الأحداث التي جرت في الساحل السوريالناسسقوط بشار الأسد، الرئيس الفار والمخلوع

إلى ياسر مخلوف مع تحيات رجال (سوريا الحرَّة)/ مالك داغستاني

2025.04.10

اعتُقل في شهر شباط/فبراير 1982، وأُطلق سراحه في شهر آذار/مارس عام 1997. خمسة عشر عاماً وبضعة أيام، قضاها بين سجني تدمر وصيدنايا. إنه صديقي “ياسر مخلوف”. أعرف، في هذه اللحظة بعد قراءة الاسم أن الكنية لفتت نظركم.

نعم هو ابن عائلة مخلوف، التي يعرفها السوريون، من قرية بستان الباشا على الساحل السوري. بعد عام ونصف من السجن، حظي ياسر بزيارة في سجن تدمر، عبر وساطة من خارج العائلة. حينها طلب من والديه ألا يحرجا نفسيهما بأي وساطة من أحد، مضيفاً أنه سيخرج من السجن عندما يخرج رفاقه جميعاً. وكان معتقلاً للانتماء إلى حزب العمل الشيوعي. التزم الأهل بطلب ابنهما طيلة فترة سجنه.

عام 1984، قبل ذكرى (الحركة التصحيحية) بأيام قليلة، تم تحويل ياسر من سجن تدمر إلى فرع التحقيق العسكري بدمشق بقصد الإفراج عنه. لينضم هناك إلى معتقلين اثنين، أحدهما ابن شقيقة زوجة محمد مخلوف، مع ابن عمّه، والاثنان أبناء عائلة علوية شهيرة. يبدو أن اسم ياسر أضيف إليهما باعتباره الأقرب للعائلة الحاكمة، فهو الابن الأكبر لابنة شقيقة زوجة الأسد الأب.

قابله العميد كمال يوسف رئيس الفرع في مكتبه، وطلب منه أن يتعهد أمامه شفهياً، بألا يعود للعمل السياسي المعارض، وسوف يطلق سراحه على الفور. كان جواب ياسر صادماً للعميد، وفيما بعد لحافظ الأسد (وهذا تقديري الشخصي). قال الرجل: أنا اليوم سجين ولست في التنظيم. لا أعلم ما هو الوضع في الخارج. إن أطلقتم سراحي سأرى الوضع وأعود لأخبركم إن كنت سأمارس العمل السياسي أم لا.

نهاية المقابلة، فهم العميد يوسف أن ياسر لن يتعهد بأي شيء. وبينما أُطلق سراح الآخَرَين، فقد تمت إعادة ياسر إلى سجن تدمر، ليقضي سنواته الطويلة هناك، قبل أن ينقل إلى صيدنايا، ويُقدَّم بعد عشر سنوات من التوقيف العرفي إلى محكمة أمن الدولة العليا. أصدر عليه القاضي فايز النوري حكماً بالسجن خمسة عشر عاماً، مع كثيرين من رفاقه. الأمر الذي يمكنني تفسيره بحقد شخصي من الأسد، فكيف لأحد أن يرفض (مَكرُمةً) كهذه منه! في حين لا يمكن لأي معتقل سوري أن يحلم بها في تلك الفترة، حيث بقي قفل السجن السوري مغلقاً بإحكام لسنوات طويلة.

كان ياسر في سنته الدراسية الثالثة في كلية الاقتصاد بجامعة حلب حين اعتقاله. سيكمل دراسته ويتخرج منها بعد خروجه من السجن. وأكثر من ذلك سيدرس الترجمة ويحصل على شهادة جامعية أخرى فيما بعد، وسيحترف العمل في الترجمة من اللغة الإنكليزية التي أتقنها جيداً خلال سنوات السجن. لم يلجأ الرجل إلى أبناء العمومة لطلب أية مساعدة، كما يمكن أن يخطر

في البال. وكان معظمهم متحرجاً من إقامة علاقة مع ابن العم المعارض. أما ياسر فبدا متفهماً للأمر، وأبقى معهم على علاقات المجاملات العائلية وحسب.

التقينا هو وأنا قليلاً بعد السجن وعلى فترات متباعدة، لكن خلال زيارتي لسوريا بعد سقوط الأسد، زرته في بستانهم في القرية، وهو إرث له ولإخوته من والديهما. جلسنا في بيوت الإخوة التي ستحترق فيما بعد. قضيت هناك ساعات قليلة معه ومع أصدقاء آخرين. بدا ياسر خلالها أشدّنا فرحاً بسقوط الأسد، وأكثرنا تفاؤلاً عن المستقبل وعن سوريا الجديدة، رغم عدم التوافق الفكري والسياسي مع من يحكمون البلد. بل وسخرنا معاً من المخاوف غير المبررة للعلويين المدنيين!

قبل أيام، فاجأني مقطع مصور بكاميرا ياسر نشره أحد الأصدقاء. بدا البيت الذي تناولنا الفطور فيه محروقاً بالكامل. وعلى الجدار ظهرت كتابة خلّفها الفاعلون، سيقرأها ياسر بصوته: “ذكرى عبد الله عبد القادر عبد الله. 6 شهر رمضان” مع توقيع شخصي وتوقيع عام سيقرأه ياسر بمرارة “رجال سوريا الحرّة”، فيتساءل بعدها باستغراب: “رجال سوريا الحرة؟! يا شباب، هذا البيت لناس أحرار من سوريا الحرة”. في منزل شقيقته ردينة، مهندسة معمارية، استخدم أحدهم ألوانها ورسم (خربش) خطوطاً على الجدار، ثم وقع باسم “أبو تراب الحلبي”.

باتصال مع العائلة بعد مشاهدة الصور، سأعلم أن أخوَي ياسر، اللذَين كانا يشعران بالطمأنينة خلال ما سُمّي (النفير العام)، لم يغادرا البستان. بقيت سحر هناك، وهي مهندسة زراعية، تدير العمل مع أخيها أحمد. خلال ساعات، حضرت إلى بستان الحمضيات الذي يقع على الطريق العام، طرطوس اللاذقية، عدة مجموعات مسلحة على التوالي. سرقوا سيارتي الأخوين، وحملوا بهما المؤونة العائلية من الزيت. سيخبرني ياسر على سبيل الطرافة المريرة، أن الأمر بدا وكأنه اختصاصات لناحية (التعفيش).

هناك مجموعة أخرى نهبت الأجهزة الكهربائية فقط، ثم تلتها أخرى سرقت خلايا النحل. لكن الثابت خلال كل ما جرى أن أمر إعدامهما قد نوقش من قبل كل المجموعات. مجموعة تجنبت قتل أحمد لأنه كهل. لكن واحداً من عناصر جماعة أخرى أخذ أحمد جانباً وقرر إعدامه، فقفزت الأخت أمامه وطلبت أن يقتلوها قبله. أنجتهما مصادفة طيبة، حين دخل القائد في ذات اللحظة وسأل مستنكراً عن إعدام امرأة! فجاءه الجواب من مرؤوسه بأنها “هي من طلبت ذلك”. فما كان من قائد مجموعة اللصوص إلا أن أصدر أمره بمنتهى الشهامة “اتركهم، فنحن لا نقتل النساء”!

خلال لحظة انشغال المجموعة السادسة التي دخلت البستان، خلا المكان من أي عنصر قريب، وبينما سمع الأخوان إطلاق رصاص في البستان المجاور، قررا الهرب. انطلقا وتسلقا السور،

راكضين بين البساتين المتلاصقة ساعات طويلة، ملتجئين إلى بعض المزارع التي خاف أصحابها من استقبالهم بها، فوصلا مدينة اللاذقية في اليوم التالي. سيعلمان فيما بعد أن إطلاق النار الغزير أفضى إلى مقتل محمد منير مخلوف.

للمصادفة، من بين أفراد عائلة مخلوف الكبيرة والثرية، لم يُقتل سوى محمد منير مخلوف الذي يقيم في البستان المجاور. يدير الرجل عملاً خاصاً بعيداً عن الأعمال غير الشرعية، ويعرف عنه المحيطون أنه كان شهماً يندفع لتقديم المساعدات لمن يحتاجها. ربما لصفاته تلك، كان ممن اختيرو في وفدٍ قابل الرئيس الشرع عند زيارته اللاذقية. سيخبرني ياسر أنه كان من بين أصدقائه القلائل في العائلة، وأقربهم إليه. أما باقي أفراد العائلة المؤيدين فقد نجوا لأنهم لم يشعروا بالأمان مع السلطة الجديدة، ففروا من سوريا، أو احتموا بأمكنة حيث لا تطولهم يد العدالة.

في البستان احترق بيتان وتم تحطيم الثالث، وسرقت مضخات البئر، وألواح الطاقة الشمسية والأدوات الكهربائية والمناحل. فعل المهاجمون كل ما كان يفعله “شبيحة الأسد” خصوصاً من جنود الفرقة الرابعة وتوابعها. بدا الأمر لي وأنا أصغي لما جرى، وكأننا ما زلنا نعيش في “بلاد الفرقة الرابعة”، التي شكّلت كابوساً للسوريين على مدى سنوات.

توفيت والدة ياسر قبل أربع سنوات، بيني وبين نفسي قلت حسناً أنها لم تشهد هذا اليوم. هناك الكثير من المآثر لأمهات معتقلي صيدنايا، وهناك عدّة أمهات شهيرات. لكن أم ياسر كانت أشهر أمهات صيدنايا على الإطلاق، بما قدمته للسجناء وعائلاتهم من خدمات، بمن فيهم معتقلون إسلاميون، حيث كانت تحضر لهم حاجياتهم، وتدور على بيوت عائلاتهم في أكثر من مدينة، لأنهم ممنوعون من الزيارة. حين توفيت نهايات عام 2020، نعاها ونشر صورها المئات من الأشخاص على وسائل التواصل. أحد الأصدقاء سألني من تكون تلك المرأة حتى ينعاها كل هؤلاء البشر؟ أجبت: ألا تعلم! إنها أنجيلا. كان اسمها نجلا ولكن السجناء أطلقوا عليها لقب أنجيلا، تيمناً بمناضلة حقوق الإنسان الأميركية الشهيرة أنجيلا ديفيس.

هل أكتب عن ياسر لأنه صديق شخصي؟ نعم، على الأرجح أن هذا واحد من الدوافع، فمعرفتي الدقيقة بسيرة حياته الكاملة، تدفعني للكتابة عن أمر أعرفه بدقة وبكامل تفاصيله. لكن هذا لا يلغي الدافع الأكبر، وهو إدانة كل تلك الاعتدءات التي تحولت إلى مجازر في كثير من بلدات وقرى الساحل وذهب ضحيتها أبرياء، أودى بأكثرهم شعورهم بالأمان وبأنهم لم يفعلوا شيئاً يستحقون أن يتعرضوا بسببه لأي اعتداء ولا حتى إهانة، لذا لم يهربوا كما فعل المجرمون.

قصة ياسر هي مثال متطرف، ليس فقط عن الوحشية التي مورست في الساحل، بل هي دليل براءة أغلب الضحايا، لدرجة أن تلك الوحشية طالت من دفع ربع عمره في سجون الأسد.

بالتأكيد، ليس الأمر بالنسبة لي أنها بيوت ياسر الذي أعرفه وإخوته، فكل الاعتداءات وقتل وحرق وسرقة بيوت المدنيين الأبرياء أعمال إجرامية لا تقوم بها لا دولة ولا ثوار.

هذه أعمال عصابات تحسب أنها مُغطّاة أمنياً، ولن تنالها المحاسبة، وإلا ما معنى أن يشعر المجرم بما يشبه الأمان المطلق، فيوثّق فعلته ويوقِّع باسمه الثلاثي على الجدار. اليوم، للمفارقة المريرة، يلحُّ علي السؤال: بأية حكمةٍ تحملها تقادير الحياة، سارت الأقدار على نحوٍ جعلت من مجرم كحافظ الأسد يضيع شباب رجل مثل ياسر في السجن، ثم ليأتي بعده مجرمون لصوص رعاع، يماثلون الأسد بدونيتهم، فيحرقون بيته وبيوت إخوته، وربما لو تصادف له أن كان هناك لقتلوه؟

الكثير مما يجري في سوريا اليوم، ويعتقده كثيرون نوعاً من البطولة والانتصار، إنما هو الوصفة الناجحة لإعاقة بناء الدولة الجديدة، بل والمساهمة في تحطيمها قبل ولادتها. مع شيء من الحسرة قال لي ياسر “الكارثة أن الأسد الابن، لم ينهب موارد سوريا إلى ما دون الصفر خلال حاضرنا وحسب، بل أكل ونهب من مستقبلنا ومستقبل سوريا والسوريين”.

لكن ألم يكن بإمكان السلطات الجديدة تلافي ما حدث في الساحل أو على الأقل التخفيف منه؟ هل حقاً لم تمتلك المقدرة على ضبط الفصائل والأفراد الذين انضووا تحت مظلة وزارة دفاعها؟ أم أنها لا تمتلك الإرادة لذلك؟ مهما كان الجواب فالأمر سيّان، وهو لا يعنى سوى أننا لم ولن نصل قريباً لنكون دولة.

يوم 8 كانون أول/ديسمبر الماضي، ذهب ياسر رفقة شقيقته سحر إلى قبري والديهما، وضعا وردة فوق كل قبر. أخبرهما ياسر أن نظام الأسد قد سقط. اليوم، المفارقة التي لم تفاجئني كثيراً وأنا أتحدّث إليه، لأنني أعرف روح الرجل جيداً، مازال ياسر، رغم كل ما جرى له على الصعيد الشخصي، متفائلاً بسوريا القادمة!

تلفزيون سوريا

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى