الناسسقوط بشار الأسد، الرئيس الفار والمخلوع

فصل الموظفين ومنحهم إجازات قسرية: إعادة الهيكلة والواقع المؤلم/ حبيب شحادة

08 ابريل 2025

تفيد إحصاءات حكومية سورية، صدرت في عام 2023 عن المكتب المركزي للإحصاء، بأن أعداد الموظفين في الوزارات بلغت نحو مليون موظف. تريد الحكومة الانتقالية شطب أكثر من 300 ألف منهم، وسط استياء من موظفين تعرّضوا للفصل بعد سقوط النظام.

يقول شادي مهنا والغصّة تخنق حنجرته إنه يعمل على بسطة في حي المزّة في دمشق. ويسرد لـ”سورية الجديدة”: “بعد 20 عاماً في الوظيفة العامة فصلوني بذريعة أنني فائض”… كان آخر يوم عمل له في وزارة الصحة منذ حوالي ثلاثة أشهر، “عملتُ في مجال التجهيزات الطبية في أحد مشافي دمشق العامة، واختصاصي صيانة أجهزة طبية، وهناك حاجة ماسة له في القطاع الطبي”.

مهنا واحد من مئات الموظفين الذين تعرّضوا لفصل تعسّفي من وزارة الصحة، إلى جانب مئاتٍ من وزارات أخرى شملتهم عمليات الفصل التعسّفي أو ما تطلق عليه الحكومة المؤقتة “إجازة مأجورة ثلاثة أشهر”. ويبحث مهنا اليوم عن لقمة عيشه في شوارع دمشق، بعد توقف راتبه وعدم التزام الحكومة الحالية بدفع رواتب إجازته القسرية ثلاثة أشهر.

وبحسب خبراء في الإدارة وقانونيين، تحدُث عمليات فصل العاملين أو صرفهم من الخدمة وفق خلفية سياسية وغير مهنية، ويطالب هؤلاء الخبراء بالتريث وعدم صرف العاملين، موضحين أن هذا يحدث وفق إجراءات غير قانونية.

لا أرقام مُعلنة من الحكومة السورية لعدد الموظفين المفصولين، ولكن منظمة حقوقية وثقت فصل أكثر من مائة ألف من المؤسسات الرسمية التابعة للدولة في الأشهر الأربعة الفائتة بعد سقوط النظام، رغم احتجاجات شعبية خرجت لمواجهة قرارات الفصل، ورغم أنّ رواتب غالبية المفصولين الشهرية لا تتجاوز حاجز 30 دولاراً.

وفي مطلع فبراير/ شباط الفائت، قال وزير التنمية الإدارية محمد السكاف إن الدولة السورية “لن تحتاج سوى ما بين 550 ألفاً إلى 600 ألف موظف”، أي أقل من نصف العدد الحالي من الموظفين المقدّر بحوالي 1.3 مليون موظف حكومي. وذلك فيما تفيد إحصاءات حكومية، صدرت في عام 2023 عن المكتب المركزي للإحصاء، بأن أعداد الموظفين في الوزارات الحكومية بلغت أقلّ من مليون موظف. تريد الحكومة المؤقتة شطب أكثر من 300 ألف منهم، وفق كلام وزير المالية (السابق) محمد أبا زيد.

احتجاجات ضد الفصل

وقد شهدت العاصمة دمشق ومدن الساحل السوري عدّة احتجاجاتٍ عمّالية ضد قرارات فصل العاملين من وظائفهم، بذريعة إعادة هيكلة القطاع العام، والتخلص من فائض العمالة التي خلفها النظام المخلوع، لكن تلك الاحتجاجات اختفت بعد الأحداث الدموية في الساحل السوري في منتصف الشهر الماضي.

وتعمد حكومة الرئيس السوري أحمد الشرع إلى فصل موظفين لديهم خدمة سنوات طويلة من دون تعويضهم ماليا، إلى جانب أن آخرين يعانون من عبء تسديد أقساط قروض حكومية كانوا قد أخذوها بناء على وظيفتهم الحكومية. وكان الشرع قد قال في زيارته إلى اللاذقية، في 17 فبراير/ شباط الماضي، عن مشكلة الموظفين: “إنهم في إجازة لثلاثة أشهر ولن يُفصل أحد”، وفق قوله.

وكانت إجراءات الفصل تلك مع حديث حكومي عن رفع رواتب موظفي القطاع العام في البلاد بنسبة 400%، وفق وزير المالية، في تصريح نقلته عنه وكالة رويترز في فبراير/ شباط الفائت، لكن ذلك لم يتحقق، عدا أن رواتب أغلب العاملين توقفت نتيجة سياسة حبس السيولة التي اتبعتها الحكومة.

وقد طالب الاتحاد العام لنقابات العمال في سورية بوقف تسريح موظفين وإعطاء إجازات بلا راتب لآخرين، واعتبر أنه لا يحقّ للحكومة اتخاذ إجراءات بفصل موظفين مثبتين في القطاع العام.

صرف عشوائي وغير قانوني

يتمنّى استشاري التدريب والتطوير الإداري عبد الرحمن تيشوري من الحكومة السورية أن تنظر بشكل مختلف إلى موضوع القطاع العام وتطويره وتخليصه من مشكلاته الإدارية والتقنية والمالية، وقال لـ”سورية الجديدة”: “ليس بهذه الطريقة يمكن إصلاح القطاع العام رغم وجود فائض عمالة”. ويقترح إبعاد من ليس لديه عمل حقيقي ومن لا ينتج ويحقّق قيمة مضافة بعد إجراء تقييم أداء للعاملين وفق مؤشّرات تقيس الأداء، إذ هناك فصل لبعض العاملين ومنهم كفاءات وخبرات معروفة تملك القدرة على إدارة المرفق العام، بحسب تيشوري الذي يقول إن “التسريح فوضوي وعشوائي”، واصفاً هذا الأسلوب بأنه غير علمي وغير منهجي ويضر بالقطاع العام، “ناهيك بعمليات طرد للموظفين بناءً على خلفيات سياسية وغير مهنية”، داعياً إلى التريّث وعدم صرف العاملين كما يحصل اليوم.

في المقابل، لا ينكر تيشوري أن هناك موظفين يشكلون عائقاً أمام إصلاح القطاع العام، لكن هناك حاجة لرفع أداء القطاع العام بإعادة هيكلته بطرق علمية، والحل الأنسب للعمالة الزائدة تدريبها ونقلها إلى جهات تحتاجها ضمن رؤية متكاملة لإصلاح القطاع العام.

وقد تعدّدت عمليات إيقاف العاملين من القطاع العام بين الفصل من الخدمة (من كان موظفاً كذوي “شهداء”) وكفّ يد، وإجازة مأجورة وبلا أجر، إلى جانب إيقاف تجديد عقود العمال المؤقتين، وفق ما رصدت “سورية الجديدة”.

وقد تعهدت الإدارة الجديدة في سورية في يناير/ كانون الثاني الماضي (2025) بإصلاحات جذرية في الاقتصاد السوري، بطرق تتضمّن خططاً لطرد ثلث العاملين في القطاع العام وخصخصة الشركات المملوكة للدولة، وأثارت وتيرة الحملة المعلنة على الهدر والفساد احتجاجات من موظفين حكوميين لأسبابٍ منها المخاوف من الفصل الوظيفي على أساس طائفي، وهو ما حدث في بعض القطاعات، وفق رصد “سورية الجديدة”، وكانت أول عمليات تسريح للعاملين بعد أسابيع من إطاحة نظام الأسد.

ويرى خبراء أن عمليات الفصل التعسفي وعدم صرف رواتب العاملين ستفاقم الوضع المعيشي لهؤلاء ولعائلاتهم في ظل عدم وجود نظام إعانة اجتماعية أو تعويض بطالة في بلد يعاني 80% من سكانه الفقر، حسب البنك الدولي.

يرى القانوني والمحامي السوري عارف الشعال أنّ ما يجري من فصل للعاملين يندرج في إطار “إجراء غير قانوني”. وقال لـ”سورية الجديدة” إن العمّال المسرّحين تحقّ لهم مراجعة المحكمة الإدارية والاعتراض على التسريح، ما عدا حالة الإجازة بأجر التي يعتبر فيها الموظف على رأس عمله قانونياً. وأضاف أن تنوع قرارات الإبعاد عن العمل موضوع دقيق تجب مقاربة كل حالة منه على حدة، معتبراً أن المتعاقد يختلف عن العامل المثبت وعن العامل غير المثبت. ووفق الشعال، لكل حالة من هذه الحالات سياق قانوني مختلف تجب مقاربتها على حدة.

وينظم القانون الأساسي للعاملين (رقم 50 لعام 2004)، الذي لا يزال سارياً، الأوضاع القانونية للعاملين، مثل أصول التعيين والدرجات والتثبيت، كما يتضمّن فقرات خاصة بالتسريح مثل حالات عدم الترفيع في التقييم الدوري مرّتين متتاليتين أو ثلاثاً خلال خدمته. وينصّ في المادة 137 على أنه “يجوز بقرار من رئيس مجلس الوزراء صرف العامل من الخدمة من دون ذكر الأسباب التي دعت لهذا الصرف”.

النتائج المجرّبة

ليست أهمية هذا الموضوع في الجانب الإنساني فقط، أي في إلقاء مائة ألف أسرة في منحدر البطالة والفقر، بل في الآثار الخطرة على المجتمع والدولة، والاستقرار الاجتماعي والسياسي والأمني. وقد يكون مفيداً مراجعة تجارب دول أخرى سرّحت موظفي القطاع العام. ومن أشهر هذه الحالات، بريطانيا في بداية ثمانينات القرن العشرين، حين اتخذت رئيسة الوزراء في حينه، مارغريت تاتشر، قرارات تسريح موظفين ضمن سياستها لخصخصة القطاع العام، وقد أدّت هذه القرارات إلى اضطرابات واسعة، وتراجع بريطانيا في قطاعات حيوية مثل قطاع التعدين. كما أدّى تسريح الموظفين في روسيا بعد انهيار الاتحاد السوفيتي إلى ارتفاع معدلات البطالة، ونشوء نوع من أنواع المافيا والعصابات وانفلات الأمن، وانتشار الجريمة. وأقرب الأمثلة اليونان واسبانيا، فقد اتخذ البلدان قرارات بتسريح أعداد كبيرة من الموظفين الحكوميين، في محاولة لتعامل مع ارتدادات أزمة الاقتصاد العالمي 2008، وأدّى التسريح إلى اضطراباتٍ وفوضى وصدامات بين الشرطة والمحتجين في البلدين.

ولم يكن أمام الحكومة اليونانية من حلول سوى اللجوء للمؤسّسات المالية الدولية، مثل البنك وصندوق النقد الدوليين، واللذين فرضا أيضاً إجراءات تقشّف، وسّعت من دائرة الاحتجاجات والاضطرابات، ووصلت إلى شلّ الحياة، وتوقف شبكة النقل والمؤسسات الخدمية، وفقدان الثقة بالدولة وبمؤسساتها.

ما زالت القضية في سورية طازجة، وحصلت ضمن سلسلة من الأحداث المزلزلة، بدأت بإسقاط نظام ديكتاتوري متجذّر. ولذلك لم تُلمس بعد الآثار التي ستترتب على تسريح هذا العدد الكبير من الموظفين، ولكنها، كما تخبرنا تجارب غيرنا، ستظهر عاجلاً أو آجلاً، وستكون تكلفة معالجتها أكبر بكثير من عائد توفير رواتب هزيلة لمهنا ورفاقه.

ويتذكر مهنّا سنوات عمله الطويلة في خدمة القطاع العام، ويقول إنّ فصله من عمله “انتقامي وانتقائي”، وأنّه يخشى خسارة تعويض نهاية الخدمة في ظل قرارات الحكومة التي جعلته “مشرّداً يبحث عن لقمة عيشه اليومي”.

العربي الجديد

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى