الإعلان الدستوري لسوريا 2025سقوط بشار الأسد، الرئيس الفار والمخلوعسياسة

الإعلان الدّستوري السّوري: اللّغة في خدمة السّلطة!/ محمّد حلّاق الجرف

 10 أبريل 2025

سنحاول في هذه المقالة مقاربة الإعلان الدّستوري السوريّ مقاربةً تعتمد التحليل السوسيو ــ لساني، من زاوية الألسنية القانونية/ Jurilinguistique La، والتي تُعنى بدراسة القانون لا بوصفه مجموع قواعد ملزمة فقط، بل بوصفه نظام علاماتٍ يتألف من مفردات وملفوظات، وفق ما كان يقترحه الفرنسي جيرار كورنو/ Gérard Cornu (1927 ــ 2007) من ملاحظة تأثير اللّغة في إنشاء القوانين. وقد أثار الإعلان الدّستوري السّوري جدلًا كبيرًا بين السّوريين والسّوريات منذ لحظة إشهاره في الثالث عشر من آذار/ مارس، ومردّ هذا الجدل يعود إلى الشّكل الذي جاء به الإعلان، وإلى بنيته، ولغته.

فمن ناحية الشّكل، تكوّن من 53 مادةً توزّعت على مقدمةٍ وأربعة أبواب، وهو بهذا كان أقرب إلى الدّستور المؤقّت منه إلى الإعلان الدّستوري، وهذا ما خلق بعض الهواجس لدى كثير من السّوريين. ومع طول الفترة الانتقالية التي حدّدها المشرّع والممتدّة إلى خمس سنوات، فإنّ السوريين يخشون أنْ يتحوّل الإعلان إلى دستورٍ دائم، خصوصًا وأنّ عددًا من تجارب البلدان التّي مرّت بمرحلة انتقالية تُرجّح هذا الاحتمال.

يبدأ الإعلان الدّستوري بمقدمةٍ طويلة نسبيًا، وهي بمثابة التوطئة، أو الدّيباجة، صيغت بلغة إنشائية غلبت عليها الشّحنة الأيديولوجية، وكانت مفعمةً بالآمال على حساب لغة القانون، وهي قد بُنيت على محاور عدّة، أكّدت مشروعية الإعلان الدّستوري في سعيه لإعادة الاعتبار للنّصوص القانونية والدّستورية التي أفرغها النّظام البائد من مضمونها. ووفقًا للمشرّع، فإنّ هذا الإعلان يكتسب مشروعيته من مرجعتين أساسيتين هما: مؤتمر النّصر الذي توّج أحمد الشّرع رئيسًا للجمهورية، ومؤتمر الحوار الوطني الذي عُقد على عجل وأُعلن في نهايته عن ضرورة البدء بالعدالة الانتقالية وتحقيق السّلم الأهلي، وتتسم هاتان المرجعيتان بأنّهما كرّستا السّلطة القائمة بقيادة السّيد الشّرع وفقًا لمبدأ الشّرعية الثّورية.

عُني محور المقدّمة الثّاني بتعداد تضحيات السّوريين وإصرارهم على الصّمود والمقاومة خلال سنوات الثّورة، وصولًا إلى “فجر اليوم المشهود” الذي “تنفّس صبْح النّصر”، بحسب تعبير المشرّع في المقدّمة. من دون أنْ تُغفل هذه التوطئة في محورها الثّالث الأُسس القيمية التي قام الإعلان الدّستوري على إبرازها بحرصٍ بالغ، وأهمها الحرص على وحدة البلاد وسلامتها أرضًا وشعبًا، وتحقيق العدالة الانتقالية، وبناء دولة المواطنة والكرامة والحرية وسيادة القانون، وتنظيم شؤون البلاد في المرحلة الانتقالية وفق مبادئ الحكم الرّشيد، لكنّه عاد ليربط هذه القيم بأساسٍ متين هو “مؤتمر النّصر” في التاسع والعشرين من يناير/ كانون الثّاني 2025، أي عاد ليربط هذه القيم بسلطة الأمر الواقع التي أعلنت انتصارها. والغريب هنا الخطأ الذي وقعت فيه صياغة المقدّمة، إذْ قالت بأنّ إعلان انتصار الثورة قد تمّ في التّاسع والعشرين من ديسمبر/ كانون الأوّل 2025! وهذا الخطأ، إضافةً إلى أخطاء وتناقضاتٍ أخرى حفل بها نصّ الإعلان، إنّما تعكس مقدار التّوتر والضغوط التي عاشتها لجنة الصّياغة. وفي رأينا، فإنّ همّ المشرّع الأوّل كان جمع كلّ هذه المحاور وتوجيهها باتجاه المحور الأهمّ في المقدّمة، وهو بناء نظامٍ رئاسيّ فُصّل تفصيلًا على مقاس السّيد أحمد الشّرع، من دون أي ربط بمدنية الدّولة وديمقراطيتها، وهاتان الكلمتان، المدنية والدّيمقراطية، غابتا عن الإعلان الدّستوري، كما غابتا عن أي خطابٍ رسميٍّ سوري حتّى الآن. وفي نهاية المقدّمة، فإنّ رئيس الجمهورية يُصدر الإعلان الدّستوري، فنشأ لدينا نصٌّ رسميّ له نفاذ قانوني في الواقع، ومنسوب إلى شخصٍ أصدره، وتبعًا لذلك فإنّه وحده من يتحمّل مسؤولية الصياغة.

في باب الأحكام العامّة، جاء في المادّة الثّالثة أنّ “الفقه الإسلامي هو المصدر الرّئيس للتّشريع”، وهذا أثار مخاوف كثيرة لدى السّوريين والسّوريات، أولًا بسبب إدخال “أل التعريف”، ممّا أعطى الفقه الإسلامي سموًّا على باقي مصادر التّشريع، وأيضًا بسبب أنّ مدارس الفقه الإسلامي تتراوح بين التّشدّد والاعتدال، ولكنّ السبب الأهم في رأينا هو أنّ هذا الإعلان اعتُمد في سياقٍ زمني كانت فيه المجازر والانتهاكات التي شهدها السّاحل السّوري ما زالت حارّة حاضرة، وهي جرائم ارتدت لبوسًا طائفيًا من دون محاسبةٍ جدّية من السّلطة التي جاء هذا الإعلان الدّستوري ليشرعنها، لذا فإنّ استعمال المصطلحات ذات المعنى الدّيني زاد من هذه المخاوف، وكان الأفضل في رأينا أن يتمّ تأجيل الإعلان ومحاسبة مرتكبي الانتهاكات محاسبة جدّية قبل الإعلان الدّستوري، وذلك بغية شدّ زمن كتابة النّص إلى معنى السّلم الأهلي والمحاسبة الشّاملة عوضًا عن معاني التّطرف وخطاب الكراهية.

اللغة القانونية هي في المقام الأوّل أداة توصيل لا أداة تواصل، ذلك أنّ وظيفة القانون تقوم على ضبط السّلوك وفق معايير واضحة. ولأنّنا نفترض أنّ المشرّع لا ينطق عن عبث فلا يجب أنْ نغفل عن الآليات التي استعملها في صياغة نصّه القانوني. وأهمها من وجهة نظرنا هي آلية “التبئير”، والتبئير هو ظاهرة لغوية تعني التقديم والتأخير للوصول إلى المعنى الأهم والأدق. وعلى هذا، فإنّ اختيار كلّ لفظٍ في أيّ مستوى من مستويات اللّغة من المفترض أنّه ناتجٌ عن اختيار واعٍ ومقصود، وإلّا أصبح القول عبثًا. كما أنّ كلّ تغييرٍ في اللّفظ سيُنتج تغييرًا في المعنى، وذلك بحكم العلاقات السّياقية بين الوحدات اللّغوية داخل النص، والتي تجعل أهمية ومعنى اللّفظ يتغيّران جزئيًا، أو كليًّا، بتغيّر موقعه من النّص. اعتمادًا على هذه القواعد اللّغوية، فإنّنا لا يمكن أن ننظر ببراءة إلى غياب الدّيمقراطية عن الإعلان الدّستوري، والقول إنّها مضمنّة في المادة 12، التي نصّت على اعتبار المعاهدات الدّولية جزءًا لا يتجزأ من الإعلان الدّستوري لا يعني الكثير، ذلك أنّ المادة 12 جاءت متأخرة في ترتيبها النّصّي، ممّا لا يجعلها مرجعية يعتمد عليها النصّ الدّستوري، فمن المعروف في لغة القانون بأنّ المرجعيات تكتسب أهميتها وفاعليتها بحسب تراتبيتها.

في الإعلان الدّستوري السّوري، وعبر 53 مادّة، لم تلتزم الدولة سوى أربع مرّات تجاه مواطنيها، ليس بينها أي التزام في باب الحريات والحقوق ما عدا الالتزام بحماية الأسرة. بينما تعاطت الدّولة، وحسب النّص، مع باقي الحرّيات والحقوق، بما فيها التّنوع الثقافي، من باب العمل على، أو السّعي إلى، أو المصونة والكفالة والضمان. ومرّة أخرى، وُضعت اللّغة في خدمة الحاكم، وصيغ النّص ليعطيه الأريحية في التّعامل مع القضايا المختلفة، بينما كانت غاية القانون هي ضبط السّلوك وتحديده. وقد تبدو لنا هذه مصطلحات مثل: “تعمل الدّولة على”، أو “تسعى الدولة إلى”، أو “تكفل الدولة”، أو “تضمن الدّولة”، أو “تلتزم الدّولة”، وكأنّها مترادفات. لكنّ المشّرع استخدمها ضمن سياقٍ جعل الاختلاف بينها كبيرًا، وهذا بابٌ اعتنت به الألسنية القانونية كثيرًا، فمثلًا: استخدام صيغة “تكفل” يعني أنّ الدّولة ستعمل على تهيئة المناخ والإطار من دون وعدٍ فعليّ، فيما “التزام الدّولة” يُحمّلها المسؤولية، وهي أقوى الصيغ بالطبع.

يحفل الإعلان الدّستوري بعديد الأخطاء والتناقضات: كتأريخ يوم النّصر بـ29 ديسمبر/ كانون الأول القادم (كما ذكرنا سابقًا) والخطأ النحوي “ثلاثة نجمات!” والخطأ الهندسي في حساب طول وعرض العلم! كما أنّ هنالك تناقضًا بين المادة 25 التي أجازت لمجلس الشّعب فصل عضوٍ من أعضائه بأغلبية الثّلثين، والمادة 29 التي أعطت مجلس الشّعب صلاحية صياغة نظامه الدّاخلي، أيْ أنّ قرار الفصل يجب أن يُترك لمجلس الشّعب. كما أنّ النصّ الدّستوري، وعلى عكس الإحاطة التي قدمّها رئيس لجنة الصياغة السّيد عبد الحميد العوّاك، لم يُحدّد شكل النّظام السياسي بنظامٍ رئاسيّ، فلم يذكر الإعلان نوع نظام الحكم الذي سيحكم سورية خلال المرحلة الانتقالية.

هذا الاستعجال، والتناقض، وهذه الأخطاء، تعكس في رأينا توترًا وضغطًا شديدين كانت تُعاني منهما لجنة الصياغة، ممّا جعل عملها يعاني من هفوات، بعضها نظنّه مقصودًا.

ختامًا، لا يتأتى لنا أن ننظم كلامًا من غير روية وفكر على رأي عبد القاهر الجرجاني، والذي تقوم نظريته في النّظم على أنّ أيّ تغيير في العلاقات النّحوية (من تقديم أو تأخير) يستدعي بالضّرورة تغييرًا دلاليًا. لذا فإنّ المشرّع من وجهة نظرنا منزّهٌ عن العبث، بمعنى أنّ كلّ كلمة، وكلّ زلّة أيضًا، لها معناها وضروراتها، والألسنية كمنهجٍ، كفيلةٌ بالكشفِ عن تلاعب السّلطة باللّغة، وعن تسخير هذه اللّغة لخدمة هيمنتها، وربّما طغيانها!

ضفة ثالثة

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى