نقد ومقالات

نزار قباني: يسار المعنى ويمين المبنى/ صبحي حديدي

تحديث 07 نيسان 2025

بتاريخ 1 كانون الثاني (يناير) 1962، أي بعد ثلاثة أشهر على سادس انقلاب عسكري في سوريا تكفّل بإنهاء حكم الوحدة مع مصر وإعادة تأسيس الجمهورية السورية، صدر في دمشق العدد الأول من مجلة «المعرفة» الشهرية برئاسة تحرير فؤاد الشايب، أحد أعلام الثقافة والأدب والصحافة في سوريا أواسط القرن العشرين. وكان الشايب، المفكّر والقاصّ ابن معلولا وخرّيج فرنسا، قد طبع شخصية المثقف (العضوي، كما يجوز القول بمصطلحات عصرنا) حين كان مديراً للإذاعة في سنة 1948، ورفض إذاعة بيان انقلاب حسني الزعيم فأطاح به الأخير؛ وحين كان ممثلاً للجامعة العربية في البرازيل، فارتقى بمواقف التأييد للقضية الفلسطينية إلى درجة حتّمت إزاحته عن المشهد بوسيلة الاغتيال، سنة 1970، بتدبير من المخابرات الإسرائيلية.

ذلك العدد الأوّل كان تذكرة صارمة ورصينة وتعددية في آن، بأنّ نُخَب سوريا الثقافية والفكرية ظلت وفيّة لمناخات وعي التنوير على اختلاف تياراته الليبرالية أو اليسارية أو القومية أو الإسلامية، التي أعقبت الاستقلال وطيّ صفحة الانتداب الفرنسي. وذكّرت أيضاً بأنّ سلطات عبد الناصر الثقافية، بسلبياتها وإيجابياتها، لم تروّض الكثير من نزوع النخب السورية إلى التميّز والتطوّر والتعدد والتجدد. العدد الأوّل ذاك احتوى مساهمات من صفوة مثقفي سوريا في تلك الحقبة، أمثال وداد سكاكيني وجميل صليبا وعبد الله عبد الدائم وشفيق جبري وصالح الأشتر وصبحي كحالة وسامي الكيالي وجمال الأتاسي وخليل هنداوي وأديب اللجمي…

وبينهم أيضاً كان نزار قباني (1923 ـ 1998)، الشاعر السوري صاحب الحضور والشهرة والحظوة والشعبية؛ وأحد الأكثر إشكالية، كما قد يصحّ القول، وكاتب «خبز وحشيش وقمر»، القصيدة التي هزّت وجدان الخمسينيات في سوريا والعالم العربي. كيف لا، وقد تجاسر دمشقي مسلم على القول: «ما الذي عند السماء/ لكسالى ضعفاء/ يستحيلون إلى موتى إذا عاش القمر/ ويهزّون قبور الأولياء/ علّها ترزقهم رزّاً وأطفالاً، قبور الأولياء/ ويمدّون السجاجيد الأنيقات الطُرَر/ يتسلون بأفيون نسمّيه قدر/ وقضاء/ في بلادي.. في بلاد البسطاء».

مساهمة قباني حملت عنوان «معركة اليمين واليسار في الشعر العربي»، واحتلت 9 صفحات من المجلة الوليدة، وساجلت (على طريقة الشاعر الأثيرة، حين يكتب نثراً لا يقلّ عن الشعر نزوعاً إلى المجاز والبلاغة) بأنّ «احتكاك اليمين باليسار أمر حتمي في كل مجتمع صحيح البنية ومعافى. المجتمع المريض وحده هو الذي لا تشتبك كرياته الحمراء والبيضاء في صراع شريف من أجل الحقيقة». اليمين الشعري في خلاصة قباني، هو «الجانب الوقور الهادئ الذي يؤمن بقداسة القديم، ويقيم له الطقوس ويحرق له البخور. إنه الجانب الذي ارتبط ذهنياً ونفسياً ووراثياً بنماذج من القول والتعبير يعتبرها نهائية وصالحة لكلّ زمان ومكان». أمّا يسار الشعر فإنه يقف «بكلّ طفولته ونزقه وجنونه. إنه جيل مفتوح الرئتين للهواء النظيف، مبهور بهذه التيارات الفكرية الجديدة تهبّ عليه من كلّ مكان فتعلّمه أن يثور، وأن يرفض، وأن يحفر بأظافره قدراً جديداً».

واعتماداً على معايير جمالية وفنية تخصّ المحتوى مثل الشكل والمبنى في موازاة المعنى، استعرض قباني ما رأى أنها وجهات نظر اليمين واليسار في الشعر العربي، حول مسائل مثل هندسة القصيدة، وتخطيطها، وما سماه «مأساة القافية»، والمعادلات الموسيقية الجديدة، ولغة الشعر، ومحتوى القصيدة العربية الحديثة. وبين فكرة وأخرى، مرّر قباني قناعات صريحة، أو أخرى مضمرة، حول تيارات التجديد وتيارات الركود، وتأثيرات هذه أو تلك من المدارس الشعرية العالمية، ولم نعدم تعليقات على هذه المسائل، لاذعة ساخرة تارة وتثمينية تقديرية تارة أخرى.

على سبيل المثال الأول: «الالتزام، ابن الماركسية المدلل، مرّ برؤوسنا في أوائل الخمسينيات مرور الدوار المباغت فحوّل شعرنا إلى مانيفستو عقائدي واستنبت القصائد من مخيلة الشعراء الملتزمين كما تستنبت البطاطس في أحد الكولخوزات». وفي مثال ثانٍ: «في كلّ فنّ يوجد موهوبون ويوجد مزيفون. وفي الشعر التقليدي نفسه يوجد نسور تغطي أجنحتها وجه الشمس، ويوجد هوام أجبن من أن يطير في وجه الشمس».

المساهمة جديرة بالقراءة اليوم أيضاً، لأنها تفصح عن الكثير من آراء قباني في فنّ الشعر أوّلاً؛ ولكن لأنها -ثانياً- عكست مزاج المثقف السوري، الأديب والشاعر خصوصاً، لجهة الحيرة بين يمين تقليدي/ ليبرالي ويسار حداثي/ تقدّمي؛ ومن هنا عزوف قباني عن استخدام مفردات أخرى أقلّ ترجيعاً للسياسة، مثل الأصالة والمعاصرة، أو السلفي والثوري. وكانت، استطراداً، بمثابة صورة عالية الكشف عن اصطراع سياسي وفكري واجتماعي وثقافي، سوف يتكفّل انقلاب 8 آذار (مارس) 1963، البعثي/ الناصري، بتعطيله عبر أشكال شتى من القطع والقطيعة، عسكرية واستبدادية، وفاشية في وجوه شتى.

ولم يكن غريباً أن موادّ ذلك العدد الأوّل من مجلة «المعرفة» اقترحت من الإسلامي محمد المبارك، مادة بعنوان «دروس من تاريخنا»؛ وكتب صليبا عن «الطابع الإنساني للقومية العربية»، واستعرضت سكاكيني «ما نجهله من أدب المرأة»، وعرض الأتاسي لكتاب فرانز فانون «السنة الخامسة لثورة الجزائر»… ولم يكن عجيباً أنّ قباني ظلّ، على امتداد مساهمته تلك، أسير حال من النواس الممضّ، بين يسار المعنى ويمين المبنى!

القدس العربي

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى