نادي السينما السوري… حين تُغلق الصالات وتُفتح أبواب دمشق/ ختام غبش

10 ابريل 2025
أدركت الأنظمة مبكراً أهمية السينما بوصفها أداة للدعاية والترويج؛ إذ رُصدت أولى تدخلات السلطة في السينما المصرية في 17 مايو/أيار 1926، عندما شنت مجلّة المسرح هجمة شرسة على الممثل يوسف بك وهبي، وذلك لقبوله أداء شخصية النبي محمد. حينها، ثار الشعب المصري دعماً للأزهر، ما استدعى الملك فؤاد التدخل مهدّداً الممثل بالنفي وسحب الجنسية، لتشهد السينما أول تداخل مع رقابة السلطة. وفي سورية، تكاد تكون الصورة أشد قتامة، وذلك لاستفحال سلطة العسكر وتحكّمها في جميع مفاصل الحياة لفترات طويلة. إلا أن هذا التحكّم بلغ ذروته مع بداية الثورة السورية. فمنذ 2011 دأب نظام الأسد على صياغة خطاب سينمائي مستنسخ من عقليّة العسكر وأدوات هيمنته على الأفراد والمؤسسات، حتى باتت المؤسسة العامة للسينما جبهة مواجهة ترفع “جاهزية الشعب” في حربه ضد “العصابات المسلحة” و”الإرهابيين”. واستثمرت أدواتها، بكل تطرّف وقبح، لتوغل في قتل كل صوت وصورة حاولَا تجسيد الوقائع بمصداقية وأمانة، لتقتصر سرديّة سينما نظام الأسد على “شيطنة الآخر”، وعزّزها بعض المخرجين الذين قادوا حرباً دعائية تضليلية ضد الحقيقة والإنسان.
في ظل هذا الواقع القبيح الذي سُحقت فيه الكلمة والصوت والصورة، حاول بعضهم مواجهة خطاب النظام، بخطاب آخر قائم على الأدوات نفسها ولكن في سعي إلى كسر خطاب الكراهية بين أبناء الشعب. ولد هذا الخطاب في إحدى ضواحي العاصمة دمشق، في مدينة جرمانا، وذلك حين قرّر المدرّس ناصر منذر، مع أصدقاء قلائل، تأسيس ناد للسينما. “بدأت عروض النادي عام 2019، واستمرّ من دون الحصول على ترخيص أو موافقة أمنية من سلطات نظام الأسد، وكان في هذا مخاطرة كبيرة. لكننا قبلنا بها، وأصررنا على الاستمرار في النشاط العلني، وعدم التعاون مع مؤسسات وزارة الثقافة السورية، فرفضنا سابقاً إقامة عروض في المركز الثقافي في جرمانا”، يتحدث منذر لـ”العربي الجديد” عن بدايات النادي وتحديات العرض في ظروف حُرّم فيها وجود أكثر من ثلاثة أشخاص في مكان واحد.
أغلق نظام الأسد صالات السينما والمسرح خوفاً من التجمعات. الأمر الذي سبّب عدم نجاة الفنون التي تحمل في واحدة من تعريفاتها الأساسية عنصراً بالغ الخطورة، لا ينضج إلا عند احتشاد القاعة بالمشاهدين. والسينما في جوهرها العميق فن شعبي انطلقت بداياته من الكافيهات والشوارع، وارتادته العائلات حتى بات هذا النشاط تقليداً حيوياً يحرّك حياتهم ليلةَ كل خميس وجمعة. يقول منذر: “رحّبنا بالجميع كي لا يكون نادي السينما نخبوياً، أو أن يتوجّه إلى فئة محدّدة. إن جمهور النادي لدينا يضم شرائح عمرية مختلفة، واختصاصات أكاديمية ومهنية متنوّعة، وطيفاً من المثقّفين والمهتمين. يجمع ما بينهم حبُّ السينما والرغبة في الحوار وسماع الآخر. أصبح لدينا موعد دائم، مساء كل سبت، مع عشرات الأصدقاء، بعضهم يأتون من مناطق بعيدة. وأصبح النادي فسحة للتعارف والتلاقي”. يتابع: “الأهم من عرض الفيلم، هو تنظيم جلسة نقاش حوله، بهدف تعزيز ثقافة الحوار ونشر الثقافة السينمائية بطريقة تفاعلية بعيدة عن التلقين، مع إتاحة الفرصة أمام الجميع للتعبير عن آرائهم وامتلاك أصواتهم واحترام حقهم في الاختلاف. فالسينما، كما نفهمها، كانت وستبقى فناً شعبياً جماهيرياً، خلافاً لفنون أخرى”.
تأكيداً للفكرة المطروحة أعلاه، عرض النادي في 5 إبريل/نيسان الحالي فيلم “لسّه عم تسجل” الذي يوثق حصار الغوطة الشرقية ومجزرة الكيماوي في دوما، وهو من إخراج غياث أيوب وسعيد البطل. حضر العرض المخرج الأول، ولم يستطع أن يخفي فرحه، لرؤيته الفيلم للمرة الأولى في دمشق. تهافتت الأسئلة على غياث أيوب بكثافة، والمراقب الذي يتابعه من قرب يراه متعطشاً إلى السرد. يجيب عن التساؤلات وكأنه يريد أن يفضح ويصرخ ويملأ الكون ضجيجاً لرؤيته أحداثاً لا يمكن للعقل تصورها. انتهى النقاش بشكر أحد الحضور لأيوب والقائمين على الفيلم، كونه وثّق مأساة لم يتعرف أبناء جيله إليها من كثب. عمره الصغير حينما قامت الثورة لم يسمح له برؤية الحدث كما قدمه له الفيلم.
في سورية ما قبل الثورة، لم يكن هناك سينما مستقلة تتوجه إلى الجمهور وتجتهد في اختيار سوية الفيلم بمحتواه الفكري أو الجمالي. ويشمل ذلك السينما الخاصة التي كانت تحتكم إلى الأيديولوجيا الحاكمة أو إلى المعايير التجارية. ومن ثَمّ، لم تنجُ السينما من اللوثة المسيطرة ومن موجات التسطيح المنفلتة. هُمّش هذا الفن وبات ذكرى موجعة في قلوب محبيه، وهُدمت دور السينما الخالدة وحُرقت ثم حوّلت إلى مبانٍ تجارية وكراجات. حتى اللحظة، يستعيد أهالينا ذاكرة وجودهم مع أحبائهم في هذه الصالات، يرثونها وكأنها أطلالهم المنسية. أدرك العديد من المهتمين بالسينما هذه الحقيقة، فسعوا جاهدين إلى استعادة ألق هذا الفن وردّه إلى الشعب معتمدين على نشر سينما حقيقية تمسّ واقعهم وتحاكي ذائقتهم. وهي النقطة الأساسية التي يؤكدها منذر في كلامه: “أكثر ما جهدنا خلال مسيرة النادي على إنجازه، هو قدرتنا بأن ننتقي أفلاماً متنوّعة تراكم وعياً مختلفاً يساهم في إعادة صياغة علاقة المُشاهد مع السينما”.
بلغ عدد الأفلام المعروضة في النادي منذ تأسيسه 275 فيلماً، من 71 دولة، تراوح سنوات إنتاجها بين عامي 1902 و2024. وكان كثير منها شارك في تظاهرات سينمائية مختلفة، مثل: تظاهرة السينما الأفريقية، والآسيوية، واللاتينية، والسورية، والمصرية، إضافة إلى السوريالية، والأنثروبولوجية، وتلك المقتبسة عن أعمال أدبية (روايات وقصص ومسرحيات)، والفيلم القصير، والخيال العلمي، والفن التشكيلي في السينما، والمرأة، وسينما الأطفال واليافعين، والسينما البيئية والكوميدية. يقول منذر: “خصصنا عروضاً لمناسبات مختلفة، مثل اليوم العالمي لكوكب الأرض بمشاركة أصدقاء من جمعية روّاد البيئة في جرمانا، واليوم العالمي لأمراض القلب بمشاركة طبيب مختص، وعروضاً لتكريم بعض الفنانين الراحلين، مثل المخرج السوري عمر أميرالاي، والمخرج السوري رياض شيّا، والممثل السوري خالد تاجا، والمخرج اللبناني برهان علوية، والمخرج الفرنسي جان-لوك غودار”. يضيف: “استضفنا العديد من صنّاع السينما مثل: المخرج محمد ملص، والفنان يوسف عبدلكي، والمخرج غطفان غنوم، والمخرجة ماريا ظريف، والمخرج إياس المقداد، والمخرج غياث المحيثاوي، والروائي خالد خليفة، والروائي ممدوح عزام، والممثلة مريم علي، والفنانة أمل حويجة، والفنان سميح شقير، والممثل ينال منصور والممثل جان دحدوح، إضافة إلى الحضور الدائم للفنانتين سمر سامي وحنان شقير، صديقتا النادي منذ تأسيسه”.
سقط نظام الأسد في الثامن من ديسمبر/كانون الأول 2024، فما كان من النادي إلا أن احتفى بهذا الحدث الأهم في حياة السوريين، ليسارع إلى عرض أفلام توثق تجارب الحصار والمجازر، حُرم من عرضها سابقاً. خلال سنوات الثورة، حمل العديدون مهمة نقل المأساة السورية إلى الخارج. ولأهمية هذا الحدث يتحدث منذر شارحاً: “عرضنا في تظاهرة ‘سينما الحرية’ أفلاماً عن الثورة السورية، بهدف التعرّف إلى المآسي التي عاشها السوريون والسوريات خلال السنوات السابقة، والتأمّل بهذه التجارب القاسية، ومناقشة سُبُل الخلاص والتعافي الفردي والجمعي، في جلسات النقاش والحوار التي ننظمها بعد العرض. عرضنا ضمن هذه التظاهرة 18 فيلماً حتى اليوم”. يضيف: “عرضنا في أحدها فيلمين عن حصار مخيّم اليرموك: “ميغ” (2013) للمخرج ثائر السهلي، و”رسائل من اليرموك” (2015) للمخرج رشيد مشهراوي والمصوّر الشهيد نراز سعيد، ودعونا أربعة أصدقاء (امرأتان ورجلان) من أبناء المخيم الذين عاشوا تجربة الحصار القاسية التي مات خلالها 181 شخصاً من أبناء المخيّم نتيجة نقص الغذاء والدواء. كانت جلسة النقاش بعد العرض استثنائية للأصدقاء الفلسطينيين وهم يتحدثون عَلناً، لأول مرة عن ذكرياتهم القاسية وتفاصيل الحياة اليومية تحت الحصار، فيبكون مرّات ويضحكون مرّات أخرى، وكذلك فعل العديد من الحضور، بكاءً وضحكاً، كما تشجّع أحد الأصدقاء، أيضاً للمرة الأولى، ليتحدث بحرقة عن الإذلال الذي خبره وعاشه مع عائلته خلال حصار مدينة دير الزور”.
عاش السوريون سنوات الحرب وهم محاصرون في عزلتهم. يطلّون خارج الحيّز الضيّق لحياتهم عبر شاشات الحواسيب والهواتف المحمولة، وحيدين. لذلك، بات ضرورياً تنظيم نشاطات تقوم على التفاعل والمشاركة ومحاولة سماع بعضهم الآخر. وهنا يأتي دور السينما، فليس هناك من بابٍ أو سُلَّمٍ يُفضي إلى عزلة الآخرين أفضل من السينما. وهو الأمر الذي اتضح جلياً بعد حضور فيلم “السنونو” للمخرج الكردي مانو خليل الذي عُرض احتفالاً بأعياد النوروز. تم التواصل مع المخرج الذي تعاون مع القائمين على النادي بكل ود وحب، وعبّر عن فرحه باعتبار فيلمه أول فيلم كردي يُعرض في دمشق.
والجدير ذكره هنا، آلية السرد والطرح التي عُني الفيلم في تقديمها، إذ جهد على تناول تفصيل صغير مؤثر من كومة من التفاصيل التي توثق معاناة طويلة عاشها الكرد، وللأسف ما زالوا يعيشونها.
وعلى العكس مما هو متوقّع بابتعاد الناس عن الفنون في أوقات الحرب، نشطت السينما واستمرت وانتشرت أيضاً وذلك لقدرتها على تلبية حاجة الناس إلى الحياة، إلى اللقاء، إلى الحديث والضحك والبكاء، وإلى تكوين صداقات ومعارف جديدة. “من الأمور اللطيفة التي حصلت، توجه عدّة أصدقاء للنادي إلى دراسة السينما أكاديمياً في سورية مستفيدين من عروض النادي ونقاشاته وتشجيع أصدقائه. كذلك لا أنسى تفاعل الأطفال واليافعين في العروض التي نظّمناها لهم. فالكثير منهم أبناء المناطق المنكوبة، كانوا للمرة الأولى يتعرّفون إلى السينما، ويشاهدون فيلماً على شاشة كبيرة مع العشرات من أقرانهم، ما زلت أذكر ضحكاتهم وزقزقاتهم، وعيونهم المسمّرة بدهشة على الشاشة الكبيرة وأفواههم المفتوحة بدهشة وكأنهم يلتهمون الضوء في عتمة الصالة. وبعد انتهاء العرض يحاول بعضهم دفع الأجرة، فنقول لهم الحضور مجاني، فيستغرب أحدهم ويتساءل: عنجد؟ يعني بتعرضوا أفلام للناس وبدون مصاري؟ كتير حلوين إنتو”، يتحدث منذرعن أقرب التفاصيل التي أثرت به خلال مسيرة النادي.
نقلاً عن منذر، يخطّط النادي حالياً لتنفيذ مشروع “سينما متنقّلة” في الأماكن المتضررة في دمشق وريفها “نعرض فيها أفلاماً سينمائية عن الثورة السورية وتصوّر ما عاشه السوريون خلال السنوات الماضية، وننظم جلسات للنقاش مع أبناء هذه البيئات الذين عانوا الحصار والقصف والتهجير، في سبيل التعافي الفردي والجمعي. كما نخطط لعرض أفلامٍ مخصّصة للأطفال واليافعين من أبناء هذه المناطق، أفلام مدبلجة أو مترجمة للعربية حول مواضيع الحياة والأمل والفرح والصداقة والتعلّم والحقوق وغيره، كتعويضٍ صغيرٍ عن كل أيام الحرمان التي عاشها هؤلاء الأطفال”.
العربي الجديد