سقوط بشار الأسد، الرئيس الفار والمخلوعصفحات الثقافة

في سعينا إلى العدالة/ رنا يازجي -جزئين-

الجزء الأول

(2/1)

    مقترح لإعادة التفكير الجماعي في دور الثقافة والفنون

        كانت نقطة الانطلاق في كتابة هذا المقال من نقاشٍ حول المؤسسات الثقافية الرسمية، وتحديداً وزارة الثقافة السورية. كان نقاشاً غير رسمي، أي أنه لم يحدث في سياق ندوة أو محاضرة إنما بين أفراد يعملون في مؤسسات مدنية ثقافية وإعلامية وبحثية وتنموية وسياسية. وكما هو الحال، فإن أي نقاش بين السوريين اليوم يتحول بسرعة، وبدون تخطيط أو نية، إلى منتدى وصراع فكري تشحنه عوامل عاطفية كثيرة. ورغم أن النقاش كان على مستوى السياسات الثقافية العامة في سوريا، إلا أن القلق الحقيقي هو في ركائز هذه السياسة وخطر الإجابات المُتسرِّعة. البدء بمستقبل المؤسسات هو اختزالٌ وقفزٌ فوق الأسئلة الرئيسة، والتي يشكل غيابها تفريغاً لأي حوار حول تطوير سياسات ثقافية تضع العدالة في صلب غاياتها. ومن هنا قرّرتُ في هذا المقال الأول إرجاعَ النقاش إلى نقطة سابقة، نُفكِّكُ فيها ارتباط الثقافة بالسياسة وغربتها عن المجتمع، بينما يرسم المقال الثاني احتمالات لتطوير التفكير بالسياسات والبنى والعلاقات الضمنية التي يرسمها الاجتماع السياسي في سوريا.

        في هذه المرحلة المفتوحة على كل الاحتمالات والفاقدة للكثير من الثوابت، يجد الفنانون والعاملون في الثقافة أنفسهم في جدل حول دورهم وكيفية لعب هذا الدور. يُحيطنا الضجيج، كلنا؛ بتسارُع الأخبار والتطورات، باستمرار محاولة النجاة في الحياة اليومية بأفضل ما يمكن، بعدم وضوح ما سيكون وحتى ما كان، بعدم تَمكُّن الكثيرين من الوصول إلى رأي صلب يَطمئنّون إلى صوابيته. الفضاء العام الفعلي والافتراضي ممتلئ بالاجتماعات والمبادرات ومجموعات العمل والمواد المكتوبة واللقاءات المصورة والآراء المختلفة. أجيال من الفاعلين في هذه المرحلة لم يعيشوا قط مرحلة مشابهة، ولم يختبروا الفضاء العام المتاح، إلا لزمن قصير انتزعوا فيه فضاء عاماً قُتل فيه كثيرون. من بقي في سوريا لم يكن يملك الفضاء العام، ومن خرج منها ابتعد عنه وحاول تعويضه بفضاء لم يَكُن يمنح في أغلب الأحوال معنى حقيقياّ، إنما بقي في حدود التعويض عن المفقود الغائب. مع كل هذا الضجيج، هنالك تقاطعات هائلة بين السوريين تتبلور كل يوم وأحاول التمسُّكَ بها كبوصلة. الكل يعيش نشوة النجاة من المذبحة وينظر إلى الانتهاكات المتزايدة بقسوة من يرفض التعثُّر في جرف عميق، تبقى وجوه مئات آلاف المعتقلين والمختفين قسراً في الصلب، تعلو غاية السلم الأهلي والاحتفاء، حتى المبالغ به، بالتنوع والتطمينات المتبادلة كدفاعٍ محموم عن الأمل ودفعٍ للأذى وشرور العنف. هناك أيضاً شروخٌ مُخيفة، فالخسائر والصدمات والتضحيات لا تُحصى والحِداد سيطول قبل أن نصل إلى برٍّ آمن.

        في هذا الانفجار العنيف الذي يتلو سنوات طويلة من اليأس بشأن تَخيٍّل أبسط أشكال التغيير، هناك خطر الرغبة بالوصول السريع إلى نهايات سعيدة، فردية أو جماعية، نقفز من أجلها فوق كل الأسئلة الحقيقية لنخسرَ مجدداً فرصة العودة إلى جذر المشكلة، ونُعيدَ إنتاج منظومة لم نساهم في تشكيلها، بل ربما هي من ساهمت في تشكيلنا إلى حد كبير. في الحديث عن الثقافة ستكون الخسارة كبيرة.

        استقلالية الثقافة عن السلطة

        بدأنا معرفتنا بالعمل الثقافي في بلد لا يعرف حرية التعبير، ولا يسمح بالاجتماع وتأسيس المؤسسات والكيانات. النقاباتُ فيه ليست مستقلة، والإنتاجُ والتوزيع الفني فيه مرتبطٌ في غالبيته العظمى بالمؤسسة الرسمية. اليوم، يمكننا أن نسعى مجدداً إلى ولادة علاقة حيَّة بين الثقافة السورية والاجتماع السياسي السوري، مع إعادة نظر جدية في المفاهيم السائدة للعمل الثقافي التي تُعرِّفُ الفنون والإنتاجات الفكرية من خلال علاقتها مع السلطات السياسية والتيارات الثقافية في العالم، أكثر من مُساءلة وجودها بعلاقتها مع السياق الاجتماعي.

        يمكن إعادة الارتباط مع الاجتماع السياسي السوري عندما تحدث «استقلالية للثقافة عن السلطة، وعن السياسة المباشرة، وذلك بعودة ارتباط الثقافة مجدداً بالإنتاج الحر للفكر والمعنى، وهو ما يُتيح لها أن تعرض الأفكار والقيم والمعاني، برهافة حرة من دون وساطة أو قهر أو وصاية، فيتداولها أفراد ’سوق‘ في ’بضاعتها‘ المجتمع ويقتنونها باختيارهم الحُرّ، وهو ما يعيد إلى الثقافة مَهابتها وقدرتها على التأثير الاجتماعي، ويُتيح للأفكار أن تندمج في الكتلة الاجتماعية»، كما ذكر شمس الدين الكيلاني في مقالته «جدل السياسة والثقافة في سورية… من الليبرالية إلى اختناقات الرأي الواحد»، المنشورة في صحيفة الحياة في 1 حزيران (يونيو) 2011.

        إذن الحاجة المُلحّة اليوم هي إعادة الارتباط بالمجتمع، أو حتى المجتمعات، وليس الاقتصار على البحث في أشكال المؤسسات الرسمية والمدنية وكيف يتم تطويرها أو تعزيز دورها. لأننا في هذه الحالة سنعمل على بناء كيانات قد تكون شكلياً أكثر ديمقراطية، حرّة من الهواجس الأمنية، هياكل تشبهنا بصورتها إلى حد كبير، لكنها ستقوم على الذهنية نفسها، وتُعيد توليد ثقافة دون النظر بنقديةٍ إلى جوهر علاقتها مع المجتمع. يحاول المنطق البنيوي العودة إلى أعمق جذور المشكلة، ويبدأ الحلَّ من هناك.

        السردية القائمة على انفصال الثقافة والفنون عن المجتمع تَمظهرت خلال عقود بأشكال كثيرة، الأعراض واضحة جداً وهي تتضمن: قلّة عدد جمهور المسرح والغاليريات وغيرها من الفضاءات الفنية، وظهور تعبيرات ثقافية اجتماعية سائدة ينبذها الفاعلون في المجال الثقافي ويعتبرونها «ثقافة دُنيا» بمقارنتها مع ما ينتجون على اعتبار أنه «الثقافة العليا»، ومركزية هائلة في العمل الثقافي في دمشق وربما عدد محدود جداً من المدن الكبرى، والصورة النمطية للفنان من المنظور الاجتماعي وربطه بقيمٍ لا تشبه المجتمع الأوسع، واختفاء الدور العضوي للفنون في التعليم، وتراجعه الكبير في الممارسات المجتمعية. كل هذا طبيعيٌ في سياق سياسي تُستخدَم فيه الفنون لتفضيل هويات مجتمعية عن أخرى، ولا ينظر فيه للثقافة إلا كمكون من مكونات الهوية الوطنية «القومية» الجامعة صاحبة الرأي الواحد والسردية الواحدة، في غيابٍ لأدنى حدود حرية العمل الفكري والإبداعي أو العمل المؤسسي المستقل، ودفعه إلى زوايا «آمنة».

        رغم أربعة عشر عاماً من المخاض، نمت وعاشت خلالها تجارب فنية وثقافية منها الثوري والتنموية والبحثية، منها من دافع عن مجرد الوجود والاستمرار كنصر بحد ذاته، ومنها المعزولة داخل منطقة جغرافية لا خروج، ومنها ومنها المقصية خارج حدود مجتمعها في المَهاجِر.. رغم كل هذا التراكم، نلمس اليوم غياباً لجوهر السؤال: أين «القطاع الثقافي والفني» من المجتمعات السورية اليوم؟ ولا أقول الثقافة إذ أنها أوسع بكثير من القطاع نفسه الذي لا يحتكر النِتاج الثقافي، بل إنه لا يحتكر الممارسات الإبداعية التي رأيناها خلال سنوات الثورة الأولى، والتي تمَّ الاستشهاد بها في عشرات المقالات والمحاضرات حول كيف أن الفنون حاضرة في التظاهر والناشطية المدنية، ولكنها سرعان ما اختفت في مواجهة العنف.

        لا هروَب اليوم من العنف إلا بعودتنا إلى أصل المشكلة، إن لم يَحمِ المجتمعُ حرية الإبداع فلن يكون الإبداع في سوريا حراً مهما دافعت عنه أقلية منظمة في جهات مدنية وحقوقية ونسوية وثقافية وإعلامية. وإن بقي حراً، ولو نسبياً، في القوانين والقرارات والإجراءات المكتوبة، فهي حرية نسبية مضمونة طالما لم تخرج الممارسات الفنية من أماكنها الآمنة، وعندها ستُقفَل الاحتمالات مجدداً على شكل واحد، قد يكون أجمل ممّا كان قبل تَحرُّر سوريا لكنه يبقى شكلاً واحداً، وهذا يُناقِض أصل مفهوم حرية الإبداع.

        ارتباط الثقافة بالنمط السياسي

        يزيد من حدة التحديات أننا لسنا فقط نتعامل مع موروث ثقافي تَكرَّسَ من خلال حكم سياسي استفردَ بالسلطة لمدة تزيد عن الخمسين عاماً، بل نحن أيضاً في مرحلة ما بعد نزاع مسلح. فهمُ التغيرات الثقافية خلال النزاع وما بعده هي تجربة مرت بها مجتمعات كثيرة يمكن التعلّمُ منها، وهو بالفعل ما كان العديد من الباحثين والفاعلين الثقافيين السوريين يحاولون الوصول إليه خلال السنوات الماضية. التعلُّمُ ممكنٌ على مستويات متعددة فكرية ومعرفية، ولكن أيضاّ تقنية ومهاراتية.

        في سياق هذه المقالة أجدُ أن الجوهر هو في فهم ارتباط الثقافة بنمطٍ أو أنماطٍ سياسية تتواجه خلال مراحل نزاع يتم حسمه أخيراً ليفرز، كما تقول الباحثة راما نجمة في مخطوط غير منشور، «جماعات خطابية تلتزم بلغة مُشترَكة، ومَجازات مُوحَّدة، ومقاصد واحدة، فإن تعدَّدت الأساليب وتباينت طرائق المعالجة يظل خطاب كل مجموعة يسير في اتجاه واحد، وكأنه مكينة لنسخ الصور والرموز والتصورات والأوصاف عن الأطراف الأخرى في النزاع، هذه الماكينة هي التي ستصنع المُتخيَّل (المُفترَض أنه الحقيقي) عن الجماعات الأخرى الداخلة في النزاع، وكلما ازدادت حدة النزاع ستزداد حدة المُغايَرة وعنفُ الاختلاف، وستطور كل مجموعة آليات للفرز والطرد ضد الجماعات الأخرى، وبعد النزاع، تصبح هذه الصور أساساً للعلاقات بين هذه الجماعات.

        نتيجة لذلك، تميل الثقافة المنتصرة أن تصبح ثقافة مهيمنة مستفيدة من حق الامتياز الشرعي الذي يفرضه منطق السيطرة في استعراض وتمثيل الآخر، وقد تعيد ممارسة الدور نفسه الذي قاومته عندما كانت في موقع الاضطهاد. ومن اللافت أن كثيراً من التجارب العالمية قد مَرَّت بهذا المنعطف، وكان من الدارج وضعُ أنساق مواربة لتصنيف هذا الآخر /المُختلِف /المُتنازَع معه. من الصعب وضع نقاط ارتكازية قطعية للكيفية التي على أساسها يبني المتخيل السوري صورة الآخر السوري كدالٍّ يشير مَدلولُهُ الى الدونية».

        مصيدة العزلة

        لدينا اليوم فرصة للخروج من مصيدة العزلة هذه. قد تنتهي هذه الفرصة قريباً لكن علينا أن نحاول. الحل هو بالاستنارة بأولويات المجتمع نفسه، وبالدرجة الأولى السلم الأهلي كشرطٍ للتفاوض على العقد الاجتماعي، وليس ببساطة كمجالٍ لسياسات الهوية الفرعية والوطنية. ليس من خلال تضمين السلم الأهلي كغاية في أدبيات المؤسسات، ولكن بالنظر إليه على المدى المباشر والمتوسط كبوصلة ومعيار للناشطية الثقافية في هذه المرحلة. تحقيق هذا التوجه يتطلب تبني بعض المقاربات وتعزيز أدوار بعينها للفنون، ويقتضي بالدرجة الأولى التفكير بالفعل الثقافي والفني كجزء من الحراك المجتمعي، وليس كنُخبة ثقافية تُمارِسُ نوعاً من الهيمنة الثقافية القائمة على تعريف علاقتها بالنظام السياسي سواء كحليف أو كمعارض له.

        هذه المقالة هي دعوة للتفكير والحوار، ولإطلاق هذا الحوار أقترحُ مجموعةَ مُقارَبات أساسية: العمل بشكل تقاطعي، أي عبور القطاعات وعدم العمل بشكل فردي ضمن المجال الفني بل التحالف مع القطاعات الأخرى التي تملك أدوات ومعارف هامة لدعم العمل على الأرض ومع المجتمعات؛ وتحديد دور القطاع الرسمي ومسؤولياته وما المُتوقَّع منه في دعم المقاربات الفنية في سعيها نحو العدالة؛ واللامركزية كشرط حاسم في نجاح أي جهد للحفاظ على، أو حتى لبناء، السلم الأهلي. التضامنُ شرطُ نجاة، فالدور المطلوب من الأفراد والمؤسسات التي بنت تجربة مهمة خلال السنوات الماضية هو دورٌ تيسيري، لا يمنحها وزناً أُحادياً قد يهدد قدرة المعنيين على العمل الجَمعي التضامني. الدورُ المطلوبُ منها هو أن تستخدم معارفها وشبكاتها ومواردها لصالح تيسير العمل وليس صياغته أو قيادته، وكذلك الموازنة بين التعاطف والارتكاز إلى المعرفة والأدلّة، حيث التجارب الفنية قادرة على العمل على المستويين العاطفي والفكري، ولكنها تميل إلى التركيز على الجانب العاطفي كمساحة حرة للتعبير.

        قد يبدو أن الطرح في هذه المقالة جمعياً، أو بمعنى أدق شمولياً، أي أنه يفترض دوراً واحداً، ولو بشكل مؤقت، للقطاع الثقافي والفني، وهذا غير دقيق. الطرح قائم على افتراض أن نجاة الثقافة والفنون في سوريا تكمنُ في قدرتها على أن تساهم في نجاة سوريا، ليس سوريا التي نحب فقط، فهذا اختصارٌ شاعري لا يدعو إلى التوافقية، بل سوريا التي نصل إلى تعريفها دون عنف أو إقصاء، ومن خلال بناء عدالة اجتماعية غير شعاراتية.

————————-

الجزء الثاني

         (2/2)

        كانت غاية الجزء الأول من المقال هي النظر بشكل نقدي إلى علاقة الفنون والثقافة بالنظام السياسي والمجتمعات، وتفكيك علاقتها بمراكز الثقل السياسية والاقتصادية والثقافية، والبحث مجدداً عن إمكانيات الخلاص من موروث يُفضّل الهويات على القيم، ويُمارس الرقابة وسلطة المعرفة ضمن واقع لا يتيح كسر العزلة إلا بأثمان باهظة.

        في هذه المقالة سنركّز على الاستحقاق الأكبر الذي يواجه المعنيين بالفنون والثقافة اليوم، وهو إعادة تنظيم القطاع بالكامل، مسترشدين أولاً بعلاقة عضوية مأمولة مع سياقاتهم الاجتماعية، وبشكلٍ يبني على نقاط قوتهم وعلى التراكم الإبداعي والمعرفي والبحثي والمؤسسي، ولكن أيضاً يواجه بشفافية ليس فقط الفجوات، إنما الأنماط، أو قد نجرؤ أن نقول الثقافة السائدة التي شكلت الفنون والعمل الثقافي في مساحات مركزية. إعادة البناء ممكنة، من خلال حوار مواز ومتقاطع مع الحوار المجتمعي الذي يسعى السوريون اليوم في مجالاتهم المختلفة إلى أن يكون على مستوى التضحيات الهائلة التي جعلته متاحاً، لكن أيضاً على مستوى الثمن الذي قد ندفعه جميعاً في حال فشلنا.

        التحدي في هذه المرحلة هو كيفية الجمع بين الفعل الملح المباشر في مرحلة متحركة كالمرحلة التي نمر بها، مع الحفاظ على أعيننا ثابتة باتجاه إعادة بناء المنظومة الثقافية (ما نسميه القطاع)، والتي تقوم على عدة ركائز يؤدي انقطاع التفاعل بينها إلى تفتتها، فتبقى الفنون ويبقى الإنتاج الفكري لكن تغيب المنظومة.

        فشرط وجود المنظومة الثقافية هو الجدل في المجال العام، أي إتاحة الآراء والتجارب والمقاربات المختلفة أو حتى المتضادة بشكل علني. ولفهم المنظومة الثقافية لابد من ربط الاحتياجات الثقافية، والتعليم الثقافي والفني، وإبداع الفنون وإنتاجها ونشرها واستقبالها، والتنشيط الاجتماعي الثقافي، وبناء الجمهور في سلسلة متصلة يؤثر ضمنها كل مكون بالمكونات الأخرى.

        ما بين المباشر والاستراتيجي

        إذن نحن بحاجة إلى المساهمة المباشرة في أولويات المجتمعات السورية، من خلال الناشطية والفعل المباشر، وإلى العمل على المدى البعيد بغية إعادة تنظيم القطاع من خلال رسم سياسات ثقافية تتيح العمل الحر في الإبداع والإنتاج الفكري، مع الحذر الشديد من الفصل بين الأمرين، وإلا نكرس من جديد هرمية ثقافية ترتبط بالسياسات العامة والبنى المؤسسية، دون أن تقوم علاقة حيوية بين الفعل الفني والتجربة الاجتماعية من ناحية، والبناء الاستراتيجي من ناحية أخرى. فما بين المباشر وطويل الأمد حوار مستمر يصب خلاله كل منهما في الآخر.

        يعني تطوير السياسات الثقافية العملَ على مستويات عدة، تتضمن إعادة تعريف الثقافة ضمن سياق السياسة العامة، وتحديد نمط السياسة الثقافية المنشود التأسيس لها للانتقال من النموذج القائم المعتمد على سلطة القطاع العام، وربط الفعل الثقافي بالخطاب السياسي الرسمي معززاً المركزية ومحدداً لحريات الإبداع والتنظيم. إلا أن رفض هذا النموذج ليس كافياً، فمن الضروري تحديد النموذج الذي نسعى للانتقال إليه ووضع ملامحه الأساسية كغاية لعملية التطوير السياساتي.

        تتضمن السياسات الثقافية، ومن ثم تحديد دور المؤسسات الرسمية وطبيعتها وعلاقتها بالقطاع المستقل، وضعَ الأهداف والأولويات طويلة الأمد إلى جانب الأولويات المباشرة كاستجابة للاحتياجات الثقافية في المرحلة الراهنة. تحدد السياسة الثقافية أيضاً المقاربات والمبادئ العامة التي تسعى إلى تكريسها، كما يشكل التطوير التشريعي والقانوني جزءاً هاماً من مجالات السياسة الثقافية، بدءاً بالدستور، مروراً بمجموعة من القوانين والتشريعات الرئيسة والفرعية، وصولاً إلى القوانين التخصصية التي تنظم الإنتاج والتوزيع في مجالات الفنون المختلفة. كل هذا يترجم نهاية إلى برامج وأطر عمل وتحديد مسؤوليات وأشكال تعاون على المستوي الوطني، الإقليمي والدولي.

         لا يمكن لخارطة تطوير السياسات الثقافية أن تكون نهائية قبل أن يتم التشاور حولها، والتفاوض والوصول إلى إعادة نظر تشاركية، لكن من الممكن تحديد الأسئلة الأساسية التي يتوجّب الإجابة عليها، واقتراح نقاط انطلاق للتفاوض كمقترحات أولية يمكن استخدامها في اللحظة الراهنة لتفعيل ناشطية ثقافية تزرع الفنون في صلب عمليات تعزيز السلم الأهلي، وتشارك القطاعات الأخرى في الحوار والتفاعل المجتمعي في مرحلة ما بعد النزاع المسلح، متعاملة مع قضايا شديدة الإيلام تؤثر في النسيج الأخلاقي والاجتماعي.

        مقاربات محتملة: كيف يمكن لوزارة الثقافة أن تكون فاعلة في تعزيز دور الفنون في السلم الأهلي

        ماذا لو بادرت وزارة الثقافة اليوم بتكريس مواردها لدعم الفنانين المستقلين للتواجد في كل زاوية وقرية ومدينة في سوريا؟ ماذا لو أتاحت إمكانية التعاون مع المؤسسات والتجمعات الفنية المستقلة، بل والجهات الدولية التي تعيد دراسة دورها في مرحلة الانتقال السياسي في سوريا؟ ماذا لو صرحت الوزارة أنها ستستخدم آلياتها وقاعاتها، المنتشرة في كل سوريا، وموازنتها، لو كانت صغيرة، والكادر الإداري الكبير الذي يدير مديرياتها ودوائرها، لدعم الفنانين والمؤسسات الثقافية، بل والمدنية عموماً، في جهودهم لمساهمة الفنون في الحفاظ على السلم الأهلي؟ ماذا لو يسرت العلاقة مع وزارة التربية لدخول الفنانين إلى المدارس الحكومية؟ ماذا لو اختبرت لغة العمل الإبداعي بدل الإداري، هل سيستمر الحوار حول دور الوزارة أم أنها ستتحول إلى جزء مهم من الحراك الثقافي النشط؟ ليس هذا تفكير طوباوي في سياق ما حدث في سوريا خلال الشهرين الماضيين، بل أجرؤ على اعتباره بديهي.

        على المدى الأطول، وبالنظر إلى آليات إدارة العمل الثقافي على المستوى الوطني، لا بد من البدء من تحويل المؤسسة العامة، وتحديداّ وزارة الثقافة، من كونها هيكلاً هرمياً ضخماً فاقداً للمرونة يمتلك الفعل والمنتج الثقافي ويسيطر على البنى التحتية بانقطاع تام عن المجتمع وعن القطاع المستقل، إلى بنية مرنة، ستحافظ بالضرورة على نمطها الهرمي كجزء من القطاع العام، لكن يمكن إدارتها بشكل تشاركي وتخليصها من تعددية درجات الهرمية التي تجعل مراكز اتخاذ القرارات بعيدة جداّ عن الواقع، من خلال تطوير آليات لامركزية جزئية، أو على الأقل اتباع منهجية تشاركية تعزز دور المديريات المحلية وتعتمد على قدرات المجتمع المدني والفنانين المستقلين في إدارة البنى التحتية التابعة لوزارة الثقافة، من مسارح وقاعات سينما وصالات عرض ومراكز ثقافية مختلفة، ليس من خلال توظيف الفنانين، إنما من خلال تحفيز القطاع المستقل، بمؤسساته وتجمعاته الفنية، لامتلاك مشروعه المستقل وتشغيل البنى التحتية المختلفة بناء على خطط عمل لعدة سنوات تُقدّم إلى الوزارة، وتدرسُها لجان مستقلة من خلال آليات شفافة وقابلة للمحاسبة.

        الهيكل التنظيمي لوزارة الثقافة. المصدر: موقع وزارة الثقافة

        من المهم الإشارة إلى أن نماذج الإدارات الرسمية التي تدير الشؤون الثقافية متنوعة، وأن وجود وزارة هو بالأصل ليس شرطاً للعب الحكومة دوراً هاماً في تيسير العمل الثقافي، وأن هناك نماذج متعددة منها المجالس والهيئات الوطنية للثقافة والفنون وغيرها من التجارب، التي شكلت فيها الهيئات الرسمية للثقافة داعماً لتنوع الإبداع وحريته، بدل أن تكون مالكة له. وعلى اعتبار أن دور الوزارات، ضمن نظم الحوكمة، هو دور تنفيذي وليس دوراً تشريعياً، فما هو الدور التنفيذي المأمول من وزارة الثقافة؟ وكيف يمكن له أن يمر بمرحلة تحول من السيطرة على العمل الثقافي، وهو ما لم يعد ممكناً في سوريا، ليكون داعماً ومنسقاً لعيش الفنون في المجتمعات إلى جانب القاعات المغلقة، وفي الحياة اليومية وليس فقط المهرجانات.

        إذن لا تنازل عن الدور الرسمي في دعم الثقافة والفنون في سوريا، وعن تخصيص موازنة مهمة للعمل الثقافي ضمن الموازنة السنوية. كما ليس هناك نقاش حول أهمية وجود مؤسسة معنية بالثقافة والفنون. لا تردد أيضاً في الدفاع عن تعديلات تشريعية وتنفيذية تؤطر العمل الثقافي وتنظمه دون أن تتدخل فيه. كما من الجوهري وجود سياسة ثقافية تعلن من خلالها الحكومة دورها وعلاقتها بالفنون وكيفية دعمها لها. لكن ما دون هذه الأسس، أي شيء قابل للنقاش، وضمناً إعادة النظر بطبيعة هذه المؤسسة، فهل تبقى وزارة بالمعنى التقليدي أم أن التوجهات العامة تتطلب هيئة أخرى على مسافة أكبر من العمليات التنفيذية؟

        ما يحدث اليوم هو أن الناشطية الثقافية قد بدأت بالفعل، ولو بشكل خجول، بالانتشار كأمر واقع، وهو ما يجعل استمرار دور الوزارة السابق غير ممكن بحال من الأحوال. هناك تجارب تتشكل بعيداً عن الخطط على المستوى الوطني، كما تبتعد عن بناء توافقات ملموسة بين الفاعلين المعنيين بالمنظومة الثقافية. كل المبادرات هي ضرورة ملحة، لكن هل نستطيع من خلالها أن نبني قوة ضاغطة قادرة على الوجود بشكل يحترم الاحتياجات الراهنة، ويتطلع إلى تطوير المنظومة بأكملها؟ نقطة التوازن الأساسية هي في تمكين هذه المبادرات الطارئة من المساهمة في تطوير المنظومة العامة، والربط بقوة بين التجربة الفعلية، ووضع التصور السياساتي للمنظومة العامة.

        ختاماّ، هناك عشرات الإجابات ومئات التجارب في العالم التي اختبرت دور الفنون في تجاوز مراحل النزاع، ويكمن أحد الأجوبة المحتملة في الفهم الاجتماعي للتجربة الجمالية. هذه المقاربة تقترح أن المشاركة في التجربة الجمالية، بتعدد الأنواع والمجالات الفنية، هو بحد ذاته خروج عن التجربة الحياتية الاعتيادية التي تتطلب درجة عالية من المسؤولية والوعي. في حياتنا اليومية، نذهب إلى أشغالنا، نوصل الأطفال إلى المدرسة، نقوم بالتنظيف أو تشغيل التدفئة. كل فعل نقوم به هو فعل نفعي، يجب أن يؤدي إلى نتيجة إيجابية، وعدم الوصول إلى هذه النتيجة هو فشل.

        هذه العلاقة النفعية مع الأفعال تختفي خلال التجربة الجمالية. خلالها يمكن لنا أن ننتقل في الاختبار إلى مجال آخر لا يكون محوره النتيجة، إنما التجربة بحد ذاتها. إذا استطعنا أن نفكر بمرور آلاف الأشخاص بتجربة خالية من الغايات الحياتية، وتركز على فهم الذات والآخر بعيداً عن دوره النفعي وأثره المباشر على الحياة، فإن قدرتنا على فهم السياق الذي نعيشه ستركز على التجربة العاطفية بقدر تركيزها على التحليل الذهني، وهو أحد أهم قدرات الفنون في مراحل ما بعد النزاع؛ أن نستطيع التعامل مع تعقيد المشاعر في مساحات لا يمكن بحال من الأحوال أن تكون عنفية، كما لا يمكن أن تختزل إلى نزاع هويات صغرى.

        تمتلك الفنون أيضاً مساحة الفعل المشترك، مقارنة مع الأشكال الأخرى لتنظيم الحوار المجتمعي الساعي إلى التفاوض للوصول إلى عقد اجتماعي جديد، تتفرد الفنون في عدم جمع الناس بناء على عداوة أو خلاف مفترض أو فعلي، كما لا يجتمع الناس ضمن التجربة الجمالية ليقولوا أشياء إنما ليصنعوها معاً، التجربة الجمالية هي تجربة تغييرية يشكل اختفاؤها خلال مرحلة إعادة الإعمار خسارة يصعب تعويضها.

موقع الجمهورية

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى