسطينية، وتدخل في لبنان ليخلق وزناً لنظامه في المنطقة وتكون لبنان ورقة ضغط على الغرب بيد نظام حافظ الأسد الأمر الذي أجبر الغرب على فرض عقوبات على نظامه، وتجديدها وتعزيزها بين حين وآخر حيث كانت الحرب الأهلية اللبنانية اختباراً عملياً لاستراتيجية الأسد الإقليمية. تدخله هناك لم يكن مجرد خطوة عسكرية، بل كان جزءاً من مشروع طويل الأمد لترسيخ النفوذ السوري في لبنان. ورغم ما حققه الأسد من استقرار سياسي داخلي ونفوذ إقليمي، إلا أن نظامه واجه تحديات صعبة.

نرجسية وضعف خبرة

داخلياً، كان هناك استياء اقتصادي متزايد، ومعارضة إسلامية تصاعدت حدتها مع حركة الإخوان المسلمين، إضافة إلى التوترات الطائفية الكامنة، لا سيما بين القادة السنة والقادة العلويين. وخارجياً، كانت علاقاته مع العراق متوترة، وصداماته مع إسرائيل مستمرة، فضلًا عن الضغوط التي فرضتها المنافسة مع الأردن وقوى إقليمية أخرى. كل ذلك جعله في حالة تأهب دائمة للحفاظ على التوازنات التي بناها بحذر شديد، وورثها نظام ابنه بشار ،  الذي فرط بجزء كبير من ملامحها بحكم ضعف خبرته السياسية ونرجسيته في التعاطي مع القضايا المحيطة بسوريا.

اعتمدت دبلوماسية نظام الأسد عموماً على التحالف مع المعسكر السوفييتي ورفض الانصياع للغرب، وهذا ما خلق حالة عداء مع المعسكر الغربي، الذي ساهم بشكل كبير بدوره في تقويض حكم الأسد في سوريا، وحاصره بمجموعة من العقوبات القاسية والقطيعة السياسية والدبلوماسية، ودعم المعارضة لبناء مسار سياسي انتقالي في البلاد. اعتماد نظام الأسد على القمع الأمني، والانخراط في النزاعات الإقليمية، والتحالفات المتقلبة، جعل سوريا في عهد الأسد عرضة لمخاطر خارجية أوقعت الشعب السوري في حالة من الضياع والشتات لا سيما بعد العام 2011. نهجه في الحكم أثبت فعاليته على المدى القصير، لكنه ترك إرثاً مليئاً بالتحديات التي لا تزال تؤثر على استقرار البلاد حتى الآن. تأثير الأسد لم يقتصر على فترة حكمه، بل امتد ليشكل جزءاً من معادلات الصراع والتوافق في المنطقة، وهو ما يجعل فهم سياساته ضرورياً لاستيعاب تعقيدات المشهد السياسي في الشرق الأوسط.

دبلوماسية سوريا ما بعد الأسد

بعد 14 عاماً من الحرب والنزاعات، شهدت سوريا تحولاً أمنياً كبيراً أسفر عنه إسقاط نظام بشار الأسد، تبعه تحول سياسي وتشكيل حكومة ضمت 23 وزيراً من أصحاب الكفاءات.  لم يكن سقوط الأسد مفاجئاً تماماً، إذ سبقته احتجاجات داخلية وضغوط إقليمية ودولية متزايدة، فضلًا عن تآكل نفوذه داخل الأجهزة الأمنية والعسكرية والسياسية؛ وكان على الإدارة الجديدة في دمشق أن تسارع لاتخاذ إجراءات لملء الفراغ الإداري والمؤسساتي. تشكلت حكومة انتقالية جديدة برئاسة أحمد الشرع، جاءت لتضم مجموعة واسعة من الفاعلين السياسيين، بما في ذلك شخصيات من المعارضة المسلحة، والتكنوقراط، والمستقلين، وذلك في محاولة لتحقيق توازن بين مختلف مكونات المشهد السوري الجديد. الملفت كان الإبقاء على شخصيةأسعد الشيباني وزيراً للخارجية، الذي دخل معترك السياسة والدبلوماسية بخطوات جيدة وثابتة وتفاعلية مع الجهات الفاعلة والضامنة في سوريا، والذي لعب دوراً مهماً في إدارة الشؤون السياسية في حكومة الإنقاذ في إدلب. كما يتمتع بعلاقات قوية مع دول الخليج وتركيا، مما جعله خياراً مثالياً لقيادة الدبلوماسية السورية في المرحلة الانتقالية.

شكل فريق الشيباني معالم وأولويات السياسة الخارجية لسوريا الجديدة والتي ركزت على استعادة العلاقات مع الدول العربية بعد القطيعة التي استمرت سنوات، والتفاوض على رفع العقوبات المفروضة على سوريا من قبل الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي، بالإضافة إلى تعزيز العلاقات مع القوى الكبرى مثل روسيا والصين والاتحاد الأوروبي؛ مع العمل على إعادة سوريا إلى المنظمات الإقليمية والدولية بعد تعليق عضويتها في العديد منها، و المشاركة في ملفات مهمة بالنسبة للشرق الأوسط تتمثل في ضبط الحدود واتفاقيات تقويض الإرهاب في المنطقة.

العلاقات الخارجية

ركز فريق الشيباني على التقارب مع دول الخليج، حيث بدأ الشيباني بجولة خليجية شملت قطر، السعودية، والإمارات، ودعا إلى إعادة العلاقات الدبلوماسية الكاملة بين سوريا وهذه الدول، بالإضافة إلى إعادة فتح السفارات وتفعيل التعاون الاقتصادي، وأعلنت قطر دعمها للمرحلة الانتقالية،  مع الحرص على تقديم الدعم بما يخص  إصلاحات سياسية واقتصادية حقيقية قبل تقديم دعم مالي مباشر لإعادة الإعمار، ورحبت السعودية بالحكومة الجديدة، لكنها أكدت ضرورة ضمان استقرار سوريا وإبعاد النفوذ الإيراني عن الساحة السياسية والعسكرية، أما بالنسبة لدولة الإمارات فقد أبدت استعدادها لتمويل مشاريع إعادة إعمار ضخمة، مع أن أبو ظبي تأخرت بالترحيب بالإدارة الجديدة بحكم سعيها مسبقاً لإعادة نظام الأسد إلى الحاضنة العربية . وتشير التحركات الدبلوماسية الأخيرة إلى رغبة سوريا في إعادة بناء علاقاتها مع دول الخليج، في خطوة تعكس تحولاً في استراتيجيتها الخارجية بعد التغيير في قيادتها. زيارة وزير الخارجية السوري أسعد الشيباني إلى بعض العواصم الخليجية، وتصريحات المسؤولين السوريين حول أهمية التعاون الخليجي، تثير تساؤلات حول مدى جدية هذا التقارب، وهل هو خطوة تكتيكية أم بداية لتحالف جديد؟ دول الخليج كانت لسنوات من أبرز الأطراف المؤثرة في المشهد السوري، حيث لعبت أدواراً مختلفة وفقاً لمصالحها الاستراتيجية. واليوم، مع التغيرات التي يشهدها الإقليم، هناك إدراك متزايد بأن استقرار سوريا يصب في مصلحة الخليج عموماً، سواء من الناحية الأمنية أو الاقتصادية. إعادة إعمار سوريا، وعودة دمشق إلى محيطها العربي، قد تمثل فرصة لدول الخليج لتعزيز نفوذها وتقليل التأثير الإيراني في المنطقة.

لكن هذا التقارب لا يخلو من التحديات. فالتباينات السياسية بين سوريا وبعض العواصم الخليجية لا تزال قائمة، كما أن دمشق تحتاج إلى تقديم ضمانات حول سياساتها المستقبلية حتى تحظى بدعم خليجي حقيقي. بالمقابل، تحتاج دول الخليج إلى تحديد ما إذا كانت ترى في هذا التقارب مجرد خطوة تكتيكية، أم أنها مستعدة لتطوير شراكة استراتيجية طويلة الأمد مع سوريا الجديدة، تكون بذلك جزءاً من إعادة ترتيب الأوراق في المنطقة.

عزز فريق الشيباني تواصله مع تركيا لتطوير العلاقات ودفع التعاون إلى مستويات أعلى بين دمشق وأنقرة بعد 14 عاماً من القطيعة. كان هناك اجتماع مهم بين الشيباني ووزير الخارجية التركي، حيث تم التوصل إلى تفاهمات أولية بشأن ملف اللاجئين السوريين في تركيا، ومسألة القوات التركية الموجودة في شمال سوريا؛ ووافقت تركيا على سحب بعض قواتها تدريجياً، شرط ضمان عدم عودة التهديدات من المناطق الكردية، ووافقت سوريا وافقت على إعادة دمج بعض الفصائل المسلحة الموالية لتركيا في الجيش السوري التابع لوزارة الدفاع، وترتيب إجراءات اتفاقيات الدفاع المشترك بين البلدين، بهدف عدم حصر ملف مكافحة الإرهاب بيد أميركا وحدها.

وتتبنى الحكومة السورية الجديدة سياسة خارجية واقعية ترتكز على تعزيز العلاقات مع دول الجوار وفق منهجية أمنية–دبلوماسية متكاملة. تبدأ هذه المقاربة بتوقيع اتفاقيات أمنية ثنائية ومتعددة الأطراف مع دول الجوار، خاصة تركيا، والعراق، ولبنان، والأردن، تتضمن بنوداً واضحة بشأن تنسيق الدوريات الحدودية، وتبادل المعلومات الاستخباراتية حول الجماعات الخارجة عن القانون وتنظيم “داعش” والجماعات المتطرفة، وتنفيذ عمليات ميدانية مشتركة لملاحقة شبكات التهريب والإرهاب. وقد تم تفعيل عدد من مذكرات التفاهم التقنية في هذا السياق، تشمل التعاون في استخدام أنظمة المراقبة المتقدمة والطائرات المسيرة وتقنيات الكشف المبكر.

ملف الإرهاب وتجارة المخدرات

هذا التعاون الميداني مسبوق بإنشاء غرف عمليات مشتركة تضم ضباطاً وخبراء من دول جوار سوريا، تعمل في مراكز تنسيق حدودية قريبة من مناطق التهريب والنشاطات غير الشرعية لا سيما في الحدود الجنوبية في ظل التوترات الأخيرة هناك. كما يجري تشكيل وحدات أمنية مشتركة من عناصر مدربة تتولى مهام السيطرة على المعابر، وضبط شبكات التهريب، وتأمين طرق الإمداد والمخازن الحدودية. هذا الملف هو إرث نظام الأسد السيء الذي أدى إلى تسميته “نظام الكبتاغون” و أدى إلى إصدار عقوبات غربية جديدة باسم “قانون الكبتاغون 1 و 2”.  وتأتي هذه الخطوات كردّ وضمان للفعل الجاد من الإدارة السورية الجديدة حيال هذا الملف، في إطار شراكات أمنية قائمة على الثقة المتبادلة والمصالح المشترك بين حكومة دمشق الجديدة والدول المجاورة؛ على عكس ما كان يفعله نظام الأسد حين ظل يستخدم ملفات التهريب والمخدرات كأوراق ضغط على دول الجوار.

ولتوسيع نطاق الفعالية العملياتية، تعتمد الدبلوماسية السورية الجديدة على الربط الإلكتروني وتبادل قواعد البيانات الأمنية، وذلك من خلال إنشاء أنظمة معلومات موحدة، يتم عبرها تبادل بيانات المسافرين، وتتبع تحركات المشتبه بهم، والتعاون في تحليل أنماط التهريب العابر للحدود. كما يجري العمل على توحيد قواعد البيانات الاستخباراتية المتعلقة بالجماعات المسلحة والجريمة المنظمة، بالتنسيق مع أجهزة الأمن في الدول المجاورة.

تشير المعطيات الميدانية إلى تصاعد خطير في أنشطة التهريب عبر الحدود السورية–الأردنية، حيث تم استخدام الطائرات المسيّرة لنقل المخدرات والأسلحة، وقد سجلت الأردن بين آب/أغسطس 2023 وتموز/يوليو 2024 إسقاط أكثر من 15 طائرة محمّلة بمواد مهربة، بحمولات تتراوح بين 2 و35 كيلوغراماً، كما نفذت الأردن ضربات على الحدود السورية في كانون الثاني/يناير 2014 بهف تقويض مصالح المهربين.

وتدار هذه العمليات عبر نحو 150 شبكة تهريب فرعية نشطة في الجنوب السوري، يتراوح عدد أفراد كل شبكة بين 20 و150 عنصراً، وتتوزع الأدوار بين ناقلين للمواد ومسلحين لمواجهة حرس الحدود. ويقدّر العدد الإجمالي لعناصر هذه الشبكات ببضعة آلاف، أغلبهم من السكان المحليين المتأثرين بالفقر وسوء الأوضاع المعيشية، في حين تقودهم عناصر ذات سوابق جنائية. وتعد منطقتا الحماد والشعاب أبرز بؤرتين لنشاط التهريب في الجنوب السوري.

سابقاً، أشارت إحصائيات الجيش الأردني إلى إحباط أكثر من 1700 محاولة تهريب بين 2020 ومنتصف 2023، بمعدل يقارب 485 محاولة سنوياً، ما يعكس ارتفاعاً ملحوظاً في وتيرة التهريب. وتشير شهادات محلية إلى وجود متورطين من القرى الأردنية الحدودية، مدفوعين بالروابط العشائرية الممتدة عبر الحدود في تسهيل تمرير هذه العمليات، وتوفير الحماية والدعم اللوجستي لبعض الشبكات.

بالإضافة إلى ذلك، تؤكد الخارجية السورية في حوارها على أن سوريا تقف ضد تهريب البشر والهجرة غير الشرعية بما ينعكس بالضرر على الملف الأمني الذي تسعى دمشق إلى تنظيفه في سلسلة الانتقالات إلى حكم جديد وحوكمة أمنية ودبلوماسية تضمن حفظ حقوق دول الجوار؛ عبر تفعيل مواثيق أمنية والحرص على دور وزارة الداخلية السورية وقوات خفر السواحل والأمني العام.

وتترافق هذه الجهود العملية مع تأسيس لجان سياسية–أمنية مشتركة تُعقد اجتماعاتها بشكل دوري، وتضم ممثلين من وزارات الخارجية والدفاع في سوريا والدول المجاورة والدول المهتمة من المنطقة، لمراجعة التقدم، وتقديم حلول استباقية لأي تصعيد أمني محتمل. وهذه اللجان تؤدي دوراً محورياً في تعزيز الفهم السياسي المتبادل، وفتح قنوات دبلوماسية مرنة قادرة على امتصاص الأزمات. في موازاة ذلك، تولي الحكومة السورية اهتماماً كبيراً بـ بناء القدرات البشرية المشتركة، من خلال تنظيم برامج تدريب أمني وجمركي تستهدف عناصر الشرطة وحرس الحدود، وتُنفذ بدعم دولي أو عبر تبادل الخبرات مع الدول المجاورة. كما تُطرح مبادرات لتعزيز البنية التقنية للرقابة الحدودية من خلال التعاون مع منظمات دولية مثل الأمم المتحدة والإنتربول.

وفي بعد آخر لا يقل أهمية، تعتمد دبلوماسية دمشق الجديدة على الدبلوماسية الإعلامية كأداة مكمّلة للدبلوماسية الرسمية، عبر الترويج لخطاب يؤكد أن الإجراءات الأمنية السورية تهدف إلى حماية استقرار المنطقة ككل، وليست موجّهة لأي طرف. كما تحرص على إظهار التزامها بالقانون الدولي وحقوق الإنسان في تعاملها مع الملفات الأمنية الحساسة؛ لا سيما ملفات النظام السابق وعلاقاته الأمنية والاستخباراتية مع أنظمة عالمية.

ملف العقوبات الغربية

خلال العقد الأخير، فرضت الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي عقوبات مشددة على نظام الأسد، بلغت ذروتها مع قانون قيصر الذي شمل قطاعات حيوية كالنقل والطاقة والمصارف والتجارة، وصُمم لمنع إعادة الإعمار وتقديم يد العون لنظام الأسد لانتشاله قبل الوصول إلى حل سياسي، ونجح في ذلك إلى حد بعيد، رغم ما سببه من أثر كارثي على الشعب السوري نتيجة لضعف الموارد وقلة السيولة بين يديه بالأصل نتيجة للتضخم الذي بلغ 188% عام 2021 مثلاً.  وبالرغم من وجود إعفاءات إنسانية، فإن إيصال المساعدات بقي صعباً بسبب تعقيدات لوجستية ومالية، وأدى إلى تعطيل تحويل الأموال ومنع بيع بعض السلع الأساسية في مناطق سيطرة نظام الأسد. خلال أزمة كورونا، تم اقتراح حلول تقنية مثل استثناءات مؤقتة وإنشاء آليات رقابة شبيهة بالنموذج السويسري-الإيراني. واستُصدرت بالفعل استثناءات بعد كورونا وزلزال 2023، إلا أن النظام استغلها لتقوية نفوذه ونفوذ الجمعيات الإغاثية التي يشرف عليها بأذرع أخطبوطية.

اليوم، وبعد مرور حوالي 5 سنوات على قانون قيصر، تم تجديده لخمس سنوات أخرى، ما يعكس استمرار النهج الأميركي تجاه سوريا، غير أن رفع أو إبقاء العقوبات ليس بيد المنظمات أو الأفراد، بل يتعلق بتقديرات استخباراتية وسياسية أميركية و يتعلق بقرار رسمي من إدارة الرئيس الأميركي دونالد ترامب؛ الذي يبدو أنه يراوغ في التوصل إلى حل و مقاربات سلمية للملف السوري؛ لا سيما مع تصاعد دور فصائل عسكرية  وانتهاكاتها التي زعزعت ثقة الغرب نوعاً ما في إدارة دمشق الحالية وزادت صعوبة رفع العقوبات، لذلك ترى الدول الغربية أن العقوبات أداة ضغط فعالة اليوم أكثر من الماضي.

يأتي هنا دور الدبلوماسية السورية في عكس هذه النظرة، وتقديم ضمانات أكثر لترقية ملف العقوبات ووضعه على أجندة الحوار الدبلوماسي مع الغرب. تُظهر الإدارة الأميركية حذراً واضحاً في تعاملها مع الوضع الجديد في سوريا، حيث أعلنت عن تخفيف محدود للعقوبات لتسهيل إيصال المساعدات الإنسانية، دون أن يشمل ذلك رفعاً كاملاً للعقوبات المفروضة على الحكومة السورية الجديدة. هذا التوجه يعكس محاولة غربية لتقديم دعم إنساني مشروط، مع الحفاظ على الضغط السياسي، في انتظار تقييم مدى التزام القيادة الجديدة في دمشق بحقوق المرأة والأقليات والتوقف عن الانتهاكات والبدء بحوار وطني شامل وعام يضم جميع الأطياف والمكونات وتشكيل حكومة سورية وطنية قادرة على تنفيذ إصلاحات شاملة؛ لتكون هذه المساعدات بيد أمينة.

لعب الحراك الدبلوماسي السوري مؤخرًا دوره لتعزيز الحضور الأوروبي، خصوصًا الفرنسي والألماني،  لا سيما في متابعة التطورات الميدانية في سوريا. فقد زار وزير الخارجية الفرنسي ونظيرته الألمانية دمشق عدت مرات بدعوة من الخارجية السورية، حيث شددوا على مجموعة أهداف منتظر تحقيقيها أهمها حماية الأقليات ومشاركتهم في الحكم والعملية الانتقالية، مع رفض توجيه الأموال الأوروبية نحو دعم هياكل إسلامية جديدة متطرفة. وأسفر عن هذا الحراك الدبلوماسي أعادة فتح بعض السفارات في دمشق، وأبرزها السفارة الألمانية بتمثيل دبلوماسي معتاد.

على الرغم من هذا،  يتقاطع الحذر الأمريكي مع الانخراط الأوروبي في لعب دور دبلوماسي نشط، لكن مشروط، في انتظار وضوح أكبر في مسار التحول السياسي في سوريا، خاصة وأن القرار النهائي بشأن العقوبات والاعتراف قد ينتقل إلى إدارة ترامب القادمة.

ملف الجنوب و توغل إسرائيل

بشكل أو بآخر تعتبر تل أبيب حكومة دمشق الجديدة تهديدًا لها بحكم خلفيتها الإسلامية وامتلاكها خبرة عسكرية لا يستهان بها، بعد عملية ردع العدوان. وعليه فقد شنت إسرائيل منذ الأيام الأولى سقوط نظام الأسد غارات عنيفة على عدة مواقع حيوية تشمل ثكنات عسكرية ومراكز بحوث عسكرية وأفرع أمنية ومطارات حربية؛ بالإضافة إلى توغل مستمر في الجنوب السوري (القنيطرة ودرعا) وعمليات برية واسعة متجاوزة خط فض الاشتباك 1974 أسفرت عن شهداء وجرحى مدنيين.  عملت وزارة الخارجية في المدة الماضية على إعادة تفعيل محادثات دولية بشأن ملف اعتداءات إسرائيل، مع التمسك بمبادئ الدبلوماسية العامة وإدانة الأعمال العدوانية على الأراضي السورية، ومحاولة تل أبيب إثارة النعرات الطائفية لا سيما عبر استمالة الأقليات وترسيخ أفكار الانفصال ودعم تمرد الجماعات المسلحة منهم. يأتي هذا عبر تقديم وزارة الخارجية السورية شكاوى لمجلس الأمن وإصدار بينات إدانة واستنكار بسبب انتهاك اتفاقية 1974، ما يزيد معاناة الشعب السوري عمومًا وسكان الجنوب السوري خصوصًا. فتحت وزارة الخارجية السورية قنوات تواصل لا سيما مع الأردن وتركيا بخصوص التوغل الإسرائيلي، ما يمهد لسيناريوهات اتفاق جديد يضمن سلامة وأمن المناطق الجنوبية ومنع أي صدام عسكري جديد على الأراضي السورية. يتفق الأتراك مع هذه الخطوة لا سميا وان التحرك الإسرائيلي الأخير كان نتيجة للوجود التركي في سوريا والذي اعتبرته تل أبيب تهديًا لها.

ما يهم بالنسبة للدبلوماسية السورية هو الانتقال إلى دائرة علاقات دولية آمنة، توفر مناخاً من الراحة السياسية والاقتصادية والأمنية للسوريين، ويضع البلاد مجددًا على خارطة العمل السياسي في المنطقة واستعادة دور دمشق كوسيط وضامن عربي فاعل.

المدن،

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى