الحزب السياسي وأزمة الذاتية المعاصرة/ ياسين الحاج صالح

الطوعية، الشاشة، والعالم الآخَر
10-04-2025
تعذّر في سورية خلال نحو 14 عاماً بعد الثورة بناء أحزاب سياسية جديدة حتى في المنافي بعيداً عن أذرع الحكم الأسدي الباطشة. هذا بينما كان الوضع السوري داعياً للتنظيم السياسي والبرامج السياسية والتحالفات السياسية بالأحرى. لقد جرى الإعلان عن العديد من الأحزاب في السنوات الماضية، لكن لا يظهر أن أياً منها استطاع تطوير حياة داخلية تضمن استمراره النشط. ويبدو معقولاً أن نتصور أن الانفصال عن أرض ومجتمع وحياة مادية في المنفى هو من بين ما يحد من فرص ظهور أحزاب سياسية، رغم انعدام المخاطر الأمنية. إلا أن هذه المناقشة تحاول اقتراح عنصر شارح غير مقتصر على سورية، بالنظر إلى ما يبدو من أن الحزب السياسي في تعثر في كل مكان من العالم.
ويتمثل هذا العنصر الشارح في نظام معاصر للذاتية تبدو الطوعية فيه قوة متنحية، هذا بينما الأحزاب السياسي هي إرادات جمعية، توظف في طوعية الأفراد التي تدفعهم لفعل الكثير ليس دون عائد متوقع فقط، بل ومع مخاطر محتملة على الحرية، والحياة ذاتها. الطوعية هي الوجه الاجتماعي للإرادة، المتجه نحو التعاون مع الغير، دون توقع مكافأة على ذلك. وخلاف الطاعة التي هي خضوع لإلزام خارجي، وخلاف التطوع العارض لخدمة عامة، الطوعية خاصية الفرد الحر، استعداده المديد لأن يتخلى عن قدر من حريته من أجل مشروع عام. وبفعل الطوعية لا يكون الواحد منا عضواً في حزب إلا بقدر ما يصير الحزب عضواً فيه. فكأن الحزبية تَطبُّع أو استعداد شبه جسدي، ضرب من الهابيتوس الذي تكلم عليه بيير بورديو. يصير الحزب رابطة عضوية لأعضائه، أشبه بطبيعة ثانية لهم، عبر رعاية وتوطيد هذا التطبّع. وكلما كانت هذه الرابطة العضوية أقوى جنحت خصومات الأحزاب لأن تكون شديدة، «عضوية» هي ذاتها. ما ضمر في العقود الأخيرة هو الحزبية، مفهومة كعضوية للواحد منا في حزب، وكذلك كعضو حزبي يكاد يكون جسدياً في تكويننا. وإنما بأثر هذا الضمور تنكمش الأحزاب القديمة ولا تتماسك الأحزاب الجديدة. في هذا الشأن للمنظمات الدينية أفضلية باقية عبر كون الدين عضواً في كيان المؤمنين، مغروساً في أجسادهم.
والطوعية خاصية بين – ذاتية، مثل السياسة ذاتها التي لا توجد إلا بين الذاتيات بحسب رأي حنة آرنت المحكم. معلوم أن آرنت ترفض اشتقاق السياسة من صفة سياسية أصلية للإنسان، مركوزة في كونه «حيواناً سياسياً»، وترى أن السياسة لا توجد إلا حيث يوجد اثنان من البشر أو أكثر. هذا النازع السياسي، نازع الطوعية، متآكل اليوم، والأفراد الذين لا يستغرقهم تدبير العيش مُفرّدون جداً، يجدون فرص تعبير متسعة عن النفس في وسائل التواصل الاجتماعي والإعلام الجديد، بما يؤمن لهم درجات من الإشباع المباشر، دون التضحية بأي قدر من الحرية. ما تجري التضحية به بالأحرى هو الاجتماع، اللقاء المباشر بين شركاء وتنسيق الجهود وتبادل الدعم، وربما التنظيم و«التآمر» والممارسة السياسية.
في تجربة جيلي، كان «الاجتماع» هو الكلمة التي تطلق على لقاء بعض أعضاء حزب للقيام بمهام مقررة أو يقررونها، وهو يحدث مرة كل أسبوع، أكثر أو أقل، بحسب الظروف السياسية والأمنية، ويستغرق ما لا يقل عن ساعة. و«المؤتمر» هو اجتماع المندوبين المنتخبين من هيئات الحزب وخلاياه، وهو يحدث مرة في العام أو العامين أو الثلاثة أو الخمسة، وهو يستغرق يومين أو أياماً، لكن قد يتعذر انعقاده لسنوات طويلة، بحسب الظروف السياسية والأمنية كذلك. والاجتماع والمؤتمر هما مواقع للتنظيم، وهذا مدرك أساسي في دراسة الحزب السياسي. التنظيم هو النشاط الذي ينتج شيئاً كبيراً من أفراد متناثرين بفعل تنشيط طوعيتهم، وهو حصيلة هذا النشاط كذلك
مع أزمة الحزب السياسي دخل المثقف العام في أزمة هو الآخر. الحزب والمثقف وجهان للاجتماعي التاريخي، حين تعني كلمة اجتماعي مجتمع طبقات وشرائح وفئات، يعمل الفاعلون العامّون من أجل تحقيق مصالحها في مناخ سياسي وقانوني من حرية نسبية، وربما يتطلع بعضهم إلى عقلنة أكبر. أما التاريخي فكان يعني مجال الوعد العام، ما يتجاوز الراهن نحو الآتي، الواعد. وهذا هو التقدم. ينشغل المثقفون الأكثر جدية اليوم بـ«إنتاج المعرفة» أكثر، وبالتأثير على الرأي العام أقل. وفي بلدان الغرب يحل الأكاديمي والباحث المختص محل المثقف، حتى أن الكلمة الأخيرة صارت تحيل إلى البلدان المتعثرة، وصار المثقف العام يثير ما يتراوح بين بعض الحنين وبعض السخرية. وما ينتجه المثقف الأكاديمي والباحث المختص هو معرفة نظامية، متكيفة مع الأوضاع القائمة، أو ناقدة لها، لكنها مستوعَبة مؤسسياً، وفي الغالب سياسياً. وإلى جانب الحزب السياسي والمثقف، دخل «المجتمع» في أزمة، ومعه التاريخ. المجتمع اليوم مجتمع هويات ومهاجرين وأديان وضواحٍ غير منظمة، خارجة أو تكاد عن سلطة الدولة، والتاريخ لم يعد وعداً وتقدماً. لعله لا يتحرك، مجرد تباديل بين عناصر وبنى تختلف من عصر لعصر دون أن يكون ممكناً تفضيل بعضها على بعض.
ليس هذا حالنا تماماً. حالنا أسوأ. فنحن نجمع بين أزمة مجتمعات «متخلفة»، محدودة النمو الاقتصادي، قمعية سياسياً واجتماعياً، سادها لعقود طويلة طغيان سياسي مميت، عرض ملامح إبادية وفاشية بعد فشل الثورات العربية، التي كانت انفجارات اجتماعية بكل ما تدل عليه كلمة انفجار من ضعف في فعل القوى المنظمة والفاعلية السياسية للأفراد والمنظمات والجموع؛ ثم مع غياب النموذج المحفز بعد أزمة مفهوم التقدم ومثال المجتمع. سياسات الهوية الراسخة لدينا أصلاً ترسخت أكثر بفعل التعمُّم العالمي لهذه السياسات بدءاً من تسعينات القرن الماضي، ولكن انطلاقاً من أوضاع لم يسبق أن عرفت حياة اجتماعية وسياسية أكثر تحرراً.
لم يكن «المجتمع» والتاريخ، والحزب، والمثقف، كلمات وصفية تحيل إلى أوضاع وعلاقات وعمليات واقعية فقط، وإنما هي كلمات معيارية تدل على مُثل وواجبات كذلك. لقد كانت مزيجاً من الواقع والخيال، يبث في النفس شعوراً بالتفاؤل. كان المثال يبدو واقعياً، ممكن التحقق، والواقع يبدو مطواعاً، قابلاً للتشكّل وفق المثال، وهناك عاملون طوعيون يتوسطون بين الواقع والمثال. لم تكن الأمور وردية، وكان ثمة صراعات وأزمات حادة، لكن النموذج بقي حياً حتى ثمانينات القرن العشرين تقريباً. تفككه بعدها أدخلت الخيال السياسي في أزمة كما يقول كثيرون. كلمة الأزمة أساسية اليوم في تصور التاريخ والمجتمع، وهي اليوم أزمة مزمنة أو شكل وجود دائم، ولكنه وجود خطر، يبدو في كل مكان على حافة حرب أهلية.
* * * * *
بين أبعاد الذاتية الثلاثة التي ذكرت للتو، الإرادة والطوعية المتصلة بها، ثم المعرفة، فالخيال، يبدو البعد الأول المتوافق مع ما هو جمعي وبين ـ ذاتي ضامراً، ومعه الخيال الذي يشد إلى تصور أوضاع مختلفة، فهل يكون إنتاج المعرفة في وضع أفضل؟ نحن مغمورون بمعارف تبدو متوافقة مع بقاء الأحوال كما هي لا مع تغيّرها، وتتحسن وسائل إنتاج هذه المعارف بعد دخول الانترنت قبل ربع قرن أو أزيد قليلاً، ثم الذكاء الاصطناعي قبل قليل. لكن يمكن أن نصف ذلك بالمعرفة النظامية، المتوافقة مع دوام النظام لا مع تغييره، فما بالك بالثورة عليه. هناك خروجات فردية على المعرفة النظامية، لكنها تبدو محدودة التأثير، تعبر أكثر عن نزاهة أصحابها مما تحوز طاقة تغييرية.
تبدو الثورات في مجال تكنولوجيا المعرفة متوافقة مع اللاثورات في المجال الاجتماعي والسياسي، خلافا للتحليل الماركسي عن التناقض بين قوى الإنتاج وعلاقاته كشرط بنيوي للثورة. بالعكس، يبدو أن ثورات التكنولوجيا تتوافق مع استقرار علاقات الإنتاج لمصلحة نخب ثروة وسلطة عليا، تعيش حياة ملوكية سيدة. أما الشرط السياسي للثورة بحسب التحليل الماركسي نفسه فكان يحيل على الصراع الطبقي وشروطه، ودور تنظيم الطبقة العاملة فيه. وهو في تدهور اليوم لمصلحة صراعات الهويات، وليس من محصلات تحررية لهذه الصراعات أياً يكن الفائزون في جولاتها.
ويتصل بثورات تكنولوجيا المعرفة دور مواقع التواصل الاجتماعي الذي يبدو مضاداً للسياسة، لمساحات الطوعية والبين ـ ذاتية والفعل السياسي. وهي من وجه آخر أقرب إلى تعميم الشفاهة وعلاقاتها («الأفكار الصغيرة»، التقلب، العنف النفسي، الميل إلى الشجار…)، منها إلى الكتابة وعلاقاتها (القراءة، النقاش، الانضباط، الدوام أو الثبات النسبي عبر الزمن…)، هذا بينما ارتبط الحزب السياسي بالكتابة والكِتاب بصورة جوهرية.
هذا وضع أزمة عامة، أزمة معرفة وخيال وإرادة. تبقى الذاكرة، وهي تعمل لمصلحة ماضويين متنوعين. لكن الذاكرة هنا مردودة إلى مستودع لصور محنطة من الماضي، وليست قوة حياة وربط بين تجارب الأشخاص والجماعات في الزمان على نحو يعزز ذاتيتهم.
* * * * *
قد يمكن تمثيل ضمور الطوعية بمشهد مألوف اليوم في وسائل النقل العامة أو حتى في الشارع: معظم من تقع عليهم العين منشغلون بهواتفهم المحمولة التي حملت معها تغيراً هائلاً في «اقتصاد الانتباه»، وفي نوعية التعامل مع الأوقات الانتقالية مثل السفر أو الانتظار. شبه بيونغ تشول هان الهواتف المحمولة بالسُّبحات يحملها مؤمنون يملؤون وقتها معها بذكر الله، ويكون الـ«لايك» بمثابة كلمة آمين. لكن ربما تكون شاشة المحمول بمثابة سجن نحمله معنا حيثما نكون، نتخلي له عن حريتنا ونسلمه زمام أمرنا. وهو بعد ذلك زنزانة انفرادية بالنظر إلى أنه كذلك يعزلنا عن غيرنا ويُفرِّدنا تفريداً مفرطاً. أو قد نقول إن شاشاتنا هي في آن زنازيننا ونوافذنا التي نطل منها على العالم الواسع حولها. وعلى كل حال هذا من بين ما لا يترك لأكثرنا فائضاً من الوقت للقاء الغير وفعل الطوعية، وبالكاد القليل لأفعال تطوعية تعطي شعوراً طيباً عابراً. الاجتماع يحتضر، بأثر عوامل فوق فردية: الهجرة وسياسات الهوية، وتحت فردية: ثورة المعلومات و«التواصل» الاجتماعي المزعوم (الحزب هو بالضبط تواصل واجتماع، لكن مع بعد تاريخي تغييري متأصل في تكوينها، وقد يمكن التفكير في وسائل التواصل الاجتماعي بالتالي كصيغ تواصلية اجتماعية في مجتمع عالمي مذرّر، يعاني من أزمة تغير مزمنة). وإذ تأسر الشاشات انتباهنا كل هذا الأسر فإنها لا تسمح بأن نملّ و«نصفن»، وربما نكسر منوالنا المألوف ونبحث عن تجارب جديدة أو نتخيل عوالم مغايرة. وهذا بدوره جزء من شيء أوسع. منه الطور الحالي من رأسمالية استهلاك وترفيه تبقي المرء في عطش دائم إلى المزيد كمن يشرب ماء البحر (هذه الرأسمالية هي وحدها التي تبدو في ازدهار في عوالم الشرائح العليا من الطبقات الوسطى في المجال العربي)، ومنها تسارع إيقاعات الحياة حولنا، حتى ليبدو شيئاً وقع قبل عامين أو ثلاثة، مثل وباء كوفيد، قديماً سحيق القدم. ومنها بطبيعة الحال المصير السيء لمنظمات وإيديولوجيات الإرادة، وبخاصة قبل عقود قليلة خلت الأحزاب الشيوعية التي حولت نموذج المجتمع- التاريخ- الحزب- المثقف إلى عقيدة سياسية جامدة، لكنها كانت مصدر ديناميكية وتجدد في النموذج الديمقراطي الليبرالي القائم بدوره على تلك الرباعية، حتى إذا انهارت الشيوعية أخذ النموذج الغربي هو كذلك بالتداعي (وإن تحت غمام انتصاري كثيف).
ولم تقتصر التبعات الفكرية لتداعي الشيوعية التي جمعت منظماتها بين أبعاد الذاتية المذكورة فوق، المعرفة والإرادة والخيال، على انفراط عقد هذه الأبعاد، ودخول المثال الاشتراكي في أزمة خيال وإرادة، ثم تفريد المعرفة الاشتراكية إن جاز التعبير، أي انتقالها من نصاب التغيير والثورة إلى نصاب تحليل الواقع والدفاع عن شرعيتها الذاتية (شرعي المعرفة)، بل كان من آثاره كذلك حساسية مريضة حيال مبدأ اليوتوبيا إلى اليوم، وهذا حتى بعد أن صرنا نعيش الدستوبيا في كل مكان تقريباً، وإن بصور مختلفة. المنظمات الدينية لا تعاني من المشكلة بالقدر نفسه، لكنها تبدو جزءاً من الدستوبيا العامة، لا في المجال الإسلامي وحده، بل وبين اليهود كذلك في إسرائيل والغرب، وبين المسيحيين، وكذلك الهندوس والبوذيين.
والواقع أن ما يقوم على الدين التوحيدي هو اليوم طائفة أو جماعة اعتقادية، وليس حزباً سياسياً هو بالتعريف حزب بين أحزاب. لقد قام الحزب السياسي على حلول التاريخ محل الله، التاريخ مفهوما كخطة للتغيّر والعقلنة، للتقدم، ولفاعلية العمل السياسي من أجل تحقيق التقدم. منذ عقود يعاني مفهوم التقدم من أزمة، ويبدو أننا بعد السماء والله، ثم بعد التاريخ والتقدم، نتحول نحو العالم الافتراضي والزنزانة المحمولة (الموبايل). العالم الآخر لم يعد فوقنا في السماء، ولم يعد أمامنا في مجتمع الرفاه أو في الشيوعية العليا، صار في جيوبنا. أو صرنا في جيوبه. فالواقع أن الهاتف المحمول هو الروح، الشيء الذي نتكرس له أكثر من غيره، والذي هو كذلك مستودع شخصية الواحد منا وخصوصيته. ويبدو أن هذا التحول الكبير يضع الأحزاب السياسية القائمة في أزمة، وهذا حتى في بلدان ترسّخ الحزب فيها كمؤسسة سياسية تاريخية، ومن باب أولى في بلداننا. ما يواجه الحزب اليوم ليس القمع، بل تغير «العالم الآخر» الذي يبرر وجوده ويحيل نشاطه إليه. عبر شاشاتنا، نحن في هذا العالم الآخر طوال الوقت.
وقد يكون مهماً للنظر الباحث في تغيرات الانتباه وأنماط اقتصاده التاريخية التمييز بين مرحلة سماوية ومرحلة تاريخية ومرحلة شاشيّة إن جاز التعبير، وبين ثلاثة أنماط للارتباط، نمط ديني لاهوتي ونمط تاريخي تقدمي ونمط ديجيتالي أو مرقمن. الحزب السياسي ارتبط بالنمط الثاني، ولا يجد نفسه في النمط الديني ولا في النمط الديجيتالي.
* * * * *
يمكن أن يفهم هذا التحليل كركون إلى حتمية تكنولوجية، تستنتج فناء الحزب السياسي من تغيرات تكنولوجية، سوى أن الأمر يتعلق بمجال الاتصال، والحزب السياسي منظمة اجتماع واتصال مثلما قلنا للتو. ما نفع الحزب إن كنا في اتصال مستمر، وإن كان يمكن أن نجتمع عن بعد. هذا فوق أن تكنولوجيات الاتصال الجديدة تُدْخل تغييراً جذرياً على علاقتنا بالزمن باتجاه الفورية، وتوطِّن شكاً عميقاً في النفوس بخصوص المستقبل والاستثمار فيه، مما كان أساسياً في حدسنا للحزب السياسي، ومبثوثاً في فكرة المجتمع ذاتها وفي التاريخ كتقدم، وفي تصور المثقف، كما في تصور الدولة كقاطرة عقلنة وتقدم.
ثم إننا حيال تكنولوجيا روحية وسياسية، صانعة للروح البشرية، للذاتيات وما بين الذاتيات، ما يخرجها من خانة التطور التكنولوجي الذي عرفناه حتى عقود قليلة خلت.
هل يوفر هذا العالم ما بعد الحديث فرصاً، مثلما هو يقوض عالم الحداثة ويدخله في أزمة تبدو بلا مخارج؟ يبدو أن مواليد هذا القرن مثلاً يجدون في تكنولوجيات الاتصال وثورة المعلومات بعامة أرضيات احتجاج وإطلاق حملات في الشارع وفي الفضاءات الافتراضية تعترض على شؤون متنوعة: البيئة، العنصرية، التمييز الجندري، التضامن مع قضايا سياسية متنوعة، حقوق المثليين إلخ. فهل في هذا ما يغير مكان السياسة من الحزب السياسي إلى هذه الأشكال خفيفة الحركة من الأنشطة الاحتجاجية، وهذا بموازاة دخول وسائل الإعلام التقليدية في أزمة مقابل صعود وسائل التواصل الاجتماعي واليوتيوب وما إلى ذلك؟ ربما. لكن يبدو أن ما تعززه هذه الوسائل ذاتها من انعزال وتقطع روابط، ومن تشتت انتباه وفقدان الوجهة، ومن فورية ولا استدامة، لا يزال أقوى مما توفره هذه الاتجاهات الجديدة من فرص.
* * * * *
ليس هناك ما يسوغ الاعتقاد بأن الإرادة والطوعية صارت شيئاً من الماضي، ولا يبعد أن تعاود الظهور ضمن بنيات جديدة لا نستطيع التنبؤ بها. وفي واقع الأمر تبدو الطوعية أقوى حضوراً اليوم في دوائر اليمين الشعبوي والديني، بمن فيهم الإسلاميون لدينا، الدوائر التي تظهر قادرة أكثر من غيرها على التنظيم والتخطيط والتآمر، مما هي خصائص الفاعل العام المنظم. ودلالة ذلك قد لا تقتصر على الأثر المستمر لهزيمة الشيوعية على الأحزاب اليسارية، بل تتعداها إلى تمكن الرأسمالية، متحالفة مع ثورات التكنولوجيا، من صنع مثال مهيمن للطبيعة الإنسانية، يضفي بدوره على الرأسمالية صفة طبيعية. صنع البشر هو نجاح الرأسمالية وهو جذر فشل الشيوعية، رغم أن هذه الأخيرة هي التي تطلعت إلى صنع إنسانية جديدة متحررة. وهي، الرأسمالية، تصنعهم مستهلكين مستمتعين، مطيعين بقدر يفوق طاعة المؤمنين لله، ويتجاوز ما ناله «أبو الشعوب» ستالين من ولاء. وإن كان يحدث أن يتمرد بعض المخلوقات على خالقيهم، فإن الرأسمالية أكثر من كل الخالقين تجد في ذلك فرصة إضافية لتوسعها، تضفي عليها طابع مثيراً، «سكسياً». توضع صورة غيفارا على قمصان تباع مثلاً، أو صورة ماركس يروج لبضاعة ما. كان ماركس يقول إن الإنسان يصنع الأشياء وفق مقاييس الجمال. الرأسمالية، وخاصة الرأسمالية الديجيتالية، تصنع الأشياء وفق مقياس الإثارة التي تترك المرء في حالة متابعة دائمة، مسلوب الإرادة، كأنما هو مُسَرنَم.
هذا شرط ثقيل تتعذر معه أي «قفزة كبرى إلى الأمام» أو حتى صغرى. وهو يدعو إلى أن نضطلع بحيْرتنا جدياً ونقيم فيها إلى حين نجد مخرجاً. قد يبدو هذا مسلكاً انتظارياً سلبياً. ليس كذلك تماماً، إنه بالأحرى موقف متوتر، الأساس فيه فقد القدرة على الاختيار. المشكلة هي العجز، ونحن محتارون لأننا عاجزون، ولسنا عاجزين لأن الحيرة تشلنا. المشكلة تكمن في أزمة علاقات الإرادة وليست في علاقات المعرفة وحدها. لكننا نملك على الأقل إرادة التحيّر، القبول بحيرتنا والبحث خلال ذلك عن نقطة الكسر للتخفف من أثقالنا. الحرية والحيرة لا تنفصلان، واليقين ليس حليفاً لفكر التحرر، بل لفكر الإكراه. اشتراكية القرن العشرين خسرت مساهمة الفكر الحر والخيال الحر بالتحول إلى عقيدة يقين «علمية».
وقد يكون شحذ طاقاتنا الخيالية غير ممتنع بالنظر إلى ما يبدو من شعور عام بالأزمة على هذا المستوى وضغط متزايد باتجاه تصور عوالم جديدة. سنكون في وضع أفضل من أجل الفعل الطوعي المغير للواقع حين يأتي أوانه إذا انشغلنا اليوم بما نستطيع. يحدس المرء أن أوضاع اليوم، وهي أوضاع أزمة دون شك، توشك على الدعوة إلى الفعل، إلى أخذ المبادرة من المتحكمين بالدول والأديان والأموال والتكنولوجيا معاً.
موقع الجمهورية