أبحاثالأحداث التي جرت في الساحل السوريسقوط بشار الأسد، الرئيس الفار والمخلوع

سوريا.. الخروج من ثقب الإبرة/ وفاء علوش

2025.04.10

بداية لا بد من تلمس الخطوات بحذر حين تكتب عن أمر حساس في بلاد مثخنة بالجراح مثل بلادنا، فالطريق إلى المكاشفة يكون مليئاً بالألغام التي قد تنفجر بنا، من الضروري أيضاً أن نبين أن فكرة الأقلية والأكثرية بمفهومها المجرد هي مفهوم رياضي بحت، وهو ببساطة مطلقة ذو بعد إحصائي ومن المفترض ألا يشكل معنى بحد ذاته، غير أنه يكتسب بعداً آخر حين نعكسه على الحياة السياسية.

تشير الأكثرية الطائفية في الوطن العربي إلى الجماعة الدينية أو الطائفية التي تشكّل النسبة الأكبر من السكان في دولة معينة، هذه الأكثرية قد تكون مسلمة سنية كما في معظم الدول العربية، أو شيعية كما في العراق والبحرين، أو مسيحية كما هو الحال في بعض مناطق لبنان، وغالبًا ما تلعب الإحصاءات الطائفية دورًا رئيسيًا في تحديد ملامح المشهد السياسي، سواء من حيث طبيعة الحكم أو السياسات العامة.

من نافل القول طبعا إن الاستعمار والاستبداد لعبا على ورقة الطائفية من أجل تفتيت بنية المجتمع وفصم عراه، مما يسهل إخضاعه والسيطرة عليه بخلق عدو واضح أمام شرائح المجتمع بحيث لا يكون النظام السياسي أو الاستعماري هو ذلك العدو، ويظهر بذلك بشكل الملاك الذي يمنع الوضع من التفاقم، وفي حالة مثل سوريا التي خرجت من عصر استبداد ممتد وكانت قبلها أسيرة استعمار وانقلابات سياسية بحيث لم تشهد استقراراً بقدر ما عاشت في سجن لعقود، تبدو أزمة التعامل مع هذا الواقع من أشد الملفات إلحاحاً لكي لا تعكس مخرجات سيئة على الحياة السياسية.

تستخدم في بعض الدول الديمقراطية التوافقية لضمان مشاركة جميع المكونات، كما هو الحال في لبنان والعراق لضمان الحقوق المتساوية، أما في الدول التي تحكم فيها الأكثرية الأقلية فمن الطبيعي احترام حقوق الأقليات، وضمان تمثيلهم العادل في المناصب الحكومية وعدم تهميشهم سياسيًا أو اقتصاديًا.

غير أن التجربة أثبتت أن الحياة السياسية في الدول العربية لم تكن من المثالية لتدرس على أنها نموذج يمكن الاقتداء به، بل ربما كانت نقمة على الشعوب ومغنم للحاكمين فقط، وبالتالي فقد آن الأوان لنخرج من هذه العباءة وننتقل إلى مفاهيم أكثر شمولية للمجتمع ومفاهيم لا يقيّم فيها الإنسان بطائفة ورثها بالولادة وإنما يقيّم بحسب موقفه وأفكاره، ولكن هذا يتطلب جهداً كبيراً في بلاد مثل سوريا التي استطاع نظام الأسد أن يشرخ مجتمعها أفقياً بين شرائح المجتمع التي من المفترض أن تكون على سوية واحدة، وعمودياً من حيث ثقة المواطن السوري بدولته أو بأجهزتها ومسؤوليها ويبدو ألا طريق أمامنا سوى دولة المواطنة المتساوية.

يترتب على الدولة في ذلك مسؤولية كبيرة حتى مسؤولية المواطنين تتمثل بسنّ قانون يجرم التمييز والتحريض الطائفي والمذهبي ويشدد على نبذ الولاءات الطائفية، وهذا يتطلب تعزيز الهوية الوطنية على حساب الهويات الفرعية وإجراء انفتاح شعبي لشرائح الشعب بعضها على البعض الآخر، للوصول إلى تسويات سياسية تقلل من التوترات، وتحجم اللعب الخارجي بالورقة الطائفية في سوريا مما يهدد الاستقرار الداخلي.

إن الانتقال من حالة الأكثرية والأقلية المبنية على الطائفة إلى بناء أكثرية سياسية يتطلب مجموعة من الإصلاحات العميقة على المستويات السياسية، الثقافية، والقانونية. بهدف تحويل الانتماءات من الهويات الطائفية إلى الهويات الوطنية أو السياسية، بحيث يصبح تشكيل أغلبيات وأقليات على أساس البرامج والأفكار وليس الهويات الدينية أو المذهبية.

يتطلب ذلك إصلاح النظام السياسي والقانوني بتشجيع تشكيل أحزاب وطنية عابرة للطوائف بطريقة تعزز دور المؤسسات المدنية في صنع القرار، من دون إقصاء أي مكون ديني بحيث يصبح التنافس السياسي قائمًا على الأداء لا الانتماء، مع تعزيز استقلالية القضاء لضمان أن القانون هو المرجعية للجميع.

وفي ذلك تبرز ضرورة تعزيز الهوية الوطنية الجامعة بإصلاح المناهج التعليمية وتعزيز الرموز الوطنية المشتركة من خلال الإعلام والثقافة والفنون، وخلق فرص اقتصادية متساوية للجميع، بحيث يتم تقليل التمييز الاقتصادي بين الفئات المختلفة، ما يعزز الشعور بالمواطنة المتساوية والأهم من ذلك يفكك المحاصصة الطائفية تدريجياً بالبدء بدمج مؤسسات الدولة بحيث لا تكون خاضعة للتوازنات الطائفية، بل تعتمد على الكفاءة والخبرة، ولا بد من تفعيل دور المجتمع المدني والإعلام المستقل دعم الإعلام الحر الذي يعزز الخطاب الوطني ويبتعد عن التحريض الطائفي.

فالانتقال من الأكثرية الطائفية إلى الأكثرية السياسية يتطلب تحولًا جذريًا في كيفية إدارة الدولة والمجتمع، ولا يمكن تحقيق هذا التحول بين يوم وليلة، لكنه ممكن عبر خطوات مدروسة تعزز المواطنة، تبني مؤسسات عادلة، وتخلق بيئة سياسية تعتمد على البرامج وليس الهويات الدينية.

قد تتباين آراء السوريين وتصطدم، ليس بناء على الخلفية الطائفية فحسب وإنما على البيئة والاحتياجات والسوية العلمية والاجتماعية، فيطالب البعض بعلمانية الدولة فيما يطالب البعض بدينيتها وهو استحقاق ضروري لرسم ملامح الدولة، ولكن ذلك لا يمكن تحديده وجزمه في هذه المرحلة التي يتحرك فيها السوريون أغلبهم بناء على معطيات شحصية وفردية وليست وطنية، ويمكن التعامل معه حين الخروج من الأطر الضيقة التي حُشرنا بها طوال عقود والتحرك في مساحات أوسع من الانتماءات القبلية والمناطقية والطائفية.

في سوريا يبدو أننا ما زلنا بعيدين للغاية عن أسس العمل السياسي وكل منا يعتقد أن مستقبل البلاد يمكن أن تقرره فئة بذاتها لتضمن عوامل طمأنة معينة لها فيما قد تعتبره فئة أخرى عوامل خطر، وبذلك لا يمكن حتى اللحظة تقرير مصير بلاد حتى ولو بالاستفتاء على شكل الدولة ونظام الحكم لأنه ليس من الضروري أن ترضي نتائجه الجميع، خاصة أننا نقرر من نوافذ ضيقة لا تبصر الآخر أو تعتني بما يريد، وهذا يحيلنا بالضرورة إلى ضرورة الانخراط في عمل سياسي يؤسس للوعي سياسي شعبي وتنظيم الحياة السياسية بسن قانون أحزاب وطنية غير قائمة على أسس طائفية ومناطقية للبدء بوضع اللبنات الأولى لهوية البلاد.

إن كل النقاش والتنظير بخصوص أخطاء السلطة قي سوريا، والحديث عن مسؤولية السلطة أو الاتهام بإعادة صناعة الاستبداد وأدلجة الخوف، وإن كان يراد به باطل فهو قد يكون محقاُ، ولكنه يبقى قي إطار التنظير ولا يقترب من الواقع السوري بأي شكل من الأشكال وهو بالتالي يؤدي إلى خطأ قي تشخيص المشكلة ولا يقدم حلول ناجعة.

ما يؤسفنا جميعاً أن سوريا اليوم لا تمتلك مقومات دولة مستقرة اليوم، ولم تكن كذلك في عهد الأسدين طبعا ولكنها اليوم في أسوأ حالاتها وتفترق عن حالها الأسبق ببصيص الضوء الذي يجعلنا نعمل معاً من أجل البناء، على أن يكون ترتيب الأشياء صحيحاً ويأتي تباعاً ونتوخى الحذر بألا نضع العربة أمام الحصان بما يمنعها من المضي قدماً.

إن جسد الدولة وفقا للمفهوم النظري يتشكل من أرض وشعب وسلطة غير أن ذلك ليس كافياً للقول بأننا أمام دولة، وإلا كان بإمكاننا اعتبار أي مجموعة بشرية ذات زعامة وتقبع في جغرافيا معينة دولة بمفهومها المجرد المحدود، ذلك أن روح الدولة يكمن في المؤسسات والقانون وفيما عدا ذلك فهي لا تمثل دولة بالمعنى الحقيقي، لكننا في سوريا اليوم لا نملك أيا من ذلك فالسوريون أغلبهم اليوم تتلخص احتياجاتهم بأشياء بدائية من مأوى ومأكل ومشرب وليس لدينا من مقومات الدولة المادية أو بنية تحتية لنبدأ بالبناء عليها.

يبدو أن اختبار السوريين الحقيقي اليوم ليس التفكير في السلطة والحياة السياسية وهو استحقاق هام لا شك في ذلك غير أن الأولوية هي بناء دولة مؤسسات وقانون لتكون هي العمود الفقري للدولة، وتكون مستقلة عن السلطة أياً كانت السلطة القائمة، فإذا تحقق ذلك يمكننا بعدها الاختلاف حول مفاهيم ومصطلحات سياسية وإذا لم تتحقق فلا شيء قد يمنع الاختلاف من أن يتحول إلى عراك وصدام.

ما أريد قوله أننا لم نصل بعد إلى شكل الدولة لأننا في مرحلة ما قبل الصفر، لكننا في ظل هذه المهاترات المضللة والمشتتة سوف نشلّ حركة البلاد سياساً ونضيع الهدف الرئيسي، بتقاذف الكرات ورمي المسؤولية على أكتاف السلطة التي لا يعترف بها البعض ونقطع الطريق على أنفسنا بأن نصنع دولة أصلاً.

إن بناء الدولة هو مسؤوليتنا جميعا ومن غير المنطقي أن نطالب سلطة لا نعترف بها أن تبني الدولة فيما نضع نحن العصي في العجلات ثم نراقب النتائج ونتصيد الأخطاء، فنصبح شركاء في المغنم دون المغرم، ذلك أن بناء الدولة هو عمل مشترك لا يمكن لأحد التنصل منه.

يبدو الوضع الاجتماعي اليوم متشظياً إلى حد لا يمكن التعامل معه بسهولة، وقد يدفع بعضاً منا إلى اليأس والانكفاء والانسحاب من المشهد العام، لكن ذلك قد يضعنا أمام مسؤولية تاريخية من غير اللائق بعدها التنصل من نتائجها.

إن الوضع السوري على تعقيده يعيش اليوم مخاضه الخاص ففي الهزات السياسية الكبرى يلتجئ الإنسان ويرتد إلى المكان الأكثر أمنا بالنسبة اليه مثل منطقته وطائفته، إنها تشكل الانتماءات المحدودة للشعوب التي عمل الاستبداد على تفريغها من هويتها الوطنية، وإذا استطعنا تخيل المجموعات السورية اليوم بناء على أكثرية وأقلية بحسب العدد، فمع الوقت ومع تطور الحياة السياسية ستتغير هذه المجموعات البشرية وتتحرك وفق ما يتناسب وانتمائها الفكري، لا الطائفي أو المناطقي، لايوجد بالطبع يقين بخصوص كيفية تحركها وكيف ستصبح أعدادها، فهذا متعلق بالأحزاب السياسية والمجتمعية التي ستتشكل ومرهون بنجاح السلطة الحالية ببناء الدولة وبناء الوعي السياسي وإطلاق الحريات وخلق فضاءات فكرية وثقافة وسياسية تتسع للسوريين جميعاً.

تلفزيون سوريا

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى