الناسسقوط بشار الأسد، الرئيس الفار والمخلوع

حرستا الزيتون: “بالحب بدنا نعمرّها”/ سمر شمة

9 أبريل 2025

كلما دخلت إلى مدينة من المدن الثائرة في ريف دمشق أصاب بالصدمة والفجيعة، فرغم معرفتنا جميعًا بجرائم النظام المخلوع في كل أنحاء سورية إلا أن من يرى ويلمُس بيديه ركام المنازل ومعالم الدمار ليس كمن يتابع عبر الشاشات والصور ووسائل التواصل الاجتماعي وغيرها هذا الخراب المرعب.

البلدات والمدن تحولت إلى مدن للأشباح، وربما لا يستطيع أبرز الشعراء العرب الذين بكوا على أطلال بلادهم وأحبتهم وأهلهم أن يصفوها، لأن الحقيقة والواقع أكبر من كل الكلمات.

حرستا هي على رأس تلك المدن وهي الواقعة شرق دمشق على الجهة الشرقية للطريق الرئيسي المنطلق من العاصمة السورية في اتجاه حمص. أحياء كاملة سُويت بالأرض، والدمار الشامل في كل ركن من أركانها، واللون الأسود يسيطر على بقايا المنازل التي احترقت وقُصفت فوق رؤوس ساكنيها صغارًا وكبارًا، لا توجد خدمات والبنية التحتية مدمرة ورائحة الفقد وملامح الموت تسيطر على المكان بعد اعتقال واستشهاد الآلاف من أهالي حرستا وثوارها.

مدينة منكوبة بكل ما تعنيه الكلمة من معنى، تعرضت حوالي 80 بالمئة من بنيتها التحتية للدمار الكامل ومع ذلك يعود إليها سكانها بعد سقوط النظام يبحثون بين الردم والحفر وتلال من بقايا المنازل عن خبر هنا وأثر هناك، فرحين رغم المآسي والتضحيات الجسام بانتصار الثورة السورية وسقوط المجرمين، يحاولون ترميم ما بقي من منازلهم أو يحاولون بناء خيمة على أطلال حنّوا إليها ولم يبقَ منها إلا الرمال.

أما مشفى حرستا العسكري الذي عرفوه جيدًا والذي شهد تعذيبًا للمعتقلين في أروقته وعنايته المشددة وجرائم قتل بحقهم، فقد توافد السوريون إليه بحثًا عن ذويهم ومعتقليهم بعد العثور على أكثر من 40 جثة تعود لمعتقلين من سجن صيدنايا المسمى بالمسلخ البشري وآثار التعذيب واضحة عليها وأوضح الأطباء بأنها تعود لمعتقلين قُتلوا قبل سقوط النظام بأيام قليلة وكانت هذه الجثث بحالة هُزال شديدة ومكدسة بطريقة غير آدمية وعليها أشرطة لاصقة كُتب عليها بعض الرموز والأرقام والتواريخ من دون أسماء، وهذا المشفى كان قد تعرض للدمار وسُرقت أجهزته عام 2012 ودُمرت البنية الإنسانية والمعمارية والكهربائية والميكانيكية له وقامت اليابان عام 2019 بتقديم منحة لترميمه وتجهيزه عن طريق منظمة الصحة العالمية وبرنامج الأمم المتحدة الإنمائي وتمّ افتتاحه بعد تأهيله نتيجة المعارك في كانون الأول/ ديسمبر 2022.

شاركت مدينة حرستا في الثورة السورية منذ انطلاقتها، وأول الذين خرجوا بها شاركوا بمظاهرة دوما الأولى التي خرجت من الجامع الكبير وصلى المتظاهرون العصر والمغرب والعشاء في ساحة السرايا باعتصامها  وكان من بينهم رجال دين وشباب سلميون من هذه المدينة. ثم بدأت المظاهرات الليلية والنهارية السلمية فيها وترافقت مع مظاهرات ببيلا وقارة ورنكوس وكناكر وداريا ومضايا وغيرها، وهتف المتظاهرون بنصرة الثورة والسوريين وإسقاط النظام، وقامت أجهزة الأمن على الفور بحملة اعتقالات واسعة طاولت المئات من المشاركين ومنهم: أطباء وشيوخ ومدرسون ومهندسون وطلاب جامعات، وتشكلت لجان للتنسيق وتوحيد الجهود وتنظيم الاحتجاجات والعمل الإعلامي الحقوقي والإغاثي والسياسي ولتوثيق انتهاكات النظام وأسماء الشهداء والمعتقلين رجالًا ونساء. وقد قامت الفرقة الرابعة التي كان يقودها ماهر الأسد بتطويق ضاحية حرستا في العام الأول من الثورة وقطعت عنها الماء والكهرباء والاتصالات.

خاضت حرستا معارك عنيفة مع قوات النظام وشبيحته منذ عام 2012 واستُشهد المئات من المدنيين ، ففي شهر تشرين الثاني/ نوفمبر وحده من هذا العام استُشهد أكثر من 225 شهيدًا في أقسى وأشد وأعنف حملة قصف مدفعي وصاروخي وجوي شهدتها المدينة منذ بدايات الثورة.

وبعد سنوات جرت أهم المعارك وهي “معركة حرستا” التي أطلقتها المعارضة المسلحة ضد جيش النظام وحلفائه في هذه المدينة التي كانت قاعدة للمركبات المدرعة للنظام المخلوع، وتُعتبر إحدى آخر المعارك الفعلية والجدية، وجرت على مرحلتين الأولى من 4-25 تشرين الثاني/ نوفمبر 2017 واستمرت 15 يومًا، والثانية من 29  كانون الأول/ ديسمبر 2017 حتى 17 كانون الثاني/ يناير 2018 ، واستمرت عشرين يومًا، حاصرت المعارضة المسلحة خلالها قاعدة المركبات بمشاركة الجيش السوري الحر وعدد من الفصائل العسكرية، بينما شارك فيها من النظام: الحرس الجمهوري – الفرقة المدرعة الرابعة – إدارة المخابرات العامة – قوات المهام الخاصة، واستُشهد فيها مئات المدنيين وتعرض النظام خلالها لخسائر فادحة بالأرواح والمعدات.

وكانت روسيا قد أعلنت عام 2017 أنها وقّعت اتفاقًا لوقف التصعيد في الغوطة الشرقية، واتفاقًا آخر في 16 آب/ أغسطس من العام نفسه مع فيلق الرحمن التابع للجيش الحر، غير أن الأمم المتحدة ومنظمة هيومن رايتس ووتش أعلنتا أن عمليات القصف استُأنفت بعد هذا الاتفاق في الغوطة الشرقية وحرستا.

استخدم النظام السوري وحلفاؤه على مدى سنوات القصف الجوي والمدفعي بالبراميل المتفجرة والقنابل الفراغية والأسلحة المحرمة دوليًا والكيماوي في حرستا وغيرها من مدن الغوطة كما هو معروف، وحاصر هذه المدينة حصارًا خانقًا ومنع عن أهلها الدواء والكهرباء والمياه والاتصالات، وقام بحملات عسكرية وأمنية وحشية لكسر الحصار المفروض على القاعدة العسكرية للمركبات المدرعة من المعارضة المسلحة وخاصة بعد استيلائه على مبنى المطاحن المتاخم للقاعدة.

دارت المعارك الضارية والبحث عن الخصم في حرستا فوق الأرض وتحت الأرض في الأنفاق التي قامت بحفرها المعارضة السورية للتنقل بين مدن الغوطة الشرقية وإيصال الدواء والغذاء للأهالي ونقل الجرحى، والأنفاق التي قام بحفرها جيش النظام وقواته. وكانت أنفاق المعارضة تمتد إلى دوما – عربين – زملكا وإلى دمشق. والمعركة الشهيرة التي دارت في حرستا عام 2017 كان هدفها الانطلاق إلى القابون وجوبر ثم إلى قلب العاصمة دمشق، لكن النظام قابل ذلك كله بقصف وحشي مستخدمًا السلاح الكيماوي أيضًا.

في عام 2018 وبعد اتفاقيات عديدة مع الروس وحصار المدينة وتدميرها أخرجت الباصات الخضر العائدة لنظام الأسد الأهالي والثوار إلى إدلب بأعداد كبيرة والباقي نزح باتجاه دمشق.

الجدير ذكره أن المعارضة السورية في حرستا استطاعت السيطرة مرات عديدة على مواقع النظام هناك وعلى قاعدة المركبات المدرعة، وحاصرت أكثر من مئتي جندي للنظام داخلها ولكنه استطاع بعد القصف الوحشي بطائراته والطائرات الروسية أن يسيطر على الوضع بعد أن وصلت المعارضة المسلحة إلى كراجات العباسيين القريبة من قلب العاصمة السورية.

حاول السكان المحليون العودة إلى مدينتهم بعد توقف القتال ولكن النظام عرقل هذه العودة وحاول ابتزازهم ونهبهم واعتقالهم.

وصفها ياقوت الحموي في كتابه معجم البلدان بأنها: “منطقة كبيرة عامرة وسط بساتين دمشق على طريق حمص. بينها وبين دمشق أكثر من فرسخ. منها شيخنا القاضي عبد الصمد بن محمد بن أبي الفضل الأنصاري الحرستاني. إمام فاضل مدرس على مذهب الشافعي. ولّي القضاء بدمشق في كهولته. ويُنسب إليها من المتقدمين حماد بن مالك بن بسطام بن درهم وأبو مالك الأشجعي الحرستاني”.

اسم حرستا يعني باللغة الآرامية “الأرض الخشنة” وقد يكون هذا التعبير صحيحًا جزئيًا، إذ يغلب على تربتها في المناطق الشمالية الغربية وفرة الحصى والأحجار وبعض الصخور في بساتينها القريبة من سفوح السلسلة الشرقية لجبال القلمون.

وقال بعض المؤرخين إن اسمها القديم كان “حرستا الزيتون” وهو الأصح لوفرة زراعة هذه الشجرة المباركة في البساتين المحيطة بها، ويُعد زيتها من أنقى وأصفى وألذ أنواع الزيت في الدول العربية.

والمعروف أن معظم سكان الحواضر في بلاد الشام كانوا يعتنقون المسيحية قبل ظهور الإسلام ومنها حرستا، ولكن عندما عمّ الإسلام الشام بدأت أعداد المسلمين تزداد تدريجيًا سواء من السكان الأصليين أو من الذين وفدوا مع الفتح الإسلامي وخاصة في العهد الأموي، حيث اتُخذت هذه المدينة مركز استجمام لوفرة رياضها ومياهها.

اشتُهرت بزراعة الأشجار المثمرة مثل المشمش والتين والزيتون، وهي موجودة في منطقة إدارية اسمها منطقة دوما. بُنيت فيها بعض القصور الأموية والمنتزهات مثل: البلاطة – الحدائق. وكان فيها أقدم معصرة زيتون بدمشق وريفها قبل تدميرها بعد انطلاق الثورة السورية. وفيها العديد من الأحياء المعروفة: حي العجمي – البستان – السيل – البيدر – التعلة – مروش التربة – وحي صمصم. وفيها المسجد العمري الذي بُني بأمر من أمير المؤمنين عمر بن الخطاب، ومساجد أخرى دمر النظام أكثر من عشرين مسجدًا منها دمارًا كاملًا.

ورغم هذا الدمار الكبير هناك جهود تطوعية جبارة لإعادة الإعمار والبناء في حرستا بعد هروب الأسد ونظامه. والناس يقولون: “الوضع صعب ومؤلم ولكن المهم أن النظام قد سقط، ونحن أهل حرستا سنعمرها ونبنيها وأطلقنا مبادرة لإعمارها عنوانها: بالحب بدنا نعمرّها”.

مراجع:

– ياقوت الحموي: معجم البلدان.

– بوابة سورية.

ضفة ثالثة

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى