“اقتصاد” فرع الأمن في سوريا: جدّية “العمل” ومصير “الدولار المصادر”/ عمّار المأمون – فراس دالاتي

12.04.2025
“العمل الإداري” داخل فرع الأمن يبدو للوهلة الأولى بيروقراطياً بحتاً، وغير دقيق، والجهد المبذول لإنجازه يبدو سينيكياً، لكنه يُخفي وراءه تهديداً لحيوات الآلاف وعائلاتهم، مئات الوثائق التي اطّلعنا عليها تكشف شكلاً من أشكال “دورة رأس المال” داخل الفرع،كونه يمتلك ميزانيته الخاصّة، التي يحصّلها بنفسه، ميزانية مختلفة عن تلك التقليدية القادمة من مؤسّسات الدولة المالية.
يحوي مبنى فرع الأمن الداخلي (الفرع 251 المعروف باسم فرع الخطيب) الواقع وسط حي سكني مكتظّ في دمشق، باباً حديدياً يلفت الانتباه، إذ كُتب على القسم الأيسر منه بخطّ اليد: “خطار الموت- موادّ كيماوي”، وكُتب على القسم الأيمن، أيضاً بخطّ اليد: “موادّ سريع الا انفجار”. هاتان العبارتان وما تحويهما من أخطاء لغويّة، قد يكون مدخلاً مناسباً للكتابة عن طبيعة “عمل” المخابرات السورية، أو على الأقلّ تلك التي حصلنا على نسخ من بعض وثائقها، والتي تقدّم ملامح عن “العمل” الإداري؛ لا ذاك القمعي، العمل الخاص بالمراقبة وكتابة التقارير وجمع المعلومات، والأهمّ ضبط “مالية” الفرع وكيفية حركة “الأموال”، جهد بيروقراطيّ ربما كان يحصل على مكتب تختزل الصورة أدناه “أدوات العمل” المطلوبة لإنجازه.
“العمل الإداري” داخل الفرع يبدو للوهلة الأولى بيروقراطياً بحتاً، لكن غير دقيق، والجهد المبذول لإنجازه يبدو سينيكياً، لكنه يُخفي وراءه تهديداً لحيوات الآلاف وعائلاتهم، آلاف ما تزال مصائرهم مجهولة حتى اليوم. مئات الوثائق التي اطّلعنا عليها تكشف شكلاً من أشكال “دورة رأس المال” داخل الفرع، ونشدّد على كلمة “رأس المال”، كون الفرع يمتلك ميزانيته الخاصّة، التي يحصّلها بنفسه، ميزانية مختلفة عن الميزانية التقليدية القادمة من مؤسّسات الدولة المالية، التي سنشير إليها لاحقاً.
هذا “العمل” يمتدّ من صرف مكافآت المُخبرين، إلى مراقبة وسائل التواصل الاجتماعي، مروراً بالحصول على المعلومات من “المصادر”، لكن طبيعة هذا العمل بالذات، وارتباطه بمؤسّسة أمنية انهارت وتركت لنا آلاف الوثائق، وضعنا أمام العديد من الأسئلة، لا تلك التي تتعلّق بالعقلية المخابراتية وسُخفها في الكثير من الأحيان، بل بكوننا أمام ماكينة تسبّبت بقتل الآلاف من السوريين، لكنها على الورق، وضمن الجهد البيروقراطي، ماكينة مهترئة، بدائية، بل حتى أن “مصادرها” مشكوك فيها.
عن “الأرشيف الوهمي” والعدالة الانتقالية
أبرز التساؤلات التي نطرحها تتعلّق بمفهوم “الأرشيف المزيف”، أي إلى أي حدّ محتوى هذه الوثائق التي نقرأها، ويبني عليها فرع الأمن الاتّهام (ونبني عليها نحن أيضاً فرضيات وأسئلة) هي “حقيقية”، ويُمثّل محتواها الحقيقة؟ هذه المسؤولية التي لا يتبنّاها فرع الأمن، تدفعنا إلى مقاطعة المصادر، والشهادات، ومحاولة عقلنة الوثيقة ومنطقتها، لأنه ببساطة لا يمكن تبنّي التقارير والمعلومات الصادرة عن الفرع نفسه بصورة تامّة. وجدنا أنفسنا كصحافيين أمام جهد أرشيفي وتوثيقي مضطرّين للقيام به، بل يحوي منحى ساخراً، يلخّص بسؤال كيف نثق نحن (والمخابرات نفسها) بصحّة المصادر ومعلوماتها؟
هذه التساؤلات لا بدّ منها لفهم طبيعة “العمل” داخل الفرع، كوننا أمام طبقات من الفساد تبدأ من التهم الملفّقة، وتنتهي بسرقة الأموال وابتزاز العائلات، وعلاقات مع مخبرين لا نعلم مدى جدّيتهم أو كيديتهم، يعلمون مقابل مبالغ ضئيلة جداً، وبعضهم؛ وهم قلّة، يحصلون على مكافآت تتجاوز الألف دولار، ما قادنا إلى إشكالية أخلاقية- حقوقية، إذ وقعت علينا مهمّة مراعاة العدالة الانتقالية التي لم تُقونَن بعد في سوريا، ولم يُرسَم لها مسار تقاضٍ واضح، ما اضطرّنا للاستعانة بخبراء قانون سوريين يعملون خارج سوريا، لضبط كيفية صناعة التحقيقات الصحافية وأسلوب الاتّهام وعقلانية الاتّهام نفسه.
أبرز الأسئلة التي واجهناها بخصوص “العاملين” في الفرع و” المتعاونين” معه، كانت: من يحقّ له نشر قوائم أسماء المتعاونين مع الفروع الأمنية، أو “المندوبين” الذين يقبضون أموالاً مباشرة من الفرع؟ هل هؤلاء مجرمون؟ ما هو تصنيفهم القانوني؟ ما التهم التي يمكن توجيهها إليهم؟ من يضمن حياتهم ضدّ الانتقام في حال نُشرت هذه الأسماء؟
نطرح هذه الأسئلة لأن الحديث عن “العمل” في أحد الفروع الأمنية، كشف لنا عن طبيعة عمل “رجال الأمن” و”المبعوثين” و” المصادر” و”المتعاونين”، قوائم بأسماء لكلّ منها مهمّات تكشف لا فقط الشكل الاقتصادي، بل أيضاً طبيعة شبكة العلاقات التي يبنيها فرع الأمن من أجل “العمل”، وضبط موارد الدخل والنفقات المتعدّدة التي تُثير المفاجأة حين الاطّلاع عليها.
الرصد والتقصّي: متابعة وسائل التواصل الاجتماعي والأخبار
نقرأ في مذكّرة اطّلاع موجّهة إلى مدير إدارة المخابرات العامة، عن تقصٍ قام به الفرع في عام 2024، تقصٍ وراء معلومات عن أجهزة تجسّس وصلت إلى سوريا عبر ميناء اللاذقية ومعبَر المصنع الحدودي، نفت الإدارات المُشار إليها في البرقيّة، وجود هكذا أجهزة ضمن “شحنة طاقة بديلة” إنتاج شركة صينية.
ما حرّك التقصّي تحقيق نشره تلفزيون سوريا، المُعارض والمُموَّل من قطر، دولة “عدو” لسوريا الأسد. يتّهم التحقيق عدداً من ضبّاط النظام ووسيم الأسد، بالمسؤولية عن هذه “العملية”، وقد لُخّص نصّ التحقيق الصحافي في الوثيقة.
هنا نحن أمام مفارقة، تلفزيون سوريا قدّم مصادر وشهادات عن وجود الشحنة، في حين نفت المخابرات وجودها، وحسب تحقيق تلفزيون سوريا، هناك اعتقالات ووثائق حصلوا عليها من النظام، بالتالي، هل كُذّبت الحكاية ضمن المخابرات فقط؟ أم هي لعبة تصفية حسابات داخل بنية النظام نفسه عبر تسريب معلومات للوسيلة الإعلامية المعارضة لنظام الأسد؟
“العمل” الذي بُذل هنا والمراسلات التي تمّ تبادلها داخل الفرع تنفي الحكاية بكاملها، وهنا نعود إلى مفهوم “الأرشيف المزيّف”، هل من الممكن أن تكذب أجهزة المخابرات في شأن شديد الخطورة كتهمة “التجسّس” لصالح “العدو الأزلي؟”. تواصلنا مع معدّي التحقيق في تلفزيون سوريا، الذي أشار إلى المصادر التي اعتمد عليها، وأكّد أن “الأمن العسكري” هو المسؤول عن الاعتقالات المذكورة في التحقيق، مستغرباً إنكار المخابرات العامّة وجود هكذا شحنة، وتجاهلها اعتقال عدد من موزّعي لوحات الطاقة الشمسية !
عمليات الرصد والمراقبة، تتجاوز تهم التجسّس نحو ما يمكن وصفه بالمعلومات العامّة، كأن يُرسل أحد قادة “منظّمة التحرير الفلسطينية” مقالاً لرئيس مكتب الأمن الوطني في عام 2022، عن الوحدة (8200) الإسرائيلية الخاصّة بعمليات التجسّس والتلاعب بالرأي العام، المقال المنشور في موقع “وطن يغرّد خارج السرب”، ولا يحوي معلومات تمسّ أمن الدولة مثلاً، أو تكشف جديداً، لكن إرساله إلى الفرع بهدف “الاطّلاع” مثير للاستغراب، كونه متوافراً علناً، ربما هذا شكل من أشكال استعراض الولاء بين “فتح” والمخابرات، عبر تزويدهم بـ”معلومات”، لكن مضمون هذه “المعلومات” متوافر حرفياً للجميع، أي لا تحوي أية قيمة استخباراتية!
اللافت أيضاً أن الفرع يبحث في “الإنترنت” عن الأخبار الزائفة، كالخبر الذي انتشر عن الصحافي الإسرائيلي تسفي يحزقيلي الذي دخل سوريا في عام 2024 بجواز سفر مزوّر، حسب ما نشر الصحافي المقرب من “حزب الله” والنظام السوري حسين مرتضى، التقرير أكّد أن هذا الصحافي لم يدخل سوريا، والجواز المزوّر الذي تحدّث عنه مرتضى غير موجود.
لكن اللافت والمثير للمفارقة، أن مصدر المعلومات في التقرير الذي ينفي الخبر هو منصّة ” تأكّد”، تلك التي أخطأ كاتب التقرير في اسمها وكتب “تأكيد”، وهي منصّة سعودية، لكنها حسب وصفها “أول منصّة سعودية تربط بين المنشآت وشركات الحراسات الأمنية!”.
الواضح أن مصدر الحكاية السابقة هو منشور لحسين مرتضى، التقطه أحدهم في فرع الأمن، وقام بالبحث على “شبكة الإنترنت”، للوصول إلى النتيجة، لكن اللافت، هو طبيعة جهد التحقّق من المعلومة، التي بدأت بمنشور من مرتضى، التقطه أحدهم، والتقط ما نشرته “تأكّد” ونفى الموضوع، وفي الهامش ذكر أن الاسم الوهمي والجواز المزوّر غير موجودين، بصورة ما، مصدر “الحقيقة” كان “تأكّد”، لا دوائر الدولة!
واحدة من الوثائق اللافتة للوهلة الأولى تعود إلى العام 2021، وتشير إلى أوستن تايس الصحافي الأميركي المختفي في سوريا، الذي لطالما أنكر نظام الأسد خطفه في عام 2012، الوثيقة تقول إن هناك صفحة “فايسبوك” باسم (Find Austin Tice) نشرت ضمن مجموعة “سوق حلب الأول للمستعمل” على “فايسبوك”، منشوراً حول مكافأة بقيمة مليون دولار لمن يقدّم معلومات عن الصحافي الأميركي.
اللافت، أن الجهة التي تراقب، لم تكن تراقب صفحة تايس أو الأخبار عنه، بل صفحة “فايسبوك” علنية، بصورة ما، هناك موظّف متفرّغ لهذا الشأن، ربما لاصطياد من يقدّم معلومة ربما عن تايس، أو رصد ردّ الفعل السوري حول خطف تايس. بصورة ما، هناك رصد ومراقبة لوسائل التواصل الاجتماعي، بخصوص موضوعات محدّدة تمسّ صورة سوريا في “الخارج” ربما.
لكن في ذات الوقت، هذه العلاقة مع “الخارج” لا نعلم أسلوب التعامل معها، إذ تصل معلومات تبدو مهمّة لكن أيضاً مشكوك فيها، مثلاً هناك وثيقة تكشف رسائل تهديد وُجّهت إلى بعض موظّفي شركة طيران “أجنحة الشام” في عام 2024، بعد نحو 5 أشهر من “طوفان الأقصى”، والرسائل من رقم إسرائيلي وتحمل تهديداً مباشراً للموظّفين كون شركتهم تعمل على نقل السلاح إلى “قوة القدس” و”حزب الله”، وحين التواصل مع موظّفين رفيعي المستوى في شركة الطيران، نفوا وصول هذا رسائل لهم أو علمهم بها!
لا نملك التقارير الأمنية التي يتمّ تبادلها، ولا حتى أي سلسلة كاملة عن القرارات والإجراءات المتّخذة، لكن التناقض وقيمة المعلومات في بعض الأحيان، يكشفان أن الفرع نفسه قد لا يمتلك معلومات عن الموضوع، فلا يحكم على قيمتها، ناهيك بنشاط الفروع الأخرى التي قد لا يتمّ التواصل معها، وهذا ما أكّده أنور رسلان رئيس قسم التحقيق في فرع الخطيب- أمن الدولة، في أول نصّ دفاعي عن نفسه في المحكمة في ألمانيا.
أكّد رسلان الذي حُكم بالمؤبد، أن فرع الخطيب تحوّل إلى ثلاثة فروع تعمل بصورة متوازية، ولا تتواصل مع بعضها بعضاً، وهذا ما يتّضح في الكتب المتكرّرة التي تطلب التأكّد من الهوّية الأمنية الممنوحة لأحدهم، والتأكّد إن كانت من فرع الجوية مثلاً، أو المهامّ الخاصّة، بصورة ما هناك غياب للتنظيم، ربما السبب هو تفادي الإدانة والاتّهام، أو استقلال كل فرع لضبط هرمية القرار والأوامر.
رأسمال فرع الأمن: المصاريف
لا معلومات واضحة عن اقتصاد فروع الأمن قبل سقوط النظام، نعلم أن هناك ابتزازاً لأهالي المعتقلين، ورشى لتسيير أمور الحياة، لكن دواخل الفرع نفسه، مصاريفه بقيت غامضة لما قبل سقوط نظام الأسد، ومع ظهور الوثائق نكتشف مثلاً، في وثيقة تعود إلى العام 2021، معنونة بـ”جدول توزيع مبالغ الهدايا النقدية لعناصر الفرع 111″، قائمة بأسماء بعض العناصر والمكافآت الموزّعة لهم، عناصر تتراوح رتبهم بين عميد ومساعد.
“الفرع 11” يُوصف بأنه “مكتب مدير الإدارة العامة للمخابرات”، وجاء في تقرير الشبكة السورية لحقوق الإنسان بأنه: “القلب النابض للجهاز، حيث يحتوي على ملفّات جميع العاملين ضمن هذا الجهاز، كما يقوم بمراقبة العاملين ضمن الجهاز منعاً لأي ثغرة ضمن الجهاز، و يلعب دوراً في ترقية أو إبعاد أو نقل العاملين ضمن الجهاز”.
اللافت أنه في عام 2021، حين كان سعر صرف الليرة السورية مقابل الدولار 2500 ليرة، كانت المكافآت تتحرك بين 10 آلاف ليرة سورية وألف ليرة، أي البعض حصل على مكافأة لا تتجاوز الـ20 سنت وأعلى مكافأة كانت 4 دولار، وبالطبع لا نعلم ما سبب المكافأة، لكن تكشف هذه “الهدايا” عقلية المؤسسة الأمنية، التي تتعامل بكل “نظامي” بالعملة المحلّية، في حين الاقتصاد الخفي الذي توظّف فيه العملات الأجنبية يكون على مستوى آخر؛ سنشير إليه لاحقاً، لكن هذه المبالغ الرمزية، تدفعنا إلى طرح تساؤلات حول طبيعة بناء الولاء، والعمل وقيمته التي لا تعكسها قيمة “الهدية”.
نقرأ أيضاً جداول بصرفيات “المندوبين”، المعنون بـ “صرفيات المندوبين عن شهر شباط/ فبراير للعام 2015، من قِبل رئيس فرع الأمن الجوّي “أي مكافآت يأمر بها رئيس الفرع نفسه، وتتحرّك بين ألف حتى 5 آلاف ليرة سورية (سعر صرف الدولار حينها 300 ليرة سورية مقابل 1 دولار) وتشمل حملة رتب عسكرية، وأشخاصاً من الغريب أنهم يحصلون على مكافآت، مثلاً “مستخدم مدني لدى كتيبة إنشاء المطارات”، أو “عاملة لدى مؤسّسة الطيران المدني في حلب”، أي بصورة ما، شبكة العلاقات تمتدّ خارج الموظّفين الرسميين في الفرع، نحو “مندوبين” لا نعلم طبيعة المعلومات التي يقدّمونها مقابل المبالغ التي يتقاضونها.
نقرأ في جدول “الصرفيات” لأحد أشهر العام 2016 قائمة مثيرة للاهتمام، لا مكان لمناقشتها بكاملها، ففيها مصاريف تتحرّك بين “تسديد إيجار بيت”، و”فريق الحفر العامل في فرع المنطقة الجنوبية”، أو “شراء محارم+ مياه بقين”، و”أجور طريق”، أو “مخصّصات إدامة سجون التحقيق”، أو “إقامة ضيوف في نادي الرماية”، أو “صيانة كاميرا في ساحة العباسيين”، قائمة تُفعّل المخيّلة حول طبيعة الأنشطة التي كان فرع الأمن مسؤولاً عنها، وأكثرها إثارة للمفارقة هي”قيمة صيانة فرش منزل لمصدر في فرع التحقيق!
رأسمال فرع الأمن: الواردات
يقابل مصاريف فرع الأمن المتنوّعة، التي تبدو “منطقية”، الواردات المالية، التي تُثير الاهتمام وترسم صورة واضحة عن طبيعة الفساد، وتحوّل الفرع إلى مؤسّسة ذات نشاط اقتصادي داخلي، إذ نقرأ في جداول من العام 2016 مثلاً، عن واردات القطاع الأمني لشهر واحد، التي تتطابق مع مخيّلة السوريين عن انتشار رجال الأمن في سوريا، هذه الواردات مصدرها “سيارات التاكسي”، و”الجمارك”، و”الندوة” و”رواتب معادة من مندوبين”، ومبيعات من” بسطات وأكشاك”، ومجموعها لا يتجاوز 3 ملايين ونصف المليون ليرة سورية (سعر الصرف حينها حوالي 500 ليرة سورية للدولار الواحد) أي نحو 7 آلاف دولار.
لكن اللافت في مصاريف فرع الأمن هو ما يسمّى “الأموال المصادرة”، التي عادة ما تكون بالعملات الأجنبية، والتي لا نعلم من أين تمّت مصادرتها، ولِمَ هي موجودة في الفرع ضمن “القسم المالي” في المخابرات الجوّية، لكن يمكن أن نكتشف أسلوب توظيفها في تقارير متعدّدة، إذ نقرأ طلباً يعود للعام 2018 بصرف 4 آلاف دولار من “الأموال المصادرة”، لسببين: المبلغ الأول هو ألف دولار وجبات طعام للكلاب البوليسية في “قسم المنطقة الساحلية والفرع الفنّي”، و3 آلاف سلفة لـ”طالبين يدرسان في الخارج بالتعاون مع الإدارة”، وُصفا بـ”المتعاونين بشكل ممتاز”، ولا نعلم بالضبط من هما الطالبان ولا المهمّة التي يقومان بها أو دراستهما، لكن اللافت أن الفرع لديه “مندوبين” خارج سوريا، ويحصلون على “مكافآتهم” بالدولار، وهنا شُبهة جريمة في حال ما زال الطالبان المجهولان في أوروبا .
نقرأ أيضاً في وثيقة تعود للعام 2018، عن ضرورة تأمين مبلغ 10 آلاف دولار من “الأموال المصادرة”، لـ”شراء 12 أجهزة “آيفون راقي”، لتقديمها هدايا لكبار الضبّاط القادة، على أن يُرسَل 40% منها إلى القيادة العامّة”، لا يهمّنا من كلّ هذه الهدايا المُكلفة، سببها وطبيعة الخدمات وراءها، لكن الواضح، أن هذا المورد المادي “الأموال المصادرة”، يشكّل القسم الأهمّ والأكبر من ميزانية الفرع، والواضح أنه يُستخدَم للمصاريف الخارجية، ونقصد هنا خارج ملاك الفرع من مندوبين وموظّفين ومصادر.
تتّضح ميزانية الفرع في وثيقة صادرة في عام 2016، لما يسمّى “الموقف المالي النقدي للقطاع الأمني”، الذي يقسّم فيه الرصيد حسب العملة، هناك العملة المحلّية، والعملات الأجنبية، نقرأ مثلاً أن الفرع كان يحوي نحو 150 ألف دولار، والوارد 6 آلاف يورو، والمصاريف بلغت حوالي 30 ألف دولار.
لفهم آلية تحرّك المال من وإلى فروع الأمن، تواصلنا مع موظّف سابق في أحد الفروع الأساسية في دمشق، وشرح لنا هرمية سلطة الفروع والعلاقات المالية، فإدارة المخابرات الجوّية وإدارة الأمن العسكري يتبعان مالياً لوزارة الدفاع، أما الأمن السياسي فله موازنته الخاصّة من وزارة الداخلية، بينما إدارة المخابرات العامّة (أمن الدولة) التي يتبع لها “فرع الخطيب” مثلاً، فميزانيتها تأتي مباشرةً من القصر الجمهوري، وبشكل عامّ رئيس كلّ شعبة من الشُعب الأساسية الأربعة، يحدّد ميزانية كلّ فرع، لكن ماذا عن الواردات والدولار المُصادر؟
يقول المصدر: “في ما يتعلّق بموضوع الأموال المُصادرة، هذه حكماً قادمة من قسم التحقيق التابع للفرع أياً كان؛ فهو الوحيد المخوّل بمصادرة الأموال، وإلقاء القبض على الناس، ومداهمة المنازل والمحلات ومصادرة الأموال”، ويُشير المصدر إلى أن “قسم التحقيق يُصادر أموالاً من المداهمات، في بعض الحالات، تُسرَق هذه الأموال، ويُسجَّل رقم محدّد في كشوف المصادرة، قد لا يتطابق مع المبلغ المُصادر. بصورة ما، رسمياً هناك جزء يوثّق في ضبطٍ ويسجّل ويرسَل إلى المصروف المركزي أو وزارة المالية وفق قرار محكمة، في حين يبقى قسم في الفرع نفسه، الذي يصرف من الأموال المصادرة المسروقة، التي لم يتمّ عملياً التصريح عنها”.
اقتصاد “المنطق” و”عدم المبالغة”
يكشف ما سبق أننا أمام دورة اقتصادية، هناك “الجهد” الذي يقابله وارد استخباراتي من جهة (تقارير الرصد والمتابعة) ووارد مالي مصدره مهمّات العناصر و “الأموال المصادرة”، ونفقات ضمن مهمّات الفرع تُدفَع بالليرة السورية، وأخرى خارجية تُدفَع بـالدولار.
لكن ضمن هذه البُنية يتّضح لا فقط سطوة فرع الأمن وامتداد أذرعه، بل أيضاً إدراك القائمين عليه كمية الفساد الموجودة، وهذا ما يتّضح في وثيقة تحمل مفارقة ساخرة، هي الكتاب الموجّه إلى المخابرات الجوّية الذي يطلب الاحتياجات من “القوى البشرية، والأسلحة والعتاد والذخائر، والمواد التقنية والفنية، والآليات”، لكن هناك شرط، وربما هذا الشرط هو ما يلخّص لا فقط اقتصاد فرع الأمن، بل ربما عقلية الفساد في سوريا كلّها، إذ اشترط الكتاب “أن تكون كمية هذه الاحتياجات ضمن المنطق، ويراعي عدم المبالغة، ويذكر ما هو ضروري فعلاً فقط”.
كمية التنبيهات والتوكيدات في هذا “الشرط” شبه كوميدية، إذ يجب أن يكون الطلب “منطقياً”، و”غير مبالغ فيه”، و”ما هو ضروري” ومع التفقيط بالنهاية، أي وكأن هناك تاريخاً من الفساد والسرقة، وفي هذه اللحظة، يجب تجاوزه، وطلب ما يحتاجه الفرع فعلاً، وهذا ما لا يمكن أن نعرفه، أي حاجات الفرع، بسبب الفساد و”الأرشيف الوهمي”، وكأنه لا يوجد ثقة بالنظام الإداري والبيروقراطي، ما يدل على أن العمل في فرع الأمن يتمّ على طبقات، طبقة رسمية علنية، وأخرى سرية فاسدة، تقوم على الاستفادة من المنصب نفسه في الفرع، ضمن شبكة أعمال وأموال يؤمّن العمل في الفرع السطوة من أجل إنجازها، وإلا لِمَ عبارة “عدم المبالغة”، وما هي نتيجة “المبالغة”، السرقة مثلاً؟ والأهمّ، كيف يمكن تقدير الاحتياجات الحقيقية، وما هو مصير الفائض والمبالغ فيه؟
درج