الليليون الصامتون في أزقة دمشق القديمة/ سمر يزبك

13 ابريل 2025
هم شحاذو دمشق، أولادها، مراهقوها، المنتشرون في كل زاوية من زوايا المدينة. لا يترددون في الإمساك بثيابك، ينهَرونك لتمنحهم ما يسدّ رمق جوعهم. أولئك الذين يدهنون أقدامهم الصغيرة الحافية بالوحل المتجمد في برد فبراير/شباط القارس فقط كي يبدو البؤس واضحاً، هؤلاء بين أزقة دمشق القديمة، لن يأكلوك، ولن تلوث قذارتهم ملابسك النظيفة. أولئك الليليون الصامتون الذين يصرخون نهاراً.
بعنادٍ، حاولت أن أفهم حركتهم، أفعالهم، كانوا هوسي لأيام. لدرجة أنهم بدأوا يتساءلون فيما بينهم: من هذه “الخالة اللزقة”؟ من هذه الطفيلية التي تريد تحويل مأساتنا إلى مشهد للفرجة؟ ربما هذا ما نفعله جميعنا، نحن الذين نكتب عن آلام الآخرين دون القدرة على إنقاذهم. إنه عارٌ آخر يُضاف إلى عار البشرية.
تخرج في الليل أصوات بشرية تختلف عن تلك التي نسمعها في عز النهار. لا يبدو أصحابها وكأنهم يبحثون عن شيء محدد، بل هناك غضب وفراغ يهيمنان عليهم. في عيونهم تتقافز انفعالات كثيرة، لكنها تُختصر في اثنين فقط: الفراغ والغضب. الرجاء والتوسل المعتادان يظهران كقشرة رقيقة، يستطيع الرائي، الإنسان الحقيقي، أن يخترقها. حتى الروائي المتوحش، قد يذرف بضع قطرات أمام تلك النظرات المتوسلة المضلِّلة. نعم، هناك فراغ وغضب، لكنك، يا عزيزي، لا تملك الوقت أو الطاقة لفهم كل نظرة على حدة. ولا تنخدع، فنحن حين نتحدث عن “الليليين الصامتين” في دمشق، لا نعني أنهم جماعة متجانسة قابلة للتحليل أو الفهم أو التصنيف. هذه فكرة بائسة، بالية. لا يمكن قياس أي مجموعة بمعايير ثابتة، خاصة في مكان اسمه سورية، أصبح مخيفاً بطريقة عصية على التصديق.
الليليون الصامتون هم أنفسهم أولئك الأشخاص الذين يتغيرون كلياً في النهار. يصرخون، ويركضون، ويزعقون. لكن الليل يسلبهم أصواتهم، إلّا من بقي منهم يزمجر ويسبّ ويشتم بعيون مشتعلة بالحقد والغضب، إلى أن يغلبهم التعب وينامون. هؤلاء جاهزون لتقويض العالم بأسره. ويوماً ما، سيزحفون كالجراد ليبتلعوه.
لنتفق. ليست هذه قصةً عن أطفال الشوارع في دمشق، بل هي محاولة كتابة ضد النسيان، ضد التبسيط، ضد الرواية الرسمية عن الطفولة. لا تلد الحرب أيتاماً فقط، بل تلد مفهوماً جديداً للطفولة؛ طفولة بحذاء مثقوب، تسير على جسد المدينة كأنها تمشي فوق جماجمها، عن البؤس المجرد من ملامحه الإنسانية.
هذا نصٌّ عن الأصوات التي لا تصرخ، عن نظراتٍ تفكك المدينة أكثر مما فعلت القذائف. لا ترتعب، لا تخف وأنت تقرأ هذه الكلمات.
بحكم إقامتي في دمشق القديمة، في حي القيمرية تحديداً، كنت قد راقبت ثلاث مجموعات من “الليليين الصامتين”. إحداها تقف عند ساحة باب توما، وأخريان تظهران بعد الانعطافة الأولى يساراً، خلف الساحة مباشرة. لم يكونوا ثابتين كمجموعات، يظهرون أحياناً فرادى، وأحياناً تتغير تركيبتهم، لكنّ مجموعة القِيمرية احتلت المكان الرئيس في دماغي. تتألف من ثلاث فتيات. واحدة بالكاد تتجاوز الثالثة من عمرها، الصامتة الكبيرة رغم صغرها. الثانية في نحو السابعة، والثالثة على مشارف المراهقة، قالت إنها في الثالثة عشرة. كانت الوحيدة التي قبلت أن تعطيني اسماً، عرفت لاحقاً أنه ليس اسمها الحقيقي.
في الطريق إليهن كل ليلة، كانت هناك عجوز. امرأة لا تتوقف عن الكلام والتوسل، وحيدة على كرسي بعجلات. تجلس في الزقاق، تكرر مناشدتها نفسها، تتلقى النقود من المارة. حولها يتحرك أولاد بألسنة حادة، يسبّونها، يختفون، ثم يعودون. كنت أراقبها من بعيد، أرتجف لبردها المرتعش. بعد أن تنال نقودها، يظهر شاب، يقترب منها، يأخذ ما في يدها، تشتمه وتدعو عليه بالموت، وهو يفرّ، بينما الأولاد يتحلقون حوله. كان مشهداً يتكرر بنظام محكم. كلٌّ يعرف دوره. عينا الشاب واسعتان، تراقبان العجوز كما تُراقبان فريسة. ينقضّ، ثم يهرب. تولول، ثم تسكت، ثم تعود. قيل لي إن جماعات كاملة تعمل على تشغيل العجائز والأطفال.
هذه العجوز لم تكن تؤدي دوراً تمثيلياً. كانت فعلاً عاجزة. وجهها تحت ضوء الشارع الأصفر شاحب، تصرخ، تشتم الأولاد الذين يقرصونها، أو يصرخون في وجهها، أو يحاولون انتزاع رغيف من بين يديها. في لحظة ما، يغادر الأولاد، ويبتعد الشاب. يختفي، لا ألمحه. ثم تصمت. تصمت نهائياً بعد منتصف الليل. ثم يعود لا بد أنه هو، في وقت ما من الفجر، يعود الشاب ذاته ليأخذها إلى مكان آخر. في الصباح لا أراها. لكنها تعود دائماً بعد منتصف النهار، لتُوضع في نفس الزاوية، بنفس الحالة، وكأن شيئاً لم يحدث.
لم تجبني يوماً حين خاطبتها، لكنها رغم إعاقتها كانت تشكل منافساً خطيراً للمجموعة القريبة منها. أما البنات الثلاث، فكن وحدهن مع صبي لم يقبل أن يخبرني بعمره، وبدا مدهوشاً من سؤالي. اكتفى بتكرار جملته: “بدي آكول يا خالة”. يمكنك، عزيزي القارئ أن تذهب إليه بسندويشة، وسيأخذها. لكنه سيشتمك أيضاً، لأنه لم يحصل على النقود المطلوبة. الشاب الذي يأخذ النقود من العجوز، يطالب الصبي أيضاً بالمال. وإن لم يحصل عليه، يضربه. لقد ضربه مرة، خبط رأسه بالحائط، أمام أعين المارة، الذين واصلوا طريقهم كأن شيئاً لم يحدث. نظرة خاطفة على الرأس المرتطم، ثم مضوا. تشعر للحظة أن لا شيء يمشي للأمام في هذه المدينة، بل يعود إلى الوراء، إلى لحظة ما قبل النطق، حين كان كل شيء يفهم بالبكاء.
في باب توما، لا يتوقف الزحام ليلاً. الشوارع مكتظة، في كل زاوية من زوايا المدينة، طفل يمدّ يده ويسأل، كأن سؤال الحاجة صار جزءاً من مِعمار الشارع، نُقشَ في الحجر مثل كتابات السومريين. محلات بيع الطعام تعج بالزبائن، والأطفال الشحاذون ينبتون هناك كالعشب، عشب طري، عشب يابس، عشب يُداس أو يُنظر إليه بلا اكتراث، ثم يُترك وراء الأقدام.
قررت أن آتي بعد منتصف الليل، أن أبقى وأنتظر، لأعرف متى يرحلون. كانت الليلة من أواخر فبراير/شباط الماضي. في أماكن أخرى من سورية، الناس لا يخرجون بعد الخامسة مساءً، هذا رأيته في اللاذقية وجبلة. لكن دمشق مختلفة.
يتقاتل السوريون على صحة المعلومات. كلٌّ لديه أسبابه. كلٌّ ينتمي إلى “سوريا” مختلفة. ما يُقال في دمشق ليس كذباً، وما يُقال في الساحل ليس كذباً. يتعاركون على الصواب والخطأ، بينما كل واحد يحمل حصته من الحقيقة، وحصته من الأسى، وحصته من العار. لكن في زواريب باب توما، كانت الحياة تمضي مع “الليليين” بطريقة مختلفة.
كنت أقف في الزاوية، أراقب الفتيات الثلاث. عيني على الصغيرة؛ حافية القدمين، ترتدي ثوباً يصل إلى ركبتيها، تحته سروال قصير. قدماها ملوثتان بطين داكن، كأن أحداً دهَنهما بمادة سميكة. الطين نفسه على يديها، وعلى وجهها. القدم الصغيرة النحيلة، والوجه المعفّر بالطين، جعلاها تبدو ككائن خرج لتوه من فيلم، لا من زقاق.
جلست على الأرض المبللة بماء المطر. ثوبها رطب، لونه؟ لا لون له. ربما كان أبيض يوماً. كانت تنظر إلى أقدام المارة فقط. عيناها على مستوى الأقدام دائماً، تمد يديها بلا كلمة، بلا حركة. وإن اقتربتَ منها، جفلت.
في النهار، فتاة أخرى على مشارف المراهقة. عينان سوداوان، شديدتا التركيز. تربط شعرها كذيل حصان. حافية أيضاً، لكنها ليست مغطاة بالطين مثل الصغيرة. شعرها خفيف، ملبّد. ترتدي فستاناً واسع الأكمام، وتحته بنطال طويل. هي التي تقود. تتكلم، تشحذ، تغضب، تتوسل، تطرق أبواب العالم بصوتها. كانت أحياناً هادئة، أحياناً حازمة، وأحياناً تصرخ. تجأر. الطفلة، ذات الثلاث سنوات أو أقل أو أكثر بقليل، تقول “يا عمو” و”يا خالتو” في النهار، بينما في الليل، تنخفض عيناها إلى حيث تسير الأقدام. بعض المارة، حين تلامسهم لحظة من الذنب أو الحزن أو الغضب أو رحمة مؤقتة، يعطون النقود. البعض الآخر يتحاشاهم.
في أحد الأيام، أمسكت سعاد، هذا الاسم الذي أعطتني إياه صاحبة العينين السوداوتين بعد تفاوض طويل مقابل مال، بتنورة امرأة مرت بجانبها. سعاد قالت لي إن اسمها كذلك، ثم أعطتني اسماً آخر في يوم آخر. كل معلومة بثمن، وكانت تعرف ذلك تماماً. ذكية، مدرّبة، وتعي قواعد اللعبة. عندما شدّت سعاد تنورة المرأة، صفعتها الأخيرة، صرخت وهربت، تردد خلفها: “حرامية! حرامية!”. سعاد لم تصمت. صرخت هي الأخرى: “كذابة!” ثم أطلقت شتيمة من العيار الثقيل، وبصقت على الأرض، ونهرت البنتين معها لتلحقان بها. لكنها كانت قد تركت يد الصغيرة. والصغيرة، المذعورة، بدأت تركض خلفها وحدها.
لو أردتَ الجلوس في ساحة باب توما، فهناك مقاعد ما زالت باقية من حديقة صغيرة، لم تعد حديقة منذ وقت طويل. جلستُ مع سعاد، وافقت أن نجلس ونتحدث، لكنها بدأت بقول حاسم: لا أريد أن أقول شيئاً، وإذا كنتِ قادرة على مساعدتي، فافعلي، ثم انصرفي. سألتها: أين أهلك؟ قالت باقتضاب: ماتوا. سألتها عن الفتاتين، هل هما أختاها؟ قالت: لا. قلت: إذاً من بنات مَن؟ نظرت إليّ تلك النظرة الساخرة، كأنها تقول: هل أنتِ غبية؟
في تلك اللحظة بدت وكأنها في الثلاثين، رغم أن ملامحها ما زالت مراهقة. قوية، واثقة، صلبة. فكرتُ أنها لا بد تتعرض للتحرش، فهي جميلة، لكن القذارة التي تغطي وجهها أوقفت هذا الخيال. تبدو تلك القذارة جزءاً من الزي، ضرورة يومية. قلت لها بوضوح: أستطيع مساعدتك. سألتها: أين تنامين؟ أشارت إلى الشارع. قالت: في الشارع. ثم أضافت: إذا أردتِ مساعدتي، أعطيني نقوداً. قلت: ألا تريدين مكاناً للنوم؟ نظرت إليّ تلك النظرة الفظيعة، ثم هربت. كل المعلومات التي جمعتها خلال الأيام السابقة أكدت أن من يُشغّل هؤلاء الأطفال هم عصابات موزعة في أنحاء دمشق.
سعاد بالتأكيد ولدت في بدايات الثورة، لم تعرف عن سورية التي عرفناها شيئاً، قضت معظم طفولتها في الشارع. فتاة قوية. صلبة. جاهزة لتفترسك. تدافع عن البنتين بشراسة، لكنها لا تعترف بأنهما شقيقتاها. ربما لم تكونا فعلاً، رغم حدسي أنهما كذلك.
في الليل، تصمت سعاد. البنتان تصمتان. والولد الذي يرافقهنّ يصمت أيضاً. بعد العاشرة مساءً، كنت أروح وأجيء أمامهنّ، وأقول لها: أنا أسكن هنا، إذا احتجتِ شيئاً أنا موجودة. تتجاهلني تماماً. أقف في زاوية بعيدة، حيث لا تصلني إنارة الشارع الخافتة، وأراقب الفتيات الثلاث والصبي. سمعتها تناديه “محمد”. أما الصغيرة، بالكاد تمشي. تجلس على الأرض، تمد رجليها في طريق المارة. إذا لم ينتبه أحدهم وداس قدمها، تصرخ. يرتبك، يعود ويعطيها نقوداً. أسلوب واضح، مدروس. تأخذ النقود، تخبّئها في يدها الصغيرة، تقبض عليها بقوة. بعد قليل، تمد يدها لسعاد، تعطيها النقود. سعاد تضعها في جيبها. ثم تمرّ النقود إلى يد محمد. بعدها، لا أعرف إلى أين يذهب. يختفي لساعات، ثم يعود.
“مو إخواتي”