بعد أربعة أشهر… سوريا من هنا إلى أين؟/ ياسين الحاج صالح

تحديث 10 نيسان 2025
سقط الحكم الأسدي في سوريا على أيدي ائتلاف من قوى سُنّية مسلحة، في القلب منها «هيئة تحرير الشام» التي تدير الدولة السورية حالياً. هناك شيئان مختلفان هنا: إسقاط النظام الذي حكم 54 عاماً، وخاض حربين أهليتين للبقاء في الحكم؛ ثم الإمساك الخاص بالدولة وإدارتها. النجاح في العملية الأولى لا يضمن بحال النجاح في العملية الثانية، بل إن ظواهر الأمور خلال ما ينوف على أربعة أشهر تقول إن مشكلات إدارة الدولة اليوم متولدة عن افتراض أن الأمرين واحد، وأن «من يحرر يقرر»، وعلى من «يقبل النصر أن يقبل طرائقه»، أي طرائق المنتصرين، على ما أفاد الرئيس الانتقالي أحمد الشرع. فليس للناس أن يسألوا من حرروهم من خاطفيهم إلى أين يأخذونهم، بعبارة أسعد الشيباني وزير الخارجية. ما يجمع بين هذه العبارات الثلاث هو صفتها غير التعاقدية، أو «الثورية» إن شئت بالنظر إلى أنه ليس ثمة ثورات بالتعاقد. وخلافاً لما قال الشرع نفسه بخصوص انتهاء الثورة وبدء الدولة، فإن ما جرى خلال شهور هو استئثار «ثوري» بالدولة دون تشاور جدي مع أحد، ودون حوار وطني جدي (كان ما سمي بالحوار الوطني والمؤتمر الذي أعقبه مهزلة قياساً إلى ما يعيش البلد من أوضاع مأساوية وما يواجه من تحديات مهولة).
هناك تعارض جلي بين مفهوم الدولة التي هي ملكية عامة للمحكومين بوصفهم مواطنين، وبين تكوين الفريق الحاكم اليوم ذي اللون الواحد. وهو ما يذكر في واقع الأمر بالحكم الأسدي الذي تحايل بصور مختلفة لتمويه هذا التعارض، منها «الجبهة الوطنية التقدمية»، ومنها نظام حصص ضمنية في مجلس الشعب والحكومة، ولكن هذا لم يُخفِ يوماً أين كانت ترتكز السلطة الفعلية، أو حقيقة أن الدولة كانت في واقع الأمر مخصخصة، على ما ظهر عياناً بياناً وقت توريث السلطة من الأب إلى الابن عام 2000. هذا للقول إن إشراك وزراء من خلفيات أهلية متنوعة لا يعني بحال مشاركة في السلطة، مثلما يفضل الشرع الاعتقاد. هناك ثلاث مشكلات في «المشاركة» الراهنة المزعومة في الحكومة. أولها إنه ليس مضمونا أن الوزراء غير المنتمين إلى الهيئة أو المقربين منا يحوزون سلطة تقرير حتى في نطاقات عملهم الخاصة: التعليم، التعليم العالي، الإعلام، الشؤون الاجتماعية والعمل إلخ (تفيد بعض المعلومات أن من بعض من اشترطوا الاستقلالية في عملهم بعد أن فوتحوا في شأن الانضمام للحكومة جرى استبعادهم عند تشكيلها)؛ وثانيها أنه لا نفاذ لهم إلى مركز التقرير الفعلي، السياسي الأمني، المحصور بيد «المحررين»، وهم إسلاميون سنيون؛ وثالثها أنه نظر إلى الوزراء بدلالة خلفياتهم الأهلية، على نحو يستبعد نسقياً المشتغلين في الشؤون العامة طوال سنوات وعقود ممن لا يُعرِّفون أنفسهم بدلالة هذه الخلفيات، وهم قطاع متنوع وواسع من السوريين. إلى ذلك فإن وزيراً واحداً من منبت علوي وواحداً من منبت كردي قليل جداً حتى لو قبلنا بالمنطق الكامن وراء هذه التعيينات. من 22 وزيراً، النسبة الديمغرافية لكل من الجماعتين تقتضي وزيرين على الأقل لكل منهما. ومن المثير للغضب وجود وزيرة واحدة، حُسبت فوق ذلك تمثيلاً للمسيحيين. وبعد هذا كله، لا يبدو أن للوزراء من غير الإسلاميين نفوذا فعليا في جماعاتهم الأهلية ذاتها. وهو ما يعني أننا لسنا حتى حيال «سياسة أعيان» أو «وجهاء» مثلما تصور كاتب هذه السطور في تقديرات سابقة، بل سياسة واجهات إن جاز التعبير، من الصنف الذي نعرفه جيداً، والذي جعل من سوريا في الحقبة الأسدية مجتمعاً مفخخاً بالطائفية وعدم الثقة والضغائن.
فإذا كان منطق المحاصصة مرفوضاً بحق، فإن نقيضه ليس مناصب واجهية لا تمس في شيء احتكار السلطة، بل إشراكاً فعلياً في القرار وهياكل السلطة لقطاعات السوريين المتحفظة. ماذا يعني ذلك؟ يعني إشغال مواقع مقررة في الحكم من قبل سوريين أكفاء في مجالاتهم، يعلون من وطنيتهم السورية فوق روابطهم الأهلية. الوطنية هي أرضية المشاركة، وليس المنبت الأهلي. هذا الأخير هو أرضية المحاصصة، أو شكل خفيف وواجهي منها. في البال أسماء قديرة مختلفة المنابت، الاقتصاد والخارجية والدفاع والثقافة والتعليم…، وليس مصادفة أن الأقدر هم بالضبط ممن لا يعرفون أنفسهم تعريفات أهلية.
ربما يقال إن هناك حاجة في هذا الطور المبكر من سوريا ما بعد الأسدية إلى فريق متجانس متفاهم. لماذا؟ ليس هذا بديهياً. الحكم حرفة صعبة، واستسهالها في البدايات يُعّوِّد على الاستسهال، وربما يغري بالحلول السهلة للمشكلات. وأسهل الحلول هو العنف، سحق الخصوم، مثلما ألف الحكم الأسدي أن يفعل. ثم إنه لو صح التقدير الخاص بفريق متجانس، فقد كان يوجب تجزئة السنوات الخمس للمرحلة الانتقالية إلى مراحل فرعية، تنتهي أولاها مثلا بعد عام من سقوط النظام، وربما تمتد كل من الثانية والثالثة عامين (أو خمس مراحل فرعية كل منها عام واحد) ويتغير في كل منها تشكيل الحكومة على ضوء التجربة، والنجاحات والتعثرات المحتملة، ومستوى الثقة الوطنية أو «التجانس الوطني» الذي تم بلوغه.
أخطر المشكلات التي توجه سوريا اليوم هي أخطر المشكلات التي واجهتها في الحقبة الأسدية: الطائفية، النفاذ الامتيازي لجماعة أهلية خاصة إلى سلطة الدولة العامة. هذا النفاذ محقق اليوم لمصلحة سُنّيين، بعد أن كان من قبل لمصلحة علويين. مذابح العلويين في الساحل قبل شهر نذر خطر تطال فرص سوريا في البقاء. وقد نكون على مسافة أزمة كبيرة واحدة من انهيار وطني واسع النطاق. ويبدو أن التكوين المتوتر والاستفزازي لقطاعات من «المحررين» كفيل بوضع البلد في حالة انتظار دائمة للأزمة الكبيرة التالية. مع هذا التكوين، قد لا يكون السؤال الصحيح: هل سيقع انفجار اجتماعي وانهيار وطني، بل متى يقع. مذابح العلويين كانت وثيقة الصلة بهذا التكوين العصابي غير المتوافق لا مع منطق الدولة العامة، ولا مع قيام أي سلطة مستقرة، ولو دكتاتورية، ولا مع أدنى حد من الثقة الوطنية.
لقد أهدرت فرص متعددة من أجل قدر أكبر من الجدية في التحول نحو سوريا ما بعد أسدية تستوعب سكانها ولا تستبعدهم، وتُقرِّبهم منها ولا تُغرِّب قطاعات متنوعة منهم من السلطة العمومية. والصحيح اليوم هو إجراء الانعطاف الواجب نحو مشاركة فعلية، لا سياسة واجهات، وتقديم المستقلين الأكفاء لا الموالين الأتباع، فالتاريخ لا يعطي فرصاً بلا نهاية. والوقت لم يفت نهائياً حسب ما يشهد استطلاع لمجلة إيكونومست البريطانية نشر قبل أيام.
تقول المجلة إن «70في المئة من السوريين من جميع أنحاء البلاد ومن مختلف الطوائف العرقية والدينية [عبروا] عن تفاؤلهم بالمستقبل. ويشعر حوالي 80في المئة منهم بحرية أكبر مما كانوا عليه في عهد الأسد. كما أن نسبة مماثلة لديها نظرة إيجابية للشرع. ويقول ثلثهم إن الوضع الأمني قد تحسن رغم الاشتباكات»، في إشارة للعنف الدموي في الساحل بين 6 و10 آذار. وحتى بين العلويين لا تتجاوز نسبة المتشائمين بالمستقبل 40في المئة (ولا ريب أنها مرشحة للنقصان لو خرج تقرير لجنة التحقيق في تلك المجازر بما يكفل العدالة للضحايا ويعاقب المجرمين). تسوق المجلة تقديراتها الإيجابية بحذر وتشرطها بـ«منح الوزراء سلطة حقيقية في مناصبهم»، وتدعو إلى رفع العقوبات الغربية للحد من معاناة السوريين، كما للحيلولة دون تحول سوريا إلى دولة فاشلة.
الانعطاف ضروري، الآن، ولا يجب أن يحول دونه غرور السلطة أو صعوبة الاعتراف بالخطأ. إن ما حدث إلى اليوم يوجه رسالة عدم احترام لأكثرية السوريين. ونحن نعرف أن غرور السلطة وقلة الاحترام هما نهج الحكم الأسدي، النهج الذي دفع وجوده بالذات ثمناً له بعد 54 عاماً أبدية. لكن ربما يلزم استدراك واحد: التكوين المتوتر ذو الألف رأس لقاعدة النظام الجديد، الممتلئة بشعور ذاتي بالحق، هو تكوين عاصف، ولا يمتنع أن يعصف بنفسه وبالبلد خلال زمن قياسي.
كاتب سوري
القدس العربي