هل سلطة دمشق منفصلة عن الواقع كما سابقتها؟/ بكر صدقي

تحديث 10 نيسان 2025
من بديهيات السياسة، بالنسبة لأي حاكم، هي إدراك المسافة بين ما يريد وما يستطيع، أي بين الأحلام والرغبات والشروط التي يفرضها الواقع. لهذا يمتلئ التاريخ بالأمثلة عن التغييرات الكبيرة التي تطرأ على من يصلون إلى السلطة بالقياس إلى ما أعلنوها من برامج عمل ووعود قبل ذلك، بصرف النظر عن طريقة وصولهم إلى السلطة، سواء كان ذلك عبر صناديق الاقتراع أو انقلاب عسكري أو تمرد ثوري…
ما لاحظناه على السلطة الجديدة في دمشق أنها عموماً تقول ما يريد الآخرون سماعه وتعمل كما تريد هي. هذه الازدواجية بين الخطاب والممارسة مردها أنها ضعيفة بجميع المعاني، تريد أن تحكم بمعايير إيديولوجية تتسق مع عقيدتها مع محاولة إرضاء الآخرين بالكلام. والآخرون هنا هم، بالدرجة الأولى، الدول النافذة، الولايات المتحدة وأوروبا وروسيا وتركيا ودول الخليج العربي وإسرائيل، التي تمارس ضغوطاً متفاوتة عليها للإيفاء بالتزامات تظنها السلطة لفظية أي يمكن إرضاءها بالوعود والكلام. ويبدو أنه ليس ثمة «آخرون داخليون» بالدرجة الثانية أو الثالثة حتى. فالسلطة تصم أذنيها عن كل الشكاوى المتصاعدة من الداخل على ما لا يمكن القبول به من تصرفات الأدوات الأمنية، وعلى سلسلة الإجراءات المؤسسية التي إما لم تغير شيئاً من منظومة الحكم الأسدية أو غيرت نحو الأسوأ في بعض الميادين.
من المحتمل أن هذه السلطة «تغش» من أنظمة الحكم السابقة عليها في تاريخ سوريا، وبخاصة نظام الأسد إبان عهد مؤسسه حافظ الأسد الذي كان حريصاً على شرعيته الخارجية لدى المجتمع الدولي، فيما يحكم الداخل بالحديد والنار. لكنها تغض النظر عن الظروف التي قام فيها الأسد بالاستيلاء على السلطة بانقلاب عسكري. ففضلاً عن الاستقرار الداخلي واستثمار الاستياء الشعبي من حكم مجموعة 23 شباط، كان في سوريا جيش قوي واقتصاد مستقر وإن كان ضعيفاً، ولم يلق انقلاب الأسد مقاومة تذكر، فكان هذا يلائم المجتمع الدولي والإقليمي، بخاصة بعد ابتعاده عن راديكالية الحكم السابق تجاه الغرب ودول الخليج، فطور علاقاته مع كل منهما وأعطاهما التطمينات التي يريدانها بالقول والفعل معاً، في حين اقتصرت ازدواجيته على الداخل بين شعارات قومية واشتراكية وواقع فساد ومحسوبية وإفقار واسع للطبقات الدنيا.
واضح أن ما يمكن تسميته بشهر العسل قد انتهى بالنسبة للسلطة الجديدة في علاقاتها مع المجتمع الدولي كما في علاقتها مع المجتمع السوري. يمكن اعتبار المجازر التي ارتكبتها فصائل منضوية تحت وزارة الدفاع في مناطق الساحل على أساس طائفي صريح حداً فاصلاً بين فرحة السوريين بسقوط نظام الأسد الإجرامي وانكشاف دعاوى السلطة الجديدة عن برنامج سلطوي لا يأبه بتعدد المجتمع أو شروط المجتمع الدولي التي تظن أنه يمكنها التحايل عليها. كان ابتهاج السوريين بسقوط نظام الأسد قد دفعهم، في الفترة الأولى، إلى غض النظر عن خلفية هيئة تحرير الشام الإيديولوجية وتجربتها السلطوية في منطقة إدلب، على أمل أن تدرك «الهيئة» متطلبات حكم مجتمع متعدد في شروط داخلية وخارجية بالغة القسوة. وشمل غض النظر هذا الظروف الإقليمية التي سمحت بسقوط نظام الأسد واستيلاء «الهيئة» على السلطة. أعني العدوانية الإسرائيلية المدعومة غربياً التي أنهت الوجود الإيراني في سوريا وأنهكت حزب الله في لبنان ودمرت قطاع غزة. فلولا الخطة الأمريكية ـ الإسرائيلية في ضرب النفوذ الإقليمي لإيران، بما في ذلك السماح بسقوط نظام الأسد، لما تمكنت هيئة تحرير الشام من الاستيلاء على السلطة في دمشق. ويمكننا القول الآن إن القوى النافذة نفسها لن تسمح للسلطة الجديدة في دمشق من التمدد إلى خارج المناطق التي كانت تحت سيطرة الأسد سابقاً، ولا أن تكرس سلطتها وتمكنها ما لم تخضع لـ«دفتر الشروط» الذي قدمت لها في مناسبات عديدة، بدءاً من مؤتمر عمان الدولي الإقليمي بعيد سقوط نظام الأسد مباشرةً، وصولاً إلى مؤتمر بروكسل، مروراً بكل الوفود الدبلوماسية التي زارت دمشق للتعرف على حكام سوريا الجدد، وليس لمنحه شرعية بالمجان.
كان يمكن لمؤتمر الحوار الوطني المزعوم أو الإعلان الدستوري أو تنصيب الشرع رئيساً للجمهورية أو حتى تشكيل الحكومة أن تمر ويغض النظر عنها من قبل الدول النافذة، وإن ببعض التحفظات، لولا مجازر الساحل ولولا استمرار وقوع انتهاكات مماثلة إلى اليوم على رغم تشكيل لجنة تقصي الحقائق. هذا فضلاً عن التنازع التركي ـ الإسرائيلي الذي ينبئ بتقاسم النفوذ العسكري بينهما في سوريا برعاية واشنطن ترامب، ما من شأنه أن يشل أي إمكانية لاستقلالية القرار لدى السلطة الجديدة.
المدهش أن هذه السلطة التي تبدي استعداداً للتعايش مع كل الضغوط الخارجية لا تبدي أي مرونة بشأن برنامجها الإيديولوجي غير المعلن المتمثل في نظام سلطوي شديد المركزية مع أسلمة متشددة للحياة العامة وتدخل رجال الدين في إقرار «شرعية» القرارات الوزارية والقضائية من خلال «مجلس الإفتاء الأعلى» وهندسة الحياة السياسية بأداة غير دستورية هي «الأمانة العامة للشؤون السياسية» برئاسة وزير الخارجية! وفي الممارسة اليومية تظهر أخبار كل يوم، عن التدخل الفظ للأمن العام في شؤون السكان بطريقة تذكر بحكم المخابرات أيام نظام الأسد.
هامش الوقت يضيق باطراد أمام السلطة، وباتت التكهنات بشأن اقتراب نهاية السلطة الجديدة أو مخططات تقسيم الجغرافية السورية وفقاً للطوائف والإثنيات ومناطق النفوذ شائعة، في حين لم يطرأ أي تغير نحو الأفضل بالنسبة لعموم السكان، وتدهورت لدى بعض الفئات.
كاتب سوري
القدس العربي