أبحاثسقوط بشار الأسد، الرئيس الفار والمخلوع

سوريا: هندسة نفوذ جمهورية الظل/ مها غزال

الجمعة 2025/04/11

في لحظة ما بعد الانهيار، حين تسقط السلطة المركزية ويتقدّم المشروع الوطني ليملأ الفراغ، لا يكون السؤال الأهم “من في الواجهة؟”، بل “من يتحكم فعلياً في مفاصل القرار؟”.

في التجربة السورية الراهنة، بعد سقوط نظام الأسد، لا يكفي تتبع الوزارات والمناصب لفهم بنية السلطة الجديدة، بل يجب النظر إلى ما هو أعمق: العلاقة بين القرار السياسي المعلن ومصدره الفعلي، بين من يُنسب إليه الفعل ومن يمارسه في الخفاء.

في هذا السياق، تبرز العلاقة المركّبة بين الرئيس السوري أحمد الشرع، الذي يمثل الواجهة السيادية للحكم، ووزير خارجيته أسعد الشيباني، الذي لم يدخل الحياة السياسية من بابها التقليدي، بل صاغ لنفسه مساراً خاصاً، تتقاطع فيه السياسة مع العمل الحركي، والعلني مع غير المصرّح به. من “المنارة البيضاء” إلى مفاوضات الظل، من الإعلام الجهادي إلى ملفات العلاقات الدولية، ظل الشيباني حاضراً، لا بوصفه شخصية تنفيذية، بل كحلقة وصل بين دوائر القرار غير المرئية والعالم الخارجي.

خلال السنوات الماضية، أعاد الشيباني إنتاج نفسه عبر أدوار متعددة وأسماء مختلفة. من “أبو عائشة” إلى “حسام الشافعي” فـ”زيد العطار”، لم يكن تبدّل الأسماء مجرد حيلة أمنية، بل انعكاس لطبيعة مرنة في بناء الدور السياسي خارج الأطر الرسمية. هذا الحضور المتنقل في التنظيمات، والملفات، والصفقات، ساهم في تشكيل صورة نمطية لرجل يفضّل البقاء في الظل، دون أن يعني ذلك غياب التأثير أو الفعل. بل العكس، فكلما غاب اسمه عن التصريحات الرسمية، اتسعت دوائر تأثيره في مجالات التفاوض الخارجي، وإدارة الشبكات الإنسانية، والتنسيق مع الفاعلين الدوليين.

حين تولّى وزارة الخارجية بعد انهيار النظام، لم يكن تعيينه قطيعة مع ماضيه، بل امتداداً له بصيغة رسمية. الوزارة نفسها تحوّلت إلى منصّة لبناء هيكل سياسي موازٍ، عبر “الأمانة العامة للشؤون السياسية” التي لم تقتصر وظيفتها على التنسيق الدبلوماسي، بل امتد نفوذها إلى حقول الإعلام، والثقافة، والإدارة المحلية، والشؤون الاجتماعية. لم يكن ذلك نتيجة لصراع بين المؤسسات، بل لتشكّل تدريجي لحكومة ظل تمارس وظائف سيادية باسم الدولة، دون أن تمر بمساراتها الطبيعية في التعيين أو التفويض أو الرقابة.

العلاقة بين الشرع والشيباني لا تشي بصراع شخصي، بل تكشف عن مفارقة بنيوية: رئيس يسعى إلى بناء دولة بمؤسسات واضحة، وشبكة نفوذ موروثة من المرحلة الرمادية السابقة تواصل العمل بأساليب ما قبل الدولة. الشرع، بخلفيته الأمنية وقدرته على إدارة التوازنات الإقليمية، يبدو واعياً لهذا التعقيد، لكنه لم يبدُ راغباً بعد في مواجهته. فالشيباني، رغم كل ما يقال عن قوته، لا يعمل خارج إرادة الرئيس، بل ضمن هامش أتاحه له السياق الانتقالي ذاته، حيث لا تزال مؤسسات الدولة في طور التشكّل، وحيث الحاجة إلى أدوات سياسية مرنة لم تُستبدل بعد بمؤسسات مستقرة.

غير أن الاستمرار في هذا النمط يطرح تحديًا حقيقياً. إذ لا يمكن بناء ثقة داخلية أو دولية في حكومة جديدة إذا ظلت بعض دوائر القرار تعمل من خارج المسار المؤسسي. كما لا يمكن إقناع السوريين والعالم بجدّية الانتقال السياسي إذا لم تكن هناك شفافية واضحة بشأن من يفاوض، ومن يقرر، ومن يمثّل الدولة في علاقاتها الخارجية.

ما يدفع للتساؤل اليوم ليس فقط تأثير العلاقة بين الشرع والشيباني على شكل الحكومة، بل على طبيعة الدولة نفسها: هل نحن أمام سلطة مؤسساتية مفتوحة، أم سلطة مزدوجة يعمل فيها الظاهر على تهدئة الخارج، بينما يدير الباطن الداخل؟ هل نعيد إنتاج بنية “الدولة العميقة”، ولكن بثياب تكنوقراطية، وعبر أدوات محسّنة لغوياً لا وظيفياً؟ وهل يقبل العالم، أصلاً، التعامل مع دولة لا تتكلم بصوت واحد، ولا تُدار من مركز قرار واحد؟

إن نموذج “حكومة الظل” في الحالة السورية ليس اتهاماً، بل توصيف لواقع مركّب، نشأ نتيجة التعقيدات السياسية والأمنية للمرحلة السابقة، لكنه بحاجة اليوم إلى مراجعة حقيقية. لا لأن من فيه غير كفؤ، بل لأن استمرار هذا النمط يقوّض فكرة الدولة نفسها، ويحول دون نشوء مؤسسات تستطيع تمثيل السوريين أمام أنفسهم قبل أن تمثلهم أمام العالم.

إن التحدي المطروح أمام الشرع يتمثل في دمج الشيباني وسياساته ضمن إطار شفاف، خاضع للمحاسبة والمراجعة، يساهم في بناء الدولة لا في مضاعفة ظلالها. أما الشيباني، فإن أهم اختبار يواجهه اليوم هو الانتقال من دور الفاعل غير المُعلن إلى رجل دولة واضح، يعمل داخل البنية المؤسسية، لا في محيطها. ذلك وحده ما يمنح الشرعية لمعناه السياسي، ويحمي الثورة من تكرار أخطاء السلطة التي ثارت عليها.

المدن

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى