نازك العابد.. المتمرّدة الدمشقية/ تيسير خلف

08 ابريل 2025
فتاة دمشقية متمرّدة فرضت في مطالع القرن العشرين قيمها بقوة شخصيتها وصدق حجتها. طاردتها السلطات الفرنسية فاضطرّت للفرار إلى شرقي الأردن، ثم إلى فلسطين قبل أن تعود إلى بيت أهلها لتتابع دراستها في جامعة أميركية.
تصلح قصة حياة المناضلة النسوية الدمشقية نازك مصطفى العابد موضوعاً لمسلسلٍ تلفزيونيٍّ عن فتاة متمرّدة واجهت مجتمعاً كاملاً بجسارة، وفرضت قيمها بقوة شخصيتها وصدق حجتها. والقصة لا تنتهي عند هذا الحد، فقد خاضت هذه العشرينية مغامرة عابرة للحدود، إذ طاردتها السلطات الفرنسية حتى اضطرّت للفرار إلى شرقي الأردن، ثم إلى فلسطين قبل أن تعود إلى بيت أهلها لتتابع دراستها في جامعة أميركية وتتخرّج مهندسة زراعية كما رغبت.
حين كانت تعيش في الموصل مع والدها مصطفى باشا العابد الذي كان والياً هناك من عام 1905 وحتى 1908، أسست مع مجموعة من الموصليات “حزباً” للدفاع عن اللغة العربية في وجه “اللمز والتهكم” من المعلمات التركيات. وفي 1914، نفيت مع عائلتها إلى إزمير بسبب ميولهم العروبية. وتخبرنا وثيقة عثمانية أن نازك العابد، وفي أثناء زيارتها أقرباءها في إسطنبول في يوليو/ تموز 1916، خلعت الحجاب ودخلت بصحبة سيدة أجنبية إلى أحد المسارح سافرة، فأوقفها ضابط سابق، يبدو أنه يعرفها ويعرف أهلها، وأخذها إلى قسم الشرطة ريثما يجري ترحيلها إلى سورية، غير أن ابن عمّها عبد الرحمن العابد تقدّم بطلب إلى نظارة الداخلية أوضح فيه أن أهلها يقيمون في الأناضول (الجانب الآسيوي من تركيا)، متمنّياً إيقاف قرار إبعادها إلى سورية، وهو ما حصل فعلاً.
منذ وصولها إلى دمشق في أكتوبر/ تشرين الأول 1918، عملت نازك العابد على تأسيس جمعية تعنى ببنات شهداء الثورة العربية، وجمعت أكثر من مائة سيدة وآنسة من العائلات الدمشقية المعروفة في بيت شقيقتها. وانتخبت بالإجماع رئيسة للجمعية التي نشطت في الشهور اللاحقة في تنظيم حفلات خيرية تتضمّن خطباً وقصائد وعروضاً فنية. وفي الفترة نفسها، نشرت مجلة “العروس” خبراً عن “إنشاء منتدى أدبي نسائي في الفيحاء، بمساعي حضرة الآنسة نازك، كريمة مصطفى باشا العابد التي يسّر لها المنفى أن تتخرّج في مدرسه الأمريكان، فجاءت وكلها غيرة على إنهاض همم النساء، ونشر الأدب بينهن.
قضية الحجاب والانتخابات
فاقم الحفل، الذي نظّمه المنتدى النسائي في 25 مايو/ أيار 1920، بحضور الملك فيصل، الجدل الذي كانت تثيره محاضرات وجلسات النقاش في المنتدى النسائي عن الحجاب، ما دعا وزير الخارجية يومها عبد الرحمن الشهبندر إلى إلقاء خطاب قال فيه: “إن المرأة السورية لا تستطيع الآن رفعه ما دام الوسط الذي نشأت فيه بعيداً عن حيّز التمدّن درجات عديدة”.
وفي أثناء انعقاد جلسات “المؤتمر السوري العام” لوضع مسوّدة القانون الأساسي للبلاد، نشطت نازك العابد في كتابة المقالات والدعوة في المهرجانات الخطابية إلى منح المرأة حقها في الانتخاب والترشّح، باسطة أفكارها بطريقة غير مباشرة، حيث كتبت في أحد المقالات: “وأنت، أيتها المرأة السورية، إن لك طريقاً تصلين به إلى السعادة الحقيقية والهناء الدائم. أيتها العذراء طالبي أباك، أيتها الفتاة طالبي أخاك، أيتها المرأة طالبي زوجك في الطريق الوحيد الذي نصل فيه إلى حقوقنا المقدسة”.
وحين بدأت نُذُر الانتداب الفرنسي على سورية تطوّعت نازك مع مجموعة من نساء دمشق للمشاركة في المعركة المرتقبة، وشكلت جمعية “الهلال الأحمر النسائية”، بعدما منحها الملك فيصل رتبة رئيس (نقيب) فخرية، بإرادة ملكية مؤرّخة بيوم 17 يوليو/ تموز 1920، أي قبل أسبوع من معركة ميسلون التي استشهد فيها وزير الحربية بقذيفة مدفع سقطت قربه، ففارق الحياة بين يدي المسعفات وفي مقدمهن نازك العابد.
من معان إلى عمّان
تبنّت نازك العابد وسائر أعضاء جمعية نور الفيحاء موقفاً مناوئاً للانتداب الفرنسي، وعندما تصدّت مديرة المدرسة صبحية التنير لهذه القوات بمظاهرة للتلميذات، أصدرت تلك السلطات قراراً بإبعاد المديرة إلى خارج سورية، الأمر الذي استدعى تضامناً كاملاً من نازك العابد معها، وقرّرت أن ترافقها إلى شرقي الأردن. وبقيت هناك ثمانية أشهر، وسعت خلال هذه المدة إلى تأسيس مدرسة للبنات، بالتعاون مع التنير، غير أن والدتها قدمت إلى عمّان فانقادت إليها بعاطفة الأمومة وعادت إلى دمشق.
وهناك حاولت السلطات الفرنسية استمالة نازك إليها، وعرضت عليها إعادة مدرسة بنات الشهداء لها، لكنها رفضت، فوضعتها السلطات الانتدابية تحت المراقبة، كما شدّدت المراقبة على أبويها، فاستكانت للوضع رأفة بحال والديْها اللذيْن تقدّم بهما السن، وكانا يرغبان بالسكينة بعد سنواتٍ من النفي والملاحقة. ولكن زيارة المبعوث الأميركي السابق تشارلز ريتشارد كراين عضو لجنة كينغ كراين إلى سورية في نيسان/ إبريل 1922 لنازك في بيت أبيها لكي يعرض عليها منحة دراسية في الولايات المتحدة، أثار استياء السلطات الفرنسية، فعزمت على إبعادها إلى بيروت. وبعدما رفضت الامتثال للقرار، وضعتها تحت الرقابة المشددة، ومع ذلك شاركت في تنظيم مظاهرات نسائية، ظهرت في إحداها في المقدّمة وهي تهتف وتخطب، داعية النساء إلى الثبات أمام الجنود والرشّاشات، حتى بلغت الحماسة بهن أن صعدن إلى إحدى المصفّحات الفرنسية وأخذن مسدّسات الواقفين وراء الرشاش.
وفي تلك الليلة، أبعدت نازك عن دمشق بحيلة دبّرها خالها مدير شرطة دمشق أحمد حمدي الجلاد إلى قرية يملكها والدها في غوطة دمشق، وبقيت هناك مخفورة عشرة أيام. وفي هذه الفترة، كانت تهمة تحاك ضدها عقوبتها من ستة أشهر إلى ثلاث سنوات، فما كان منها إلا أن فرّت متخفية إلى حيفا في فلسطين، حيث استقبلت هناك استقبال الأبطال وأقيمت لها الحفلات التكريمية، حتى أن الشاعر اللبناني وديع سعادة كتب فيها قصيدة مطلعها:
أنازك تبـدو والرجال تطلع.. أَمِ الكوكب الدريُّ في الليل يسطعُ
وما ضرَّها هذا الســفور وكلهم.. عيون لمرآها تغضُّ وتدمـعُ
توسّط خالها لها بالعودة إلى دمشق مقابل التوقف عن مناوأة الفرنسيين، فعادت، ولم يُعرف بعد ذلك شيءٌ من أخبارها سوى خبر في مجلة العروس يفيد بأن الآنسة نازك العابد وافت إلى دمشق لقضاء العطلة الصيفية وستعود إلى الأستانة لإكمال دراستها في كلية روبرت الأميركية. وفي 1929 التقتها الكاتبة الأميركية روزيتا فوربس في أثناء زيارتها دمشق، فكتبت تصف لقاءها بها: “مكثت مع نازك العابد، ابنة أحد الباشاوات المحليين. كانت لا تزال ترتدي حجاباً أسود ثقيلاً مزدوجاً، كان منظره يدعو للرثاء. وكانت المجلة النسائية أسسها في ظلّ الحكم العربي قد تعرّضت للقمع. وأغلقت أغلب المدارس. وفي حريم بيت العابد، كانت نازك، القصيرة، السمراء، الجادّة، المهتمة بالزراعة أكثر من اهتمامها بالحب ـ تتحدّث بيأس عن بلدها”.
العربي الجديد