الأحداث التي جرت في الساحل السوريالإعلان الدستوري لسوريا 2025التدخل الاسرائيلي السافر في سورية الجديدةتشكيل الحكومة السورية الجديدةدوافع وكواليس الاتفاق بين "قسد" وأحمد الشرعسقوط بشار الأسد، الرئيس الفار والمخلوعسياسةصفحات الحوار

يوسف عبدلكي: الفنان السوري في الداخل صمد وقاوم وتعرّض لإجحاف

بشير البكر

08 ابريل 2025

للحوار مع التشكيلي السوري يوسف عبدلكي في دمشق، بعد نحو أربعة أشهر من سقوط نظام بشّار الأسد، قيمة خاصة، كونه فناناً وسياسياً، يوزّع وقته واهتمامه، بإخلاص شديد، بين المجالَين، لا يقدّم أحدهما على الآخر، ولا يخلط بينهما. يعرف أين يتقاطعان بحرارة، ويفترقان ببرود.

كيف ترى سورية في مرحلة ما بعد سقوط نظام عائلة الأسد؟

دخلنا مرحلة جديدة بكل معنى الكلمة. كان هناك نظام من الهيمنة، أمني فاسد، جثم على صدور السوريين أكثر من نصف قرن، واستطاع أن يغيّر مجرى حياتهم الطبيعية، ويحوّل المجتمع إلى دولة خوف ورعب. زال هذا كله. دخلنا حقبة، لا يستطيع أحد أن يحدّد ملامحها بعد، القوى المسيطرة من الناحية الأيديولوجية والفكرية، دينيةٌ لا علاقة لها بديماغوجية حزب البعث، ولا تزال خياراتها السياسية والاقتصادية في علم الغيب. الوضع غامض من جهة، ومفتوح من جهة ثانية على احتمالات متعددة،

والملاحظ أن هيئة تحرير الشام، وفي صدارتها الرئيس أحمد الشرع، هم أكثر الأطراف اعتدالاً بين كل المجموعات الدينية المسلحة، ومن الواضح أنه ستكون هناك فترة من المماحكات، ورأب الصدع، حتى يستقرّ الحال على انسجام فيما بينها، أو إلى مواجهات. وإلى ذلك الوقت، الذي قد يستمر أشهراً أو سنواتٍ، لن تتّضح كلياً هوية النظام الحقيقية، ولا خياراته ومشروعه الفعلي. النقطة المضيئة في هذه اللوحة الغامضة أن إمكانية العمل السياسي باتت مفتوحة وممكنة، للأحزاب والنقابات والأفراد ومؤسّسات المجتمع المدني، بينما كانت مغلقة تماماً في زمن النظام السابق، وهذا ما يدفع إلى التفاؤل.

أين كنت في لحظة سقوط النظام، وكيف تابعت العملية؟

كنتُ في البيت. وحينما بدأت المعارك في حلب، كنت أظن، مثل أغلبية السوريين، أن المجموعات المسلحة سوف تكسب، أو تخسر، بضع كيلومترات. لكن المفاجأة أنهم دخلوا المدينة في منتهى السهولة، بثلاثمئة مقاتل من دون أن يطلقوا رصاصة. هذا العدد في حال وجود جيش لا يستطيع السيطرة على حي. واتّضح أن هناك شيئاً آخر، لا علاقة له بكل المعطيات في الـ 15 عاماً الأخيرة، إذ قرّر الروس والإيرانيون الانسحاب، بينما الجيش منهك. وفي يوم السيطرة على حلب توجّس الناس، وتساءلوا هل الحكاية جدّية أم هناك لعبة عسكرية ما. ثم تبيّن أن المقاتلين وجدوا الطريق أمامهم سالكة باتجاه مدينتَي الوسط؛ حماة وحمص فدخلوهما، نسبياً، بسهولة وصار الطريق إلى دمشق مفتوحاً، ومن يوم دخول حمص صار واضحاً أن النظام ساقط، فحلفاؤه تخلوا عنه، والجيش ترك مواقعه وسرّح نفسه.

تابعتُ ذلك كله بمشاعر من الفرح الذي لا حدود له. قبل أن تبدأ المعارك في حلب بـ 24 ساعة لم يَكُن هناك سوري، لا رجل الشارع ولا خبراء الاستراتيجيات والتكتيك، يتوقع أن تدخل مجموعاتٌ مسلحةٌ وتُسقط النظام. كان الأمر بمثابة صاعقة من السماء. فرح الناس لا حدود له؛ لأن النظام تحوّل إلى كابوس على صدور السوريين منذ نصف قرن. فرحي الشخصي لا يختلف عن بقية السوريين بأن هذا الطاغوت الذي هيمن على حياتنا زال بضربة حظ أو ضربة عسكرية. رحل في لحظةٍ لم يكن يتوقعها أحد، بل كان الاعتقاد أنه باقٍ على صدور السوريين حتى يموتوا، ولك أن تتخّيل مدى الفرح.

كان الأفق مغلقاً، وبات اليوم مفتوحاً، هذا إنجاز مهم إذن؟

أكيد؛ أعرف أن القوى التي تشكّل السلطة الحالية مناقضة لتصوّراتي وأفكاري، لكن هناك إمكانية للعمل السياسي كانت مغلقة في زمن الأسدَين.

دخلتَ السجن في فترتَي الأسد الأب والابن، ما الفارق بين النظامَين، والسجنَين؟

كان نظام الأب قمعياً، استشرى فيه كثير من الفساد، لكنه قائمٌ على مؤسّسات، وحنكة وخبث كبيرين، أما نظام الابن فقد شهد فساداً لم تعرفه سورية خلال قرون، كانت الرشوة معيبة أخلاقياً في الستينيات والسبعينيات، لا يجرُؤ الموظف على طلبها، والمواطن لا يقوم بها لأنه يعتبرها معيبة، وفي زمن بشار الأسد صار الموظف يحدّد قيمة الرشوة لكل مسألة إدارية، أصبحت الرشوة على قدر من الصفاقة لا حدّ له، علماً أنه جرى إكراه الموظفين عليها، لأنهم حين يتلقّون مرتباتٍ تافهة لا تكفي يومين أو ثلاثة، فهذا يعني أن النظام يُجبرهم على أن يكونوا فاسدين ومرتشين.

نظام بشّار على درجة هائلة من الفساد، وآلية عمل المؤسسات أمنية بشعة ومنحطّة، إلى حد أنه بات لا يمكن توظيف عامل تنظيفات في دير الزور، على سبيل المثال، من دون الحصول على عشرين موافقة أمنية، إضافة إلى أن رأس النظام نفسه، من دون رغبة بالشتيمة، يشكو من العَتَه. لم يكن رجل دولة، كل تصرفاته وقرارته لا تنم عن معرفة وإدراك وإحساس بالمسؤولية تجاه الدولة والشعب. هذا كان ملحوظاً، بالإضافة إلى تفاقم الفساد، وانهيار مؤسّسات الدولة، واستشراس المؤسّسات الأمنية، غباءٌ وعنادٌ غير عاديَين من رأس الدولة!

وماذا عن السجن في المرحلة الأولى عامَين، والثانية شهراً وأسبوعاً؟

رغم عنف حافظ الأسد، كانت وظيفة السجن حماية النظام. سجن المعارضين وتعذيبهم كان يمكن أن يستمرا سنوات تصل إلى عشرة أعوام أو خمسة عشر. أما في مرحلة الابن فقد باتت الاعتقالات بلا سبب، لمجرد شكوك أو شبهة أو ملاسنة بين شخصين، ورافقت ذلك درجات من التعذيب والقتل غير مسبوقة. وعلى كل وحشية أجهزة الأمن القديمة وساديّتها، لا تقارَن بنظيرتها خلال حكم الابن. حينما اعتقلوني عام 1978 أخذ الجلاد يقنعني، وينصحني بأن اعترف، ويقول لي لا تضطرّني لأنْ أعذّبك. وفي السنوات الأخيرة هذا غير موجود. حينما سجنوني في طرطوس عام 2013 في مهجع مساحتُه ضيقة جداً، ويتكدّس فيه أكثر من مئة سجين جالسين على الأرض بالألبسة الداخلية، وسط حرارة عالية ودرجة تلوّث كبيرة، كانوا يأخذون أحد السجناء خمس دقائق، ومن ثم يعيدوه وعلى ظهره وساقيه أشرطة بعرض عشرة سنتيمترات بلون أزرق نيلي وسطها اللحم مفتوح. كيف استطاعوا فعل هذه الجريمة التي لا حدود لها في دقائق. وتبيّن لي أنهم يضعون الشخص على الأرض، ويتناوب عليه بالضرب أربعة جلادين، بما تُسمّى الكابلات الرباعية البلاستيكية، ويضربونه على المكان نفسه، كي يحمرّ أولاً ثم يزرقّ وبعد ذلك ينفلق الجلد. لم يكن ممكناً أن تلتئم الجراح بطبيعة الحال، لأن درجة التلوث في المهجع فظيعة، ولا أدوية أو أطباء طبعاً.

ما هو سبب هذه الدرجة من العنف؟

كانوا يختارون الجلادين بالممارسة! أتصوّر أن هناك وحشاً داخل كل من هؤلاء، كانت نصفُ قدراته مطلقة في السابق، لكنها باتت منفلتة في الفترة الأخيرة، ولذلك أصبح كاسراً، لم تعد لديه أحاسيس أو مشاعر آدمية.

تتحدث الأعداد عن أكثر من 120 ألفَ مختفٍ قسرياً، هل هي دقيقة، أم مبالغ فيها؟

كان معي في فترة السجن الثاني رفيقان، أحدهما في فرع أمن المنطقة بدمشق. كان عدنان يقول لي إنهم يُخرجون من المهجع كل يوم أربع جثث أو خمساً، ومن كل المهاجع بحدود عشرين جثة أو خمسة وعشرين، وهذه عينة من فرع أمن واحد. لذلك أعتقد أن الحديث عن أعدادٍ ما بين 100- 150 ألفاً ليس مبالغاً فيه، وأظن أن الأعداد الحقيقية أكبر بكثير. كانوا يعطون السجناء أرقاماً لاغين أسماءهم! الاسم ليس أحرفاً، بل هوية للإنسان. درجة الوحشية هذه تؤكّد أن الأعداد أكبر كثيراً، آمل أن نستطيع الوصول يوماً ما إلى الأعداد الحقيقية في الأعوام الأخيرة، أو قبلها مثل أعداد الضحايا في مجزرة حماه مثلاً عام 1982.

هناك شخصيات جرى اعتقالها، ولم تتوصل عائلاتها إلى أي خبر من حول اختفائها، مثل الممثل زكي كورديللو وابنه مهيار وعلي الشهابي وعبد العزيز الخير..!

نعم؛ زكي وابنه والشهابي وعبد العزيز الخير والمحامي خليل معتوق، وآخرون كثر. هناك سياسيون سلميون ومثقفون، لا علاقة لهم بالعنف، من غير المفهوم سبب اعتقالهم وتصفيتهم جسدياً، كلما مرّ الوقت أفقد الأمل بعودة أحدٍ من هؤلاء.

هل تتخيّل أن هناك أملاً بعد؟

لا أعرف، ربما كنت أبالغ في التفاؤل. أحياناً أسمع أخباراً بأن هناك سجوناً لم تُكتَشف بعد في منطقة الساحل مثلاً، وربما يكون تفاؤلي في غير محلّه، وآمل ألّا تخيّبني الأيام.

حين ترى السوريين في الشارع تحسّ أنهم فرحون، لكن آثار الكوابيس بادية عليهم، تشعر بأن لديهم نوعاً من الأنَفَة، بلد فيه جوع بينما عدد المتسوّلين قليل. كيف ترى المستقبل؟

لدى السوريين إيمان حقيقي بفكرة العمل، وقدر من التضامن الاجتماعي، الذي لا يُخفي نفسه، وبالتالي فكرة الجوع والتسوّل كانت غير موجودة في البلد. لكن الناس جاعوا في الأعوام الأخيرة، الموظف يعمل طوال الشهر لتأمين قوت عائلته ليومين أو ثلاثة، وكي يستمر ويربي أولاده كان عليه أن يقوم بكل ما يمكن بما في ذلك التسوّل. عرفت مصادفةً ضبّاطاً شرفاء من كبار الرتب كانوا يعملون سائقي “تكسي” بعد الظهر! ما حصل فيه إذلال للسوريين بلقمة العيش. وشخصياً، في كل حياتي لم يكن لدي إيمان بمعطيات ثابتة. المجتمع الذي يبدو عليه الانهيار يمكن أن ينهض في لحظة، والإنسان الذي يبدو فريسة الحاجة يمكن أن يعمل ويساعد غيره على الحياة. المعطيات متبدّلة من حول السوريين، وإرادتهم للعمل كبيرة، في أكثر من دولة عربية يمتدحون تفاني السوريين في العمل، محنة الأعوام الخمسة عشر قتلت السوريين وجوّعتهم، لكنها أيضاً جوهَرَت إرادة العمل لديهم. أتمنى من كل قلبي ألّا تمتحِنَنا الأيام مرةً ثانية، فلقد شبع السوريون مرارة وموتاً.

هل تعتبر ما حصل عام 2011 ثورة؟

نعم، من دون شك، ما حصل في عام 2011 ثورة بكل معنى الكلمة، أهدافها وقواها وأدواتها واضحة، مواجهة القمع والفساد وانعدام الكرامة والحرية، لكن هذه الثورة التي كانت سلمية في درعا ودمشق وحمص وباقي المدن، سرقها التمويل الخارجي والتسليح والتطييف، مساراً وأهدافاً، وأصبح مسارها قائماً على العنف في مواجهة عنف النظام، وأهدافها في الحرية والكرامة تحوّلت إلى الذهاب نحو دولة إسلامية متطرّفة.

هل لعب هذا دوراً في تشكيل نوع من المقاومة المدنية في المجتمع؟

أظن، كما يقول المثل، أنّ السوريين كانوا قادرين على أن يبلعوا السكين بالعرض، ويبتكروا أساليب للحفاظ على حياتهم وكرامتهم أكثر من الميل إلى الشكوى والنواح. وأكيد أنّ هذه مقاومة ذات طابع اجتماعي، إرادة الحياة لديهم كانت أقوى من كل ظروف التجويع والترهيب التي عانوها في العقود الأخيرة.

كيف هو حال الفن في نصف قرن، حكمت فيه عائلة الأسد البلد بالحديد والنار. جفّفت المنابع السياسية، وحاولت تدمير ثقافة المجتمع وفنونه. انظُر إلى دمشق اليوم، وهي أقدم مدينة مأهولة على وجه الأرض، يبدو أنهم لم يوفّروا وسيلةً لنزع الطابع المديني عنها؟

كانت هناك مفاهيم ومضامين، على علاقة باللوحة السورية منذ الستينيات، واضحة وجليّة، تشبه الكثير منها في العالم والبلدان العربية، وهي قائمة على سويّة عالية من الموهبة. في السبعينيات والثمانينيات والتسعينيات، دخل بعض الفنانين دائرة مفاهيم النظام، لإدانة الاحتلال الإسرائيلي، متغاضين عن واجب إدانة الأنظمة التي تنتهك حقوق الناس وحرّياتهم. وبالتالي، كان المنع مصير عرض العمل الفني الذي يحمل درجة من النقد للنظام، أتذكّر أنهم منعوني من عرض خمس لوحات في معرض عام 1978، من دون أي توجيه أمني، كان رأي القائمين على النقابة أن عرض تلك اللوحات يؤذي النقابة، لأنها لوحات ذات تفسيرات سياسية. كذلك كان حال لوحة للفنان فؤاد أبو كلام تتناول لبنان أو العنف الذي ضرب هذا البلد مع وجود الجيش السوري هناك. وفي هذا المجال، لا بدّ من ذكر أن التوجه النقدي في الفن التشكيلي كان محدوداً، لكن في حال وجوده فإن الأجهزة الرسمية تكون له بالمرصاد.

هل تتذكّر اللوحات، وهل اختلف الأمر في فترة الثورة؟

كان هناك لوحة اسمها “دمشق – سبت الدم”، عن إعدام شباب المنظمة الشيوعية العربية في الساحة المواجهة لفندق سميراميس، وأخرى لشخص جزّار عنوانها “موطني.. موطني”. ومع ذلك، كانت حوادث المنع قليلة، وربما يعود بعض ذلك إلى مخاوف الفنانين أنفسهم، لكن ما حصل خلال الـ 15 عاماً الأخيرة من حروب ودمار، دفع ملايين السوريين إلى مغادرة البلد، ومنهم مئات من التشكيليين، خاصة من جيل الشباب. وبالتالي، فإن عدد الذين اشتغلوا على موضوعات سياسية في الخارج أكبر منهم في الداخل. وكانوا أكثر وضوحاً وإدانة، رغم أن بعض الأعمال تخلط بين اللوحة والكاريكاتير السياسي، وهذا مفهوم، ويعود إلى الضغط الذي يدفع بعيداً إلى التعبير عن الحد الأقصى، وعن مفهوم اللوحة نفسها. وليس سرّاً أن الفنانين في الخارج كانوا أكثر حرية، فقد كانوا بعيدين عن بطش النظام.

هل نستطيع أن نقول إنّ هناك لوحة سورية واحدة قبل الثورة، ولوحتَين بعدها، تلك التي رسمها الفنانون في الداخل، والثانية التي رسمها الفنانون في الخارج. هل ملامح ذلك واضحة؟

نعم واضحة، وهناك فنانون في الداخل اشتغلوا على مواضيع سياسية مثل إدوارد شهدا، وعبد الله مراد، ومنير الشعراني، وعمران يونس. عملنا على موضوعات سياسية بغض النظر عن أننا تمكنا من عرض الأعمال في الداخل أم لا، المهم أنها رُسمت، ولم يكن ثانوياً، بل كان شيئاً كبيراً، في مواجهة العنف الذي واجه الثورة السورية السلمية، الذي اخترق كل وجدانٍ وضمير. الفنانونُ عبروا عن هذا العنف الساديّ والفاشيّ في ممارسات النظام.

ماذا رسمت خلال الـ 15 عاماً الماضية؟

غير اللوحات ذات الدلالات السياسية مثل العصافير والأسماك المضروبة بالمسامير، رسمت لوحات كثيرة عن الشهداء وأمهات الشهداء اللاتي كنّ يفقدن أولادهنّ وهم شباب بأعمار بين 18 و20 عاماً، وكانوا يخرجون في المظاهرات ويعودون جثثاً. لا يمكن تصوّر آلام أمهات الشهداء أو مدى عمقه ونخره في عظامهنّ، رسمتُ أمّهات المعتقلين المنتظرات على أبواب السجون، كي يحصلن على موافقة زيارة للأبناء أو الأزواج، أمّهات أمام المقابر. وأنجزت في عام 2011 لوحة بورتريه لبشار الأسد، وفيها صورة مأخوذة عن صورة فوتوغرافية عن إطلاق رصاصٍ على أحد متظاهري درعا، الذي يبدو أنه تلقّى رصاصة في رأسه، وبعد قليل جرّه رجال الأمن فيرسم جرحُه خطاً أحمر من الدم على إسفلت الشارع، وسمّيتُها “درعا 13/6/2011″، لم أعرضها، انتشرت في مواقع عدّة فحسب. ورسمتُ لوحة ثانية عن بشار. وأذكر أن بشار قبل حوالى تسعة أشهر كان في خطاب له في مجلس الشعب يسخر من سياسيي العالم، ويتهمهم بالغباء. شخصٌ على درجة من العَتَه غير محدودة، يتهكّم على قادة العالم، بينما سورية تحت حكمه منهارة اقتصادياً ومالياً وجائعة والضحايا بمئات الآلاف والمهجّرون بالملايين. وجدتُ ذلك يفوق الاحتمال، فرسمتُه وهو يضحك على نحوٍ معتوه، وله رِجل واحدة والأخرى لها أكثر من قدم، إحداها قدم مهرّج. كما نحتُّ له بورتريهَين فيهما مبالغة وسخرية. تركت هذه الأعمال عند أصحابي، تحسّباً من أن يأتي الأمن، ويفتش المرسم. وهو ما حصل أكثر من مرّة. بالإضافة إلى ذلك، رسمت مئات من الرسوم الكاريكاتورية لشبان الثورة عام 2011 و2012، ناهيك عن مئات الرسوم لنشرة حزب العمل الشيوعي “الآن”، وكلها غير موقّعة للسبب الأمني المعروف.

هل رسمت شيئاً بعد سقوط النظام؟

لا، كنت أرسم لوحة قبل سقوطه واستمرّ العمل عليها بعده؛ نساء واقفات، بينهنّ طفلة، أمام باب سجنٍ بانتظار أن يسمحوا لهنّ بزيارة ذويهم، وبعدها لم أرسم. أعتقد أن كل الأحداث السياسية الكبيرة في كل المجتمعات تحتاج وقتاً طويلاً كي يهضمها الفنان، وتدخل في منظومته الوجدانية، قبل أن يتمكّن من التعبير عنها بطريقة حقيقية، وكل عمل مباشر وآني لا أعتقد أنه يمكن أن يلبّي ما يجب أن يقوم به العمل الفني، من سبرٍ لأغوار الواقع وملامسة وجدان الناس.

هل تعتقد بالانفعال الفني المباشر؟

أرى كل انفعال فني مباشر مؤقّتاً وأقلّ عمقاً في أي عمل ثقافي. خذ مثلاً لوحة دولاكروا “الحرية تقود الشعب”، رسمها بعد 25 عاماً على قيام الثورة الفرنسية.

أخذ الفنانون السوريون الذين في الخارج بعد عام 2011 قدراً من الضوء وفرصاً اعرض أعمالهم وشهرةً، في حين أن هذا لم يكن متاحاً لزملائهم في الداخل؟

ندخل الآن على موضوع آخر، هو الفنانون في الداخل والخارج، وكذلك السياسيون والمواطنون. أعتقد أن أجهزة الإعلام الغربية والكثير من العربية اشتغلت على كل ما هو سياسي بالمعنى المباشر للكلمة، أكثر مما هو ثقافي ومهم وعميق. وبالتالي، هناك من الفنانين من سُلطت عليه الأضواء، في حين أن عملهم أقلّ قيمة مما هو مطلوب، ولا يلغي ذلك أن عديدين منهم موهوب، وأعمالهم مهمة وعميقة وتستحق الاهتمام. وأنا هنا لست في معرض التقييم، بل أتكلم عن الاهتمام الإعلامي بأعمالهم. الأمر الآخر أن نشطاء سياسيين كثيرين درجوا على توجيه نقد إلى الفنانين والكتّاب والمثقفين في الداخل، كأنهم يدينونهم ويتهمونهم “بالتواطؤ” مع النظام، علماً أن الفنانين الحقيقيين في الداخل كانوا يعانون أكثر بأضعاف من الموجودين في الخارج، ويتعرّضون لعنف النظام وقسوته وإشاعته الخوف في قلوب كل الناس، رغم ذلك ظلوا صامدين، يقاومون بكل معنى الكلمة. ولم يعفهم ذلك كلّه من التعرّض للإجحاف من سياسيين من الدرجة الثانية، ومثقفين من الدرجة الثالثة. من الإنصاف القول إنّ هؤلاء أقلية بينما أغلب من كان في الخارج كان خارج هذه “الحفلة”.

وماذا عن فرص العرض؟

أتيح للفنانين في الخارج الفرص والعرض وإلقاء الضوء أكثر من زملائهم في الداخل. وهناك حقيقة أن صالات العرض في الداخل بقيت مغلقة نهائياً سبعة أعوام. لم تكن هناك عروض، كانت الفرص معدومة، افتتحت في الأعوام الأخيرة “غاليريهات” عدّة أبوابَها، وصرنا نشهد عروضاً لفنانين مخضرمين وشباب، بينما هذا لم يكن موجوداً في السنوات الست أو السبع بعد 2011.

اللوحة السورية في المحيط العربي متميزة، هل أخذت حقّها من الشهرة، والترويج، والعرض، والمبيعات؟

عانى التشكيليون السوريون في الـ 15 عاماً الأخيرة من إجحاف كبير، وعلى مستويات عدة، منها المزادات الخارجية وأسعار مبيع اللوحات، الذي لا يتناسب مع قوة اللوحة وموهبة الفنانين. وقد أثر الوضع السياسي والحروب على أوضاع السوريين، وهذه الأوضاع سليلة إجحاف آخر عانى منه الفن السوري في الستينيات والسبعينيات والثمانينيات، وهو على علاقة بالأوضاع السياسية. بمعنى أكثر وضوحاً، نجحت البورجوازية اللبنانية، منذ القرن التاسع عشر في أن يكون لديها اهتمامات ثقافية ومنها اللوحة، والأمر نفسه يمكن قوله عن البرجوازية المصرية. وكان يمكن للبورجوازية السورية لعب الدور ذاته، لكن التأميمات في الستينيات كسرت ظهرها، وحالت دون أن تقوم بنهوض كبير فيما يتعلق بالفن السوري. وما حصل أن الطرف الوحيد الذي أصبح مهتماً باقتناء اللوحات هو المؤسسات الرسمية؛ وزارة الثقافة ونقابة الفنون، وصار الفنان السوري يعتمد على قوة المقاومة والإصرار على إنجاز مشاريعه، بغضّ النظر عن مسألة السوق، وهذه مسألة تقارب الإعجاز. وللمسألة جانب إيجابي نقيض، فقد كان انعدام السوق مجالاً للتحرّر من شروطه. وأصبح الفنان ابن رؤيته وتطرّفه بغض النظر عن السوق الذي لم يكن موجوداً، وهو ما يمكن أن نقول إنه يمكن أن يفرض شروطاً ذات طابع سهل أو تجاري على الفنان، وهو ما شهدناه في بلدانٍ عديدة، علماً أن هذه الفرصة ألحقت بالفنان أذى كبيراً على المستوى المعيشي.

لاحظتُ اهتماماً كبيراً بأعمالك في معارضك العربية، هل تحسّ بالرضا؟

نعم؛ كان هناك اهتمام بأعمالي في كل المعارض الشخصية في بيروت والبحرين والقاهرة، أحياناً يخجل المرء من نفسه بسبب الإحاطة التي يحظى بها من نقّاد وكتاب وفنانين، وكنت أسألُ نفسي إن كنتُ أستحق هذا؟ أتمنّى لو كنت مستحقّاً ربع ذلك الكرم.

 تعمل منذ زمن طويل في السياسة ومسارك هذا عرفَ تعرّجات، صعوداً وهبوطاً، هل تحسّ بأن سقوط النظام أنصف هذا الصبر والتضحيات الكبيرة؟

هناك أمر لا أفهمه. فما أعرفه أن أغلب مثقفي العرب انخرطوا في شبابهم بالعمل السياسي، وهذا طبيعي، ثم تجدهم في فترات لاحقة يذمّونه أو يتنصلون منه وكأنه سُبة بحقهم! بينما المفروض أن يعترفوا به، لأنه جزء مكوّن من شخصياتهم وحياتهم.

عمل أغلب فناني العالم بالسياسة، والكثير الكثير من الأعمال الفنية الكبيرة سياسية، من لوحات رامبرانت إلى لوحة الإعدام لغويا وغورنيكا بيكاسو، إلى الأعمال الجدارية الاستثنائية للفنانين المكسيكيين… إلخ. ليست السياسة عصباً في حياة البلد فحسب، بل في وجدان الفرد وصياغة قدراته على التعبير عن الواقع. ليس لديّ أي إحساس بأن هناك إجحافاً بحقي، كنتُ أعمل بمنطق شخصٍ يتجاهل كل حسابات الربح والخسارة، ويستنطق وجدانه فحسب، لأن هذا هو الشيء الوحيد الذي يمكن أن يكون حقيقياً، وله معنى في حياة الفرد وحياة محيطة. ولديّ إحساس بأن معاناة السوريين، ونضالات مئات الألوف منهم 54 عاماً أثمرت، بشكل أو بآخر، وتمكّنت من أن تفتح الآفاق. نحن اليوم أمام وضع غير واضح، لكنه بالتأكيد لا يشبه الماضي، والأفق أمامنا مفتوح على كل الاحتمالات.

أنت قارئ نَهِم؟

السياسي الذي لا يقرأ لا علاقة بالسياسة، السياسة معرفة. وكذلك الفنان الذي لا يقرأ أشكّ في أنه سينجز ما هو هام. على الفنان أن يعرف ما يحدث وما أنجزه الفنانون في أنحاء العالم، وما هي رؤاهم الفنية وخبراتهم على المستوى التقني. أعرف فنانين كثيرين ماهرين، ولكنهم لم ينجزوا شيئاً ذا بال، وأعتبر أن السبب يعود إلى ضحالة ثقافتهم، ربما من هنا أنا أقرأ  يومياً، ربما اقرأ بضع صفحات، وربما أقرأ مئة صفحة، لم يمرّ عليّ يوم من 50 عاماً لم أقرأ فيه روايةً، أو شعراً، أو سياسةً، أو تاريخاً، أو تاريخ فن. إنني مهجوس بالقراءة، وأعتبر نفسي مقصّراً لأني لا أستطيع قراءة كل الكتب في مكتبتي، ولدي إحساسٌ بأنني احتاج أعماراً عدّة لكي أستطيع قراءة قليل من الكتب التي تصدر في العالم.

طالما أنك قارئ نهم إلى هذا الحدّ، هل شكلت أحكاماً على الكتابة السورية الإبداعية خلال الـ 15 عاماً الأخيرة؟

لا أدري إذا كان يحق لي الحديث عن هذا، لكنني أظن أننا أمام تجارب شعرية كثيرة، بديعة وعميقة، بكل معنى الكلمة. وربما لم يأخذ شعراء كثيرون حقهم في الشهرة وتعرّف الناس عليهم، وتسليط الضوء على تجاربهم. أحياناً، أقرأ مقاطع وقصائد تمسّ أعماق الوجدان. هناك كثير من الشعر والرواية والدراسات، وقد نحتاج أعواماً كي نتلمس مدى العمق والجدّة فيها. هناك أعمال بديعة مصرية وعراقية وسورية ولبنانية ومن المغرب العربي في الرواية والشعر، مثلما هناك كتاب ودارسون اجتماعيون أو مؤرّخون أو باحثون في شتى المجالات نقف أمام جدّية أبحاثهم وعمقها، ونودّ لو أمكننا أن نوجه إليهم تحية إجلال شخصيّة، فهم يعملون وينتجون في ظلام دامس، يهتدون بضوء عقولهم، وشعاع الإرادة والأمل الذي ينير طريقهم والذي سيترك آثاره على مجتمعاتنا رغم كل ظلام اللحظة وعُسف التخلف.

لماذا الجسد وليس الطبيعة والزهور والعصافير مثلاً؟

اشتغلت على الجسد، لأن ذلك ممكن في المرسم، كان لجوءاً إلى الجمال في مواجهة البشاعة. وحين كان يتاح لي السفر إلى الريف أو سفوح جبل الشيخ كنت أرسم الطبيعة دائماً.

درستَ وعشتَ ربع قرن في باريس، وغادرت في 2005، ولم تعد تتردّد إلا نادراً، ما علاقتك بهذه المدينة؟

هناك مدينتان كبيرتان في حياتي. دمشق التي تشكّل فيها وعيِيَ السياسي والفني، وبالتالي إحساسي بفضل هذه المدينة عليّ لا حدود له، وهذا التأثير أكبر بكثير من تأثير مدينتي الأصلية القامشلي. والثانية باريس، لأني تمكّنت، من خلال زياراتي للمتاحف وصالات العرض ودراستي، من مراكمة خبرات كبيرة في التقنية والرؤى الفنية. لو عشت في مدينة ثانية، كان يستحيل أن أراكم هذه الخبرات على مدى تلك الأعوام، ونهاية العام الجاري سيجري تنظيم معرض لي في فرنسا، هي مناسبة لأستعيد علاقتي بباريس.

كيف تمضي وقتك في دمشق؟

أعمل في المرسم، ولقاءات مع الأصدقاء، وحوارات سياسية أعرف كيف تبدأ، ولا أعرف كيف تنتهي. عندي علاقات واسعة مع الناس ومواعيد يومية مع أصدقائي، اعتبر نفسي مواظباً على عملي، أعمل كل يوم كمن يمارس الوظيفة. هذا الكلام لا يحبّه الفنانون الذين يعتبرون اللوحة ابنة الشطح العاطفي والوجداني.

هل هناك مكان للمرأة؟

الحب مسألة أكثر من أساسية في حياة الكائن، هو أعلى اعتراف يمكن أن يحصل عليه الإنسان من طرف آخر، وبالتالي هو عنصر أكثر من أساسي في توازن الإنسان بينه وبين نفسه، وبينه وبين العالم. الحياة من دون المرأة عيش في صحراء قاحلة.

أنت في وسط دمشق المدينة، غير بعيد عن الشارع العام، في بيئة تقليدية من حيث المعمار والساكنة، هل ينعكس ذلك في أعمالك؟

أعتبر دمشق القديمة، والعمارة التقليدية على درجة عالية من الأنسنة، وأحسّ بأن البيوت في هذه الحارات لا تشبه بعضها أبداً، هي تشبه أصحابها، على مقياس ذوقهم وإمكاناتهم يبنون. هي عمارة شديدة الإنسانية، على خلاف العمارة الإسمنتية المتشابهة، التي لا تمايز فيها بين شخص وآخر، وعائلة وأخرى. أما كم يؤثر ذلك على عملي فلا يمكنني الإجابة الواضحة.

هل أحسستَ في لحظة ما بعدم جدوى الفن في ظل أعوام الخوف والقتل والتهجير التي شهدتها سورية خلال الأعوام الأخيرة؟

لم ينتابني ذلك أبداً، رغم أن موجة يأس داهمتني بسبب تحوّل مسار الثورة، التي عوّل عليها الشعب السوري، كي تنقله من وضع إلى آخر، وكيف حرفها التسليح الخارجي والتطييف، وذهبت كل آمالي إلى هوة سحيقة. وكان ذلك سبباً لتوجهي إلى الرسم العاري، وتلقيت بسببه الكثير من النقد والشتائم. وكان لجوئي إلى هذا الموضوع للنأي بنفسي عن التفكير السياسي، أو ما له علاقة بشروط الحياة السورية.

بطاقة:

ولد يوسف عبدلكي في القامشلي أقصى شمال شرق سورية عام 1951.

حصل على إجازة من كلية الفنون الجميلة بدمشق عام 1976 وعلى دبلوم حفر من المدرسة الوطنية العليا للفنون الجميلة في باريس عام 1986، ثم الدكتوراه من جامعة باريس الثامنة عام 1989.

أقام أول معارضه الفردية عام 1973 في دمشق، كما أقام معارض في عواصم عربية عديدة.

يقتني المتحف البريطاني في لندن أربعة أعمال له، ومتحف معهد العالم العربي في باريس عملين، ومتحف دينه لي باين بفرنسا عملين، كما تقتني متاحف عربية بعض أعماله.

بدأ عمله في الكاريكاتير منذ 1966، وانخرط في العمل السياسي، ما أدّى غلى اعتقاله عدّة مرّات بسبب مواقفه السياسية في عهد الأسدين.

العربي الجديد

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى