سوريا بين السلطة والمجتمع.. واجبات متقابلة/ جمال الشوفي

2025.04.11
تمتلئ الساحة السورية بالتحليلات غير المنتهية، وكل سوري يقدم تحليله السياسي غير مكتفٍ برأيه النسبي وحسب بل بقطعيته المستقبلية! ويتجاوزها لكافة شؤون الحياة..
ولما لا؟ فالسوريون جوعى للتعبير والقول وهذا طبيعي ومؤشره محوري في حرية التعبير دون خوف، لكن أن تتحول سوريا لساحات تشتت وآراء متضاربة متعددة الأقطاب، سياسياً وفكرياً، متنافرة ومتناقضة مثنوياً لدرجة أنه ما يُتفق عليه اليوم يُختلف عليه غداً وهكذا. فهذا لا يبشر بالخير والطمأنينة، خاصة أن الساحة السورية تجتاحها شتى أنواع التناقضات والفوضى والخوف وضعف ترسيخ شروط الاستقرار والأمن والأمان. فإن كان خلاف الأفكار طبيعي بحكم الوجود البشري، لكن أن يصبح مجالاً واسعاً للتحريض والتجييش والبحث عن اقتطاع جزء من الموقعة السورية غير المنضبطة والمستقرة لليوم، ما يتطلب التركيز حول محاورها الأساسية وتحليلها والبحث في حلولها الممكنة. وهذه ليست سحرية أو نظرية بقدر أنها مشروطة بما يمكن أن تقوم به السلطة وما يقابلها مجتمعياً وتفاعلياً.
يقول جون آدامز، رئيس الولايات المتحدة الثاني: “الحقائق مخلوقات عنيدة، ومهما كانت رغباتنا أو ميولنا أو ما تمليه عواطفنا، إلا أنها لا تستطيع تغييرها”، وبالضرورة الخروج من مثنويات مع/ضد والوقوف على الحقائق الواقعية أمر لازم ومقدمة لأي عمل نفترضه يستهدف بنيان الدولة واستقرارها، إذ تشير معطياتنا الواقعية لفوضى حالنا السوري للتشتت حول محاور عدة أساسية:
– معاملات ضعف الاستقرار السوري الأولية والتي تتناول الوضع المعاشي والإعلان الدستوري والحكومة الانتقالية، وهذه تتباين الآراء والتوجهات فيها بين رفضها كلية وما يقابلها من قبولها الكلي، فيما كل من ينقدها جزئياً وتفصيلياً وبشكل مؤسساتي يصنف بالموالاة للسلطة، أو بالمواربين بالمقابل!
– ثقافة نموذج السلطة الحالية، فجهة تراها سلطة جهادية اغتصبت السلطة وأتت بقرار خارجي، يقابلها أنها التي ضحت بالثمين والنفيس لوصولها لدمشق، بينما كل من يرى أنها سلطة انتقالية تمكنت بتنظيم قدراتها العسكرية والإدارية، وتتبعت بدقة التبدلات الإقليمية والدولية حول سوريا وتمكنت من الوصول لدمشق، فيصنف أصحابها إما أنها موالاة للتطرف أو تقليل من عظمة النصر المتحقق بالمقابل!
– اشتداد التحريض الطائفي خاصة بعد أحداث الساحل السوري الكارثية والحوادث المتفرقة بين الحين والآخر مع بعض نماذج الأقليات، ما يظهر نموذجاً من التشظي السوري يتباين بين حدين أيضاً: إدانة مطلقة أو موافقة مبررة! ما أشاع وزكى التحريض الطائفي بشكل واسع.
فيما القول بأن الضحايا هم سوريون من المدنيين أو رجال الأمن فيعتبر مواربة من كلا الطرفين …. ولم يكتفِ المشهد هنا، بل باتت تظهر المشاريع السياسية دون الوطنية التي تحاول الاستقواء بالخارج، أياً كانت صفته، تحت شعارات مناهضة الاستبداد الديني وحماية الأقليات، فيما كل من يتناول أخطاء السلطة الحالية نقدياً أو يرفض معادلات الاستقواء بالخارج ضدها يقع بين حدي التخوين والتكفير!
مما لا شك فيه أن تشكل الدول لا يأتي دفعة واحدة، ولا بقول مأثور، بل يتم بعمل متواصل ومثابر يحقق شروط تحققها بكونها دولة، وهذه تختلف عن السلطة. فأي سلطة هي محطة من محطات بناء الدولة، ولا يمكن البناء على فرضيات التخمين بأنها ستأكل الدولة ومؤسساتها كما فعل حزب البعث وسلطته العسكرية سابقاً. وفي حال فرضنا وجود مؤشرات عليها فإن مؤشرات عدم قبول هذا الفعل سورياً أوضح وأكثر واقعية ودلالتها حرية التعبير الفائضة لدى جميع السوريين، في وقت كان مجرد منشور على الفيس يعرض صاحبه للاختفاء في معتقلات النظام. بمقابل هذه الفرضيات الاستباقية، فالعمل على تجاوز معيقات المرحلة الحالية تفترض التفريق بين آليات عمل السلطة وشروط بناء الدولة من حيث كونها مؤسسات تدير شؤون البشر، وأولى أولويات السوريين اليوم بناء مؤسساتهم الشرطية والضابطة العدلية والقضائية والخدماتية. وهذه تتطلب وتفترض الإجابة عن عدة أسئلة أهمها: ضعف البنى الخدمية والاقتصادية، وانتشار الشحن الطائفي وتكريس مفهوم الأقليات بديلاً عن المواطنة، وانتهاك الحقوق المدنية الناتجة عن التأخير في إنشاء هيئة العدالة الانتقالية، وجمعها باتت مؤشرات واقعية ترقى لمستوى حقائق لا يمكن تجاهلها.
أدرك جيداً السياق الموضوعي لوضعنا السوري العام والعقوبات المفروضة والتجاذبات الدولية حول سوريا، ومحاولات الدول الإقليمية والدولية الاستفادة من ضعف نواة الدولة الأولى مادياً وأمنياً واقتصادياً، لكننا كسوريين سلطة ومجتمعاً يتوجب علينا تفعيل إمكانياتنا الذاتية. وبالضرورة أجد بأن هناك مسؤولية متبادلة بين السلطة الحالية يقابلها مسؤوليات تقع على عاتق المجتمع الأهلي.
فالسلطة يتوجب عليها مد جسور الثقة وتغليب مفهوم المواطنة وسيادة القانون، ما يتطلب منها:
1- إصدار قانون بتجريم الخطاب الطائفي وملاحقة مفتعليه قضائياً. وإعادة تأهيل العاملين في جهاز الشرطة والأمن العام وتدريبهم على الإجراءات القضائية المبنية على احترام المواطن وسيادة القانون.
2- تشكيل لجان السلم الأهلي في كل المناطق السورية والانفتاح على الواقع المجتمعي وسماع مشكلاته العامة والاقتصادية والسياسية والأمنية، وهنا يمكن اقتراح تفعيل واعتماد منظمات المجتمع المدني المنتشرة باتساع لهذه المهمة، خاصة في المناطق التي تشتد فيها نعرات التحريض الطائفي والتجاذبات الشعبية الواسعة. والعمل على استخلاص نتائجها وتحليلها والعمل بمقتضياتها ونشرها علناً.
3- تفعيل الفقرة 18 من مخرجات الحوار الوطني التي تفيد بمتابعته كخطوة واسعة لتذليل الخلافات البينية وتعارف السوريين حوارياً، وإشراكهم في القضايا الوطنية والتعبير عن هواجسهم ومخاوفهم، وتكون مقدمة لتشكيل الهيئة التأسيسية لصياغة الدستور.
في المقابل على المجتمع المحلي السوري المبادرة بالمشاركة بالشأن العام بتشكيل لجانه المحلية، خاصة المتعلقة بالأوضاع المعاشية والحقوق المدنية، وممارسة دوره كمصدر لكل السلطات عبر الحوار المباشر سواء مع ممثلي السلطة والحكومة، أو مع المختلف معه سياسياً وفكرياً أو دينياً.
وأعتقد أن هذا العمل المتقابل واجب وطني يعزز الاستقرار ويقوّم مفهوم العدالة وأسس بناء الدولة، ويخرج من مثنوية مع/ضد، ويؤسس لدولة الكل السوري تدريجياً، خاصة أنه يتعمد تحقق معايير الحوكمة العصرية التي يولى بها المجتمع المدني بدوره كوسيط بين المجتمع الأهلي والسلطة وذلك تأسيساً لمفهوم المواطنة وسيادة القانون، بعيداً عن التحريض الطائفي والانكماش المحلي والتقوقع خلف الأديان.
لربما نسي البعض أو تناسى، أو أخذته صور أوروبا المدنية بحرياتها وقوانينها وحياتها المترفة وأنها لم تمر بتاريخها قبل قرنين بما يمر علينا اليوم! فإن كانت المعارضة حقا عاما، فالبناء أولوية. وإن كان الفكر النظري بنّاء نقدياً فأدوات تفعيله هي قدرة بشرية على رؤية المشكلات وطرح حلولها وعدم الاكتفاء بالنقد وكفى. فنحن اليوم وكأننا نسير على شفرة حادة، توقفنا في المكان سيزيد من أحمالنا وانغرازها حتى العظم، فيما التقدم للأمام مهما زاد انغرازها، لكنه قد يفضي لنهايتها وعلاج جراحنا المستعصية منذ عقود. فلا يرغب أي منا لمعاودة ممارسة الطرق على السدان يعاني نوبات القهر صامتاً كما فعل “الدكتور مانيت” بعد تحريره من 30 عاماً من سجن الباستيل الشهير، كما وصفته رواية قصة مدينتين، قبل أن تكتشف فرنسا بوضوح أسس ترسيخ دولة المواطنة والحقوق والحريات، وأظنها معادلة السوريين وعنوان ثورتهم.
تلفزيون سوريا