مراجعات الكتب

كتاب غير منشور لغونتر غراس عن الجمال الأنثوي/ مارلين كنعان

“اتخاذ الوضعية” نص يدور حول منحوتة غوطية من العصور الوسطى سحرت مالرو وأومبرتو إيكو

الاثنين 7 أبريل 2025

تضم محفوظات غونتر غراس مجموعة كبيرة من النصوص المخطوطة والمسودات غير المنشورة والمرفقة أحياناً برسومات أنجزها الأديب الذي درس فن النحت والتصوير في جامعتي دوسلدورف وبرلين قبل أن يتحول منذ ستينيات القرن الـ20 إلى الكتابة.

يحمل نص غونترغراس عنواناً غريباً هو “اتخاذ الوضعية”، ويدور حول منحوتة تعود إلى العصور الوسطى وتحديداً إلى الفترة الممتدة بين الأعوام 1243 و1249، تمثل النبيلة أوتا دي ناومبورغ (1000-1042).

أسرت هذه المنحوتة غراس يوم زار، قبيل سقوط جدار برلين على هامش جولة أدبية في ألمانيا الشرقية قام بها برفقة زوجته التي تدعى أيضاً أوتا، كاتدرائية ناومبورغ، مكتشفاً مجموعة من روائع الفن القوطي الألماني، وهي عبارة عن 12 تمثالاً تجسد بناة الكاتدرائية.

من بين هذه المنحوتات برزت منحوتة أوتا، التي اعتبرها أندريه مالرو وأومبرتو إيكو مثالاً للجمال الأنثوي في العصور الوسطى، والتي تعتبر كأحد أشهر الأعمال النحتية في الفترة القوطية الألمانية، ويقال إنها من أعمال “معلم ناومبورغ” الذي يتميز بأسلوب نحتي يظهر ملامح الشخصيات التي يجسدها بشكل واضح من خلال الاهتمام بتفاصيل دقيقة في تعابير الوجه أو طريقة الوقوف، مما يضفي على منحوتاته مزيداً من الإنسانية.

أثارت هذه المنحوتة على الفور بسكينتها وأبديتها مشاعر غراس، الذي حلم للتو بالكتابة عنها وعن النماذج التي استلهمت منها، فأتى نصه المتأمل فيها عبارة عن رحلة تنقل القارئ عبر الزمان والمكان والسياسة.

زيارة ألمانيا الشرقية

 يبدأ الكتاب بسرد غراس تفاصيل تلقيه دعوة لزيارة جمهورية ألمانيا الديمقراطية وقبوله إياها كما لو كانت دعوة إلى القيام برحلة في الزمن إلى الوراء. ويقول إنه بينما كان بانتظار الإذن لعبور الحدود للدخول إلى الدولة الوحيدة التي تتبنى العمال والفلاحين، بدأ يقلب، متردداً، ذكرياته عن العصور الوسطى، وعندما وصلت الأوراق أخيراً مختومة بعد المماطلات المعتادة، إذ رفض طلبه للحصول على التأشيرة مرتين، حُدد مسار الرحلة خطوة بخطوة وسمح له بقراءة مقتطفات من بعض كتبه في الكنائس والمكتبات والقاعات البلدية. وعلى رغم أن الرحلة كانت لفترة قصيرة، فإنها أتاحت له ولزوجته فرصة زيارة مدن وأماكن قرأ عنها صغيراً في كتبه المدرسية.

كانت ماغديبورغ محطتهم الأولى، ثم هاله فإرفورت ويينا، حيث تعلم مارتن لوثر، الراهب الأوغسطيني، فناومبورغ. في هذه المدن والأمكنة كانت العصور الوسطى القوطية وعماراتها، على ما يروي غراس، تتداعى وتتآكل، وكان الحاضر قد بدأ هو الآخر بالتحول إلى تاريخ من الهوامش. ففي كاتدرائية ناومبورغ، الواقعة في الجزء الشرقي من حوض تورنغن التي بدأ إنشاؤها عام 1028، وصف غونتر غراس شاهداً فريداً على فنون العصور الوسطى وعمارتها، عنيت التماثيل المنحوتة بالحجم الطبيعي لبناة الكاتدرائية، لا سيما تمثال أوتا دي ناومبورغ، زوجة الأمير إيكهارد الثاني من ميسنيا، التي كانت من بين المتبرعين الذين أسهموا في بناء الكاتدرائية. وقد جاء وصفه لهذا التمثال المصحوب برسومات حجرية تعكس مهارته المزدوجة الأدبية والفنية، مقدماً لنا مزيجاً من الدقة والمعرفة، ومن المرح والجدية، مما منح نصه، المكتوب بجمل تشبه موجة ترتفع، تزبد، تبدو وكأنها على وشك الانكسار قبل أن تتدحرج على نفسها وتندفع نحو الموجة التالية، سحراً لا يقاوم.

يشكل هذا النص إذاً تأملاً عميقاً وحساساً في هذه المنحوتة القوطية الملونة وبالحجم الطبيعي التي نفذها إزميل نحات مجهول برع في رسم ملامح جمال نبيل وهادئ يعكس روحاً سامية، من خلال تصوير امرأة شابة جميلة، بأنف دقيق مستقيم، وفم صغير مرسوم بتعبير خفيف يوحي بشخصية حازمة ونظرة صافية صريحة ترنو نحو المذبح الرئيس، حيث الحضور المقدس، وقد كلل رأسها بتاج مزين بزهر الزنبق، مرصع باللآلئ والأحجار الكريمة، وضعه النحات فوق وشاح رأس مصنوع من أشرطة الكتان، وهو وشاح تقليدي للنساء المتزوجات في القرن الـ13، أما لباسها فهو كناية عن معطف شتوي أحمر مطرز بخيوط ذهبية ومبطن بفرو، مما يمنحها هيبة وجلالاً، يغطي هذا المعطف ثوب حريري أحمر فاتح اللون، مثبت عند العنق بدبوس ذهبي. تخفي أوتا ذراعها اليمنى تحت المعطف، وترفع ساعدها لتلمس عنقها بيدها المختبئة تحت النسيج، في حركة أنيقة ومتحفظة، أما يدها اليسرى ذات الأصابع النحيلة المزينة بالخواتم، فتمسك بطرف معطفها المرفوع على الخصر.

منحوتة قوطية

تذكرنا هذه المنحوتة في وضعيتها وملابسها بمنحوتات كاتدرائيات رايمس وباريس وأميان، ولعل وضعها إلى جانب منحوتات تمثل شخصيات علمانية بارزة داخل صحن الكنيسة وحنياتها يعد أمراً غير مألوف، إذ اقتصر التقليد الكنسي القوطي على وضع منحوتات تمثل المسيح أو العذراء مريم أو القديسين لتوضيح القصص الإنجيلية والكتابية للمؤمنين الأميين بمعظمهم آنذاك. ويبدو أن معلم ناومبورغ كان نحاتاً ومهندساً معمارياً في آن واحد، مما يفسر نهجه هذا في البناء، وقد نجح في تبيان الاختلافات بين المواد والأقمشة والتفاصيل الدقيقة للزخارف والأجساد البشرية بدقة استثنائية.

 بعد وصفه هذه المنحوتة طرح غراس من خلالها مسألة صراع الهويات الحاضر دوماً في كل نصوصه وكتاباته، ومن الواضح أن هذا الكتاب الصغير (96 صفحة) سيثير كما كل كتابات الأديب الألماني كثيراً من النقاش والجدل لتنقيبه في الماضي، القريب والبعيد، مستخرجاً منه جمالات لا تحصى أو أهوالاً يرغب كثر في نسيانها، وسيشكل مناسبة للعودة إلى مجمل أعمال غراس ومواقفه الأدبية والسياسية. فكل رواية أو سردية من سردياته تشبه تسليط ضوء كاشف على إحدى حقائق ألمانيا التاريخية والمعاصرة، غالباً ما يكون فيها غراس أقل شاعرية، أو أكثر بساطة أو أكثر سخرية. هذه الفسيفساء من النصوص، التي تقل فيها الملحمية والحيوية، تكمل في الوقت عينه أعماله والرؤية التي يطورها فيها، حين يمزج بين شذرات أدبية وفنية رائعة تضم السردين التاريخي والشخصي.

يتقن غونتر غراس فن المزج بين التشاؤم القاتم والسخرية والخيال الجامح ويؤمن أن اللغة والأدب والفن توحد الشعوب، فالثقافة وحدها هي الجسر الذي يعيد التوازن، ولو شدد على أن دور المثقف يشبه إلى حد بعيد دور الحارس الذي يراقب الأخطار، حتى لو اضطر إلى إزعاج راحة الآخرين. وما المنحوتة التي يصفها في هذا النص البديع إلا ذريعة تأخذ القارئ إلى حافة هاوية تحثه على التفكير من خلال تسليط الضوء على أحد كنوز ألمانيا التاريخية والمعاصرة.

 إن قراءة هذا النص متعة أدبية خالصة، يرجح الباحثون أن غراس كتبه كفصل من سيرته الذاتية “قشور البصل”، ثم أعرض عن نشره، ليعاد اكتشافه أخيراً مع الرسومات الحجرية التي تزينه والتي تعكس، بعد 10 أعوام من وفاته، المهارة المزدوجة الأدبية والفنية لهذا الكاتب الكبير.

ولد غونتر غراس عام 1927 في دانتسيغ، ودرس الرسم والنحت قبل أن يتجه إلى الأدب. عام 1959 منحته رواية “الطبل الصفيح” شهرة عالمية وترجمت إلى لغات عالمية كثيرة من بينها العربية. هذه الرواية هي جزء من ثلاثية معروفة باسم “ثلاثية دانتسيغ” تضم روايتي “القط والفأر” (1961) و”أعوام الكلاب” (1963)، ومن رواياته المشهورة أيضاً “مئويتي” (1999) و”مشية السرطان” (2002) وسواها، وكتب غراس مسرحيتين “الطهاة الأشرار” (1956) و”الفيضان” (1957)، وأصدر أربع مجموعات شعرية أتبعها بنشر عدد كبير من القصص والمقالات.

توفي غراس في الـ13 من أبريل (نيسان) 2015 عن عمر ناهز 87 سنة.

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى