الأحداث التي جرت في الساحل السوريسقوط بشار الأسد، الرئيس الفار والمخلوعسياسة

عن الأحداث التي جرت في الساحل السوري أسبابها، تداعياتها ومقالات وتحليلات تناولت الحدث تحديث 08 نيسان 2025

لمتابعة مكونات الملف اتبع الرابط التالي

الأحداث التي جرت في الساحل السوري

——————————–

الفضاء العكِر/ يعرب العيسى

08 ابريل 2025

ما أفضل ما تفعله لتصفية الماء العكر؟ امنحه الوقت الكافي ليفعل ذلك بنفسه، بأن تتركه وشأنه. سيساعد على ذلك فهم أن الحكايات كلها متشابهة، لديها قواعد صارمة من الصعود نحو العقدة، ثم الذروة، المكوث قليلاً في الخوف والقلق، ثم الهبوط نحو الحل. تنفس الصعداء، ثم الصعود مجدداً نحو عقدة جديدة.

تفعل الأشياء نفسها في المسلسلات، والروايات، وسير الأجداد، ونمائم السهرات، وفي حياتنا كذلك.

حياتنا وحدها ما تبدو عصية على إدراك القواعد الحكائية فيها، لأنها تحدُث الآن، ولأننا نعيش في داخلها. وحين تنتهي أو تمضي أجزاء وازنة منها، سنبدأ بالتعامل معها كما هي حقاً: حكاية.

سنعيد فهمها، وفهم ما جرى فيها، ولماذا جرى، سنقول لأنفسنا: نعم نعم صحيح، هكذا تفعل الأشياء.

سنغفر لمن نراهم الآن أشرار الحكاية، وسنضمد جراح من ظننا أنهم متمارضون، وسنربت على كتف من نتشفى منه الآن، ففي نهاية الحكايات تستعيد أغلب الشخوص إنسانيتها.

في بلدي الآن تجري حكاية. حكاية كبيرة من تلك التي يسميها النقاد ملحمية، شخوصها تراجيدية، وضحاياها بسطاء. تسيل فيها دماء كثيرة، وأغلبها دماء بريئة، وأسباب نزفها غير مفهومة، ولكنها تسفك.

يوماً ما، ستنتهي هذه الحكاية، أو بشكل أدق، هذا الفصل الدامي منها، وعندها سنراها بطريقة أخرى، وسنندم لكمّ الأخطاء التي ارتكبناها تحت تأثير الغضب أو الخوف أو اضطراب الرؤية.

ألم يقولوا منذ زمن بعيد إن الأهواء تلوث الفهم؟ وأي الأهواء أشد من الخوف والغضب؟

في مسار الحكاية التي يكتبها بلدي لنفسه، هناك الكثير من هذين الملوثين، لذلك تبدو الحدود رجراجة، والعلاقات مضطربة، والمستقبل غامض، ونبدو نحن الناس حمقى. وفوق كل ذلك، أو ربما لأجل كل ذلك، هي واحدة جيدة بين الحكايات.

وللأسف، في الحكايات الجيدة، تعاني الشخصيات كثيراً، تتحمل فوق طاقة البشر بكثير، وهذا ما نحن عليه.

في أجواء هذه الحكاية، من الطبيعي أن يكون الفضاء العام مجنوناً، خصوصاً إذا ما كان تلقيه، والانخراط فيه، يتمّان عبر وسائل غير بريئة بالضرورة، مثل أن تفهم المشهد في بلاد بهذا الاضطراب من وسيلة مثل فيسبوك، فيها مساحة كبيرة لعبث العابثين، وتحريض المحرضين، وفيها من القدرة على جرّ أعقل العقلاء إلى الساحة الخلفية لملعب الغوغاء.

المجازر التي وقعت، وما زالت تقع في الساحل كان لها أن تكون الدرس الأخير الذي نحتاجه لإقفال هذه التراجيديا، لولا أنها تجري في فضاء عكر، ملوث بالحقد وبالخوف، وباضطراب الرؤية. وبصراخ بدائي يستنهض شهوة الدم، ولكن، وبحكم أنه يعلو في وسيلة عصرية مثل فيسبوك، فهو يغلّف نفسه بمغالطات عقلية (وضميرية كذلك) مثل الإنكار، التبرير، الخلط بين ضحايا ومجرمين، توجيه اللوم إلى هوامش الأشياء بدلاً من متنها، مثل أن يقتل طفل بطريقة وحشية في قرية ببانياس، فتعوض عجزك عن محاسبة القاتل، بتفنيد تفاصيل الصورة المنشورة لجثته، أو تقرّع ممثلاً لأنه لم ينشرها، أو تنفي القصة من أساسها، أو تذهب إلى اتهام الاهتمام بها على أنه تعطيل لقضايا كبرى، أو مئات التقنيات الدفاعية الأخرى.

أفهم أن هذه طبيعة الأشياء في الحكايات الكبرى، لكني أفهم أيضاً، أن على واحد من هذه الأحداث، أن تصبح الفصل الأخير من حكايتنا، لنبدأ بحكاية جديدة، تذهب باتجاه ذروة مختلفة، ليست فيها دماء. وريثما يحين ذلك، ليس لنا سوى أن ننتظر صفاء هذا الفضاء.

العربي الجديد

——————————

مَن فوّض هؤلاء السُنّة بالانتقام من العلويين؟/ عمر قدور

الثلاثاء 2025/04/08

لا يكاد يمرّ يوم بلا خبر عن أعمال تنكيل تحدث في الساحل، تُتهم بها عادة فصائل غير محدّدة، لكنها تابعة لوزارة الدفاع بموجب الاتفاق على حلّها. وهناك حالة على الأقل ظهر فيها مسؤول أمني يعترف بمسؤولية عنصرين عن إحدى المجازر ويتعهد بمحاسبتهما، وهي مجزرة “حرف بنمرة” في ريف بانياس. المجزرة وقعت أول أيام عيد الفطر (السعيد)، واشتُهرت صورة أحد ضحاياها، الطفل إبراهيم شاهين الذي ظهرت ثيابه المدقعة كدليل على فقر عائلته، الفقر الذي ينبئ بأن أصحابه ليسوا من شبيحة الأسد الذين قتلوا ونهبوا واستباحوا.

ما كادت تهدأ قليلاً الضجة التي أثارتها صورة الطفل القتيل حتى انتشر تسجيل لرجل من قرية الرصافة التابعة لمصياف، يتحدث فيه عن عناصر مسلّحة ساقوا ابنه بين شبّان آخرين، ثم اتصلوا به من موبايل الابن ليخبروه بأنهم أرسلوه إلى جوار حافظ الأسد، وبأنهم ألقوا بجثته في مكان معلوم وقد انتزعوا قلبه من صدره. يذهب الأب إلى ذلك المكان، ليرى حقاً جثة الابن وقد انتُزع قلبه.

بين الصورة والتسجيل الأيقونيين، لم يعد بعض الأخبار يثير الانتباه، فصار من المعتاد مرور خبر مقتل شخصين على يد العناصر المسلّحة إياها، في قرية القلوع في ريف بانياس، أو تلك الأخبار عن حالة الذعر المتفشيّة في العديد من البلدات والقرى العلوية. الحديث عن أخبار يومية من هذا القبيل هو بعد مرور شهر على قمع التمرد الذي قام به فلول الأسد، وأسفر بدايةً عن مقتل عدد من قوات الأمن العام في كمائن نُصبت لهم.

في خبر لوكالة الأنباء العربية السورية-سانا، بتاريخ 27 آذار الفائت، أن محافظة طرطوس قدّمت منحة مالية من الحكومة السورية لألفي عائلة متضررة، سواء بحرق الممتلكات أو السرقة أو التخريب أو ذوي الضحايا، في الأحداث التي شهدتها بانياس وريفها، وإحدى قرى القدموس. الأحداث المشار إليها هي تلك التي وقعت خصوصاً لأربعة أيام بدءاً من السابع من آذار، وشهدت فيها مناطق من الساحل والجبال الساحلية أعمال قتل وتنكيل بالمدنيين العلويين، اعترفت بها الحكومة وشكّلت لجنة تحقيق رسمية لم تصدر تقريرها بعد.

رقم الألفي عائلة متضررة ليس بقليل مع ما ينطوي عليه، والمنحة الحكومية هي مئة دولار لا غير، أما الأرقام غير الرسمية فتشير إلى تضرر حوالى 15 ألف بيت ومتجر استبيحت أو أُحرقت خلال تلك الأيام الدامية وحدها. الذين ارتكبوا أعمال القتل والاستباحة تكفّلوا بتوثيق قسم منها يؤكد على استهدافهم الضحايا من منطلق طائفي، حيث وثّقوا خصوصاً التنكيل بالشبان المعتقلين. وشهادات المدنيين بمجملها تؤكد على أن المرتكبين تقصّوا في الأحياء المختلطة عن طائفة الضحايا قبل قتلهم، أو كرروا أقوالاً طائفية وهم يقتلونهم. أمثال هذه التسجيلات لن تكون لصالح الحكم الجديد الذي يسعى إلى فك العقوبات عن سوريا، ولا يُستبعد استخدامها ضده، على الأقل كوسيلة ضغط سياسية جاهزة عند الحاجة.

ورغم صعوبة وقسوة قول هذا: كان يمكن “تفهّم” بعض أعمال الانتقام التي حدثت، لو أنها اقتصرت على فورة الساعات الأولى للتمرد الذي استغرق القضاء عليه بضع ساعات ليس إلا. وكان يمكن “تفهّم” أعمال الانتقام لو أنها صدرت عن متضررين شخصيين، كأن يبادر متضرر من شبيح للأسد إلى الثأر منه. لكن استمرار أعمال القتل والتنكيل، ولو بوتيرة منخفضة، يلغي الأعذار المخفّفة التي تُسوَّق من هنا وهناك.

على صعيد متصل، من المستغرب صدور أقوال عن السلطة على سبيل التهوين مما حدث، وعدّه أدنى من ردود الفعل المتوقَّعة. فأولاً من المفترض بالسلطة أن تكون ناطقة باسم القانون، وألا تبرر أعمال ثأر وانتقام خارجه مهما كانت قليلة. ثانياً، لم ينتهِ الأمر بعد، ولم توضع حصيلة نهائية يُقفل بها هذا الملف للقول إن هذا الرقم أدنى من المتوقع. في كل الأحوال، مثل هذه الخلاصات (إذا أثبتها المستقبل) تُقال بعد سنوات من الاطمئنان إلى استتباب الأمن في الواقع والمصالحة في النفوس.

لعلنا لا نبالغ في القول إن أية مقارنة الآن لمجزرة بمجزرة أكبر منها هي بمثابة ترخيص بمزيد من القتل لتلك الأصابع المتأهبة على الزناد، وفي الأصل يجب أن تكون المقارنة معيبةً بالمطلق بين العهد الذي أحرق البلد وأولئك الذين يقولون إنهم يريدون بناءه وازدهاره. من المشين مقارنة مجزرة بمجزرة، فالمرجعية في الحالتين يجب أن تكون العدالة. ومن المشين أكثر استغلال عدم الشروع في تطبيق العدالة الانتقالية من أجل تجريم طائفة بأكملها.

اليوم يستطيع هذا العنصر (المنفلت حسبما يُقال) رؤية آلاف الحسابات التي تبرر له على السوشيال ميديا، بل ربما يشعر بمزيد من الفخر وتشتد حماسته لارتكاب المزيد وتصويره للزهو به. هناك حشد سُنّي طائفي جاهز لتبرير الجرائم، وجاهز للطعن بأية شهادة أو أي توثيق من أي نوع؛ تماماً على غرار الحشد الفكري الأسدي الذي كان يتذاكى لإنكار الجرائم وهو يشمت بالضحايا في الوقت نفسه. واستخدامنا الصفة الطائفية للحشد الأول وإغفالها للحشد الثاني مردّه أن شبيحة الأول مجرمون بخطاب وممارسات طائفية صريحة، بينما شبيحة الثاني كانوا مجرمين باستثمار طائفي ماكر وممارسات طائفية مستترة.

من المؤسف أننا نتحدث عن عدد كبير بجهوزية عالية لإجراء مقارنات تبدو منطقية، مع أن تفنيدها لا يستغرق سوى برهة تفكير. من ذلك مثلاً الحملة على صورة الطفل القتيل في ريف بانياس، بدعوى وجود آلاف الضحايا الأطفال الذين لم يكترث بهم أحد أيام مجازر الأسد. هذه المزاعم، على سبيل المثال إلا، تتجاهل أن صورة حمزة الخطيب وصلت إلى مختلف أصقاع العالم، ولا تزال إلى اليوم رمزاً لجميع الأطفال الضحايا، وأن جثة الطفل الغريق إيلان صارت أيقونة عالمية لا تمثّل فقط الأطفال الذين غرقوا بل كل الذين قطعوا الدروب المهلكة للوصول إلى بلد آمن. في كل الأحوال، من النبل المطالبة بأن يحظى الضحايا بما يستحقونه من تكريم وإنصاف، لا أن يُجرَّد البعض منهم من الاعتراف أو التكريم بزعم إهمال الآخرين.

القائمة تطول جداً إذا استعرضنا بعض، لا كلّ، ما يتداوله الحشد على السوشيال ميديا. أسوأ وأخطر ما في الأمر أن قسماً من الحشد يسوّق له جهاراً بأنه الحشد السُنّي، بينما يمارس عدد أقل التقية فيبرر تأييده عمليات الانتقام بمقارنة الأرقام، لتبدو المسألة مسألة حسابات رياضية باردة، بينما في الخلفية تُستلهم ثقافة الثأر العشائرية. في ادعاء سُنّية الحشد، وعناصره (المنفلتة) على الأرض، يتم التغافل عن أن بعضاً من المرتكبين سبق له المشاركة في استباحة عفرين على نحو مشابه، والأكراد بغالبيتهم الساحقة من السُنة، والبعض الآخر استباح أجزاء من بيوت حلب الشرقية (العربية السُنية) في ظاهرة سًمّيت التشويل، نسبةً لوضع المسروقات في أكياس وهي ظاهرة مقابلة للتعفيش لدى شبيحة الأسد، أما الذين عفّوا عن البيوت فمنهم من نهب معامل بأكملها في المدينة الصناعية الشرقية…

هذا الحشد السُني المزعوم على ضخامته لا يمثّل الإسلام السُنّي، بمعنى أنه لا يحتكر تمثيله، فالسُنّة بمجموعهم لم يفوّضوا أحداً بالانتقام من العلويين، ولم يُعرض إحقاق العدالة على المتضررين شخصياً منهم، فرفضوا وأبوا مفضّلين الانتقام. وفقط لأن الدين يُزجّ به للاستثمار الطائفي فإن هيئة الإفتاء مطالبة بإصدار فتوى تحرّم قتل سوريين آخرين على سبيل الانتقام، والفتوى مطلوبة لا لحق الدماء الآن فحسب، ولا لأجل العلويين، وإنما كي لا يتغوّل هؤلاء ويستقووا لاحقاً على من يخالفهم من السُنة أنفسهم.

هذا البيان ضروري اليوم، لا لتبرئة السُنة مما يحدث، بل لسحب الدين من أولئك الذين يستخدمونه على هواهم في عمليات قتل وسرقة، ولسحبه من أفواه الذين يظهرون في تسجيلات تتوعد العلويين (المجوس) أو الدروز (الخنازير) بالإبادة. وسيكون من المستغرب حقاً أن تتدخل هيئة الإفتاء، على ما وعد به واحد من أعضائها، في شؤون مختلف الوزارات، بينما تترك الدين لمن يلوّثه باستباحة أرواح وممتلكات المدنيين على هواه!

إن تجريم طائفة بسبب وجود مجرمين فيها يستتبع (بالقياس ذاته) تجريم طائفة المنتقمين مع أن الذين ينفّذون الانتقام هم قلّة، والحل كان ولا يزال في اللجوء إلى العدالة كي تقتص من المجرمين ومن المنتقمين، وهي التي تقرر مَن مِن مجرمي الأمس ومنتقمي اليوم يستفيد من الأعذار المخفِّفة. ليس باسمنا، كسوريين، تُستباح الأرواح والممتلكات والكرامات عشوائياً خلال أكثر من شهر، وليس باسمنا يلتجئ الألوف من الأبرياء إلى البيوت أو البراري فلا يتجرؤون على الخروج. لقد هتف سوريون من مختلف المنابت قبل أربعة شهور: ارفع راسك فوق إنت سوري حرّ. ولن تكون سوريا إن جعلتموها: ارفع راسك فوق إنت سُنّي حر.

المدن

————————-

سؤال أخير إلى عبد اللطيف علي (1954- 7/3/2025)

منذر مصري

8 أبريل 2025

(حرصًا على الباقي من إنسانيتنا، نحن السوريون)

1- عبد اللطيف علي بكلماته:

أذكر قراءتي هذا المنشور في حينه، منذ ما يزيد عن ثلاثة أشهر، بعدها كتب عبد اللطيف علي منشورات عديدة، يصحّ القول إنّه كتب عن كلّ شاردة وواردة، وعن كلّ كبيرة وصغيرة، منها ما يقرب من السيرة الشخصية، كما في منشوره “حكايتي مع الطائفية” 1/3/2025، الذي لم أقرأ يومًا ما يضاهيه رهافة وصدقا في تناول تلك القضية الشائكة، إلّا أنّي أفضّل منشوره هذا رغم حدّيته، التي كانت ربّما سبب تأثري الشديد به وعدم نسياني إيّاه، يجيب فيه عبد اللطيف على العديد من الأسئلة الجوهرية المطروحة، كما يستشرف الاحتمالات الأشد كارثية في الوضع السوري، وبالأخص المنطقة الساحلية حيث يحيا.

22/12/2024:

“لا يمثّلني، ولا تشرّفني قرابته أو صداقته، كلّ من مارس التطبيل للنظام البائد، كلّ من مارس التشبيح باسم النظام البائد، كلّ من تماهى قليلًا أو كثيرًا في الموقف السياسي مع النظام البائد، كلّ من احتمى بمظلّة الفساد التي أمّنها له النظام البائد فسرق أو اختلس أو انتفع أو ارتشى، كلّ من والى النظام البائد تحت أية عناوين، وبالأخصّ تحت العنوان الطائفي، كلّ من يدعو اليوم إلى العفو عن الفاسدين والمجرمين ممّن يزعمون البراءة من النظام البائد ويبرّرون ارتكاباتهم بمنطق الاضطرار والخوف والغلبة على أمرهم، كلّ من يدعو أو يتبنّى أو يؤيّد ضمنًا الانعزال في كيان طائفيّ أو مذهبيّ أو مناطقيّ أو قوميّ.

وللعلم… فأنّا أعلن منذ اليوم طلبي اللجوء إلى أقرب كيان سوريّ غير تقسيميّ في حال تمكّن الطائفيون والمذهبيون والقومجيون من تقسيم سورية: أنا عبد اللطيف شعبان علي، المواطن السوري ذو السبعين عامًا والمقيم في بلدة جبلة الساحلية، بعد أن هاجرت وزوجتي (هجرةً وليس لجوءًا) إلى الولايات المتحدة الأميركية منذ ستّ سنوات، وحصلنا على الإقامة الدائمة ما يسمّى (Green Card)، وعدت إلى سورية لأبقى فيها وأذوق كلّ ما ذقته من الفقر والقهر والذلّ، وعندما انتهت صلاحية جواز سفري لم أقم بتجديده. #سورية_موحّدة_لجميع_السوريين. #لا_لقانون_العفو_العام. #نعم_لمحاسبة_المرتكبين. #المحاسبة_جوهر_العدالة”.

2- قيد نفوس مختصر:

الاسم: عبد اللطيف علي.

الأب: شعبان. هناك كثيرون عبد اللطيف علي، يحدد، ابن شعبان علي، معلم المدرسة. كما يقول في نهاية منشوره “حكايتي مع الطائفية”: “ما لم أطلعكم عليه بَعد هو أنّ المرحومَ والدي كان رجلَ دينٍ علويّ”.

الدين: “لستُ يهوديًّا ولا مسيحيًّا ولا سنّيًّا ولا شيعيًّا ولا درزيًّا ولا إسماعيليًّا ولا علويًّا، ولا عربيًّا ولا كورديًّا ولا تركمانيًّا ولا شركسيًّا ولا آشوريًّا ولا كلدانيًّا ولا سريانيًّا ولا آراميًّا ولا فينيقيًّا ولا إغريقيًّا ولا فارسيًّا ولا روميًّا… أنا كلّهم، أنا سوريّ”.

العمر: 70 سنة. مواليد: 1954. مصياف. حيث عمل أبوه أربع سنوات، قبل أن تعود وتستقر العائلة في جبلة.

الحالة التعليمية: يعرّف بنفسه على صفحته: “حقوقي (حاصل على شهادة جامعية من كلية الحقوق) متقاعد. أكتب في الشعر والأدب والسياسة”.

الحالة العائلية: متزوج ولديه ثلاثة أبناء، حسبما علمت، مجد وبشر وصفاء.

الإقامة الحالية: جبلة – حي الجبيبات. عاد إلى سورية، بعد حصوله مع زوجته على (Green Card) في الولايات المتحدة الأميركية. عاد لأجل ماذا؟ يجيب: [لأذوق الفقر والقهر والذل]! فليتفضّل أحدكم ويشرح لي معنى هذه الإجابة؟ واللّـه أنا الذي لم أغادر إلى أي مكان، واستطعت أن أخترع ألف سبب وسبب لبقائي، وذقت ما ذقت من المرارت، ليس الفقر أبا القهر وأبا المذلات أحدها، أعترف، لا قدرة لي أن أفهم!

3- معارض متطرّف:

عبد اللطيف علي ليس معارضًا لنظام الأسد فحسب، بل، يصحّ القول، معارضًا متطرفًا؟ وإلّا ماذا إذًا توصف هذه المواقف التي يتخذها من القضايا السورية الأشد جذرية:

– رفض قطعي لكل من كانت له علاقة مع النظام البائد، فلا عذر عنده لمن: “تماهى كثيرًا أو قليلًا” مهما كانت ظروفه، ولا يجد داعيًا لمجرد التلميح إلى هذه الظروف.

– ضد قانون العفو العام، الذي قد يجد به الكثيرون، وربّما منهم السلطة الحالية، حلًا ما للحالة البالغة التعقيد في تطبيق مبدأ العدالة الانتقالية في سورية، بعد حكم دام /54/ سنة، كان النظام فيها يقوم على نشر الفساد، إلى أن نخر عظامه هو نفسه!

– إصرار على العدالة، ولا عدالة إلّا في محاسبة المرتكبين: “الفاسدين والمجرمين ممّن يزعمون البراءة من النظام البائد ويبرّرون ارتكاباتهم بمنطق الاضطرار والخوف والغلبة على أمرهم”. حتّى إنّه لا يأتي على ذكر العدالة الانتقالية، ربّما لأنّها تقوم على التسويات! فالمحاسبة بعرفه جوهر العدالة.

– رفض مطلق لفكرة تقسيم سورية إلى كيانات، طائفية أو مذهبية أو مناطقية (يا صديق م. أ. م) أو قومية. معلنًا أنّه: “إذا تمكن الطائفيون والمذهبيون والقومجيون من تقسيم سورية، فإني سأطلب اللجوء، (لا إلى الولايات المتحدة، حيث لديه إقامة دائمة، ولا يحتاج سوى لتجديد جواز سفره، ولا إلى أوروبا، ولا إلى الإمارات، ملجأ السوريين كافة، موالين أو معارضين بل إلى) أقرب كيان سوري، غير تقسيمي” (يشترط)!

4- اليوم الأخير من حياة عبد اللطيف علي:

وكأنّه كان يستشعر الخطر، 6 منشورات، خلال اليوم الذي قتله فيه أولئك الذين كان يعلن انتماءه لهم، ويستميت في دفاعه عنهم. إلّا أنّي آتي على ذكر هذه التفاصيل، ليس لضرورتها فيما أكتبه فحسب، بل لشعوري بأنّه كان وما يزال هناك من يريد أن يعتم عليها! أن يقلل من أهميتها ومن أهمية دلالتها، فهي، إذا فهمتم ما أعني، تشكل عامل إحراج شديد للطرفين معًا، كلّ من زاوية! وأيضًا استجابة لرغبة مني بالحيلولة بينها وبين النسيان والضياع، باعتبارها شهادة لا مثيل لها عن مصائر السوريين الفجائعية، بفعل تراكم الموت وأكوام جثامين السوريين فوقها:

7/3/2025  ليلًا 12.46: “الأصدقاء الكرام الوضع في جبلة يهدأ. الساعة الآن 12.45 ليلًا سوف أحاول النوم تصبحون على خير”.

7/3/2025 صباحًا 10.13: “… يا أهلنا في الساحل وفي عموم سورية أنتم وبلدكم المستهدفون بالفتنة ودمكم ومستقبل أولادكم هو الذي يهدر لكي يأتي الغرباء فيقطفوا ثمار الدم دون أن يتهدم حائط في بلادهم. #عاشت_سوريا_وطنًا_نهائيًّا_لجميع_مكوناته_وأبنائه”.

7/3/2025 صباحًا 10.46: يعيد نشر نصّ كتبه في 7/3/2023! يوم موته منذ سنتين، عن الخوف من الزلزال، الذي بعرفه يماثل الخوف في 7/3/2025:

“خوف! أنا وجميع من حالُهم مثلُ حالي… هل يحقّ لنا أن نخافَ من الزلزال؟ أنا من المواطنين السوريين الذين يرون أنّ الوضع العامّ ليس سيئًا بل كارثيًّا، وأنّ لا أملَ في صلاحه خلال الأجل الذي قد تمتدّ إليه حياتهم مهما طالت، فالناسُ جُرّدوا من كلّ مقوّمات الفعل التي تؤهّلهم لإحداث التغيير ووضع قطار الإصلاح على سكّته، والقيّمون على البلاد يرون في التغيير خطرًا عليهم فيحاربونه ويقطعون عليه السبل… ما الذي قد يُحدِثُه لنا الزلزال؟! الموت؟! وهل الموتُ قياسًا بما نحن فيه وما سنؤول إليه أمرٌ سيئ؟! لا… لا يحقّ لي أن أخاف من الزلزال! لكنني أتحدث في المبدأ… لست خائفًا أبدًا، وهذا لا صلة له بالشجاعة والجبن، بل بالانسجام مع ما أومن به وأعتقد أنّه صحيح”.

7/3/2025 ظهرًا 12.16: يشارك بثًّا بالصوت والصورة لزيدون الزغبي: “ثلاث رسائل: 1- إلى العلوي… إياك والسلاح إياك والاستزلام لحفنة من المجرمين والمطلوبين. 2- إلى السنّي… الدولة هي ولية الأمر الدولة قوية وليست ضعيفة الدولة هي التي تدافع عنك وعن غيرك بحماسك وتحريضك ونزولك إلى الشارع أنت تؤذي الدولة وتحيّدها. 3- إلى الدولة… عليكم التعجيل في تشكيل حكومة جامعة حقيقية. الفوضى تعني ضياع النصر”.

7/3/2025 بعد الظهر 2.23: “صديقي السوري… السوري اليوم وأنت تمرّ بأصعب اختبار تذكر أنّك سوري فهذه الحقيقة هي لو تعلم أغلى من كل ما تكتنزه من جواهر وهي التي تبقيك إنسانًا وتمنعك من الانحطاط إلى درك الوحوش”. واضعًا صورة لمنشور عبد الرحمن طالب أحد نشطاء اللاذقية، مع جملة: “تحاصرنا وخبَّأَنا العلويون في منازلهم”.

“لا أستطيع أن أبطل التفكير، بماذا كان يشعر به عبد اللطيف وهو يواجه قاتليه؟ “أهلًا بالشباب نحنا معكم وبدنا يرجع الاستقرار لجبلة”. لم يشفع له تأهيله بهم، ولا قوله نحن معكم، ربّما ظنّوه يكذب، ربّما هذا لا يهمهم. ربّما سمعوا الجملة ذاتها من ضحايا قبله!”

7/3/2025  بعد الظهر 3.51: آخر الكلمات الأخيرة التي كتبها لنا عبد اللطيف علي، قبل ثلاث ساعات من مقتله: “عزيزي الشاب العلوي المضلل: ليكن معلومًا لديك، أنّ أولئك الذين جندوك وسلحوك ودفعوا بك إلى أتون معركتهم مع السلطة الجديدة، إنما هم يستغلون فقرك وسذاجتك لكي يشعلوا بك وبأمثالك نارًا ودخانًا يمكنهم من الإفلات بأرواحهم وأموالهم التي جنوها على حسابك وحساب أهلك وهم أجبن من أن يخوضوا معركتهم بأنفسهم فيلجؤون إلى التلطّي وراء شعارات طائفية خائبة تقسيمية مدمرة تعمي بصيرتك وتخدر عقلك فتتبعهم إلى مصير أسود ينتظرهم عاجلًا أم آجلًا. فاستيقظ وألق سلاحك قبل فوات الأوان وقبل أن تجرّ بحماقتك أقرب الناس إليك إلى ذات المصير الأسود المحتوم”.

5- المقتلة:

– على لسان ابنته: “أنا بنت عبد اللطيف علي. لا شك في أن فلول النظام اللي عملت كمين للأمن العام في جبلة كانت مساهمة في تفجّر الوضع في المدينة. ولكن من دخل إلى بيتنا وقتل أبي وأخوتي هم من الفصائل التي جاءت من الداخل عندما تمت الدعوة للفزعة والنفير العام. مظهرهم. لهجتهم. كلماتهم. كلها تؤكد ذلك”.

– على لسان زوجة ابنه، باختصار بعض التفاصيل، لكلماتها ولقسوتها: “أنا براءة زوجة بشر عبد اللطيف علي شاهد على مجزرة ضد الإنسانية، مبارح حوالي الساعة سبعة المسا دق علينا الباب ببيت عمي مجموعة مسلحة من الأرتال. دخلوا جبلة لتطهيرها من اللي سموهن فلول نظام، فتح عمي الباب وقلن أهلا بالشباب نحنا معكم وبدنا يرجع الاستقرار لجبلة.

سألوا: شو اسمك

– عبد اللطيف علي وهادا بشر ابني ومجد

– شو بتشتغلو

– أنا متقاعد من وظيفة مدنية وبشر دكتور ومجد موظف مدني

– أنتو من جبلة هون

– إي

– يعني أنتو سنة

– لا علوية

….

قالوا الشباب والعم يلا لبرا وأنتو ضلو جوا… قتلو التلاتة. حبيبي بشر ومجد وعمو عبد صارو جثث. تلت أبرياء ما أذوا نملة. كل الدنيا بتعرف منين قتلوهن الوحوش. يا حبايب قلبي المحروق ما راح خلي قصتكن تموت معكن بدي أاحكي لكل العالم عنكم”.

6- هواجس:

لا أرى أن هناك داعيًا لأستخلص العبر، ولا أن أشير إلى النقاط الهامة من هذه الرواية الدامية، فهي تقول، وعلى نحو كامل البلاغة، كل شيء بنفسها، غير أني لا أستطيع أن أبطل التفكير، بماذا كان يشعر به عبد اللطيف وهو يواجه قاتليه؟ “أهلًا بالشباب نحنا معكم وبدنا يرجع الاستقرار لجبلة”. لم يشفع له تأهيله بهم، ولا قوله نحن معكم، ربّما ظنّوه يكذب، ربّما هذا لا يهمهم. ربّما سمعوا الجملة ذاتها من ضحايا قبله! ويعدونها مجرّد محاولة للهرب من الموت! لا ريب أنّه شعر بالخطر، أولئك الذين كان يناصرهم، هم الآن أمامه بسلاحهم يهددون حياته وحياة أبنائه! لا أظنّهم أمهلوه ليراجع موقفه منهم، أتراهم أتاحوا له لحظة خاطفة للندم؟ أم أنّه كان يفكر بأنّ هذا ما كان يحذّر منه، هذا ما كان يخافه تحديدًا. أتراه شططًا أن أتخيله يقول: “أغفر لكم لأنّكم لا تعلمون ماذا تفعلون؟”. فلقد حدث هذا مرّة، ومن غير المستبعد أن يفكر عبد اللطيف علي هكذا! أليس هو من كتب في 24/2/2025: “أمّا أنا… فأفضّل أن أموت بيد أيّ سوري… على أن أحتمي بغريب غير سوريّ… فكيف إذا كان دعيّ حمايتي إسرائيليًّا؟”. بينما أنا في الحقيقة أخالفه في ذلك كليًّا وأفضّل العكس تمامًا، أن أموت بيد غريب على أن أموت بيد سوري. أذكر أن صديقًا نبهني، بقدر من المزاح، إلى أن ما كتبته عن طوفان الأقصى قد يعرضني للتصفية الجسدية من قبل إسرائيل، فأجبته، بقدر من الجدّية، أني أعدّ هذا شرفًا! ثم يأتيني هذا الهاجس القاتل، ترى هل كان يفكّر بابنيه، هل كان يخاف في تلك اللحظة عليهما؟ فإذا كان موته ثمنًا ما لبقائه، وثمنًا لمواقفه، ويمكنه، وربّما يمكنني، أن أتقبّله شخصيًّا أنا نفسي، ولكن موت ابنيه، قتل ابنيه، لا هو ولا أنا ولا أب في العالم يحقّ له أن يتقبّله! ما أراحني ولو قليلًا، هو أنّي فهمت من شهادة براءة أنّهم قتلوه أوّلًا، وعلى مسافة أبعد، وكأنّها رحمة ربّانية، أنّه لم ير ابنيه يقتلان أمامه! تصوروا أنّ هذا ما أرجوه، وأدعوا اللّـه لأن يكون ما حصل!

7- السؤال الأخير:

لن يكون لدي ما أسأله لعبد اللطيف علي لو أنّه نجا، لو أنّه عبر، مع ابنيه، هذا السيل الجارف من الموت! لأنّي أظنّه سيبقى على ما يعرفه الجميع عنه، وسيعيد، ربّما بنبرة أشد: “ألق سلاحك قبل أن تجرّني وتجرّ ابني إلى المصير الأسود المحتوم”. لا أظنّه سيغيّر ما عاند عليه دهرًا! علمًا بأنّه لم يعف من نقده السلطة الحالية، فمثلًا في 6/3/2025 مساء 7.11 يكتب: “القرارات السيئة إمّا أنّها تتخذ عن غباء وجهل فتأتي بنتائج معاكسة لأهدافها وإمّا عن دهاء ومكر وعندئذ الطامة الكبرى”. ومن نصحها أيضًا: “عليكم التعجيل في تشكيل حكومة جامعة حقيقية. الفوضى تعني ضياع النصر”. إلّا أنّه لدي سؤال واحد لأسأله لعبد اللطيف علي بعد رحيله الفاجع، سؤال أخير:

“ماذا لديك لتقوله لنا الآن؟”.

ضفة ثالثة

———————————

جبال الساحل السوري/ سمر يزبك

8 أبريل 2025

هناك في جبال الساحل السوري المقابلة للبحر، في الأزقة التي تفيض برائحة الموت، حيث لا صراخ يُسمع، وحدها الجدران المتصدعة في البيوت الأفقر تحكي حكايات الذين سقطوا ولم يجدوا الوقت للبكاء.

يطوّر القتلة خطاب الخوف، كي لا يصدأ. بلا خوف، سوف يفكر الناس بالتضامن، وهو أمر يجب تفاديه بأي ثمن. لم يعد العنف عشوائيًا، بل بات أداة تعيد تشكيل الذاكرة. تم تجهيل الفاعلين هذه المرة بطريقة ما بعد حداثية، لم تُسمَّ الأشياء بأسمائها، كي لا تضيع السردية الرسمية، ليس للسلطة هذه المرة، بل للثورة نفسها. شبح النظام القديم حاضر فوق رؤوس المنتصرين، الذين هيّأوا أنفسهم لاحتفال النصر، وليس لديهم ترف الحديث عن مجازر، ولا عن ضحايا، ولا عن ذاكرة من سقطوا. كي لا يفقد القتلة أعذارهم الجاهزة، كان لا بد من إعادة تعريف الضحية. المجزرة، سيسميها خبراء الكلام لاحقًا “ردود أفعال انتقامية”، وسيُختصر الألم في لغة باردة تُحيل المذبحة إلى مجرد ملاحظة هامشية في تقرير طويل عن مسؤولية الأسد المسبقة وفلوله عن المجزرة، وعن السكين التي تحز الجسد لتخرج قلب الشاب أمام أبيه.

لم يكن سقوط النظام إيذانًا بولادة جديدة، لعله لم يسقط تماما، بل كان مجرد تبديل للأقنعة في مسرح لم يتغير ديكوره سوى بلون الدم. يبدو الزمن حاضرًا في المشهد، لكنه في الحقيقة أول الضحايا، يسقط أولًا، ينسحب من الجغرافيا، يصبح بلا معنى. لا فرق بين الليل والنهار حين يكون الموت سيد الإيقاع. الأيام أصبحت متماثلة بالنسبة للضحايا، لا مستقبل في تلك الجبال، حيث كان يشعر وكأن الكون خُلق للتو، وكأنه أول من يطأ الأرض، لم يكن هناك مكان لحسابات الطوائف. لم يكن القتل عنوانًا للهويات، بل للحرب التي لا تعترف إلا بالدم. لكنه الآن بات رقصة مكررة، حفلة وحشية، نظرة الضحية إلى عيني القاتل، لم تكن هذه مجرد نزهة للقاتل في حديقة الضحية، بل عبورًا إلى حيث تُصنع الخرائط بالدم، حيث الحدود القصوى للأشياء، للوحشية البشرية…

في زحام الدم السوري، توقفت الضحية أن تكون فردًا تعرض للظلم، بل تحولت إلى هوية جماعية تُصنّف وفقًا لمنطق ديني. بعض القتلى يُبكى عليهم، تُنشر صورهم، تُحكى حكاياتهم، بينما يُمحى الآخرون، يُعاملون كأرقام في تقارير باردة، كأن الموت نفسه بات امتيازًا مقننًا. لم يكن السؤال من مات، بل كيف منح له الموت؟ وكيف ستُروى حكايته رسميا أهو شهيد أم فلول أم مجرد أضرار جانبية لأخطاء فردية؟

عندما ينهار النظام، ألا يعني ذلك سقوط أدواته، أم يُعاد تدويرها؟ هل علينا تجرع نفس الكأس؟ يُعاد استثمار الخوف، يُعاد تعريف العدو. في هذه الفوضى، كان لا بد من خصم جديد، من كبش فداء يُلقى عليه إرث النظام السابق، يُحوّل إلى رمز يجب تصفيته. هكذا وُضع العلويون في مرمى الخطاب الجديد، لا كأفراد، بل كامتداد لشبح لم يُدفن بعد، كأثر يجب محوه كي تكتمل الحكاية الجديدة. لم يكن الأمر محاسبة عادلة، بل عنفًا يستمر، فقط بوجهة مختلفة.

السلطة تحتاج دائمًا إلى عدو، إلى وقود يبقي آلة الخوف دائرة. لم يكن القتل مجرد موت، بل أداة لإعادة تشكيل السردية، لتبرير المزيد من الدم، ليبقى الصراع مستمرًا حتى بعد أن تغيرت وجوه القتلة. هل كان هذا ما احتفل به السوريون يومًا، ورقصوا في الشوارع من أجله؟ منطق جديد للهيمنة، لكنه يظل وفيًا لمنطقها القديم.

حين خرج السوريون مطالبين بالحرية، خرجوا ضد القتل، أيًا كان القاتل، وأيًا كان القتيل. لم يخرجوا مطالبين بالسلطة بل خرجوا مطالبين بالعدالة. من يذكر: “واحد واحد واحد… الشعب السوري واحد”، من يذكر: “الشعب السوري ما بينذل”، ولكن اليوم، هناك شريحة من الشعب تُقتل ولا تجد تضامنًا كافيًا من بقية مكوناته، وكأنه حقًا ليس شعبًا واحدًا، وكأن الألم أصبح مشروطًا بالهوية. هكذا تتشكل السرديات المتنافرة، فتتمزق الجماعة إلى شعوب متباعدة. حاول نظام الأسد تفتيت النسيج السوري وفشل، لكن اليوم، في لحظة امتلاك الحد الأدنى من حرية قول الحقيقة، يجد العلويون أنفسهم بحاجة إلى تضامن من بقية مكونات الشعب السوري، ليس فقط لحمايتهم، بل لحماية ما تبقى من معنى الثورة.

“من يذكر: “واحد واحد واحد… الشعب السوري واحد”، من يذكر: “الشعب السوري ما بينذل”، ولكن اليوم، هناك شريحة من الشعب تُقتل ولا تجد تضامنًا كافيًا من بقية مكوناته، وكأنه حقًا ليس شعبًا واحدًا، وكأن الألم أصبح مشروطًا بالهوية…”

لقد مروا بالجحيم وكأن النور قد انطفأ في عيونهم، ومع ذلك، يحاولون إيجاد تمييز – ربما أصبح أكثر استحالة- بين قاتليهم وحماتهم الذين فرحوا وهللوا بانتصارهم؛ يهربون رغم بساطتهم من تحليلات تعيد إنتاج نفس الخرائط الدموية. لم تكن هذه مجرد جرائم، ولم يكن هذا الموت عاديًا، بل كان يحمل بُعدًا رمزيًا، حيث لا تُزهق الأرواح فقط، بل يُعاد تشكيل معنى الحياة نفسها.

إذا كان منشأ الخوف هو ذعر الذات من صورتها المتخيلة، فإن الكذب لتنظيف الخوف مما يدل عليه، والبحث عما يبرر القتل، يدلان معًا على هشاشة مموهة بالحقد، وعلى ما ستفرضه هذه المرآة المؤجلة من مجازر جديدة، على مساحة أكبر اتساعًا.

هم هناك، في تلك القرى المتناثرة على سفوح الجبال، لا يطلبون أكثر من أن تُروى حكايتهم كما هي، بلا تهذيب، بلا خوف من كسر السردية. لم يكن ذنبهم أنهم وُلدوا في مكان خاطئ في لحظة خاطئة، ولم يكونوا امتدادًا طبيعيًا للنظام كما أُريد لهم أن يُختزلوا. يتجنبون الكلام، لا لأنهم لا يملكون ما يقولونه، بل لأن الكلام لم يعد وسيلةً للفهم، بل ذريعة للمحو. لا يغادرون منازلهم بعد الغروب، ينظرون إلى بعضهم، كأنهم يشهدون على اختفاءٍ بطيء، لا لأجسادهم، بل لمستقبلهم ومعناهم، وكأن استمرارهم في الحياة يستدعي إثباتًا دائمًا بأنهم ليسوا القتلة. صار الخوف لباسًا يوميًا، لا من الطائرات، بل من الروايات. لم تعد الحرب حرب مواقع، بل حرب سرديات، كل واحدة تبحث عن ضحية “صحيحة”، وعن قتيل يمكن النوح عليه علنًا.

أولئك الذين سقطوا هناك، لم يكونوا أرقامًا، لكنهم عوملوا كأرقام. لم يُسمح لهم أن يكونوا ضحايا، لأن ذلك يُربك المعادلة، يُشوش على الرواية التي اعتادت الأبيض والأسود. يعيشون في الفراغ بين صورتين: صورة المجرم المفترض، وصورة الضحية غير المعترف بها. وبين الصورتين، تضيع الوجوه، وتُمحى التفاصيل. لكنهم ما زالوا هناك، رغم كل شيء، ليسوا تمثيلات لأحد، ولا أوراقًا في يد أحد، فقط بشر، يسألون عن مكانهم في الحكاية. تلك الحكاية التي تتغاضى عن تحديدها حتى الآن جماهير السلطة القائمة في حين أن هذه السلطة، هي من تتحمل المسؤولية الأخلاقية والقانونية عن المجازر التي وقعت بحق مواطنيها، سواء بالسماح الضمني، أو بالعجز المتعمد، أو ربما….

العلويون ليسوا حالة استثنائية في الألم السوري، لكن استثناءهم كان في الطريقة التي أُجبروا بها على الصمت، وعلى التماهي القسري مع النظام، كأنهم طُلب منهم أن يحملوا إرث الجلاد، وأن يتنكروا لضحاياهم في الوقت ذاته. لم تُمنح لهم المسافة التي تسمح بإعادة التفكير، ولا الزمن اللازم للحزن. كانوا دائمًا في قلب العاصفة، لكن بصمت مدوٍ. لا أحد يريد أن يسمع حكاياتهم لأن سردها قد يعيد تعريف معنى الضحية خارج التصنيفات الجاهزة. في سردية الثورة، كانت هناك لحظة نقاء، لحظة حلم بأن العدالة لا تستثني أحدًا، بأن الحرية لا تُمنح بشروط. لكن هذه اللحظة لم تصمد أمام ثقل الدم، وأمام منطق الثأر المتسلل بهدوء إلى خطاب التحرر. صار من الممكن تبرير كل شيء باسم الثورة، حتى نفي الآخر، حتى إعادة إنتاج منطق النظام، ولكن بلون جديد. كأننا نُعيد تدوير الوحش، لا لنحاربه، بل ليتخذ هيئة أخرى تناسب المرحلة. إن من نجا من موت القصف، لم ينجُ من موت المعنى.

تحتاج هذه الجبال إلى من يُنقذها، إلى من يصغي. تحتاج إلى خطاب جديد، إلى صمت صادق، يعترف أولًا بما فاته أن يعترف به. ففي مرات كثيرة، لم يكن الخذلان فعلًا مقصودًا، بل نتيجة طبيعية لواقع صُمم ليمنع التقاء العيون، وليجعل كل فئة تنظر للأخرى من وراء زجاج الخوف. ومع ذلك، ما زال هناك من يُصرّ على أن يقول: لسنا خصومًا، ولسنا ورثة أحد. نبحث عن أمان لا يُكلفنا أرواحنا، وعن وطن لا يطلب منا أن نكذب كي نعيش. تلك اللحظة التي فيها يعترف الناس ببعضهم، لا كرموز، بل كضحايا متساوين، قد تكون اللحظة الوحيدة التي تستحق أن تُسمى انتصارًا. لأن الثورة، التي بدأت بـ “الشعب السوري واحد”، لا تنتهي إلا حين يعود هذا النداء حقيقة، لا شعارًا. وما لم يحدث ذلك، ستبقى الحرب مستمرة، وإن تبدّلت أدواتها. ستبقى الجبال شاهدة، لا على ما جرى فقط، بل على ما لم يُفعل بعد.

—————————-

الزلزالُ السوريّ الأقسى لعام 2025/ عبير نصر

08 ابريل 2025

لا يخفى على أحدٍ أنّ فنَّ اللعب على التناقضات الطائفية، وما ترتّب عليها من فشل أخلاقي (خاصة إبّان الثورة السورية)، كان من أهم أسباب صمود نظام الأسد، وتفتّق ذلك عن أشدّ أزمات المجتمع السوري خطورة، إنتاج هُويَّاتٍ فرعيةٍ خامدةٍ ستندلع شرارتها متى يتوافر فراغٌ سياسي وأمني ملائم. وواضحٌ أنّ الانفجارَ الطائفي اليوم هو القاعدة وليس الاستثناء لسقوط الأسد، فها هي فيديوهات التحريض تغزو مواقع التواصل الاجتماعي، وربّما أبرزها التي يصرخ فيها شخص ينتمي للأكثرية في وجه آخر “أقلوي” يدعو إلى التسامي على الجراح: “ما الذي يُجبرني على العيش معك وقد باتت القوة في أيدينا؟”. وفي سياق تفصيل ذلك، وقريباً من الإدراك الحيوي والعقلاني للوقائع الراهنة، يبدو هذا كلّه مُتوقَّعاً في بلدٍ لم يحظَ السوريون فيه بفرصةٍ زمنيةٍ كافيةٍ لبناء هُويَّةٍ وطنيةٍ خالصةٍ بعد الاستقلال. فبدايةً، جاءت نكبة فلسطين لتتسيّد صدارة الأولويات العربية، ثمّ الارتدادات الكارثية التي آلت إليها الانقلابات العسكرية، ففشل الوحدة السورية المصرية، وبلغ التأزّم مداه إثر انغماس السوريين في كوارث “البعث”، ليفقدوا طهرانيتهم بكلّ ما سيعتري كيانهم الطريّ لاحقاً من اختلالاتٍ وإكراهات… هذه المخاضات العسيرة جعلت من حكم الأسد الولي الأكبر لشعبٍ بلا هُويَّة ناجزة، سيتحوّل تباعاً أقواماً متفرّقةً تفصل بينها جدرانٌ شاهقةٌ من المظلوميات والأحقاد مسجونةً في مزرعةٍ يديرها لصوصٌ رعاعٌ باسم الأيديولوجيا القومية، عبر علاقات مشبوهة من الإكراه على العيش المشترك.

ونظراً إلى التحدّيات واختلاف مستوياتها، وتنوّعها بين الذاتي والموضوعي، يبقى التسليم بالواقع الحالي نوعاً من الإفلاس الهُويَّاتي البيّن، يفتّح الأذهان على أسئلة مصيرية كُبرى وسط البحث عن المشتركات المتبقّية بين السوريين وإبراز قيمتها، وهي ليست مجرّد ترفٍ نظريٍّ أو سجالاتٍ فارغة، إنّما جُهد يُثمَّن لإعادة تخليق الحامل الوطني للسوريين، واعتبار الهُويَّة الدينية هُويَّةً صُغرى تشكّل فضاءً معرفياً مضافاً، تجنّباً لتبنّي العنف الطائفي خياراً للتغيير السياسي.

ممّا تقدّم من معطياتٍ مهّدت لصحوةٍ طائفية لا نظير لها في سورية تاريخياً، يتأكّد أنه لا يمكن استيعاب إشكالية “انتقائية التعاطف” من محسوبين على “الأكثرية”، وعدم استجابتهم لمجازر العلويين بعيداً من التحوّلات الأيديولوجية والهُويّاتية المُستظلَّة براية المظلومية “السُّنية”، التي أنتجتها ممارسات حكم الأسد بالمعنى السياسي الاستبدادي، وهذا مؤشّرٌ خطيرٌ على دخول السوريين في تيهٍ مظلم يصعب الخروج منه، وسط محاولاتٍ لإعلاء خطاب “الشعب السوري واحد”، ليس حالةً عيانيّةً مجسّدة، بل استجابةً واقعيةً حتميةً، خاصّة أنّ هذا الشعار الأثير تجلّى بوضوح بعد الحرب العالمية الأولى، حين ناضل المسلم والمسيحي والكردي معاً لتحرير سورية من المستعمرّ الفرنسي، بعيداً من أيّ فتنةٍ طائفيةٍ أو نزعةٍ انفصالية، حتى تمكّن حافظ الأسد “العلوي” نفسه من الوصول إلى الحكم. وللمفارقة، تغدو الهُويَّة الوطنية الجامعة أبرز ضحاياه. لذا من الطبيعي أن يتطوّر خلافٌ بسيط بين شخصَين ينتميان إلى طائفتَين مختلفتَين صداماً أهلياً مريراً قد ينتهي بحمّام دمٍ بسبب التحريض الممنهج. خذ مثالاً ما حصل في أشرفية صحنايا بين الدروز وعشائر من دير الزور، ولحسن الحظّ تدخّل العقلاء وجرى احتواء الخلاف.

هذا العبث الممنهج، وقوامه إحياء الهُويَّات الجزئية التي تدغدغ المشاعر الدينية لحشد مزيد من التأييد والمشروعية، يطرح سؤالاً ملحّاً عن إمكانية إحياء الهُويَّة السورية، وقد أتت سياسةُ نظام الأسد الطائفية الخبيثة أُكلها مع اضمحلال مفهوم الدولة وانحسار حقلها. في السياق، يؤكّد مستشار الأمن القومي الأميركي خلال رئاسة جيمي كارتر، زبيغنيو بريجينسكي، أنّ أفضل وسيلة لتفتيت الأنظمة والشعوب هي تعميق الانقسام المذهبي والعرقي، من خلال تمكين طائفةٍ بعينها ودعمها لقهر بقية المكوّنات. بالتالي، يمكن القول إنّ تركة الأسد الثقيلة بالتوازي مع سطوة الفصائل الإسلامية المتشدّدة، وتشابك الملفّات الدولية والإقليميّة، تدفع السوريين إلى تبنّي تعريفات خاصّة بهم بهدف حماية أنفسهم. وقد حدث هذا الانسحاب الطائفي أيضاً على ضفة المؤيّدين أيّام حكم الأسد، وهو تقوقعٌ محمولٌ على سياساتٍ تمييزيّة تثير عصبيات فرعية ما قبل وطنية. في المقابل، لا يبدو أنّ النخب السورية بعمومها، وعلى الرغم من فداحة المشهد العام، تقوم بمراجعة إسعافية لاحتواء التحدّيات التي يطرحها الواقع المأزوم الأشد استعصاءً، وفيه يتحوّل منشورٌ “فيسبوكيّ” تافه إلى ساحة احترابٍ همجيٍّ مرفقة بالتخوين والاتهامات، ليُكفَّر شخص وتُنزع من آخر هُويَّته السورية لأتفه الأسباب، فلا شكّ في أنّ سورية تعاني من أنيميا حادّة في الانتماء، وعلى خلفية ذلك، لنستحضر حادثة شهيرة تختصر ما سبق، ففي 2021 شهدت مباراة لكرّة السلة بين منتخبَي سورية وكازاخستان، ضمن تصفيات كأس العالم، حادثةً مثيرة للجدل، وهي عزف النشيد الإيراني بدلاً من السوري، ولم يُبدِ اللاعبون السوريون لحظتها أيّ اعتراض أو استغراب، باستثناء واحد (!).

على أيّ حال، لطالما أُثيرت شرارات طائفية بدت ظواهرَ مارقةً أمكن ضبط تداعياتها، هي نفسها اليوم تغدو أكثر استفزازاً وحضوراً. فمثلاً، تبرُز ظاهرة “التكويع” واحدةً من أبرز مخرجات تشوّه الهُويَّة السورية الجامعة المفقودة حالياً، أو هي، في أقلّ تقدير، بأسوأ حال مع استمرار دعوات التحريض الطائفي الممنهجة ضدّ “الأقلّيات”، بينما يحتاج الخلاص إلى عمل سوريّ موحّد تجنّباً للانجرار وراء أيّ هُويَّة فرعية. لذا قد يبدو مغرياً، وبلغةٍ تختلط فيها المشاعر بالبلاغة السياسية، النقاشَ في أهمية إسقاط الطائفية بعد إسقاط سلطةٍ فاشيّة لها السبق في تطييف الثورة واستثمار عنفها بعد تحوّلها إلى العسكرة، حتى أنّ بعض النُخب العلمانية الأكثر انفتاحاً قبلت الأسلمة ردّاً على نظامٍ رسّخ مصطلح اللوحة الفسيفسائية (المثيرة للسخرية) من دون الخوض في تفاصيلها، نوعاً من الالتفاف السياسي على جوهر المشكلة، ودفعَ باتجاه صراعٍ مكبوتٍ انفجر عندما رُفِع الضغط عنه، استجابة لكثير من المفاهيم السياسية المؤسَّسة على مرجعيات طائفية بحتة.

ضربَ سورية، في 6 فبراير/ شباط 2023، زلزال مدمّر طرحَ أسئلةً وجوديةً شائكة، ولم يملك السوريون آنذاك رفاهية الوقت للبحث عن إجابات ليقينهم المطلق أنهم سيُتركون وحدهم في مهبّ الريح، فسارعوا ينظّمون أنفسهم بعيداً من منطق الاصطفاف الطائفي لاحتواء الكارثة، واعتبر حراكهم محطّةً لاستعادة جاذبية الخيار الوطني، الذي فقدَ كثيراً من قوته وثقله، حينها وصلت شاحنات مساعدات إنسانية إلى مدينة جبلة الساحلية قادمةً من قلب إدلب. واليوم يأخذ سوريون وضعية المزهرية بينما تتعرّض البلاد لزلزالٍ أشدّ قوة وتدميراً، وهو الفوضى العدمية المتمخّضة عن السقوط المفاجئ لنظامٍ قمعي احترف في عملية ضبط المصطلحات الطائفية لمصلحته، محوّلاً البلاد جمهوريةَ رعبٍ منزوعة المواطنة، أفقدت الهُويَّة السورية حمولتها الوطنية كلّها، في استعراضٍ مسرحيّ مبتذل للتخوين والمزايدة والانتقام.

نافل القول، نفذت مليشيات موالية لنظام الأسد عمليات إبادة جماعية بحقّ السنّة خلال الثورة، واليوم تستعيد المجازر حضورها في قرى الساحل العلوية، وما زال السوريون (في الحالتَين) يتخندقون داخل أوكارهم الطائفية، يصمّون آذانهم عن ارتدادات الزلزال الذي يبتلع البلاد. وعليه، لنتفق: إذا لم يجمعهم طفل بانياس الذي ربط سرواله بحزامٍ قماشي لشدّة فقره، والذي قُتل في مجزرة حرف بنمرة، وبغضّ النظر عن دينه، فلا يمكن أن يجمعهم أيّ شيء آخر.

العربي الجديد

————————-

السلم الأهلي الهشّ: جمر الثنائيات السورية تطفئه 6 مبادئ/ زيدون الزعبي

08 ابريل 2025

بدت مطالبات بالسلم الأهلي عديدة غير جديّة، إن لم نقل ساذجة وغير عقلانية، فمن مطالباتٍ بعفوٍ عام إلى حلّ الأمر على قاعدة “تبويس الشوارب”، إلى أخرى دعت إلى تحقيق السلم عبر المحاسبة المباشرة، وبأن أي مطالبةٍ لتطبيق القانون ومسار العدالة الانتقالية ليس إلا مثالية زائفة لا معنى لها، خصوصاً في ظل تأخّر الدولة الناشئة في طرح مسارات عدالة جدّية.

تبدو قضية السلم الأهلي واحدة من أكبر مهدّدات الدولة السورية وهي تولد من جديد، فالاستقطاب الهائل بين الثنائيات السورية الحاضرة بقوة، قبل انتصار الثورة وبعده، يجعل السلم الأهلي، والاطمئنان الذي أشاعه شكل الانتصار، وبالحد الأدنى من الخسائر في الأرواح، في مهبّ الريح. فثنائية أكثرية – أقلية، التي تأخذ أشكالاً مختلفة بين سُنّة وعلويين، وكرد وعرب، وعلماني ومحافظ، ومعارض للنظام السابق ومؤيد له، تُنذر باقتتالٍ لا يبقي ولا يذر.

ومع وجود حوامل إقليمية ومحلية تسعى إلى إشعال الصراع وتسعيره، سواء بالتحريض الطائفي والمذهبي والقومي، أو حتى بالتسليح والتمويل، يصبح السلم الأهلي في غاية الهشاشة، وتكاد حربٌ طائفيةٌ تندلع مهما حاول منعها حماة السلم من دولة ومجتمع مدني وأهلي.

من زاوية أخرى، بدت مطالبات بالسلم الأهلي عديدة غير جديّة، إن لم نقل ساذجة وغير عقلانية، فمن مطالباتٍ بعفوٍ عام إلى حل الأمر على قاعدة “تبويس الشوارب”، إلى أخرى دعت إلى تحقيق السلم عبر المحاسبة المباشرة، وبأن أي مطالبةٍ لتطبيق القانون ومسار العدالة الانتقالية ليس إلا مثالية زائفة لا معنى لها، خصوصاً في ظل تأخّر الدولة الناشئة في طرح مسارات عدالة جدّية. وعليه، يبدو من الواجب اليوم وضع مبادئ أولى للسلم الأهلي، لا لتكون مبادئ نهائية، بل لتكون وثيقةً حيّةً منفتحةً على المقترحات والتطورات المحتملة للقضية السورية.

أولاً: انتصار شعب لا طائفة

يقول نيلسون مانديلا: “كرّست نفسي طوال حياتي لهذا النضال الذي يخوضُه الشعب الأفريقي. لقد ناضلتُ ضدّ هيمنة البيض، وناضلتُ ضد هيمنة السود. لقد اعتززتُ بمبدأ المجتمع الديمقراطي الحر الذي يعيش فيه كل الناس معاً في وئام وتكافؤ الفرص. إنه مبدأ أتمنّى أن أعيش من أجله وأن أحققه. وإذا لزم الأمر، هو مبدأ أستعد للموت من أجله”. من هنا، يمكن القول إن تأسيس قضية العدالة ربما كان كامناً في تحديد ماهية الصراع ونتائجه، فهل مَن انتصر هو فصيل أو فصائل المعارضة على جيش النظام؟ أم هو انتصار طائفةٍ على أخرى أو أخريات؟ أم هو انتصار الشعب المظلوم على نظام جائر ظالم؟ جواب هذا السؤال يكمن في توصيف ما جرى خلال السنوات الأربع عشرة المنصرمة، هل ما كان ثورةً أم حرباً أهلية؟ ربما كان التوصيف العلمي الأكاديمي حرباً أهلية، غير أنه، في ضمير غالبية السوريين، ثورة، ولا تسامح مع أي توصيفٍ له خارج هذا النطاق، فإذا كانت ثورة، فكيف تكون ثورة مكوّنٍ ما ضد مكوّنٍ ما، أو كيف يُلام على قمعها مكوّنٌ؟ وكيف يكون ضحيّتُها مكوّناً؟

تهدف الثورة إلى أن ينتصر الشعب على منظومة حكم سياسية، وعلى مجموعة القيم التي كانت تكرسها، وهذا ما تبنته شرائح واسعة من منتسبي الثورة! إذاً هي ثورة، وفي الثورة ينتصر الشعب، كلّ الشعب، لا جزء منه، ولا طائفة منه على جزء آخر أو طائفة أخرى. زد على ذلك، أن أحد أهداف الثورة السامية اقتلاع جملة ممارسات كانت السلطة البائدة تسعى إلى تكريسها، واحدة منها، وربما أهمها، هي الطائفية. إذ كانت السلطة البائدة تحاول وسم الثورة بأنها إرهاب، في تدليس وتضليل موصوف لربطها بالسُّنة، بمواجهة الأقليات، فيما جهدت الثورة في تثبيت أنها ثورة شعب، كل الشعب، ضد النظام، والنظام فحسب. بالتأكيد، سيقول قائل إن كل من هم في المخيمات، والغالبية الساحقة من المعتقلين، والمدن المدمرة هي مدن سُنّية وهذا صحيح، لكن هذا هو جوهر سردية السلطة التي حاولت تكريس الثورة بوصفها حراكاً لجزء من طائفة ضد طائفة، وبالتالي، يصبح انتصار الثورة، في أحد أهم أوجهه، انتصاراً على الطائفية بوصفها واحدة من أهم أدوات السلطة البائدة، لا تكريساً لها.

ثانياً: المواطنة بمواجهة خطاب الأكثرية – الأقلية

تبدو مصطلحات مثل الأكثرية والأقلية سائدة في خطاب النخب والعامة السورية، وبالتالي يظهر خطاب من قبيل حماية الأقليات في سرديات النخب السورية، بل حتى في خطاب “المجتمع الدولي” ليظهر الأقليات مجموعاتٍ قليلة ذليلة بمقابلة أكثرية دموية ذات أنياب تسعى لافتراس الأقلية، في حين أن قيم الثورة الأساسية تكمن في مفهوم المواطنة المتساوية، الذي يساوي بين المواطنين السوريين، بغضّ النظر عن الجنس والخلفية الإثنية. وما لم يسد خطاب المواطنة بين النخب، أولاً وعاشراً، فإن سردية انتصار جزء من الشعب على جزء آخر ستسود، ليصبح ما جرى حرباً أهلية، لا ثورة.

ثالثاً: منطق الدولة

ليس مفاجئاً القول إن النظام السوري البائد خلّف هيكل دولةٍ، ينخر الفساد والعقوبات مؤسساتها، فالقضاء فاسد ومترهّل ومثقل بقوانين بعضها بالٍ، وآخر ليس إلا سيفاً مسلّطاً على رقاب البلاد والعباد، ثم جاء قرار حلّ الجيش، الذي أصدره النظام البائد، وكرّسته السلطة الحالية، ليكون تكريساً لإنهاك الدولة. تبدو الدولة إذاً اليوم في حالة ضعفٍ شديد، وما لم تُدعَم الدولة فإن حرباً أهليةً وحرب الجميع ضد الجميع تنتظر البلاد، ومن دون أن تنصبّ الجهود اليوم على حماية الدولة ومنطقها، وبناء مؤسّساتها فإن السلم الأهلي في خطر داهم.

أول المعنيين بحماية منطق الدولة هو السلطة الحاكمة اليوم، فالمطلوبُ من السلطة الآن هو التحلّي بالحكمة اللازمة لحماية الدولة ذاتها، وتشميل القوى السياسية والاقتصادية كافة من دون أي إقصاء لأي تيار سياسي أو مكوّن اجتماعي، والإسراع في مسار العدالة الانتقالية، وإيجاد حلول منطقية لتضخم العمالة والبطالة المقنعة خارج إطار التسريح التعسفي، واجتراح حلول اقتصادية للفقر المستشري.

غير أن السلطة اليوم غير قادرة على مواجهة هذا الكم الهائل من التحدّيات، ما لم يتصدّ المجتمع المدني والأهلي لهذه المشكلات. بالتأكيد، سيقول قائل إن مساندة هذه السلطة تعني تمكينها، وربما تهيئة الظروف لاستبدادها في السلطة، وهذا صحيحٌ ومخاطرة لا بد منها، وإلا فإن انهيار هذه السلطة قد يعني انهيار هذه البلاد. عليه، على المجتمع المدني الاستمرار بالضغط لجهة تشميل منطق المواطنة وتعميمه، إلى جانب حماية منطق الدولة.

لا يكفي هذا بالطبع، إذ يبدو وجود السلاح خارج الدولة من أكبر مهدّدات الدولة الوليدة، ومن دون آليةٍ سلمية لضمّ الفصائل قائمة على أساس وحدة السلاح والتشميل في آن واحد، فلن تقوم للدولة قائمة.

رابعاً: حماية الوسط في مواجهة الاستقطاب

بالعودة إلى مانديلا الذي قال: “لا يولد أحد وهو يكره شخصاً آخر بسبب لون بشرته أو أصله أو دينه. يتعلّم الناس الكراهية، وإذا كان يمكنهم تعلّم الكراهية، فيمكنهم أن يتعلّموا الحب أيضاً”. … وعليه، نرى أنه ما إن انطلقت الثورة السورية، حتى ظهرت استقطاباتٌ كانت تختبئ خلف ستار الخوف والقمع، فثنائيات المدن الكبرى مقابل الصغرى، والريف مقابل المدينة، وغرب سورية مقابل شمالها الشرقي، وعربي مقابل كردي، فضلاً عن انتماءاتٍ طائفيةٍ ودينيةٍ عميقة، غير أنه بعد تسلح الثورة بفعل قمعها الجنوني من النظام البائد، لم تتعمّق هذه الاستقطابات فحسب، بل ظهرت استقطاباتٌ جديدة كثنائية داخل – خارج.

في زمن الاستقطاب يذوب الوسط، بكل معانيه، وبدل الحوار تخنق البلاد لغة التخوين والعداء وخطاب الكراهية. يختلف الطرفان المستقطبان في كل شيء إلا عداء الوسط، الذي بحكم وسطيّته يسارع إلى الانكفاء ليترك الساحة للعداء والكراهية.

ما لم يكن الوسط فاعلاً وقوياً ومنخرطاً مع طرفي الاستقطاب، بالحوار معهما، وبالتجسير فيما بينهما، لا بالتعالي عليهما، وبعضلات مفرودة وظاهرة، فإن الاستقطاب سيعني انقسام المجتمع عمودياً، وربما تقسيم البلاد.

خامساً: التشميل

“أريد أن تهبّ ثقافات جميع الأمم حول منزلي بحرية، ولكنني لا أريد أن تقتلعني إحداها من جذوري” قال المهاتما غاندي يوماً. إذاً، ما لم يظهر الفضاء العام تشميلياً، بالمعنى الحقيقي للتشميل، فإن أي خطاب سلمٍ أهليٍّ يصبح عبثاً وصيحة في وادٍ. بالتأكيد، لا يجب أن يأخذ التشميل شكله الاستعماري على أساسٍ إثنيٍّ لما يصبح محاصصةً طائفية، فالعراق ولبنان حاضران في ضمير السوريين مثالَين لتفسيرٍ استعماريٍّ لمعنى التشميل. يكفي أن يكون التشميل سياسياً وجغرافياً وتقنياً، ليضمن تمثيل الجميع من دون الولوج في وحل الطائفية والمحاصصة، ففيما لو كان التمثيل سياسياً بضمان وجود تشكيلاتٍ من الأحزاب، والقوى السياسية، و/أو كان جغرافياً على قاعدة تمثيل المناطق، و/أو على أساسٍ تقنيٍّ كأن تمثل النقابات المنتخبة ديموقراطياً، فإنها، في غالب الأحوال، ستضمن تمثيل جميع المكوّنات بنسب منطقية، تماثل وجودها المجتمعي.

غير أن التشميل يجب أن يكون ذا معنى، لا أن يكون شكلياً، أي أن تكون فئات الشعب حاضرة في عملية اتخاذ القرار، لا في عملية التصديق الشكلية عليه. وكل تشميل محمودٌ، على أن يكون جدياً وفاعلاً.

سادساً: العدالة

يقول الرسول الكريم (صلى الله عليه وسلم): “إن الرفق لا يكون في شيءٍ إلا زانه، ولا يُنزع من شيءٍ إلا شانه”، ويقول غاندي: “العين بالعين يعني مجتمعاً أعمى”.

لا يمكن لأي سلمٍ أهليٍّ أن يحدُث إلّا على قاعدة العدالة، فلا سلام من دون عدالة، عدالة لا تهدّد استقرار البلاد، ولا تقتصّ من طرفٍ على حساب آخر، فمن أمر ليس كمن نفّذ، ومن نفّذ ليس كمن هاجم بالكلام، ومن هاجم بالكلام ليس كمن صمت عن القتل، ومن صمت عن القتل ليس كمن كظم غيظَه، وسكت عن خوفٍ من الأسدية أو عن رغبة في البقاء في البلاد وعدم تركها لنظام الأسد ينهشها.

ورغم ذلك، لا يمكن لأي دولةٍ أن تحتمل معاقبة كل من أساء أو ارتكب ومن جميع الأطراف، وإلا سنشهد محاكماتٍ تقضّ مضجع البلاد برمتها، فالعدالة الانتقالية ليست إلّا جسراً بين ماضي سورية المثقل بالجراح، والمستقبل الحالم بالسلام والعدل. إنها ليست مجرّد قانون يُسنّ أو محكمة تُقام، بل هي نداءٌ إنسانيٌّ عميقٌ لاستعادة التوازن بين الذاكرة والنسيان، بين العقاب والمغفرة، بين الانتقام والمصالحة. تبدو العدالة الانتقالية اليوم بوابة الأمل الوحيدة، إذ لا يُطلب من الضحايا أن ينسوا، ولا من الجناة أن يختفوا، بل أن يعترفوا، أن يُواجهوا الحقيقة بقلوبٍ جريحة، وأن يجلسوا معاً في ساحة التاريخ ليعيدوا صياغته بعد أن شوهته سنوات القمع والدم.

ليست هذه المبادئ نهائية، ولا تفترض صحّتها النهائية، بل تطرح نفسها على طاولة الحوار بين الجميع ولصالح الجميع. أطرح هذه المبادئ لأقول: تعالوا إلى كلمة سواء، تنقلنا إلى مستقبل آمن.

العربي الجديد

———————————————–

الزلزالُ السوريّ الأقسى لعام 2025/ عبير نصر

08 ابريل 2025

لا يخفى على أحدٍ أنّ فنَّ اللعب على التناقضات الطائفية، وما ترتّب عليها من فشل أخلاقي (خاصة إبّان الثورة السورية)، كان من أهم أسباب صمود نظام الأسد، وتفتّق ذلك عن أشدّ أزمات المجتمع السوري خطورة، إنتاج هُويَّاتٍ فرعيةٍ خامدةٍ ستندلع شرارتها متى يتوافر فراغٌ سياسي وأمني ملائم. وواضحٌ أنّ الانفجارَ الطائفي اليوم هو القاعدة وليس الاستثناء لسقوط الأسد، فها هي فيديوهات التحريض تغزو مواقع التواصل الاجتماعي، وربّما أبرزها التي يصرخ فيها شخص ينتمي للأكثرية في وجه آخر “أقلوي” يدعو إلى التسامي على الجراح: “ما الذي يُجبرني على العيش معك وقد باتت القوة في أيدينا؟”. وفي سياق تفصيل ذلك، وقريباً من الإدراك الحيوي والعقلاني للوقائع الراهنة، يبدو هذا كلّه مُتوقَّعاً في بلدٍ لم يحظَ السوريون فيه بفرصةٍ زمنيةٍ كافيةٍ لبناء هُويَّةٍ وطنيةٍ خالصةٍ بعد الاستقلال. فبدايةً، جاءت نكبة فلسطين لتتسيّد صدارة الأولويات العربية، ثمّ الارتدادات الكارثية التي آلت إليها الانقلابات العسكرية، ففشل الوحدة السورية المصرية، وبلغ التأزّم مداه إثر انغماس السوريين في كوارث “البعث”، ليفقدوا طهرانيتهم بكلّ ما سيعتري كيانهم الطريّ لاحقاً من اختلالاتٍ وإكراهات… هذه المخاضات العسيرة جعلت من حكم الأسد الولي الأكبر لشعبٍ بلا هُويَّة ناجزة، سيتحوّل تباعاً أقواماً متفرّقةً تفصل بينها جدرانٌ شاهقةٌ من المظلوميات والأحقاد مسجونةً في مزرعةٍ يديرها لصوصٌ رعاعٌ باسم الأيديولوجيا القومية، عبر علاقات مشبوهة من الإكراه على العيش المشترك.

ونظراً إلى التحدّيات واختلاف مستوياتها، وتنوّعها بين الذاتي والموضوعي، يبقى التسليم بالواقع الحالي نوعاً من الإفلاس الهُويَّاتي البيّن، يفتّح الأذهان على أسئلة مصيرية كُبرى وسط البحث عن المشتركات المتبقّية بين السوريين وإبراز قيمتها، وهي ليست مجرّد ترفٍ نظريٍّ أو سجالاتٍ فارغة، إنّما جُهد يُثمَّن لإعادة تخليق الحامل الوطني للسوريين، واعتبار الهُويَّة الدينية هُويَّةً صُغرى تشكّل فضاءً معرفياً مضافاً، تجنّباً لتبنّي العنف الطائفي خياراً للتغيير السياسي.

ممّا تقدّم من معطياتٍ مهّدت لصحوةٍ طائفية لا نظير لها في سورية تاريخياً، يتأكّد أنه لا يمكن استيعاب إشكالية “انتقائية التعاطف” من محسوبين على “الأكثرية”، وعدم استجابتهم لمجازر العلويين بعيداً من التحوّلات الأيديولوجية والهُويّاتية المُستظلَّة براية المظلومية “السُّنية”، التي أنتجتها ممارسات حكم الأسد بالمعنى السياسي الاستبدادي، وهذا مؤشّرٌ خطيرٌ على دخول السوريين في تيهٍ مظلم يصعب الخروج منه، وسط محاولاتٍ لإعلاء خطاب “الشعب السوري واحد”، ليس حالةً عيانيّةً مجسّدة، بل استجابةً واقعيةً حتميةً، خاصّة أنّ هذا الشعار الأثير تجلّى بوضوح بعد الحرب العالمية الأولى، حين ناضل المسلم والمسيحي والكردي معاً لتحرير سورية من المستعمرّ الفرنسي، بعيداً من أيّ فتنةٍ طائفيةٍ أو نزعةٍ انفصالية، حتى تمكّن حافظ الأسد “العلوي” نفسه من الوصول إلى الحكم. وللمفارقة، تغدو الهُويَّة الوطنية الجامعة أبرز ضحاياه. لذا من الطبيعي أن يتطوّر خلافٌ بسيط بين شخصَين ينتميان إلى طائفتَين مختلفتَين صداماً أهلياً مريراً قد ينتهي بحمّام دمٍ بسبب التحريض الممنهج. خذ مثالاً ما حصل في أشرفية صحنايا بين الدروز وعشائر من دير الزور، ولحسن الحظّ تدخّل العقلاء وجرى احتواء الخلاف.

هذا العبث الممنهج، وقوامه إحياء الهُويَّات الجزئية التي تدغدغ المشاعر الدينية لحشد مزيد من التأييد والمشروعية، يطرح سؤالاً ملحّاً عن إمكانية إحياء الهُويَّة السورية، وقد أتت سياسةُ نظام الأسد الطائفية الخبيثة أُكلها مع اضمحلال مفهوم الدولة وانحسار حقلها. في السياق، يؤكّد مستشار الأمن القومي الأميركي خلال رئاسة جيمي كارتر، زبيغنيو بريجينسكي، أنّ أفضل وسيلة لتفتيت الأنظمة والشعوب هي تعميق الانقسام المذهبي والعرقي، من خلال تمكين طائفةٍ بعينها ودعمها لقهر بقية المكوّنات. بالتالي، يمكن القول إنّ تركة الأسد الثقيلة بالتوازي مع سطوة الفصائل الإسلامية المتشدّدة، وتشابك الملفّات الدولية والإقليميّة، تدفع السوريين إلى تبنّي تعريفات خاصّة بهم بهدف حماية أنفسهم. وقد حدث هذا الانسحاب الطائفي أيضاً على ضفة المؤيّدين أيّام حكم الأسد، وهو تقوقعٌ محمولٌ على سياساتٍ تمييزيّة تثير عصبيات فرعية ما قبل وطنية. في المقابل، لا يبدو أنّ النخب السورية بعمومها، وعلى الرغم من فداحة المشهد العام، تقوم بمراجعة إسعافية لاحتواء التحدّيات التي يطرحها الواقع المأزوم الأشد استعصاءً، وفيه يتحوّل منشورٌ “فيسبوكيّ” تافه إلى ساحة احترابٍ همجيٍّ مرفقة بالتخوين والاتهامات، ليُكفَّر شخص وتُنزع من آخر هُويَّته السورية لأتفه الأسباب، فلا شكّ في أنّ سورية تعاني من أنيميا حادّة في الانتماء، وعلى خلفية ذلك، لنستحضر حادثة شهيرة تختصر ما سبق، ففي 2021 شهدت مباراة لكرّة السلة بين منتخبَي سورية وكازاخستان، ضمن تصفيات كأس العالم، حادثةً مثيرة للجدل، وهي عزف النشيد الإيراني بدلاً من السوري، ولم يُبدِ اللاعبون السوريون لحظتها أيّ اعتراض أو استغراب، باستثناء واحد (!).

على أيّ حال، لطالما أُثيرت شرارات طائفية بدت ظواهرَ مارقةً أمكن ضبط تداعياتها، هي نفسها اليوم تغدو أكثر استفزازاً وحضوراً. فمثلاً، تبرُز ظاهرة “التكويع” واحدةً من أبرز مخرجات تشوّه الهُويَّة السورية الجامعة المفقودة حالياً، أو هي، في أقلّ تقدير، بأسوأ حال مع استمرار دعوات التحريض الطائفي الممنهجة ضدّ “الأقلّيات”، بينما يحتاج الخلاص إلى عمل سوريّ موحّد تجنّباً للانجرار وراء أيّ هُويَّة فرعية. لذا قد يبدو مغرياً، وبلغةٍ تختلط فيها المشاعر بالبلاغة السياسية، النقاشَ في أهمية إسقاط الطائفية بعد إسقاط سلطةٍ فاشيّة لها السبق في تطييف الثورة واستثمار عنفها بعد تحوّلها إلى العسكرة، حتى أنّ بعض النُخب العلمانية الأكثر انفتاحاً قبلت الأسلمة ردّاً على نظامٍ رسّخ مصطلح اللوحة الفسيفسائية (المثيرة للسخرية) من دون الخوض في تفاصيلها، نوعاً من الالتفاف السياسي على جوهر المشكلة، ودفعَ باتجاه صراعٍ مكبوتٍ انفجر عندما رُفِع الضغط عنه، استجابة لكثير من المفاهيم السياسية المؤسَّسة على مرجعيات طائفية بحتة.

ضربَ سورية، في 6 فبراير/ شباط 2023، زلزال مدمّر طرحَ أسئلةً وجوديةً شائكة، ولم يملك السوريون آنذاك رفاهية الوقت للبحث عن إجابات ليقينهم المطلق أنهم سيُتركون وحدهم في مهبّ الريح، فسارعوا ينظّمون أنفسهم بعيداً من منطق الاصطفاف الطائفي لاحتواء الكارثة، واعتبر حراكهم محطّةً لاستعادة جاذبية الخيار الوطني، الذي فقدَ كثيراً من قوته وثقله، حينها وصلت شاحنات مساعدات إنسانية إلى مدينة جبلة الساحلية قادمةً من قلب إدلب. واليوم يأخذ سوريون وضعية المزهرية بينما تتعرّض البلاد لزلزالٍ أشدّ قوة وتدميراً، وهو الفوضى العدمية المتمخّضة عن السقوط المفاجئ لنظامٍ قمعي احترف في عملية ضبط المصطلحات الطائفية لمصلحته، محوّلاً البلاد جمهوريةَ رعبٍ منزوعة المواطنة، أفقدت الهُويَّة السورية حمولتها الوطنية كلّها، في استعراضٍ مسرحيّ مبتذل للتخوين والمزايدة والانتقام.

نافل القول، نفذت مليشيات موالية لنظام الأسد عمليات إبادة جماعية بحقّ السنّة خلال الثورة، واليوم تستعيد المجازر حضورها في قرى الساحل العلوية، وما زال السوريون (في الحالتَين) يتخندقون داخل أوكارهم الطائفية، يصمّون آذانهم عن ارتدادات الزلزال الذي يبتلع البلاد. وعليه، لنتفق: إذا لم يجمعهم طفل بانياس الذي ربط سرواله بحزامٍ قماشي لشدّة فقره، والذي قُتل في مجزرة حرف بنمرة، وبغضّ النظر عن دينه، فلا يمكن أن يجمعهم أيّ شيء آخر.

العربي الجديد

—————————

بين النصوص الغائبة والمحاسبة المطلوبة.. كيف سيتعامل القضاء السوري مع جرائم القتل الطائفي؟/ وائل قيس

5 أبريل 2025

تباينت الآراء بشأن تقرير منظمة العفو الدولية الذي اتهم ميليشيات موالية للحكومة السورية الانتقالية بارتكاب مجازر طائفية في مدينة بانياس الساحلية، خلال يومي 8 و9 آذار/مارس 2025. وبينما رأى خبراء قانونيون تحدثوا لموقع “الترا سوريا” أن النظام الجزائي السوري يفتقر إلى التوصيف الدقيق لجرائم القتل الجماعي ذات الطابع الطائفي، أكد حقوقيون على ضرورة محاسبة جميع مرتكبي جرائم القتل الجماعية دون تمييز، بالإضافة إلى إطلاق حوار مجتمعي يؤسس للسلم الأهلي.

وبحسب العفو الدولية، فإن عمليات القتل الجماعي التي شهدتها مدينة بانياس، أسفرت عن مقتل أكثر من 100 مدني، حيث استُهدف الضحايا بعد التأكد من انتمائهم الطائفي، وتعمّد المسلحون إطلاق النار على رؤوسهم من مسافات قريبة، فيما تُركت جثثهم في الشوارع والساحات. وأشارت المنظمة إلى أن بعض المسلحين حمّلوا الضحايا مسؤولية انتهاكات ارتكبها النظام السابق، ما يكرّس الطابع الانتقامي والممنهج لتلك المجازر.

جرائم بانياس انتهاك جسيم للقانون الدولي

وقالت الأمينة العامة لمنظمة العفو الدولية، أنييس كالامار، إن هذه الجرائم تُعد انتهاكًا جسيمًا للقانون الدولي الإنساني “وترقى إلى مستوى جرائم الحرب”، مشددةً على أن تقاعس السلطات السورية عن التدخل لوقف القتل يضعها أمام مسؤولية مباشرة، داعيةً إلى توفير العدالة والحقيقة للضحايا، ومحذّرةً في الوقت نفسه من أن “غياب المحاسبة يهدد بإعادة البلاد إلى دوامة من الفظائع وسفك الدماء”.

وكان الرئيس السوري، أحمد الشرع، قد تعهد في التاسع من آذار/مارس الماضي بمحاسبة مرتكبي الجرائم، وأعلن عن تشكيل لجنة لتقصي الحقائق للتحقيق في أحداث الساحل الدامية، بالإضافة إلى تشكيل لجنة عليا للحفاظ على السلم الأهلي. وقالت لجنة تقصي الحقائق إنه من غير الممكن أن تستطيع إنجاز مهمتها خلال 30 يومًا، وأنها قد تطلب تمديد المهلة، مرجحةً إنشاء محكمة خاصة لملاحقة المتورطين في الأحداث التي شهدتها المنطقة.

وتعليقًا على تقرير العفو الدولية، قال المتحدث باسم لجنة الحقائق، ياسر الفرحان، في مقابلة مع “التلفزيون العربي”، إن اللجنة تتفق مع المنظمة في ضرورة حماية الشهود، مشيرًا إلى اتخاذ تدابير تضمن سرية الشهادات وأماكن اللقاء. وأضاف “أنه من غير الواضح درجة ارتباط الحكومة السورية بالميليشيات التي قالت المنظمة إنها ارتكبت الانتهاكات”، وتساءل “هل تعني المنظمة أنها متعاونة مع الحكومة أو تابعة لها؟”.

وفيما أكد الفرحان أن اللجنة “تحترم معايير أمنستي العالية”، لكنه أشار إلى أن “تحديد مسؤولية الحكومة يجب أن يأتي بعد تحديد كافة الظروف والسياقات، والتأكد من أن هذه العناصر التي ارتكبت الانتهاكات تخضع فعلًا لسيطرة الدولة السورية، وهل دعمت هذه المجموعات وهل قصرت في اتخاذ الإجراءات لمنع هذه الانتهاكات”.

القانون الجزائي قاصر على معاقبة جرائم القتل الجماعي

تثير جرائم القتل الجماعي ذات البعد الطائفي في سوريا تساؤلات قانونية معقدة حول كيفية تكييفها في إطار القانون الجزائي السوري، وإمكانية مساءلة الجهات المسؤولة عنها، بما في ذلك الميليشيات المرتبطة بالحكومة، ضمن منظومة العدالة على المستوى الوطني في ظل مرحلة الاستقرار الهش الذي تعيشه البلاد.

توضح المحامية ولاء محمد سبتي أنه “في القانون الجزائي السوري لا يوجد هذا التحديد للجريمة”، وتضيف في حديثها لموقع “الترا سوريا” أن “القاضي مضطر لتكييف الجرائم وفق النصوص الموجودة، وبالتالي يحاكم المجرم على جريمة قتل شخصين أو أكثر وفق المادة 534 من قانون العقوبات”، لافتةً إلى أن حكم هذه الجريمة يكون عادة “الأشغال الشاقة المؤبدة”، وبالتالي نجد أننا “حذفنا هنا الإبادة الجماعية على أساس طائفي”.

وتنص المادة 534 من قانون العقوبات السوري، الصادر بالمرسوم التشريعي رقم 148 بتاريخ 22 حزيران/يونيو 1949، على أن “يعاقب بالأشغال الشاقة المؤبدة على القتل قصدًا إذا ارتُكب: لسبب سافل، أو تمهيدًا لجنحة أو تسهيلًا أو تنفيذًا لها أو تسهيلًا لفرار المحرضين على تلك الجنحة أو فاعليها أو المتدخلين فيها أو للحيلولة بينهم وبين العقاب”، بالإضافة إلى مرتكبي الجرائم “للحصول على المنفعة الناتجة عن الجنحة”.

كما تشمل المادة مرتكبي الجرائم التي تستهدف “موظف أثناء ممارسته وظيفته أو في معرض ممارسته لها”، أو “حدث دون سن الـ15 عامًا، أو شخصين أو أكثر”، فضلًا عن “حالة إقدام الجرم على أعمال التعذيب أو الشراسة نحو الأشخاص”.

وبحسب سبتي، فإن “القانون الجزائي السوري قاصر على المعاقبة على هذه الأفعال”، مشددةً في حديثها على أن “هذا الذي يدفعنا للمطالبة بقانون عدالة انتقالية، يحدد ويوصف الجريمة بالركن المادي والمعنوي”، لافتةً إلى أنه “من الممكن الاستعانة بالاتفاقات الدولية الموقعة عليها سوريا، من بينها اتفاقية منع جريمة الإبادة الجماعية والمعاقبة عليها”.

النظام القضائي لم يرتسم بما يتعلق بالميليشات أو القوات المسلحة

تُطرح اليوم تساؤلات جوهرية حول إمكانية فتح تحقيقات جنائية محلية في جرائم القتل الجماعي، خاصةً تلك المرتكبة من قبل ميليشيات مرتبطة بالحكومة السورية، أو خلال فترة حكومة تصريف الأعمال التي تولت مهامها من التاسع من كانون الأول/سبتمبر 2024 حتى 29 آذار/مارس 2025، إضافةً إلى مدى قانونية اعتماد الأدلة الدولية أمام المحاكم السورية في مسار العدالة.

ووفقًا لمصدر قضائي تحدث لـ”الترا سوريا”، مفضلًا عدم الكشف عن هويته، فإن “كونها ميليشيات يجب أن يفتح بحقها تحقيق خاص بلجان تحقيق خاصة”، وأضاف موضحًا أن سبب اللجوء لهذه الآلية يعود إلى “شكل النظام القضائي في سوريا الذي لم يرتسم بما يتعلق بالميليشات أو القوات المسلحة”، مشيرًا إلى أنه “سابقًا كانت القوات المسلحة تابعة للقضاء العسكري، ولها شرطة عسكرية خاصة بها تتابع هذه الجرائم. أما الآن، وبما أن القضاء العسكري لم يفتح، فإن محاكمتهم أمام القضاء المدني غير واردة”.

وينوه المصدر القضائي إلى أن العناصر المنضوية ضمن هذه الفصائل أو الميليشيات “لم يُرسلوا للقضاء المدني، وليس لديهم قضاء عسكري”، وبالتالي هذا السبب الذي كان وراء تم تشكيل لجنة تقصي الحقائق للتحقيق بجميع مجازر الساحل، مؤكدًا أن من “الطبيعي أن تأخذ هذه اللجنة قرارات سواء بالعسكريين الأفراد أو الميليشيات”.

وفيما يتعلّق بالمعايير القانونية بشأن شروط قبول الأدلة الدولية أمام المحاكم السورية لضمان مشروعيتها في المساءلة الجنائية، يؤكد المصدر القضائي أن “من مهام هذه اللجنة الاستماع لجميع الشهادات”، ولذا يرى أن من “الأولى استماع لجنة تقصي الحقائق إلى شهادات المنظمات الدولية”، لكن يضيف مستدركًا أن “هناك تقاطع حول هذه النقطة، لأن من ذهبت إليهم المنظمات الدولية، هم أنفسهم الأشخاص الذين زارتهم اللجنة، واستمعت إليهم”.

الحصانات لا تسقط في جرائم الإبادة أو الحرب

أظهرت عديد التقارير أن فصائل مسلحة تابعة أو موالية للحكومة، بالإضافة إلى مجموعات مدنية، ومجموعات موالية للنظام السابق، شاركت في جرائم القتل الجماعي التي ارتُكبت في الساحل السوري في آذار/مارس الماضي. حول هذا التفصيل، تشير سبتي إلى أن المتفق عليه في جرائم ضد الإنسانية، بالإضافة إلى جرائم الإبادة الجماعية وجرائم الحرب، أن “هذه الجرائم تسقط فيها الحصانات، وأيضًا يسقط التقادم”.

وهنا توضح سبتي أنه “مهما طالت المدة لا تسقط هذه العقوبة أو الجريمة بالتقادم، بالتالي مساءلة الميليشيات المرتبطة بالحكومة قانونيًا أمر وارد”، لكنها تشير في المقابل إلى أننا “نحتاج فقط إلى إرادة سياسية”، وتضيف موضحة أن “بصرف النظر إن هؤلاء الأفراد المتورطين سوريين أو غير سوريين، نظرًا لأن التنازع في القوانين يكون في الحالات المدنية والأحوال الشخصية”.

وأضافت سبتي أنه في حال كانوا الأفراد المتورطين بهذه الجرائم من غير السوريين غير متواجدين على الأراضي السورية، فإنه “من الممكن اعتماد مذكرات تفاهم مع الدول المتواجدين فيها لملاحقتهم، أو من الممكن مطالبة الدول محاسبتهم عن الجرائم التي جرموا بها في سوريا”، وهو ما يعني أن هناك عدة خيارات متاحة لمحاسبة المتورطين السوريين أو غير السوريين خارج الأراضي السورية.

وترى سبتي، التي تُحضر لرسالة دكتوراه في القانون الدولي، أن تقارير منظمة العفو الدولية، وما يشابهها من تقارير لمنظمات دولية، من الممكن أن “تُسرع في مسار العدالة الانتقالية، لكن وفقًا لما سيتم اعتماده في القانون المرتقب”. وأضافت “نحن ننتظر وضع قانون عدالة انتقالية شامل يحدد الجرائم والعقوبات، بما يشمل التطبيق الزماني والمكاني”.

ومن ضمن هذه التحديدات أو التفصيلات التي ينبغي أن يتضمنها قانون العدالة الانتقالية المرتقب، تشير سبتي إلى ضرورة تحديد “ما يحق للقضاة أو أعضاء الهيئات الفنية الاستعانة به، على سبيل المثال، يمكن أن يتضمن قانون العدالة الانتقالية أحقيتهم بالاستعانة بتقارير منظمات”، لافتةً إلى أن “الاستفادة من لجان التحقيق الدولية المستقلة منذ 2011 تُسرّع من مسار العدالة الانتقالية، وتُغني عن بدء التحقيقات من الصفر”.

يجب على الحكومة عدم التمييز بين الضحايا

في ظل توجه السلطات إلى دفن جثث الضحايا دون مراسم أو توثيق للهويات، تبرز الحاجة الملحة إلى اتخاذ إجراءات تضمن حقوق عائلاتهم في الوصول إلى الحقيقة، وتحقيق العدالة، وجبر الضرر. وتتزايد أهمية هذه الإجراءات في سياق تغيب فيه الشفافية، فضلًا عن ضبابية آليات المساءلة الرسمية.

في تعليقه على هذا السؤال، لفت مدير الشبكة السورية لحقوق الإنسان، فضل عبد الغني، في بداية حديثه لـ”الترا سوريا”، إلى أن تقرير الشبكة يتقاطع مع تقرير منظمة العفو الدولية في بعض النقاط، بما في ذلك مقتل مسلحين بعد نزع سلاحهم، مؤكدًا أن النتائج التي خلصت إليها الشبكة “متشابهة بشكل كبير جدًا” مع نتائج تقرير العفو الدولية.

وقالت الشبكة الحقوقية في تقريرها إن مجموعات مسلحة مرتبطة بالنظام السابق نفذت هجمات منسقة على مواقع أمنية للحكومة الانتقالية في الساحل السوري، أسفرت عن سقوط قتلى في صفوف المدنين وعناصر الأمن العام، ما دفع القوات الحكومية إلى الرد بعملية أمنية موسّعة لملاحقة المهاجمين، شاركت فيها قوات رسمية وفصائل محلية مدنية وتنظيمات أجنبية. سرعان ما تحولت العمليات إلى مواجهات عنيفة اتسمت بالانتقام والطائفية، كان للفصائل الحكومية أو الموالية لها الدور الأبرز في ارتكابها.

لكن عبد الغني يشير إلى أنه يختلف مع توصيف منظمة العفو الدولية لأحداث الساحل الدامية على أنها “ترقى إلى جرائم حرب”، موضحًا أن ما حدث هو “نزاع داخلي بين فلول النظام والحكومة الانتقالية”. ويستدرك قائلاً: “يجب أن نُمعن النظر في طريقة ربط هيكلية فلول نظام الأسد بالأسد نفسه”.

يلخص مدير الشبكة الحقوقية هذه النقطة في جانبين: أولهما أنه لا يرى وجود أي ارتباط فعلي بين تلك الفلول ونظام الأسد، مؤكدًا أن هذه الفلول “عبّرت عن استيائها وكرهها للنظام”، مشيرًا إلى أنها “لا تتبع تنظيميًا لنظام الأسد، وبالتالي فهذا لا يُعد استمرارًا للنزاع”.

ويؤكد عبد الغني في الجانب الثاني أن فلول النظام “لم يسيطروا على منطقة جغرافية لفترة زمنية معتبرة، أو تخرج عن سيطرة الدولة”، موضحًا أنه “لا توجد هيكلية واضحة لمجموعات الفلول حتى يُصنَّف ما جرى كنزاع مسلح داخلي”. وعلى هذا الأساس، يرى أن “الفصائل ارتكبت جرائم قتل خارج نطاق القانون، لكنها لا ترقى إلى جرائم حرب، بل تُعد انتهاكات فظيعة لحقوق الإنسان”.

ولضمان العدالة لجميع الضحايا، يشدد عبد الغني في نهاية حديثه لـ”الترا سوريا” على ضرورة “عدم التمييز بين الضحايا، سواء من قُتلوا على يد فلول النظام أو قوات وفصائل موالية للحكومة”، مؤكدًا “أهمية محاسبة جميع المرتكبين بمحاكمات عادلة وتجريد الرسميين من رتبهم، مع إطلاق حوار مجتمعي يؤسس للسلم الأهلي ويرمم آثار الانتهاكات”.

———————————–

«تقرير أولي» للجنة التحقيق في أحداث الساحل السوري… وطلب تمديد مرجح

الفرحان لـ«الشرق الأوسط»: التقينا عائلات كثيرة في اللاذقية ولم ننه عملنا

 دمشق: موفق محمد

7 أبريل 2025 م

كشف الناطق باسم لجنة تقصي الحقائق في أحداث الساحل السوري ياسر الفرحان، أن اللجنة التي ينتهي تكليفها الرئاسي، الأربعاء، ستعد «تقريراً أولياً» وربما تطلب تمديد عملها «بسبب اتساع نطاق المهام».

وشدد على أن اللجنة لن تعلن عن استنتاجاتها وتوصياتها «قبل انتهاء التحقيق والتقصي». ولفت إلى أن المدة التي حددها القرار الرئاسي لعمل اللجنة حين باشرت عملها في 9 مارس (آذار) الماضي، هي شهر واحد ينتهي الأربعاء، «لكنها لم تُنهِ تحقيقاتها».

وأوضح الفرحان في حديث إلى «الشرق الأوسط» أن اللجنة تعمل في طرطوس حالياً «وتتحرك صوب كل الأماكن التي تبلّغت فيها بانتهاكات». وأكد أنها «لن تعلن نتائج إلا إذا توصلت إلى قناعات مدعومة بالحجج والأدلة في ترجيح الحقائق وتوصيف الانتهاكات وتحديد هوية المشتبه بهم، وهذا يحتاج أولاً إلى تحليل كل الشهادات وفحصها، واستنتاج التكييف القانوني للأفعال والوصول إلى نتائج محددة وتوصيات».

وشهدت مناطق الساحل السوري (اللاذقية، وطرطوس، وبانياس) في الأسبوع الأول من الشهر الماضي جرائم دموية طالت مدنيين من الطائفة العلوية وعناصر من الأمن العام.

وحمّلت الحكومة مسلحين موالين للرئيس المخلوع بشار الأسد مسؤولية الهجمات على قواتها، فيما اتُهم عناصر من الجيش والأمن العام ومجموعات رديفة بعمليات القتل بحق المدنيين.

وغداة هذه الجرائم، شكلت الرئاسة السورية «اللجنة الوطنية المستقلة للتحقيق وتقصي الحقائق في أحداث الساحل»، من خبراء قانونيين. وأعلنت اللجنة في 25 مارس أنها جمعت عشرات الإفادات، مؤكدةً أن الوقت لا يزال مبكراً لإعلان نتائج التحقيقات.

اللجنة «تمثل الضحايا»

وعما إذا كان في تشكيل أعضاء اللجنة من يمثل الضحايا والأهالي، قال الفرحان لـ«الشرق الأوسط»، إن «القضاة أعضاء اللجنة ليسوا موظفين حكوميين، بل هم حقوقيون مستقلون، ابتداءً ممن هم خارج سوريا وعملوا في دول أوروبا أو مناطق أخرى، أو يعملون في الشأن الحقوقي بتوثيق الانتهاكات، وبعضهم لديهم مذكرات تفاهم وتعاون مع الأمم المتحدة، واثنان منهم موجودان في سوريا وهما من القضاة، والقضاء عادةً يُنظَر إليهم على أنهم سلطة مستقلة».

وشدد على أن «أعضاء اللجنة بالضرورة يمثلون الأهالي ويعملون من أجلهم ومن أجل العدالة، وبالتالي فإن اللجنة ما من أحد من أعضائها يمثل طرفاً دون طرف، فهم محايدون، وعملهم أن يكونوا قريبين من الأهالي، ولذلك تلتقي وجهاء وقيادات مجتمعية في الساحل السوري بكل مكوناته، تستمع إليهم بكل اهتمام وتناقشهم من أجل فهم السياقات التي يطرحونها للوقائع».

اتهامات «العفو الدولية»

وكانت منظمة «العفو الدولية» (أمنستي)، قد أصدرت تقريراً، الخميس الماضي، ذكرت فيه أن المجموعات التي ارتكبت الانتهاكات مرتبطة أو تابعة للحكومة السورية، ووصفتها بأنها «جرائم حرب».

وكشف الفرحان عن أن اللجنة دعت «العفو الدولية» إلى مشاركتها ما لديها من معطيات ومعلومات «لمناقشتها بين أعضائها ولحظ مضمونها في تقريرها النهائي، ولمعرفة كيف بنت استنتاجاتها».

لكنه توقف عند وصف المنظمة ما جرى بين 6 و10 مارس الماضي بأنها «جرائم حرب»، مشدداً على أن «جرائم الحرب تتطلب – إضافةً إلى إثبات الركن المادي – إثباتاً للركن المعنوي في القصد والعلم، وبحث السياقات والظروف المحيطة بالحوادث».

وشدد على أن «المنظمة لديها سياسات ومعايير… في مناصرة الشعوب، والضغط على حكومات العالم بما يشمل دولاً ذات ديمقراطيات عريقة، وتحمّل غالباً الحكومات المسؤولية عن انتهاكات، بوصفها الجهة المعنية بتأمين سلامة مواطنيها… نحن كحقوقيين في اللجنة الوطنية، نميل أيضاً إلى الانحياز إلى الضحايا بوصفهم الطرف الأضعف، مثلما نقيّم بإيجابية إجراءات وبيان الحكومة السورية التي قطعت مع سياسات الماضي في إنكار الانتهاكات».

ووصف بيان الحكومة الذي تضمن رداً على تقرير «العفو الدولية» بأنه «متوازن»، وقال إن «رئاسة الجمهورية استجابت للأحداث بإجراءات واضحة، منها تشكيل اللجنة الوطنية للتحقيق، لتعمل كجهة مستقلة غير حكومية».

وقال: «لست بصدد انتقاد تقرير (العفو الدولية)، ولكن عندي تساؤلات لم يوضحها البيان الصادر عنها… نحتاج إلى تعاون نفهم من خلاله، على سبيل المثال، كيف توصلت إلى أن المجموعات التي ارتكبت الانتهاكات مرتبطة أو تابعة للحكومة السورية؟ وما درجة الارتباط؟ فنحن نبحث في مدى السيطرة الفعلية للحكومة على هذه المجموعات؟ هل هي من بقايا الفصائل التي كانت تقاتل نظام الأسد؟ وهل انضوت في الأطر الوطنية الحكومية العسكرية، فعلياً أم شكلياً؟ وهل تلقى المتورطون تعليمات للقيام بهذه الانتهاكات؟ وبالتالي نبحث في مدى اتخاذ الإجراءات الممكنة التي كان لها أن تمنع وقوع هذه الانتهاكات».

وأشار إلى أن اللجنة «تبحث أيضاً في شهادات مجموعات عشوائية بأن سكان المنطقة المحيطة يمكن أن يكونوا قد تحركوا بدوافع ثأرية لأنهم فقدوا أحباءهم في الفترة الماضية، أو بدوافع عاطفية لفك الحصار عن عناصر الأمن العام، أو باستغلال الفوضى لتشكيل عصابات، ونهب الممتلكات وارتكاب جرائم قتل. كل هذا وغيره قيد بحث اللجنة، وتحتاج لتعرف من (العفو الدولية) كيف بنت استنتاجاتها».

«شهادات شجاعة»

وعن الإجراءات التي تتبعها لجنة التحقيق المستقلة، قال المحامي الفرحان: «في بداية عملها، قامت اللجنة بزيارات ميدانية أجرت خلالها لقاءات عامة مع مجموعات من الأهالي، متجاوزةً بذلك تحديات الخوف المحتمل للشهود بتحريضهم من جهات ما العائلات على عدم التعاون معها. لكن كثيراً من الأهالي أدلوا بشهاداتهم بحرية وشجاعة»، وفق الفرحان الذي أوضح أن «ما وجدناه أن هناك استجابة، وقد توافدت العائلات في أرياف اللاذقية، للحديث مع اللجنة».

وأضاف: «انتقلنا لاحقاً للاستماع إلى الشهادات في مركز اللجنة المؤقت من أصحاب البلاغات التي كانت تتلقاها اللجنة بشكل مباشر من العائلات التـي لم تلتقها من قبل، وكانوا يتحدثون بكل صراحة وبشكل غير مقيد، ويوجهون اتهامات مباشرة إلى من كانوا يعتقدون أنهم متورطون».

وعن إجراءات العمل على الأرض، أوضح الفرحان أنه «عند زيارتنا مواقع ميدانية، نقوم بتوصيف الحالة الراهنة وندرس كل ما تبقى من مسارح الجريمة، ويساعدنا فريق فحص أدلة جنائية، ونوثّق بالصور كل مشاهداتنا، كما كان معنا فريق لا يزال يعمل بفحص الأدلة الرقمية، واستخلص 93 مقطع فيديو حقيقياً من الممكن أن تدلنا على هوية المتورطين».

الهجمات على الأمن العام

وتقصت اللجنة بشكل رئيسي أماكن تعرض عناصر الأمن العام للاعتداءات التي أودت بحياة عدد منهم، في بداية الأحداث في 6 مارس. وزارت اللجنة، وفق الفرحان، هذه المناطق وفحصت آثار إطلاق نار عليها من أماكن وجود المهاجمين.

وذكر الفرحان أن عملية التقصي شملت «أماكن مدنية ومشافي حكومية أُسعف إليها جرحى الأمن العام ولاحقتهم فيها، وفقاً لشهادات الكادر الطبي، مجموعاتٌ مسلحة. كما عثرت اللجنة على مقبرة جماعية دفنت فيها مجموعات المسلحين بعضَ عناصر الأمن العام وهم في حالة تفاوض من خلال وسطاء، وفقاً لأقوال الشهود».

الشرق الأوسط

———————————-

سوريا وإعادة تدوير التشبيح/ يامن المغربي

السبت 5 أبريل 2025

اتهامات بالتخوين ووعيد بسوء الخاتمة وشتائم وكلمات جارحة؛ ما سبق هو فحوى عشرات الرسائل التي تلقّاها حقوقيون وفنانون وناشطون سوريون خلال الأيام الماضية، وأشخاص عاديون عبر حساباتهم في وسائل التواصل الاجتماعي.

ثم ظهرت مؤخراً ما أُطلق عليها “قوائم العار”، التي لم تضمّ سوريين فحسب، بل كلّ من أبدى موقفاً من الهجوم على مدنيين في الساحل السوري، مخالفاً للسلطة المؤقتة الحالية في سوريا.

لم ينجُ من هذه الهجمات أحد؛ حقوقيون عاشوا عمراً في المنفى مدافعين عن قضايا السوريين في الخارج، وفنانون حُرموا من عملهم لسنوات، وشخصيات عاشت في المعتقلات جلّ عمرها، ليأتي شاب في العشرينات ويسأل بسذاجة: “وين كنت خلال الـ14 سنة الماضية؟!” (حسناً عزيزي عندما كنت في العدم، كان هو يذوق الويلات في السجون، لأنه رفض قتل أهلك وقصفهم بالطائرات).

على الطرف المقابل، دافع مئات السوريين عن هذه الشخصيات، كردّ فعل طبيعي على هجوم، على الأقل لا يتوافق مع أحد المبادئ التي انطلقت لأجلها الثورة السورية؛ حرية التعبير والرأي.

تبدو الحالة ممنهجةً، ولا يمكن وضعها في خانة “الأخطاء الفردية”، أو تصنيفها كردّ فعل عاطفي على رأي مخالف في لحظة حادّة خلال نقاش بين شخصين فقد أحدهما أعصابه. هناك حالة إقصاء متعمّد لكل مخالف لصورة يرسمها البعض في مخيّلتهم حول شكل سوريا المقبلة، والتي تتمحور بدورها حول السلطة الحالية فقط، وفي نطاق ضيق يرتبط تحديداً بأسلمة الدولة وشيوخ السلطان وعلمائه، وضمن تجاهل لما ذكره الشرع نفسه مرات عدة حول تنوّع سوريا، برغم أنّ تحركاته على الأرض لا تشير إلى اقتناعه بهذا الأمر.

تبدو هذه التفاصيل عاديةً للغاية ضمن فترة متوقّعة من الفوضى بعد عقود من القمع وغياب أيّ حياة سياسية في البلاد. لكن تحركات السلطة المؤقتة وأحمد الشرع نفسه، لا تساعد على تخفيف حدّة هذه الهجمات المتتالية.

عملياً، يمكن القول إنّ لهذه الهجمات، أو القوائم، ثلاثة تأثيرات مباشرة؛ الأولى تكمن خطورتها في محاولة تكميم الأفواه، بالطريقة نفسها التي اتّبعها الأسد وأبوه طوال 54 عاماً، ما يعني أنّ سوريا لا يمكن لها أن تكون تشاركيةً وتعدديةً ضمن عقد اجتماعي واضح يكفل الحقوق والحريات للجميع بغض النظر عن خلفياتهم الثقافية والقومية والطائفية، أو أفكارهم حول الحياة والمجتمع، أو معتقداتهم السياسية.

الثانية تؤثر في الشرع نفسه، برغم ما يبدو إلى العلن من حالة “التفاف شعبي” حوله، بعد أن “اكتسب شرعيته باعتباره سبباً رئيسياً لسقوط الأسد” (وهذا أمر محل خلاف كبير ويمكن مناقشته في مقال آخر).

هذا التأثير في الشرع، يرتبط بخلفية الرجل نفسه، الذي وإن تفاعلت معه شخصيات سورية اقتصادية وسياسية ودينية كانت على خلاف كبير معه لسنوات، بسبب انتمائه السابق إلى تنظيم “القاعدة”، والأفكار التكفيرية التي يحملها وتحدث عنها في لقاءات إعلامية، إلا أنّ الكثيرين أيضاً لا يثقون بالتغيير الذي يبديه من خلال طروحاته، والمسألة لا تحتاج إلا إلى قليل من الوقت ليعود إلى طريقه السابق، خاصةً مع تحركاته السياسية داخلياً، وحصر الوزارات السيادية في المقرّبين منه (حسن الشيباني للخارجية، مرهف أبو قصرة للدفاع، وأنس أبو خطاب للداخلية بعد أن تولّى الاستخبارات العامة).

وعليه، فإنّ عدم تحرّكه لإنهاء هذه الهجمات، التي تترافق أيضاً مع تحركات على الأرض ترتبط بأمور دعوية (سيارات تمشي في أحياء المسلمين والمسيحيين في دمشق ومحافظات أخرى تدعو إلى الهداية والإسلام، عبر سلفيين، وهجوم على مفتي سوريا الجديدة أسامة الرفاعي باعتباره أشعرياً كما يُتّهم، والهجوم على مسجد في حماة تُمارَس فيه طقوس صوفية). عدم تحرّك الشرع، أو المقربين منه، لضبط هذه التفاصيل، يعني موافقةً ضمنيةً لسبب أو لآخر عليها، أو عجزاً عن منعها، وكلا الأمرين لا يقلّان خطورةً عن بعضهما.

أما النقطة الثالثة، فتحمل التأثير في المجتمع السوري الذي لا يحتاج إلى مزيد من التفسخ بعد سنوات الثورة ثم الحرب والانقسام السياسي والإنساني، والأزمة الاقتصادية التي مسحت الطبقة الوسطى تماماً، ما جعل هناك تبايناً طبقياً واضحاً بين السوريين، ناهيك عن الأفكار الأيديولوجية التي انتشرت في المناطق التي يسيطر عليها النظام، أو التي سيطرت عليها المعارضة، أو “قوات سوريا الديمقراطية” (قسد).

تمرّ سوريا اليوم بأزمات سياسية واقتصادية واجتماعية وصحية عدة، غير التحركات الإسرائيلية في الجنوب، وهذه الأزمات كلها أزمات تهدد وجود سوريا كلّها ككيان نشأ في بدايات القرن العشرين، بالشكل الذي نعرفه والذي كان نتيجةً لاتفاق “سايس- بيكو”، وهذه الأزمات تستدعي الوحدة لا الفرقة، ما يعني ضرورة قبول الآخر لبناء عقد اجتماعي لكل السوريين بناءً على المواطنة والحقوق والواجبات، لا الخلفيات الطائفية والعرقية.

وإن كانت للشرع، شعبية اكتسبها من “التحرير”، ووجوده في القصر، و”إزالته كابوس الأسد” بعد 54 عاماً، فإن هذا لا يعني أنّ شريحةً واسعةً من السوريين مقتنعة بوجوب وجوده أو مؤيدة له. هناك من يسكت لضرورات المرحلة، وآخرون لأنّ صدمة الأمل بعد التحرير قد زالت، وشريحة ثالثة لا تزال مؤمنةً بوجوب المشاركة لبناء سوريا. جحافل الذباب الإلكتروني وتهديداتها لمئات السوريين لن تجدي نفعاً. الشرع وحكومته في فترة تجربة دولية، ولن تُزال العقوبات إن استمرّ الوضع على ما هو عليه، ولن تنجو سوريا ولا الشرع نفسه إن استمرّ الأمر على المنوال نفسه. لا أتنبأ بـ”ثورة عارمة”، ولا بمظاهرات مضادة، لكنني أحذّر كما غيري من نتائج التفرّد في القرار والتنفير من الحكم الجديد، لأنّ النتيجة المنطقية لهذه التحركات في النهاية لن تكون على هوى الشرع، ولا دائرته المقرّبة ولا مؤيديه.

ما المطلوب من الشرع إذاً؟ التشاركية الحقيقية لا ادّعاؤها، والنظر إلى سوريا بعين الحقيقة المجرّدة لا بعين المقرّبين المحيطين به ممن يشاركونه أفكاره السياسية والاجتماعية والاقتصادية فقط، وتنفيذ الوعود في ما يخص العدالة الانتقالية التي دونها لن يرتاح أحد وسيبقى الثأر “مسمار جحا” الذي سيستخدمه الجميع لإثارة الفتنة والمعارك، ولنا في ما حصل في مناطق الساحل السوري خير مثال على ذلك.

الشفافية الحقيقية هي المطلوبة، لا الخطب الرنّانة والكلام العاطفي. قبل أيام، استقبل الشرع، أطفالاً في “قصر الشعب”، حيث قال لهم إن هذا قصركم وسيصبح لكم. كلام جميل وعميق، لكن هل الشرع نفسه مقتنع به؟ شخصياً لا أعتقد ذلك. من يقوم بالهجمات الإلكترونية ويوزّع الاتهامات والتهديدات، ليس كذلك أيضاً، وكذلك شريحة واسعة من السوريين المتخوفين.

سوريا على مفترق طرق؛ إما أن تكون بشعارات ثورتها الأولى الحالمة، حرية وعدالة وكرامة ومساواة ومشاركة لجميع السوريين على اختلاف خلفياتهم بمن في ذلك الإسلاميين والعلمانيين والليبراليين وغيرهم من الأطياف السورية المتنوعة، وهذا أمر ممكن جداً في ظل طاقة إيجابية كبيرة لدى الكثير من السوريين الراغبين في مدّ يدهم للبناء، وإما أن تكون سوريا مفككةً بمستقبل حالك السواد، تمتد تأثيراته على الإقليم كله لا الشرق الأوسط فحسب، بل الاتحاد الأوروبي أيضاً، وستدخل في دوامات وأزمات لا تنتهي.

نحن أمام فرصة ذهبية للقيامة، وأرجو ألا تكون نهايتنا على الصليب، وألا تتحقق نبوءة أمل دنقل في قصيدته “كلمات سبارتاكوس الأخيرة”:

“لا تحلموا بعالم سعيد

فخلف كل قيصر يموت… قيصر جديد”!

رصيف 22

————————–

=========================

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى