تحقيقاتسقوط بشار الأسد، الرئيس الفار والمخلوع

إيقاف اليانصيب في سوريا: “الدولة” الجديدة ضد الحظ؟/ جبران خزعل – عمّار المأمون

09.04.2025

“كنا نشتري بطاقات على حسابنا الشخصي، ونبيعها مقابل ربح متواضع، لكن المشكلة أن السحوبات توقفت منذ سقوط النظام، كل ما نريده الآن هو استعادة ثمن البطاقات الذي دفعناه من جيوبنا الشخصيّة، وحين راجعنا البريد، قالوا لنا لحين صدور قرار”.

يجلس بهيج خزعل (70 عاماً)، لبيع اليانصيب وعلب السجائر على طاولة صغيرة قبالة مقهى الهافانا الشهير أمام ساحة المحافظة في مدينة دمشق منذ أكثر من 30 عاماً. بهيج الأصم والأبكم، دفع قبل أيام قليلة من سقوط نظام بشار الأسد مبلغاً بالليرة السورية يبلغ نحو600 دولار لأحد موزعي اليانصيب الذين يتعاملون مع المديرية العامة لليانصيب من أجل السحب الذي كان مقرراً إجراؤه في 10 كانون الأول/ ديسمبر من عام 2024، لكن سقوط النظام المفاجئ والمفرح أوقف السحب، وترك بهيج والمئات غيره من باعة اليانصيب في حيرة بخصوص استمرار عملهم.

المفارقة الأولى التي تخص اليانصيب في سوريا بعد سقوط النظام بأيام، هي نشر فيديو يكشف عن وجود أوراق يانصيب تطبع في مبنى إدارة المخابرات العامة في دمشق، ما زاد من توجّس الباعة الذين مع مضي الأيام، اكتشفوا إيقاف الإدارة الجديدة في دمشق اليانصيب الأسبوعي، والسحوبات السنويّة، ما تركهم معلّقين، يواجهون خسارتين، الأولى تتمثل بفقدانهم لعملهم، والثانية ثمن ما دفعوه مقابل الحصول على البطاقات.

يانصيب معرض دمشق: مؤسسة عمرها أكثر من نصف قرن

 يعود تاريخ يانصيب معرض دمشق الدولي إلى عام 1954 بالتزامن مع الدورة الأولى من معرض دمشق الدولي، الذي توقف عام 2011 مع اشتعال الثورة السوريّة، وعاد للعمل عام 2017، إذ أعلنت وزارة الاقتصاد عن إصدار رأس السنة الذي بلغ عدد بطاقاته 500 ألف بطاقة، ثمن الواحدة منها، ألف ليرة سوريّة، بمجموع جوائز 125 مليون ليرة سورية.

وصلت قيمة الجوائز عام 2020 إلى 100 مليون ل.س، وعام 2021 بلغ سعر البطاقة إلى 5 آلاف ليرة سوريّة، وأشار موقع “سيريا ريبوت” الى أنه في حال بيعت كل البطاقات عام 2020 سيُولد ربح بمقدار بـ11 مليار ل.س، مقارنة بـ4.5 مليار عام 2019، و 3.9 مليار عام 2018، لكن عام 2016، أعلن المدير العام للمؤسسة العامة للمعارض والأسواق الدولية فارس الكرتلي أن إيرادات الإصدار الأول ليانصيب معرض دمشق الدولي لعام 2016 بلغت 300 مليون ليرة سورية، حينها تذبذب سعر الدولار الواحد بين 400 إلى 600 ليرة سورية، وإن افترضنا أنه كان 500، فالربح العائد لخزينة الدولة حسب تصريح الكرتلي نحو 600 ألف دولار، وعام 2015 حسب التصريح ذاته، فأرباح سحوبات العام بكامله تصل إلى 6 ملايين دولار.

يذكر أيضاً أنه عام 2021 وبالتعاون مع شركتي مخدم الهاتف الخلوي، تم تفعيل خدمات اليانصيب الإلكترونيّ بمجموع جوائز يصل إلى 15 مليون ليرة عبر شركة “ديجيتال هورايزون” التي تأسست عام 2019، وعام 2022 وصلت قيمة الجوائز إلى 2.4 مليار ل.س، وعام 2023 بلغ مجموع جوائز إصداري اليانصيب لرأس السنة /2.862/ مليار ليرة.

نذكر كل هذه الأرقام عن اليانصيب وقيمة الجوائز والأسعار لأننا أمام قطاع رابح، ويرفد خزينة الدولة بالملايين، لكن بعد سقوط النظام، بدأ التخبط خصوصاً لدى الفئة الأكثر تضرراً، ولا نقصد المشترين، بل باعة اليانصيب، كحالة أحد الباعة الذي اعتاد العمل في البرامكة في دمشق، والذي قال لـ”درج”: “كنا نشتري بطاقات على حسابنا الشخصي، ونبيعها مقابل ربح متواضع، لكن المشكلة أن السحوبات توقفت منذ سقوط النظام، كل ما نريده الآن هو استعادة ثمن البطاقات الذي دفعناه من جيوبنا الشخصيّة، وحين راجعنا البريد، قالوا لنا لحين صدور قرار”.

“سرت أقاويل عن أن الوزير أخبرهم بأن اليانصيب قد ألغي لأنه يخالف الشريعة الإسلامية ويعتبر محرّماً!”.

هل ألغي اليانصيب؟

عدم وجود قنوات إعلامية رسمية تابعة لحكومة السلطة الجديدة في سوريا يمكن استقاء الأخبار منها، حرك الأسئلة بين باعة اليانصيب عن أسباب إيقاف السحوب، واحتمالية استئنافها لاحقاً، إذ دفع الباعة للحصول على أوراق السحب الملغي مبالغ تعتبر كبيرة مقارنة بمدخولهم، في حين دفع الموزعون لمؤسسة اليانصيب مبالغ أكبر بكثير، أحد الموزعين قال لـ”درج” أنه دفع نحو 70 مليون ل.س، أي نحو 7000 دولار حسب سعر صرف الليرة الحالي في السوق السوداء.

بعض الأخبار التي يتناقلها الباعة حسب بهيج تقول إن مجموعة من الموزعين رتبوا لقاء مع وزير الاقتصاد في الحكومة المؤقتة باسل عبد الحنان في شهر كانون الثاني/ يناير لفهم أسباب إيقاف اليانصيب، ويقول موزّع آخر لـ”درج”: “سرت أقاويل عن أن الوزير أخبرهم بأن اليانصيب قد ألغي لأنه يخالف الشريعة الإسلامية ويعتبر محرّماً!”.

 لكن، ومع تشكيل الحكومة الجديدة وانتظار قرارات أكثر وضوحاً حول هذه المسألة، بات تركيز الباعة ينصب على استعادة الأموال التي دفعت لمؤسسة اليانصيب قبل سقوط النظام، إذ ثمة تأكيدات بأن المبالغ التي دفعها الباعة ستسترد بالكامل من قبلهم، من دون أن يعني ذلك استئناف اليانصيب.

موظف في شبكة المسجلات في مؤسسة البريد، حيث توزع أوراق اليانصيب، قال لـ”درج” إن إيقاف اليانصيب مرتبط بالدرجة الأولى، حسب الأقاويل، بتحقيقات تُجرى مع مدير عام مؤسسة اليانصيب، والتي يبدو أنها تتعلق بقضية فساد مالي. من ناحية أخرى، لم يعبّر الموظف عن تفاؤل كبير حول استئناف اليانصيب، وذكر أنه في أفضل الأحوال قد يعود، “ضمن إطار شرعي”، ومن دون أن تكون قيمة الجائزة كبيرة، وسيذهب ريعها إلى مؤسسات خيرية، كما هي الحال في الأردن مع اليانصيب الخيري. ويرى أنه وفي أسوأ الأحوال، اليانصيب لن يستأنف، والسبب سيكون “دينياً وشرعياً” نظراً إلى الخلفية الأيديولوجية للسلطة الحالية في دمشق.

 قال مصدر من وزارة المالية لـ”درج” أن اليانصيب أوقف بعد سقوط نظام الأسد، مشيراً إلى أنه لا سياسة واضحة إلى الآن بخصوص استمرار العمل به، لكن “تم إلغاؤه، ولا يوجد طباعة أوراق جديدة أو سحوبات جديدة”.

 استثمار رابح

قبل انطلاق الثورة السورية وبدء سلسلة التضخم التي شهدها الاقتصاد السوري، كان يانصيب معرض دمشق الدولي، التقليد القديم في سوريا، يعد استثماراً رابحاً للدولة السورية، إذ كانت قيمة الجائزة الكبرى لسحب رأس السنة الأول عام 2010، الذي كان يقام مع حفل فني ساهر يعرض على التلفزيون مباشرة، 60 مليون ليرة سورية، أي نحو مليون و200 ألف دولار أميركي، وهو مبلغ فلكي بالنسبة الى المواطن السوري العادي، أو حتى لأي مواطن في العالم. لكن ربح الدولة كان يأتي من قيمة البطاقات المباعة، خصوصاً أن قانون تنظيم اليانصيب في سوريا يشير إلى أن مجموع الجوائز يجب ألا يتجاوز الـ45 في المئة من ثمن البطاقات بكاملها، مثلاً كانت المؤسسة العامة لليانصيب في سنة 2010 تطبع 900 ألف بطاقة، كانت توزع جميعها في الأسواق، وتباع بـ600 ليرة سورية للمشتري.

وبعملية حسابية بسيطة يمكن اكتشاف أن اليانصيب كان يدر مبالغ محترمة، على أقل تقدير، لمؤسسة اليانصيب ووزارة الاقتصاد. فلو احتسبنا أن الموزع كان يشتري البطاقة من مؤسسة اليانصيب بسعر يقارب لـ 450 ليرة، ليبيعها بـ 540 ليرة لباعة اليانصيب حسب بهيج خزعل الذي كان يبيع البطاقة بـ600 ليرة، يتضح أن المبلغ الذي كان يدخل خزينة الدولة يفوق الـ400 مليون ليرة في تلك الآونة، أي ما يزيد عن 8 ملايين دولار.

بالطبع لم يكن هذا المبلغ بكامله ربحاً للدولة، فمجموع الجوائز الكبرى والصغرى وجوائز الترضية المرتبطة بها، كان يفوق الـ 220 مليون ليرة، أي ما يزيد على 4 ملايين دولار. ومع احتساب أن دخل الموظف كان قرابة الـ 400 دولار في 2010، وأن مؤسسة اليانصيب مع مؤسسة البريد كانتا تضمان نحو 1000 موظف، فسيذهب نحو 400 ألف دولار كرواتب للموظفين.

 وأخيراً تبقى تكاليف طباعة أوراق اليانصيب والتي يصعب تحديدها بدقة، لكن المؤكد أن ورقة اليانصيب تصنع من ورق أقل جودة من جودة الأوراق النقدية المالية.

مؤسسة رابحة… لكن إشكالية

 يتماشى إيقاف الإدارة الجديدة لليانصيب مع حالة إدلب حين كانت تابعة لحكومة الإنقاذ، واجهة هيئة تحرير الشام السياسيّة، إذ لم يكن هناك يانصيب بالمعنى المؤسساتي، بل مسابقات صغيرة وجوائز على شكل قسائم من بعض المراكز التجارية لأهداف ترويجيّة.

هذا الإيقاف والاستغناء عن ربح مؤسسة اليانصيب يشير إليهما الخبير الاقتصادي، ومؤسس ورئيس تحرير نشرة “سيريا ريبورت” جهاد يازجي الذي قال لـ”درج” :”مؤسسة اليانصيب، حتى لو لم نمتلك الأرقام المنشورة من الدولة، سواء في سوريا، أو في أي دولة في العالم، فهي مؤسسة رابحة، إذ لا منطق لوجودها إن لم تكن رابحة”.

ويضيف: “تختلف مؤسسة اليانصيب عن المؤسسات الحكوميّة الأخرى، التي عادة ما تكون خاسرة كونها تقدم خدمات ضرورية، كالمؤسسات الطبية الحكوميّة ومؤسسات الشرطة والجيش، وفي حالة سوريا، وغالبية الدول الاشتراكيّة، توصف مؤسسات الدولة بالخاسرة أيضاً بسبب توظيفها لكمية كبيرة من المواطنين، ما يخلق بطالة مقنّعة، لكن مؤسسة اليانصيب، لا تقدم خدمات، ولا توظف كمية كبيرة من المواطنين، ما يجعلها مؤسسة رابحة”.

 ويرى يازجي أن “إغلاق المؤسسة في سوريا لا علاقة له بوضعها المالي، إذ لا منطق اقتصادي في إغلاق هذه المؤسسة، خصوصاً في الوضع الحالي، حيث الدولة السورية بحاجة الى أي مصدر للنقود، لكن على الأرجح، الإغلاق من منطق ديني -عقائدي، وله جذور عقائدية في هيئة تحرير الشام، التي تشكل جزءاً أساسياً من الإدارة الجديدة لسوريا”.

 يختم يازجي حديثه معنا في محاولة لتفسير إيقاف السحوبات ومسابقات اليانصيب قائلاً: “أعتقد أن مؤسسة اليانصيب في سوريا دفعت الثمن من جهة لسبب عقائدي، كونها لعبة حظ وهي محرمة، ومن جهة آخرى بسبب حجمها الاقتصادي الصغير، فهي لا تدر ربحاً كبيراً على خزينة الدولة، ولو كانت كميات ربحها أكبر كمؤسسة النفط، لكانوا وجدوا تبريراً لوجودها، لكن بسبب ربحها الصغير، والتساؤلات الدينية حولها، لم يُخلق صراع داخلي ضمن الإدارة الجديدة لتبرير استمرارها كحالة مؤسسات أخرى، وبالتالي، التيارات الأقل تشدداً ضمن الإدارة السورية الجديدة، لم تجد أن ربح هذه المؤسسة يستحق النضال من أجلها، مؤسسة اليانصيب في سوريا دفعت الثمن مرتين، بسبب إشكاليتها الدينية وحجمها الاقتصادي الصغير”.

شارك في إعداد هذا التقرير فراس دالاتي وأحمد إبراهيم.

درج

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى