الأحداث التي جرت في الساحل السوريالإعلان الدستوري لسوريا 2025التدخل الاسرائيلي السافر في سورية الجديدةتشكيل الحكومة السورية الجديدةدوافع وكواليس الاتفاق بين "قسد" وأحمد الشرعسقوط بشار الأسد، الرئيس الفار والمخلوعسياسة

سوريا حرة إلى الأبد: مقالات وتحليلات 15 نيسان 2025

حرية إلى الأبد: كل المقالات والتحليلات والحوارات التي تناولت انتصار الثورة السورية اعتبارا من 08 كانون الأول 2024، ملاحقة يومية دون توقف تجدها في الرابط التالي:

سقوط بشار الأسد، الرئيس الفار والمخلوع

———————————-

الفيدرالية في سوريا.. جدل المعنى ومأزق التصوّر/ عبد الله مكسور

2025.04.14

في لحظات التحول العميق التي تعقب الحروب الكبرى والانهيارات السياسية، تبرز طروحات تتحدث عن الفيدرالية كخيار لإعادة بناء الدول المفككة أو المهددة بأخطار داخلية عديدة كالصراعات والانقسامات الحادة، هذه الفكرة طُرحت في سوريا باعتبارها إطارًا محتملًا لإعادة تنظيم السلطة وتوزيعها بين المركز والأطراف، والاعتراف بالتعددية الديمغرافية والثقافية التي طالما ظلت مهمّشة أو مقموعة. رغم رفض الرئيس السوري أحمد الشرع لها في أكثر من مناسبة.

الفيدرالية ليست مجرد مسألة تقنية في توزيع الصلاحيات بين المركز والمناطق، بل هي مشروع سياسي وثقافي وقانوني معقّد، يقوم على الاعتراف بالتعددية الديمغرافية والثقافية التي طالما ظلت مهمّشة أو مقموعة، ولا ينجح هذا الإطار أو النموذج إلا إذا استند إلى ثقافة دستورية راسخة، ونظام سياسي تشاركي، ومجتمع يعترف بالتنوع ولا يخافه قبل كل شيء.

في الحالة السورية يدور الحديث في أروقة كثيرة عن طرح الفيدرالية كإحدى أدوات الخروج من الأزمة، وهنا لا أتبنى هذه المقولة أو أتعارض معها بل أطرحها لنقاش يصطدم بأسئلة كبرى تتعلّق بالهوية، والانتماء، والمركزية، والذاكرة الجمعية المثقلة بالعنف والخذلان والمظلومية أيضاً. أمام هذا السياق يمكن طرح سؤال بديهي: هل الفيدرالية ممكنة في سوريا؟ وهل تصلح نموذجًا مستدامًا لمستقبل البلاد؟ وما الذي يمكن أن نتعلمه من تجارب عاشت وتعيش التجربة بكل تحولاتها؟

جوهر الفيدرالية في سوريا

الفيدرالية، في جوهرها، ليست تقسيماً للدولة بقدر ما هي توزيع للسلطة وإدارتها، هي عقد اجتماعي جديد يقوم على مبدأ “الوحدة في التنوع”. وهي تختلف تماماً عن التقسيم أو الانفصال، بل على العكس في مكان ما، فهي تسعى للحفاظ على وحدة الدولة عبر الاعتراف بالواقع الاجتماعي والسياسي وتدبيره بدلاً من قمعه أمنياً ومعاداته ورفضه. وطرح الفيدرالية في الحالة السورية ليست فكرة جديدة، لكنها لطالما أُحبطت قبل أن تتبلور. يمكن تلمّس ذلك بالعودة إلى محطات بالتاريخ السوري منذ الاستقلال، حيث نجد أن المناطق السورية المتنوعة لم تُمنح سوى هامش ضئيل من الحكم المحلي. فقد سيطرت الدولة المركزية في دمشق على كل المفاصل، مستندة إلى بنية أمنية يمكن اعتبارها بأنها “فوق وطنية” تُخضع الجميع. تفرض الهوية الواحدة التي تنتجها السلطة، وهذه الهوية لها مفردات أبرزها اللغة الواحدة والرواية التاريخية الواحدة، وهدفها الوحيد محاولة صهر الواقع قسراً في نموذج أحادي قسري على فسيفساء اجتماعية وثقافية تكاد أن تكون الأغنى في المنطقة، وهذا ما أدى عبر عقود إلى تعميق التناقضات المجتمعية.

الفيدرالية، حين تُفهم في عمقها الفلسفي والسياسي، تبدو ليست مجرد آلية إدارية أو هندسة دستورية، بل هي تعبير عن رؤية للدولة باعتبارها فضاءً جامعاً للتنوع، ووسيلة لتوزيع السلطة على نحو يمنع التفرد والاحتكار، يُحبِط الاستبداد، ويضمن التوازن بين المركز والأطراف.

في السياق السوري، يمكن طرح هذه الفكرة بشكل ملحّ اليوم أكثر من أي وقت مضى، ليس فقط بسبب تعقيدات السنوات الماضية وما خلّفته من وقائع سياسية وجغرافية وعسكرية جديدة، بل أيضاً نتيجة لتراكم تاريخي طويل من الإقصاء المركزي، فقد سيطرت الدولة من دمشق على مجمل مفاصل القرار، يبدو هذا جليّاً منذ الاستقلال، إذ لم يكن للمناطق السورية المتنوعة، من الجزيرة إلى الساحل، ومن جبل العرب إلى حوران، سوى هامش ضيق من الحكم المحلي، وغالباً ما جرى التعامل مع التنوع بوصفه تهديداً ينبغي السيطرة عليه لا رصيداً يمكن الاستثمار فيه. هذا النهج أفضى إلى مزيد من الاحتقان المجتمعي، وعمّق الشعور بالغبن والمظلومية لدى شرائح واسعة من السوريين، خصوصاً في المناطق المهمّشة. وعندما اندلعت الثورة السورية، ثم تفجر المشهد العسكري بكل ما حمله من انقسامات وتحولات، برزت الفيدرالية كأحد المقترحات لإعادة هندسة الدولة، لا على أنقاضها، بل من داخلها. لكن من الضروري التنبه إلى أن الفيدرالية في سوريا لا يمكن أن تكون نسخة جاهزة تُستنسخ من تجارب أخرى، بل هي مشروع مشروط بالسياق السوري وتوازناته، وبقدرة السوريين أنفسهم على صياغة عقد اجتماعي وسياسي جديد يُراعي ذاكرتهم الجريحة، ويؤسس لسلطة لا تستند إلى منطق وقاعدة الغالب والمغلوب، بل إلى الشراكة الوطنية القائمة على أرضية وحدة المصير المشترك.

تجارب عالمية

لوضع التجربة السورية بكل إمكاناتها اليوم ومخاوفها وقلقها، لا بد من الإطلالة على تجارب عالمية يمكن قراءتها والاهتداء بها أو محاولة تفكيكها لأخذ العبرة والمعرفة.

ألمانيا عندما خرجت من أنقاض الحرب العالمية الثانية، كانت دولة منهارة على كل المستويات. ومع ذلك، فقد شكّل الألمان فيدرالية قوية من ستة عشر إقليماً، تم توزيع السلطات فيها بطريقة دقيقة. فلم تكن الفيدرالية الألمانية مجرد هيكل قانوني، بل كانت تعبيراً عن الاعتراف بخصوصية كل ولاية، وعن الرغبة في منع عودة المركزية الشمولية التي مهّدت لظهور النازية وسيطرتها الكاملة على معطم أنحاء أوروبا من برلين. قرأت مرة أن كونراد هيرمان أديناور وهو أول مستشار ألماني بعد الحرب قال بأن ألمانيا الجديدة لن تبنى إلا من خلال احترام الاختلافات المحلية وإدارتها في إطار دستوري موحّد. وتجربة العقود التالية للحرب أثبتت هذه الرؤية بأن الفيدرالية في ألمانيا كانت ضمانة للديمقراطية، للعدالة، وللسلم الأهلي.

وحين نعود إلى التجربة الألمانية بعد الحرب العالمية الثانية، فإننا لا نقرأ فقط قصة نهوض دولة من ركام الهزيمة، بل نقف أمام نموذج عميق لفنّ إعادة بناء الدولة على أسس تعاقدية متينة، جعلت من الفيدرالية أداة للتماسك لا للتفكك، وللديمقراطية لا للتسلط. ألمانيا الخارجة من الحرب لم تكن فقط بلداً مهزوماً عسكرياً، بل كانت محطّمة سياسياً وأخلاقياً، حاملة لإرث ثقيل من النظام النازي. وفي ظل هذا الانهيار الشامل، جاءت الفيدرالية الألمانية بوصفها تعاقداً جديداً بين المركز والأقاليم، يحول دون عودة النزعة المركزية الاستبدادية، ويمنح كل ولاية حق التعبير عن هويتها السياسية والثقافية ضمن الإطار العام للدولة.

وبالتالي فإن فيدرالية ألمانيا الحديثة لم تكن مجرد تقسيم إداري للسلطات بين المركز والولايات، بل كانت مشروعاً فلسفياً وسياسياً متكاملاً لإعادة تعريف العلاقة بين الفرد والدولة، بين الخصوصي والعام، بين المحلّي والوطني. وبالتالي لم تكن في أيِّ صورةٍ من صُورها تنازلًا من الدولة، بل كانت تعبيرًا عن قناعة راسخة بأن تنوّع الأقاليم واختلاف تجاربها هو مصدر قوة، لا تهديداً للوحدة. وقد تجلّى هذا في الدستور الألماني أو القانون الأساسي الذي منح الولايات سلطات واسعة في مجالات التعليم، الشرطة، الثقافة، وحتى في بعض جوانب التشريع، في حين احتفظ المركز بالسياسات السيادية الكبرى كالخارجية والدفاع والعملة.

لكن هذه الفيدرالية الألمانية نجحت ضمن سياق قومي متجانس إلى حد كبير، فالشعب الألماني، رغم اختلافاته الإقليمية والدينية، كان يحمل هوية قومية موحدة، ولغة جامعة، وتاريخاً مشتركاً، وهذا ما وفّر قاعدة صلبة يمكن بناء عقد فيدرالي فوقها. أما في الحالة السورية، فإن المشهد أكثر تشظّياً وتعقيداً، فالسوريون أمام تعددية إثنية وطائفية ومناطقية عميقة، ذاكرة مثقلة بالدم والانقسام، وشبه انعدام للثقة بين المكونات، فضلاً عن تدخلات خارجية متضاربة المصالح.

مع غياب رؤية واضحة لفكرة العدالة الانتقالية التي تُعتَبَرُ مفتاح اليوم التالي في المرحلة الحالية، وهذا ما يجعل نقل التجربة الألمانية إلى سوريا أمراً بالغ الحساسية، لا يمكن استنساخه بل يحتاج إلى إعادة تأويل عميقة.

ومع ذلك، فإن الدرس الألماني الأبرز يتمثل في القدرة على تحويل الفيدرالية من مجرد آلية حكم إلى فلسفة في إدارة الاختلاف. وهذا ما تحتاجه سوريا اليوم، ليس فقط نظاماً يوزّع السلطات، بل عقداً وطنياً يؤسس لمفهوم جديد للمواطنة، يعترف بالتنوع من دون أن يؤسس للانقسام، ويضمن الحقوق من دون أن يُضعف الدولة. فإذا كان من شيء يمكن تعلمه من التجربة الألمانية، فهو أن الفيدرالية ليست بالضرورة بداية للتفكك، بل قد تكون — إذا نُسجت بخيوط الإرادة السياسية الجامعة والرؤية الدستورية العادلة والفهم الشعبي لحقيقتها مدخلًا إلى ترميم ما تكسر، وإعادة هندسة الدولة على أساس من العدالة والتوازن والتشاركية الحقيقية.

النموذج البلجيكي

بلجيكا دولة صغيرة “تعادل سدس مساحة سوريا تقريباً وثلاثة أضعاف مساحة لبنان”، ذات مكونات قومية ثلاث “الفلمنك الناطقون بالهولندية، الوالون الناطقون بالفرنسية، والألمان الناطقون بالألمانية” تخصع لنظام فيدرالي بالغ الخصوصية والتعقيد، فهي ليست مجرد اتحاد إداري بين مناطق، بل نظام سياسي مبني على الاعتراف العميق بالهويات الثقافية واللغوية المكوّنة للدولة. وهذا ما جعل تشكيل حكومة فيها يحتاج إلى تدخل ملكي في بلد تأخذ الملكية فيه طابعاً تشريفياً أكثر منه سياسياً، وهذا يعود للانقسامات الحادة بين مكوناتها وأحزابها السياسية. ورغم ذلك، بقيت بلجيكا متماسكة نسبياً، لأن الفيدرالية جاءت كتسوية سياسية، لا كحالة طارئة.

وما يميز النموذج البلجيكي هو أن الفيدرالية لم تكن وصفة جاهزة، بل نتيجة لتراكم تجارب تفاوضية دامت عقوداً، واتخذت طابعاً تصحيحياً مستمراً مع كل أزمة. الفيدرالية هناك لا تقوم على الجغرافيا فقط، بل على “مجتمعات” ذات خصوصيات ثقافية، لكل منها أنظمته التعليمية والإعلامية وحتى الأحزاب السياسية الخاصة به. وخلال عملي بالمسرح البلجيكي لمست هذه الخصوصية بشكل جلي في المفردات التي يستخدمها الفلمنك، وأغانيهم الوطنية، فقد سمح الاعتراف المؤسسي الرسمي بالهويات بتقليص التوترات، من دون أن يؤدي إلى الانفصال أو انهيار الدولة. بل ربما على العكس تماما أدى كل ذلك إلى بناء ما يمكن تسميته اصطلاحاً “دولة ما بعد التوافق”، حيث يتم احتواء الاختلاف ضمن أطر قانونية واضحة، بدلاً من فرض الوحدة بالقوة.

في المقابل، تبدو سوريا بعيدة عن هذا النموذج، لأسباب عدة. ربما تبدأ بأنَّ التصوّر السائد للفيدرالية لا يزال غامضاً، ومشحوناً برمزية الانفصال والتقسيم، نتيجة لغياب التجربة التفاوضية الجادة حول شكل الدولة. وتمرُّ بعدم وجود مؤسسات مستقلة أو ضامنة يمكن الركون إليها في حال تعثّرت النخب السياسية، كما هو الحال في بلجيكا. والأهم بأن الهوية الوطنية السورية لا تزال – على أهميتها – ضعيفة في وجه الهويات الفرعية التي تعززت بفعل الحرب والاصطفافات الطائفية والعرقية.

ما أعتقده أن النموذج البلجيكي لا يصلح للاستنساخ، لكنه يصلح للتفكير. إذ يُظهر أن الاعتراف بالهويات لا يعني بالضرورة الانقسام، بل يمكن أن يكون مدخلاً لبناء دولة عادلة وقابلة للاستمرار، شرط وجود ثقافة تفاوضية ليست ذات أهداف ضيقة، إلى جانب مؤسسات قوية تُحيط هذا الاعتراف بأطر دستورية راسخة وقوية وتمنع تغوّل أحد على أحد.

الفيدرالية كأداة انتقال في النموذج الجنوب أفريقي

في أعقاب انهيار نظام الفصل العنصري، وجدت جنوب أفريقيا نفسها أمام معضلة وجودية تقوم على سؤال مركزي: كيف يمكن بناء دولة تتسع لكل أبنائها، بعد عقود من الانقسام العرقي والتهميش المؤسسي؟

في تلك اللحظة التاريخية الدقيقة، لم تكن الفيدرالية خياراً مطروحاً بوصفها هيكلاً دائماً للحكم، بل كأداة انتقالية لتسهيل العبور من نظام شمولي استبعادي استبدادي إلى نظام ديمقراطي تعددي. كانت هناك دعوات قوية من المجموعات البيضاء، خاصة في مقاطعة الكيب، لاعتماد فيدرالية أو حتى كونفدرالية تضمن لها قدراً من الاستقلال الذاتي، خوفاً من “دكتاتورية الأغلبية السوداء صاحبة المظلومية التاريخية”، غير أن القيادة السياسية المتمثلة بحزب المؤتمر الوطني الأفريقي، رفضت بشكل قاطع الذهاب نحو فيدرالية على النمط الصلب، مفضلة نموذجاً مركزياً ولامركزياً مرناً، يضمن تمثيل جميع المكونات ضمن دولة موحدة قوية، ويعترف بالخصوصيات الإقليمية من دون أن يحولها إلى كيانات منفصلة.

الدرس من التجربة الجنوب أفريقية ليس في الفيدرالية بوصفها بنية جاهزة، بل في الطريقة التي أُدير بها التفاوض حول شكل الدولة الجديدة التي قامت على أنقاض الماضي الأليم، بمنطق التهدئة، وليس الغلبة، بالاعتراف المتبادل، لا بالإقصاء، وبالتدرج المدروس، لا بالهدم الكلي. لقد تشكل الدستور الجنوب أفريقي كتسوية كبرى بعد سنوات من سقوط نظام الفصل العنصري، لا كمجرد نص قانوني، وجاءت اللامركزية السياسية فيه نتيجة طبيعية لوعي عميق بتعقيدات المجتمع، لا كاستيراد لنموذج خارجي.

أما في الحالة السورية، فالمأساة تكمن في أن الدولة لم تكن ذات يوم نتاج تسوية عادلة بين مكوناتها، بل نُسجت على قاعدة القسر والغلبة، ثم رُسّخت في مراحلها جميعاً بالقبضة الأمنية. من هنا، فإن طرح الفيدرالية اليوم لا يمكن أن يتم بالمنطق نفسه الذي طُرح به في جنوب أفريقيا، لأن سوريا – في تقديري- لا تملك بعدُ نخبة انتقالية متوافق عليها، ولا تمتلك بيئة تفاوضية ناضجة، ولا ذاكرة جامعة يمكن البناء عليها. ومع ذلك، فإن جوهر التجربة الجنوب أفريقية – أي استخدام أدوات مؤسساتية مرنة لإعادة تشكيل الدولة بما يضمن بقاءها وعدالتها في آن معاً- يبقى درساً عظيماً لسوريا التي تتلمس طريقها للخروج من النفق الذي وضعها به نظام الأسد.

يمكن، من هذا المنظور، التفكير في “فيدرالية انتقالية سورية”، لا كغاية في ذاتها، بل كآلية لتفكيك الشكوك المتبادلة، واستعادة الثقة، وتأطير التعدد ضمن مشروع وطني يتجاوز منطق الانتصار والهزيمة. لكنّ نجاح هذا الخيار، كما في جنوب أفريقيا، مرهون بوجود إرادة سياسية تُقدّم المصلحة العليا على حسابات النفوذ، وبنخب تمتلك الشجاعة الأخلاقية لتوقيع “صفقة تاريخية”، تتجاوز الماضي من دون إنكاره، وتؤسس لدولة لا يكون فيها الانتماء أو العرق سبباً للامتياز أو للإقصاء.

مخاطر الفيدرالية في السياق السوري

في السياق السوري الراهن، تبرز الفيدرالية كخيار محفوف بالمخاطر والتحديات البنيوية العميقة، إذ إن غياب مؤسسات دستورية مستقرة وآليات رقابية فعّالة قد يُفضي إلى تحويل الفيدرالية من صيغة لإدارة التنوع إلى أداة لتقنين تقاسم النفوذ بين القوى العسكرية والسياسية المتصارعة، فتُشرعن موازين القوة المفروضة على الأرض بدل أن تعيد تشكيلها وفق قواعد العدالة والمواطنة المتساوية، وفي ظل تعدد الرعاة الخارجيين وتفاوت النفوذ الإقليمي والدولي بين منطقة وأخرى، تصبح الفيدرالية مرشحة للتحوّل إلى واجهة ناعمة لتقسيم فعلي وراسخ تتآكل معه فكرة الدولة المركزية الواحدة لصالح كيانات مناطقية مرتبطة كلٌ منها بمرجعية أمنية أو دينية أو سياسية خارجية، هذا الواقع يتعزز أكثر في ظل انعدام الثقة شبه الكامل بين المكونات السورية التي ما تزال تعيش في ظل ذاكرة مليئة بالمجازر، والخذلان، وتراكمات الإقصاء المتبادل، إذ إنَّ أي تجربة فيدرالية تتطلب حداً أدنى من الثقة المتبادلة والنضج السياسي القادر على إدارة الاختلافات داخل إطار وطني جامع، فضلاً عن الثوابت الواحدة لدى المكونات المختلفة، وهي شروط غير متوفرة حتى اللحظة في تقديري، بل إن الطروحات الفيدرالية ذاتها، وخاصة في شمال شرقي سوريا حيث تتركز الأغلبية الكردية تثير لدى قطاع واسع من السوريين مخاوف عميقة من أن تكون مقدمة لانفصال قادم، على الرغم من نفي القوى الكردية المتكرر لمثل هذا الهدف، إلا أن الشكوك تغذيها التجربة الميدانية والسياسية خلال السنوات الماضية، ما يضع الفيدرالية أمام سؤال جوهري: هل ستكون إطاراً مرحلياً لتجاوز الأزمة السورية نحو دولة مدنية جامعة، أم ستُختطف لتكريس الانقسام وتحويل الحدود الإدارية إلى خطوط تماس دائمة ومواجهة محتملة؟، والحال ذاته في الجنوب السوري حيث الأغلبية الدرزية في السويداء ذات المرجعية الدينية التي تلوِّح بشكل دائم بعدم الاعتراف بشرعية الحكومة المركزية الجديدة أو التفاهم معها على الأقل.

الاحتمالات المستقبلية

في ظل التحديات التي تواجهها الجغرافيا السورية، من الضروري عدم استبعاد الفيدرالية كلياً. فالعالم بعد الحروب الكبرى لم يُبْنَ مرة واحدة، بل عبر محطات طويلة من التفاوض، والتجريب، والإصلاح. قد تكون الفيدرالية المؤقتة جزءًا من تسوية مرحلية، تنقل البلاد من الحرب إلى السلم. بحيث يمكن البدء بتوسيع اللامركزية، ثم الانتقال لاحقاً إلى صيغ أكثر تطوراً. وهذا يجب أن يكون نتاجاً لحوار وطني شامل، لا فرضاً من الخارج أو من قوى الأمر الواقع. ولضمان نجاحه يحتاج السوريون إلى دستور جديد يحدد بوضوح الصلاحيات والحدود بين المركز والمناطق. مع ضمانات محلية ودولية باحترام الفيدرالية وعدم استغلالها للانفصال أو التخريب. إضافة لإصلاح مؤسسات الأمن والجيش بحيث تصبح وطنية، غير خاضعة لأي مكون أو منطقة أو طائفة، إلى جانب إدارة الموارد بعدالة بين المناطق، خصوصاً فيما يخص النفط والمياه والزراعة. ولتحقيق ذلك يمكن بناء أرضية واحدة تمر عبر تعليم مشترك يعزز الهوية الوطنية بلغة التعدد لا الإنكار، ويُعيد تعريف الهوية الوطنية بوصفها نسيجًا جامعًا لا ساحة تنازع ترفض الاحتفاء بالتنوع.

ورغم كل التعقيدات والمخاوف المحيطة بالفيدرالية في المشهد السوري، إلا أن إقصاء هذا الخيار نهائياً قد يكون مجازفة فكرية لها مخاطرها السياسية على مستقبل البلاد، وهذه المجازفة لا تقل خطورة عن التمسك به بشكل مطلق، فالدول التي خرجت من رحم الحروب الكبرى لم تتشكّل في صورة واحدة مكتملة، بل تدرّجت في بناء ذاتها عبر محطات شاقة من التفاوض السياسي، والتجريب المرحلي، والتصحيح المستمر، ولعل الفيدرالية المؤقتة – إذا ما أُحسن تأطيرها – يمكن أن تُشكّل جسراً انتقالياً من زمن المواجهة والانقسام إلى أفق أكثر سِلماً واستقراراً، وقد يكون المدخل الأجدى هو البدء بتوسيع اللامركزية الفعلية، لا بوصفها حلاً تقنياً إدارياً فحسب، بل كمختبر سياسي لقياس قدرة البلاد على تقبّل تعددية في السلطة ضمن وحدة في السيادة، ثم الانتقال لاحقاً إلى صيغ فيدرالية أكثر تعقيداً ربما إذا اقتضت الحاجة، غير أن نجاح أي نموذج فيدرالي – مؤقتاً كان أو دائماً – مرهون بكونه ثمرة حوار وطني جامع، لا نتاجاً لفرض خارجي أو محصلة صفقات وتفاهمات، وإذا ما اختار السوريون هذا المسار، فإن نجاحه يتطلب أسساً واضحة لا تحتمل التأويل، فالفيدرالية ليست غاية في ذاتها، بل وسيلة إذا ما أحسن استخدامها، قد تقود البلاد إلى مصالحة عميقة مع تاريخها المتشظي ومستقبلها الممكن.

الفرق بين الفيدرالية والكونفدرالية في الحالة السورية

ليس ثمة خلطٌ أكثر تضليلًا في النقاش السوري من ذاك الذي يُسوّي بين الفيدرالية والكونفدرالية، أو يستبدل إحداهما بالأخرى كأنهما وجهان لعملة واحدة، في حين أن الفارق بينهما ليس شكلياً أو لغوياً، بل بنيويٌ في جوهر الفكرة، ومعياريٌ في تصور الدولة، وتاريخيٌّ في ما يمكن أن تبقى عليه سوريا أو تُدفع إليه.

الفيدرالية يتم تعريفها في الفهم السياسي بأنها بنية دستورية تقوم على توحيد سلطات متعددة ضمن كيان سيادي واحد، يحتكم إلى دستور جامع، وسلطة مركزية تمثل المجموع، من دون أن تبتلع الأجزاء. هي شكل من أشكال الوحدة المحكومة بالتعدد، حيث تتوزع الصلاحيات بين الحكومة الاتحادية والكيانات المحلية، وفق مبدأ تكاملي لا تصادمي. الولاء الأعلى فيها يظل للدولة الواحدة، وإن تعددت الهويات واللغات والمصالح. وبالتالي هي وطن واحد بصيغ متعددة، لا صيغة واحدة لأوطان متعددة.

أما الكونفدرالية، فهي على النقيض من ذلك، تحالف بين كيانات مستقلة، تحتفظ كلٌّ منها بسيادتها الكاملة، وتتفق على تفويض بعض الصلاحيات لجهاز تنسيقي مشترك، لا يرقى إلى سلطة عليا حقيقية، يكون الانفصال المبدئي بالاجماع هو القاعدة، والتعاون هو الاستثناء المشروط. هي نظام للعلاقات بين دول لا بين أقاليم، بين ذوات مستقلة قائمة بذاتها، تتعامل مع المركز كضرورة مؤقتة، لا كجسد دائم.

وفي الحالة السورية، فإن طرح الكونفدرالية – وإن بغير اسمها – يعني ببساطة إقرار بتفكك الدولة، والاعتراف الضمني بأن إعادة توحيدها باتت وهماً سياسياً. هو تعبير عن تشظّي الإرادة الوطنية، وعن تسليم خفي بأن المشروع الوطني، بكل ما حُمِّل من سرديات وعذابات وتضحيات، قد انتهى، أو أُجهض في لحظة ولادته الجديدة.

في المقابل، تُبقي الفيدرالية الباب مفتوحاً أمام تخيّل عقد اجتماعي جديد، أكثر عدالة وشمولاً، يُعيد توزيع السلطة والثروة، ويعترف بتعدّد سوريا من دون أن يفرّط بوحدتها. الفيدرالية، في السياق السوري، ليست استنساخاً لنموذج خارجي، بل هي محاولة لخلق صيغة تناسب وتليق بتركيبة البلاد، وبما تكدّس في وجدانها من مظالم وتمييز. هي دعوة إلى بناء دولة “للجميع”، لا دولة “على الجميع”.

وفي ما بين المفهومين، يتجلّى الفرق بين مشروع إنقاذ للدولة من داخلها، ومشروع مغادرة لها نحو أفق مفتّت لا رجعة منه. الكونفدرالية هي لحظة ما بعد الدولة، في حين الفيدرالية هي فرصة أخيرة لتجديدها من دون تفريط، ولمداواة الجراح من دون بتر. الأولى ولادةُ كياناتٍ من رحم الانفصال، والثانية ولادةُ تعاقد من رحم الأزمة.

ولذلك، فإن من يطرح الكونفدرالية لسوريا، كمن يطلب شهادة وفاة لدولة لم تُمنح فرصة العلاج والتداوي. أما من يدعو للفيدرالية، فهو – إذا صدقت نيّته ونضج تصوّره – يضع يده على الجرح، لا ليُعلن النهاية، بل ليبحث عن بدايات أخرى، أكثر حكمة، وأكثر عدلاً.

الفيدرالية هي فن إدارة الحرية داخل الوحدة. وفي سوريا، إذا كنا نريد مستقبلاً مختلفاً، فعلينا أن نتخلى عن وهم الدولة الشمولية المركزية، وأن نبدأ في تخيّل أشكال جديدة للدولة، تعترف بالجميع، وتحمي الجميع من دون تمييز. فالفيدرالية ليست معجزة، وليست وصفة سحرية، لكنها إحدى الأدوات التي نجحت في أماكن أخرى، وقد تنجح في سوريا، إذا وُجدت الإرادة والنية والرغبة الحقيقية، كل هذا يجب أن يكون مدعوماً بإجماع وطني. أما إن كانت مجرد وسيلة جديدة لتقسيم الغنائم، فإنها لن تقود إلا إلى صدام مؤجل آخر في ظل محاولات تهشيم الثوابت التي تجمع السوريين.

تلفزيون سوريا

——————————–

ما هو دور المثقف في سوريا اليوم؟/ حمدان العكله

2025.04.14

حين تسقط الأنظمة الاستبدادية وتُولد الشعوب من رماد المأساة، لا تعود الكتابة عن المستقبل ترفاً فكرياً، إنما تصبح التزاماً أخلاقياً يفرضه وعي اللحظة، فانتصار الثورة السورية وسقوط نظام الأسد لا يُغلقان فصلاً من العنف فحسب، بل يفتحان على المجتمع السوري باباً من الأسئلة الوجودية الكبرى حول الهوية، والمعنى، وشروط العيش المشترك، وفي هذا المفترق يُطلب من النخبة المثقفة الاشتغال على إعادة بناء الوعي، وتحويل الخراب المعرفي إلى مشروع نهضوي يستند إلى قيم الحرية والعقل والعدالة، فالمثقف فاعل تاريخي، يُعيد كتابة العلاقة بين المعرفة والسلطة والمجتمع، سواء في الداخل الممزق أو في المنافي، ويفكك إرث العنف، ويعيد صياغة ملامح سوريا الممكنة لتكون حقيقة تُبنى بالكلمة والفعل معاً.

أولاً- واجبات النخبة في مرحلة ما بعد الثورة:

ينبغي على النخبة المثقفة، في لحظة ما بعد الكارثة السورية، أن تتحرر من عُزلة التنظير، وأن تُمارس وظيفتها التأسيسية من خلال صياغة خطاب وطني يتجاوز حطام الطوائف وانكسار الهويات المغلقة، والاتجاه نحو هوية سورية مدنية تتسع لاختلاف المكونات، وتُعيد الاعتبار لفكرة الإنسان بوصفه قيمة عُليا، لا مجرد رقم في سردية قومية أو طائفية، إنهم مطالبون بأن يكونوا العقل المؤسس لدستورٍ جديد، بوصفه عقداً قانونياً، وتعبيراً عن ولادة أخلاقية لجمهورية تُحاكم ماضيها وتحتضن مستقبلها، دستور يضمن العدالة الانتقالية، ويؤسس لنظام يزن السلطة بميزان الحقوق ويضبطها بآليات الرقابة والمساءلة، وفي قلب هذا المشروع، تتجلى مهمتهم الكبرى في ترميم النسيج الاجتماعي الذي مزّقته آلة الاستبداد؛ عبر بعث ثقافة مدنية تعيد إحياء المعاني المنسية للتسامح والمواطنة واحترام التعدد، مستخدمين أدواتهم الفكرية في الإعلام والتعليم والنقاش العام، للعمل على رفع سوية التحول المجتمعي؛ لأن زمن ما بعد الثورة يحمل في طياته مخاطر انبعاث فساد جديد مقنّع بأقنعة المعارضة أو النفوذ الخارجي، لذلك فإن النخبة مطالبة باتخاذ مواقف أخلاقية صارمة ضد أي مشروع إقصائي أو مصلحي يعيد إنتاج الاستبداد، أما العدالة الانتقالية، فهي ليست مهمة قضائية فقط، بل هي مشروع ثقافي- إنساني يتطلب توثيق الوجع من دون تحويله إلى وقود للكراهية، وتقديم رواية تحفظ كرامة الضحايا من دون أن تُختزل في خطاب انتقامي، بل تُكتب باعتبارها شرطاً للشفاء الجماعي والتأسيس لزمن مختلف.

ثانياً- كيف يمكن للنخبة أن تكون فاعلة؟

لكي تنهض النخبة المثقفة من ركام إخفاقاتها وتستعيد شرعيتها الأخلاقية والتاريخية في مرحلة ما بعد سقوط النظام، فإنها مطالبة أولاً بتمزيق أقنعة الإنكار والانخراط في عملية نقد ذاتي صارمة لا ترحم التبريرات ولا تستبقي أوهام الطهرانية، فمن دون هذه المراجعة الجذرية لن يكون ثمّة تجاوز حقيقي للمرحلة السابقة. وهذا الوعي لا يمكن أن يولد في عزلة فكرية أو في غرف فردانية مغلقة، بل يتطلب خروج المثقف من صومعته إلى فضاء جماعي يتنفس فيه الفكر عبر شبكات من التعاون والتكامل، لأن المشروع الوطني لا يُبنى بخطاب منفرد، إنما من خلال منظومة من العقول التي تتآزر لتعيد صياغة معنى الوطن، كما أن تجاوز العزلة لا يكون فقط على المستوى النخبوي، بل لا بد من توجيه البوصلة نحو الفئات المهمشة، تلك التي دفعت الثمن الأكبر من الحرب والتهميش، فهُم ليسوا متلقين سلبيين للخطاب الثقافي بل شركاء في صناعته، ولا يمكن لهذا الخطاب أن يبلغهم إلا إذا تحرر من لغته التقليدية وأدواته البيروقراطية، مستفيداً من الإعلام الجديد ومنصات التواصل الاجتماعي التي باتت تشكّل مسرحاً مفتوحاً للصراع الرمزي والهيمنة المعرفية، كما يجب على النخبة أن تعترف بمواطن عطبها، وتعيد تعريف مهمتها بوصفها طليعة اجتماعية مسؤولة، لا كياناً معزولاً، وبذلك يمكن أن تكتب فصلاً جديداً من التاريخ السوري القائم على ابتكار أفق إنساني جديد.

ثالثاً- تحديات تواجه النخبة في بناء سوريا الجديدة:

تواجه النخبة المثقفة في طريقها نحو بناء سوريا الجديدة جملة من التحديات الوجودية التي لا يمكن اختزالها في عوائق تقنية أو ظرفية، إذ يمكن وصفها بالاختبارات الحقيقية التي تقيس مدى قدرتها على تحويل الفكر إلى فعل والتصور إلى مشروع، إنّ العمل في فضاء تآكلت فيه المؤسسات وتهاوت فيه الشرعيات لا يُعدّ مجرّد عائق تنظيمي، إنما هو اختبار لمدى إمكانية إنتاج بدائل رمزية ومعنوية تؤسس لسلطة معرفية قادرة على ملء الفراغ من دون الاستسلام له؛ فالمثقف لا يولد داخل المؤسسات، ولكنه يفقد فعاليته حين يعجز عن تحويل ذاته إلى مؤسسة فكر، وإلى جانب هذا الفراغ الداخلي، هناك ضغط خارجي لا يقل قسوة، حيث تتقاطع مصالح إقليمية ودولية في الجسد السوري، وتسعى كل منها إلى قولبة المستقبل وفق أجنداتها الخاصة، ما يستدعي من النخبة أن ترتقي بمواقفها إلى مستوى الرؤية الأخلاقية الواضحة، بعيداً عن الانجرار وراء الاصطفافات الآنية التي تُفقدها مصداقيتها التاريخية، أما المشكلة الكبرى، فهي تمزق النسيج الوطني وانهيار الثقة بين المكونات السورية، بفعل ما خلفته الحرب من فظائع لا يمكن أن تمَّحي من الذاكرة الجمعية، وهو تحدٍ لا يمكن تجاوزه بقرارات سياسية أو بيانات مصالحة، بل بفعل فكري طويل النفس، يشتغل على كشف الحقيقة من دون تشفٍّ، وفتح أبواب المصارحة من دون انكسار، وبناء سردية وطنية تتجاوز الحسابات الضيقة نحو أفق يتّسع للجميع، في هذا كله، يتحدد معنى المثقف بوصفه حاملاً لمسؤولية إعادة بناء المعنى ذاته.

ختاماً: في زمن تتكاثر فيه الأصوات وتضيع المعاني في ضجيج المنصات، لا يُنتظر من المثقف أن ينخرط في المهاترات اليومية أو يغرق في صراعات رمزية عابرة، بل عليه أن يرتقي بمسؤوليته إلى مقام الفعل المؤسس، فالمثقف الحقيقي لا يستهلك اللحظة، بل يمنحها معنى، ولا يطارد الاصطفافات، بل يُعيد توجيه البوصلة نحو القيم الكبرى: العدالة، الكرامة، والعيش المشترك، ففي مواجهة أنقاض الحرب واستعصاءات الواقع السوري المعقّد، يبرز دور المثقف اليوم كضرورة تاريخية لا تحتمل التأجيل، وكوظيفة أخلاقية لا تُقاس بترف التنظير، بل بمدى الانخراط في إعادة ترميم الوعي الجمعي وصياغة خطاب وطني جامع.

——————————-

نعم هرمنا.. ربما جميعاً/ مصطفى علوش

2025.04.14

قال محمد الماغوط مرّة: “عمرها ما كانت مشكلتنا مع الله، مشكلتنا مع الذين يعتبرون أنفسهم بعد الله”، والآن وبعد أن هرب الأسد، أقولها وبعد ما يقارب عشر سنوات من العيش في ألمانيا، هرمتُ، معيداً ذات الكلمة التي قالها يوماً ما ذلك التونسي النبيل وهو يشاهد فرار الرئيس التونسي بن علي في تلك الأيام.

ربما هرمنا جميعاً بانتظار لحظة الحرية، والحرية لا تعريف لها، فكل تعريف يحدّها هو اغتيال لمعناها الكبير، فالحرية تعني فضاء إنسانياً كاملاً للجميع.

فحين أريد تأسيس شارع جديد أو مطار أو مؤسسة أحتاج إلى اختصاصيين، درسوا وتعلموا، لكن تخيلوا معي أن أقول مثلاً  إنني أحتاج إلى “مهندس سنّي، وخبير علوي، وطبيب إسماعيلي أو ممرض مسيحي وطيار مدني كردي”. لاشك وفي زمن الذكاء الاصطناعي بأن من يقرأ الجمل السابقة سيقول: إن هؤلاء يؤسسون لبناء عصفورية، لا دولة.

حتى العصفورية تحتاج إلى اختصاصيين

حتى العصفورية، هي مشفى، لمعالجة المرضى وتحتاج إلى أطباء وممرضين وفنيين من مختلف الاختصاصات، ليشتغل المشفى على أكمل وجه. فتخيل أن تطلب  للعمل في مشفى طبيباً سنّياً و مديراً إدارياً علوياً وآخر مرشدياً!!

نعم هرمنا ونحن ننتظر أن نبدأ جميعاً في بناء الدولة السورية التي نريدها جميعاً، والدولة هي مفهوم قانوني، بنية فوقية، تعبّر عن مصالح جميع أفراد المجتمع، وكما تعرفون جميعاً طوال خمسين عاماً لم يؤسس البعث ومعه الأسدين سوى سلطة فردية وراثية دكتاتورية، كان عمادها الفساد والإفساد الممنهج.

مثل ملايين السوريين أتابع المشهد السوري، أتناول حبوب ارتفاع الضغط، وأتنفس عميقاً قبل قراءة أي خبر جديد يخص الانتهاكات والتجاوزات، وأشاهد فيديوهات تخص رجالاً يريدون نشر الدعوة الإسلامية، أين؟ في الشام!!ومنطقة بلاد الشام تعتبر مهبط الديانات السماوية.

الله خير مطلق للجميع

يا للغرابة! الله خير مطلق، عدالة مطلقة، لا يمكن لمفهوم الله أن يكون غير ذلك، هو رحمة وتسامح ومحبة لجميع البشر. لكن الدولة علوم وضعية، وتشريعات دنيوية ومؤسسات وفرص عمل  وسوق واستثمارات، تحتاج الدولة إلى جهود جميع أبناء المجتمع.

هرمتُ هنا في ألمانيا ولم يسألني أحد عن طائفتي أو ديني، ومن باب التعارف كنتُ أشرح لأصدقائي الألمان، أين تقع مدينة سلمية التي ولدتُ بها، وأن في هذه المدينة يعيش سوريون ينتمون للطائفة الإسماعيلية، ومن بينهم كان الماغوط وعارف تامر وفايز خضور وسامي الجندي وعبد الكريم الجندي، وفي هذه المدينة صلّى  السوريون الإسماعيليون في جامع السنّة الذي يقع في قلب المدينة عام 2011 وخرجوا معهم في مظاهرات مرددين “الشعب يريد إسقاط النظام، وحرية للأبد غصباً عنك يا أسد”. وفيها عشرات التيارات السياسية التي كانت ومازالت معارضة للأسد ولكل استبداد، وحين ارتكب الأسد مجزرة حماة في الثمانينيات من القرن العشرين، استقبلت هذه المدينة السورية آلاف الهاربين من حماة، وفتحت لهم قلوبها وأبوابها. وفعلت ذلك أيضاً مع كل النازحين السوريين الذين هربوا من الرستن وحمص وغيرها، خلال فترة الثورة السورية الأخيرة.

الهوية الوطنية السورية لا الطائفية

لم أشعر يوماً أنني إسماعيلي سوري، إنما شعرتُ ومازلت أنني سوريٌّ أنتمي لسوريا كلها، مع أنني مثل ملايين من فقرائها لا أملك فيها شيئاً. لكن روحي تملكها كلها.

سوريا اليوم متعبة، مرهقة، بائسة، هرم شبابها وأطفالها، ويحتاجون جميعاً للأمان التام، ولحكومة تمثلهم جميعاً، ولها صلاحيات تامة، يحتاجون إلى جهاز شرطة وسلطة قضائية ومحاكم، كما يحتاجون إلى شارع نظيف وبيئة نظيفة.

الريف السوري وقراه من أفقر أرياف العالم، لكن يمكن أن يصبح من أفضل أرياف العالم إذا توافر له دولة تقدم للجميع يد المساعدة لتبدأ عملية التنمية والاستثمار.

هل نحتاج مرة أخرى لتذكير قادة البلد الجدد، بأن سوريا تحت المجهر الدولي، وخاصة الولايات المتحدة الأميركية، والعلاقة مع العالم تحتاج إلى سياسيين سوريين يعرفون تماماً ما هو معنى السياسة، وكيف يمكن أن يبدؤوا الخطوة الأولى الصحيحة في بناء جسر الثقة مع هذا الكوكب المتغير.

لا يمكن أن تعيش سوريا بعزلة عن العالم فهي تحتاج للعالم اقتصادياً وتقنياً وثقافياً، ولغة المناكفات والعداء للعالم لن تجلب لسوريا سوى مزيد من الخراب.

خبراء التربية والاقتصاد يعرفون هذه الحقيقة وهي أن  الاستثمار الأول والمهم هو الاستثمار في الإنسان.

فالتعليم وتأهيل الإنسان هو الخطوة الأولى والأساسية للاستثمار في الإنسان السوري.

فكيف يمكن أن يتمّ الاستثمار في الإنسان السوري، وهذه اللغة الطائفية تنتشر الآن انتشار النار في الهشيم؟

كيف يمكن لآلاف السوريين أن يعودوا من أوروبا، للاستثمار في سوريا، وهناك من يمكن أن يسألك في الحواجز السورية عن طائفتك؟

كيف يمكن أن تعود الناس لممارسة أعمالها والخوف يملأ الصدور من تكرار مجازر قادمة؟

تحتاج سوريا اليوم والآن إلى سياسيين يقررون ويفعلون فوراً، إلى شفافية كاملة في التعامل مع مختلف القضايا الإشكالية وخاصة ملف العدالة الانتقالية.

سوريا أمانة بأعناقنا

تحتاج الناس إلى قطع تام مع الفساد والفاسدين، و إلى الحرية والديمقراطية مثل حاجة أهلها للخبز والكهرباء والماء النظيف.

تحتاج البلد إلى شجرة يستظل الناس بظلها، وإلى دولة بأجهزتها يلجأ إليها كل محتاج ومشتكٍ. لا تحتاج سوريا إلى دكتاتور جديد.

يريد أبناؤها جميعاً الحياة والمستقبل، ولا يريدون العودة إلى الماضي، يريدون بناء مدارس عصرية وقطاعاً صحيّاً عصرياً، ويحلمون بوزارة عمل كما في أوروبا، من اختصاصها أن تقدم للعاطل عن العمل راتباً شهرياً ليعيش بكرامة ريثما يجد عملاً له.

هرمتُ وفرحتُ جداً بسقوط الأسد كما الملايين، ولكني لا أريد للخوف أن يعود لقلوب الناس.

سوريا الآن أمانة في أعناقنا جميعاً فلا تضيعوا فرصة النهوض، فرصة الولادة من جديد.   

تلفزيون سوريا

——————————–

طائفية “المثقف” وتفتت النسيج الوطني/ ضاهر عيطة

2025.04.14

يرى المفكر البريطاني مايكل بيل أن الطائفية تؤدي إلى عزل الجماعات الاجتماعية عن بعضها بعضاً، ما يحد من قدرة الدولة على العمل كمؤسسة موحدة. وأشار في العديد من دراساته حول الشرق الأوسط إلى أن الطائفية ليست مجرد خلافات دينية، بل هي عملية سياسية تُستخدم لتقوية السلطة على حساب حقوق المواطن وحريته.

وقد مرت على السوريين سنوات وعقود عديدة وأليمة، وربما كانت العقود الخمسة الأخيرة التي سيطرت فيها الأسدية على كامل مفاصل الحياة أشدها قسوة ومرارة. فمنذ سبعينيات القرن الماضي، بدأت هذه العصابة باستخدام الطائفية كأداة لإعادة تشكيل الولاءات. وبدلاً من تعزيز مفهوم الدولة الوطنية الجامعة، عملت على ترسيخ الولاءات الطائفية والمناطقية، خاصة داخل مؤسسات الجيش والأمن، ما ولّد شعوراً بالتمييز وعدم العدالة لدى شرائح واسعة من المجتمع.                                                       

ومع اندلاع الثورة السورية عام 2011، تحوّلت الطائفية من أداة خفية إلى واقع دموي، وساهمت بهدم مؤسسات الدولة، وإشعال الفتن، ومنع أي مشروع تنموي أو نهضوي، إذ يستحيل بناء مجتمعات مستقرة على أساس الشك والكراهية والانقسام.               

وهكذا تم العبث بكل ما بقي في سوريا من آثار الحضارات الإنسانية، والإنجازات البشرية، ومن معاني الجمال والفلسفات وتعايش الأديان، حتى وصلت سوريا إلى دولة أشبه ما تكون بالدولة البدائية، بعد أن امتصت العصابة الأسدية كل خيراتها، وما فيها من طاقات وإمكانات لصالح آلة القتل والتدمير والخراب، مقابل بقاء عرشها. وقالتها بالفم الملآن: “الأسد أو نحرق البلد”، وبالفعل لم تتزحزح الأسدية عن العرش الذي شُيّد حرفياً فوق ملايين الجماجم وركام من العظام وبرك الدماء، إلا وكانت سوريا محترقة، مدمرة.

لم يطل الحريق والدمار العمران والحجر فقط، بل تسلل إلى نسيج المجتمع السوري، وإلى أعماق تكوين أفراده الذين بقوا على مدار خمسة عقود يُذلون ويُهانون ويُرشون ويَرتشون، ويَقتلون ويُقتلون، ويُعذّبون ويُتعذّبون. وبلغ ذلك ذروته خلال أحداث الثورة السورية 2011 – 2025.

ليس من السهولة بمكان الانعتاق من كل ذلك بجرة قلم، أو بقرار حكومي، أو ببيان، فالنفوس مشحونة بمشاعر مختلطة ومتضاربة، تتراوح بين الشعور بالنصر والهزيمة، والظلم والقهر والجوع بالخذلان. وليس بالمستغرب أن ينتج عن كل ذلك أحقاد ونزاعات عديدة بين بعض السوريين، تعيدهم إلى بدائيتهم، وإلى نزعاتهم الفردية والعشائرية والمناطقية والطائفية.

***

أجل، بعض السوريين يعيشون الآن الطائفية، وربما لأول مرة في تاريخهم بمثل هذا الوعي والإصرار، حيث كانت العقود الخمسة المنصرمة قد أذاقتهم جرعات كبيرة منها، إلى حد أن الكثيرين منهم أضحوا مدمنين عليها. والبعض منهم يطلب العون للشفاء من هذا الداء، لكن حتى الآن ما من رجاء يستجاب، والبعض الآخر مهووس ومستمتع بهذا الداء، ويرى فيه مبتغاه ونجاته الوحيدة.

والمثير للتأمل أن أكثر من يُظهرون انغماساً في الطائفية هم من يُفترض أنهم في طليعة الوعي والنقد: فئة المثقفين، المنتمين إلى مختلف الطوائف والمكونات السورية. فمع أنهم يرفعون عالياً شعار محاربة الطائفية، إلا أن البعض منهم، وفي مفارقة لافتة – يعدون من أكثر من يكرّسها ويغذيها، سواء عن وعي أو عن غير وعي، بقصد أو من دون قصد. ويتجلى هذا التناقض في خطاباتهم المكتوبة والمسموعة والمرئية، التي ما إن تمعن النظر فيها حتى تكشف عن تناقضاتها وتورطها في تعزيز الانقسام.

تتعدد خلفيات هؤلاء بين متدينين وعلمانيين، ومع أنه يمكن تفهم بعض المتدينين حين ينطلقون من مرجعياتهم العقائدية والمذهبية، فإن ما يصعب تقبله أو فهمه هو انزلاق بعض العلمانيين إلى مواقع طائفية أشد تعصباً من غيرهم. إذ سرعان ما يتخلون عن شعاراتهم إذا ما تم المساس بالطائفة أو الجماعة التي ينتمون إليها، فيعودون إلى انتماءاتهم الأولى، وكأن تلك “العلمانية” التي اعتنقوها لم تكن سوى قناع مؤقت، يمكن خلعه وارتداؤه بحسب ما تقتضيه الحاجة والمصلحة.

مِنهم من يستغرق في أداء دوره وارتداء القناع إلى حد فقدان الوعي بذلك، والإصرار على هذا الاستغراق كما لو أنه جزء من كيانه. تماماً كما فعل الممثل دانيال دي لويس في فيلم My Left Foot، حين أدّى دور رجل مصاب بالشلل الدماغي، فأصرّ على البقاء في الكرسي المتحرّك طوال فترة التصوير، بل وحتى في فترات الاستراحة، وطلب من فريق العمل أن يُطعموه كما تُطعَم الشخصية التي يجسدها.

الطائفية ليست نابعة من إيمان صادق بعقائد دينية، إنما من مصالح وحسابات شخصية ودنيوية. وفي هذا الصدد، يرى المفكر السوري جورج طرابيشي أن الطائفية ليست ظاهرة دينية، بقدر ما هي أداة سياسية يتم توظيفها بمهارة من قبل الأنظمة السلطوية لضمان بقائها واستمراريتها، عبر إذكاء الانقسام داخل المجتمع وتحويله إلى طوائف متناحرة.

إذاً فالغاية من الطائفية هي تفكيك الوعي الجمعي وتمزيقه، بحيث يعاد تشكيل الشعور بالانتماء وفق ما هو دون وطني، ليصبح الفرد تابعًا لطائفته لا لمجتمعه ككل من خلال استراتيجية “فرّق تسد”، التي تنتج حالات جماهير منقسمة على بعضها ومتناحرة، وتحوّل العلاقة بين المواطنين إلى علاقة ريبة وعداء، بحيث تصبح غير قادرة على التكتل في وجه الظلم، لأن كل فئة تخشى الأخرى أكثر من خشيتها الظلم نفسه.

ولا تقتصر الطائفية على كونها تمييزاً بين الناس على أساس الانتماء الديني أو المذهبي، بل تتجاوز ذلك لتُصبح من أخطر العوامل التي تُقوِّض أسس الدولة وتُهشِّم بنية المجتمع. وهذا بالضبط ما اشتغلت عليه الماكينة الأسدية، حين استخدمت الطائفية كأداة تخريب وتدمير، لخلق تمييز مؤسساتي، فراحت توزّع المناصب والفرص والأدوار بناءً على الهوية الطائفية لا على الكفاءة، مما كان يشعر فئات واسعة بالتهميش، ويولد نقمة وشحنًا لثقافة الكراهية، مما يحول المختلف إلى “عدو”، وهذا ما فتح الباب أمام العنف، الذي كثيراً ما اتخذ طابعاً دموياً بين السوريين. وهو ما جعل كذلك من الحالة السورية بيئة خصبة للتدخل الخارجي.

أفلا يستوجب منا كل ذلك وبعد زوال الأسدية، أن نعي ما أورثتنا من عري وقبح، وأن نعترف به، لئلا نتعايش معه وكأنه أمر طبيعي يوهمنا بأنه يرفع من شأننا، في حين هو يجرنا إلى قاع مستنقع البرك الآسنة، التي لا تتكاثر فيها إلا الحشرات والوحوش المنتمية للسلالة الأسدية؟ وبذلك نفقد قيمتنا كبشر نعيش في دول وأوطان.

ولعل من أول بديهيات مقاومة الطائفية البدء بإعادة بناء الوعي النقدي، وتفكيك البنى الذهنية التي جعلت من الانتماء الطائفي مرجعية أولى للفرد، على حساب المواطنة والعقلانية. فالطائفية ليست مجرد خلاف مذهبي، بل هي مرض سياسي- اجتماعي يتسلل إلى مفاصل الدولة والمجتمع في غياب المشروع الوطني الحقيقي الذي نترقب دوران وتسريع عجله في كل حين.

تلفزيون سوريا

——————————-

ويحك سوريا… هل تشتعلين من جديد؟/ سمير التقي

في الفصل الثالث عشر من كتابه “ليفاثان”، يناقش المفكر البريطاني الكبير توماس هوبز، ما وصل إليه المجتمع البريطاني إبان الحرب الأهلية من تفكك، لينهار الولاء للدولة ويصبح الولاء سوقياً، لتحل محله “علاقات غريزية لمجتمعات منعزلة، وقبائل وعشائر، متناحرة. ليعيش الناس حياة مدقعة، وحشية، وقصيرة”، حيث “الكل ضد الكل” في حرب جرفت حينها بريطانيا نحو القاع.

تحت وطأة صراع الكل ضد الكل، تتدحرج سوريا نحو هاوية أعمق فأعمق. وتتحلل تحللاً بطيئاً ومدهشاً، سلطاتُ الأمر الواقع على اختلافها، واختلاف مشاربها، ويتفاقم معها تفكك المجتمع تحت وطأة انهيار الاقتصاد، والأسرة، والأمن الفردي، والجماعي.

والأنكى، أنه في أوج التراجيديا العالمية الضاربة، لم تعد سوريا إلا واحدة من المآسي المتكاثرة. بل إنها، وحتى مقارنة بأكثر مآسي العالم بؤساً، كما في السودان والصومال، تتفوق تلك بفوضى متعددة الأبعاد، وبتعدد المتدخلين، لتصير مكسر عصا وحشياً ضد كل سوري.

للوهلة الأولى، بدا الاغتيال والاختطاف والقصف مجرد يوميات منعزلة، تحدوها الفوضى وانعدام الأمن. لكن تفاقم الفوضى وتضافرها، ينضج ويختمر الثقب الأسود السوري ليس داخل كل إمارة، بل على الصعيد الوطني.

تؤكد المتابعات البحثية الميدانية للوضع السوري حقيقة تداعي سلطات الأمر الواقع بكل مسمياتها، من دمشق إلى الحسكة إلى إدلب. وتنمو الصراعات داخلها وضد جيرانها على حد سواء. وتظهر جماعات مسلحة جديدة، تطور قدراتها وتسليحها. تسقط هذه التحولات قدرة سلطات الأمر الواقع على وقف تفككها ذاتها، بل تصبح هي ذاتها جزءاً فاعلاً فيه.

وكما في زمن هوبز، فإن العامل البارز الجديد والأهم يمكن في حقيقة انتفاض المجتمعات المحلية في مواجهة جميع أمراء الحرب، لتجبرهم على التفاوض والخضوع.

فبعدما اعتبر نظام الأسد محافظات الجنوب “نماذج” للخضوع، تنهض القوى المحلية، وقوات “المصالحات” بخبرات قتالية معتبرة، لتشل قدرات السلطة المركزية وتفرض سلمها الأهلي المحلي أمام تعسف أمراء الحرب ونهبهم، وعصابات المخدرات.

ورداً على الاعتقالات والاختطاف، تهاجم القوى المحلية مراكز المخابرات ونقاط التفتيش وتعتقل الضباط لتجبر النظام على التراجع والانكفاء، وهو ما لم يفعله من قبل قط.

بذلك، بعد 13 عاماً من الاختلاط اللامتناهي بين البشر والأيديولوجيات، تستضيف كل مناطق سوريا المئات من الفصائل المتعارضة والمدربة.

تشابه باقي مناطق البلاد محافظات الجنوب كما في حمص وحماة، وحلب، وصولاً إلى شرق الفرات. وتستشري الصراعات والفوضى في مناطق سيطرة دمشق حيث يطال الخطف والاعتقال والاغتيال، شخصيات مفتاحية، بدءاً بلونا الشبل وضباط القصر، وصولاً إلى القاطرجي المقرب من الرئاسة.

وفيما تتفكك من الداخل سلطات الأمر الواقع، وبسبب غزو أوكرانيا وحرب غزة، تنهار التوافقات الإقليمية والدولية المؤسسة لتجميد الصراع والهدوء نسبي منذ 2018. ويعود الصراع في سوريا وعليها بين هذه القوى، ليضاعف الفوضى الشاملة أضعافاً مضاعفة.

أولاً، بعد سحب التفويض الغربي لروسيا لتدبير الساحة السورية نهائياً، ورغم حرب أوكرانيا، تعود روسيا إلى نشر قواتها وتخصص المزيد من الموارد لقواتها البحرية والجوية، ويعود الطيران الروسي إلى قصف قوات المعارضة غرب الفرات لترد المعارضة عليه بضربات أصابت العديد من الجنود الروس. وفي التوازي تتصاعد احتكاكات القوات العسكرية الأميركية والروسية.

ومما له دلالته نشر روسيا قواتها على الحدود السورية – الإسرائيلية، الأمر الذي يوضح خشيتها من امتداد المجابهة المقبلة بين “حزب الله” وإسرائيل، لتطال النظام السوري. إذ يقع القصر الجمهوري في دمشق على بعد 55 كم تقريباً من تحركات القوات الإسرائيلية.

ثانياً، ورغم التوافقات التكتيكية الراهنة الجارية مع إيران، يمكننا أن نؤكد تبدل الموقف العام للغرب تبدلاً جذرياً. إذ لم يعد الاتفاق النووي ذا مغزى، لتصبح مهمة تدجين أذرع إيران ومنعها من تهديد الأمن الإقليمي والأمن الإسرائيلي بخاصة، الأولوية الرئيسية. لذلك، يبدو من السذاجة أن نعتقد أن المجابهة التي اندلعت في السابع من تشرين الأول (أكتوبر) الماضي ستنتهي في أي وقت قريب.

ثالثاً، وفي السياق ذاته، وبعدما فقدت روسيا دورها كوسيط قوة بين كل اللاعبين، تتعزز مكانة تركيا كوسيط إقليمي بديل بعدما ترسخ دورها كركيزة راسخة للخاصرة الجنوبية لحلف الأطلسي، في وقت تبحث تركيا عن قطاف ثمرات دورها الاستراتيجي الحاسم.

ثم يأتي رابعاً، جوكر الفوضى الشئيم. إذ يلاحَظ نشاط غير مسبوق منذ 2017 لتنظيم “داعش”. وبينما يعيش أفراده في صحراء مفتوحة أو مخيمات صغيرة، ويتحركون بسرعة ضمن “الأراضي الآمنة” بين القرى والنجوع، يستعد التنظيم حثيثاً لدورة جديدة من “التوحش”. ولقد أعلن التنظيم أخيراً مسؤوليته عن 153 هجوماً في العراق وسوريا في النصف الأول من العام، لكن الخبراء يقدرون العدد الحقيقي لهجماته في سوريا وحدها بـ551 حداً أدنى، إذ تمتد هجماته علي كل الأطراف من محيط معاقلهم إلى المدن مثل الرقة ودرعا وحماة.

وفيما لا يزال أكثر من 10,000 داعشي في سجون أشبه بمراكز للتعبئة والتجنيد الجهادي، يوحد أترابهم الصفوف، ويكتسبون قدرات متزايدة خارج السجون. وليست عملية الهروب الجماعية من سجون “قسد” 2022، لأكثر من ألف داعشي، ومقتل أكثر من 100 من عناصر “قسد”، إلا اختباراً للمستقبل. ففيما لا يبدو أن “داعش” قادر على شن حرب واسعة، إلا أنه بما لديه من قدرات يتسبب بفوضى هائلة.

ثم هناك خامساً تجارة المخدرات، التي صارت مصدر تمويل لا غنى عنه لأمراء الحرب وقوى الفوضى. وبحسب تقدير الخبراء، وصلت القدرات التصنيعية لهذه التجارة إلى عشرين مليون حبة شهرياً، قيمتها مليارات الدولارات. وفيما يدير نظام دمشق وحلفاؤه قسماً مهماً منها، تنتشر هذه التجارة في كل الأصقاع، لتتصاعد معها صراعات النفوذ بين العصابات المدعومة من أمراء الحرب. وبدورها ترد المجتمعات المحلية بحرب خفية ضد كبار تجار المخدرات وعناصرهم.

بين الفوضى والتداعيات الخارجية، تقف سوريا على صفيح ساخن، يوشك أن يفجر حروباً متجددة صغيرة وكبيرة تعزز فوضى الكل ضد الكل، وتدفع نحو تداعي ما تبقى من “أنظمة” الأمر الواقع في كل البلاد.

وكما قلنا مراراً: “من دون الدخلاء، ليس ثمة حرب في سوريا، لكن من دون توافق السوريين لا سلام أبداً فيها”. دعونا نأمل ألا تتحقق هذه الأخطار الوشيكة أبداً! لكن، لنستعد لاحتمال حدوثها بكل جدية.

النهار

————————–

 التعليم العالي وصورة سوريا الجديدة/ أحمد جاسم الحسين

2025.04.13

في سوريا الجديدة أنت مضطر للتذكير بمسلمات بناء الدول، كأن تقول: البيضة والدجاجة معضلة لن تحل، وهي وجدت لتبقى معضلة فلا تضع وقتك فيها، أو أن العربة تمشي خلف الحصان لأن الحصان هو القوة التي تجر العربة.

لكن يمكن أن يخرج عليك شخص ليقول لك: السيارات يمكن أن يكون محركها في الخلف مثلاً، والدفع يأتي من الخلف، وأنك إن أردت دفع شيء إلى الأمام فإنك تدفعه من الخلف، فتحدّثه عن نظرية الجر والدفع كذلك!

في سوريا الجديدة ستحدث صديقك عن تاريخ جامعة دمشق يوم كانت الجامعة الوحيدة في سوريا حتى عهد الوحدة مع مصر، وكيف عانى مؤسسوها الأوائل سنوات حتى تم الاعتراف بها من قبل البريطانيين والمصريين واللبنانيين نهاية الثلاثينات، لأسباب سياسية وسواها يوم كان عدد السوريين أقل من مليوني إنسان، ويمكنك الحديث عن رضا سعيد الذي رفض معاقبة الطلاب الذين تظاهروا ضد زيارة بلفور!

من السهولة أن تصرخ لتقول: كل شيء إلا الجامعات يا حكومتنا العتيدة، يا سلطتنا الجديدة! كذلك يمكنك أن تقول: كل شيء إلا الخبز والثقافة والنفط ولقمة العيش والأمان والتربية…!

يمكن أن تقول كذلك: إن صورة البلد في جزء منها تقوم على مقدار اعتمادية شهاداته في العالم، ومدى الاحترام والدقة، والموضوعية والشفافية ومؤشرات الفساد والاعتمادية ومساهمة بلدك في البحث العلمي العالمي!

ومن المؤكد أنك ستشير إلى أن اعتمادية الشهادات وسمعة التعليم العالي في أي بلد تحتاج إلى سنوات طويلة جداً كي تبنى وتُحترَم، لكن خطأ بسيطاً قد يجعلها تتراجع مئة مرتبة، فانتبهوا!

للأكاديميات العالمية تقاليد وأعراف يعدُّ تغييرها أصعب من تغيير دستور البلاد، وغالباً ما يشار إلى الأكاديميات على أنها الأبطأ في التغيير، لكنها في الوقت نفسه هي جزء من ضمان هيبة البلد واحترام صورته.

يروى مثلاً عن أحد رؤساء جامعة دمشق أنه فضل الاستقالة على أن يعتقل طالب من الجامعة! في الوقت نفسه كان هناك في عهد بشار الأسد رئيس جامعة يقول: أنا أسكر مع بشار الأسد وآخر يقول: أنا ألعب الطرنيب مع رئيس مجلس الوزراء!

السلطة الجديدة في سوريا لا ترث مصانع أو سلطة وقوة وعسكر وقرار فحسب، بل هي ترث تاريخاً وعادات وتقاليد وأعرافاً، تاريخنا الأكاديمي أمانة بين يديها والانتقام لا ينفع معه، وما شابه من تخريب في عهد الأسدين علينا أن نوقفه وليس لنحلّ أنواعاً أخرى من الفساد المبطن!

ولخصوصية الجامعات وتشجيعاً للبحث العلمي فإن الدول تقر قانوناً خاصاً بالجامعات، يختلف عن قانون موظفي الدولة، كي تحافظ على الكفاءات، وتشجع البحث العلمي، وتخصص ميزانيات عالية. وبمعنى من المعاني فإن كلفة الجامعات أكبر بكثير من وارداتها المادية لأنها ليست حقلاً إنتاجياً للمواد بل للعقول والمعرفة والهوية والشخصية. والاستثمار فيها له آثار طويلة الأجل!

تعتمد جودة التعليم عادة على المناهج وطرائق التدريس وكفاءة الأساتذة والبنية التحتية للبحث العلمي ومدى تناسب عدد الأساتذة مع عدد الطلاب، والشفافية ونسب النجاح ورضا الطلبة والتعاون الدولي والنجاح

الوظيفي للخريجين، وكذلك الاعتراف الدولي بالشهادات، وما حققه خريجوها من منجزات عالمية ويعد استقلال قرارها ومحافظتها على التدرج الأكاديمي أحد ألوان نجاحها.

ينظم عمل الجامعات السورية قانون تنظيم الجامعات وآخر تعديل له كان عام 2006، وبالتأكيد مثله مثل أي قانون لا بد له من تغيير بين فترة وأخرى كي يواكب ما يحدث من تغيرات محلية وعالمية، وقد نص هذا القانون على معظم التفاصيل الخاصة بالجامعات لذلك فإن الخروج عليها دون سند قانوني يعد مخالفة للقانون ولا يمكن لثورة قامت من أجل الحرية وتفعيل القانون والعدالة أن تقوم هي بمخالفة القانون.

نتابع يومياً في الترند السوري تعيينات وأخباراً جديدة تخص الجامعات السورية من حيث الاعتمادية والتعيينات والطلبة والمناهج وسواها، وقد وجدنا أن عدداً منها مرجعه قانون تنظيم الجامعات الذي كان موجوداً في إدلب، في حين أن بعض القرارات تعود إلى قانون تنظيم الجماعات الذي كان معمولاً به في المحافظات الأخرى، مما يشير إلى نوع من التخبط الإداري.

صحيحٌ أن كثيرا من تلك التعيينات فيها تصحيح مسار وتخلص من حالة سلبية أو فساد أو سوى ذلك، لكن هناك قسم آخر فيه تعجل وعدم دراسة، وربما عدم وعي بخطورة ما يحدث وأثره على التعليم العالي، فلا يمكنك أن تطلب من طالب ألا يغش أو من شخص يبحث عن اعتمادية لشهادته وفي الوقت نفسه أنت لا تلتزم بالأصول الأكاديمية!

تُعَرَّف الشرعية الثورية بأنها تلك القوة الناجمة عن التفويض الذي تقوم به قوى الثورة لصاحب القرار لإحقاق الحق وإحداث التغيير، والخروج على الأطر القانونية التقليدية.

وسواء أوافقنا على ذلك أم لا، فإنها باتت واقعاً في سوريا، لكن نأمل أن تكون بخطوات مدروسة جداً في مجال التعليم العالي، لأن للتعليم العالي أسساً ومرتبات واعتماديات، ترتبط بشبكة العالم المعرفية والأكاديمية والقانونية.

قرأنا في الأخبار مؤخراً أن هناك تعيينات أكاديمية في عدد من الجامعات السورية تتجاوز قانون تنظيم الجامعات مما يخفض الثقة بالسمعة الأكاديمية للجامعات السورية. قد يكون أولئك الأشخاص ثقة عند القيادة السياسية، وهذا وارد، لكن الانتباه إلى عدم تجاوز الأعراف الأكاديمية في التعيينات الأكاديمية ضرورة، وأنا هنا أتحدث عن الكليات والأقسام والجامعات في المراتب ذات الطابع الأكاديمي.

أما التعيينات في وزارة التعليم العالي فليس لها صفة أكاديمية، بل إن هناك عدداً من دول العالم لا يوجد فيها وزارات للتعليم العالي منها هولندا التي أعيش فيها نظراً لأن للأكاديميات اعتمادية وسمعة يتجاوز بعضها مئات السنين، وليست بحاجة إلى وازرة تشرف عليها.

لكل بلد خصوصية في التميز، أو لنقل صورته تعتمد على عوامل محددة، مثلاً نفاخر نحن السوريين بأننا درَّسنا الطب بمصطلحات عربية وتعريب العلوم في المجمل وكان مجمع اللغة العربية جزءا منها، وكذلك لدينا خريجون متميزون؛ علموا اللغة العربية في عدد من البلدان العربية. واليوم الكثير من خريجي جامعة دمشق وعدد من الجامعات السورية يثبتون أنفسهم في أفضل الجامعات العالمية خاصة حين توفرت لهم ظروف تفرغ وبحث علمي وبيئة تعليمية ملائمة.

نريد أن تكون الجامعات السورية، كما كانت في أثناء التأسيس، واحة انتخابات وديمقراطية، حيث يتم انتخاب رؤساء الأقسام وعمداء الكليات ورئيس الجامعة انتخاباً. ومما يعطي تلك الانتخابات صدقيّة وثقة بمخرجاتها، أن المنتخِبين هم من حملة الدكتوراه!

تخلصنا من عهد الحزب الواحد والمخابرات التي تقرر كل شيء، نعم، يليق بسوريا الجديدة أن تكون جامعاتها مثالاً وبداية للتغيير الديمقراطي الذي يطالب به كثير من السوريين وربما تتقاطع رغباتهم مع كثير من مطالب المجتمع الدولي!

يمكن أن نصرخ لنقول: كل شيء إلا التعليم العالي يا سلطتنا الجديدة! لكن لن نكتفي بذلك لأن التعليم العالي هو جزء من منظومة البلاد الكلية، وهو جزء من صورتنا ورغبتنا في ترك الأثر والتميز وصورة تليق بسوريا الجديدة الجميلة، لنقول:

يا سلطتنا الجديدة التي نحبّ كثيرا من سلوكاتها، وقد خلصتنا (بشكل مباشر) من نظام ديكتاتوري مخابراتي استبدادي: ننتظر منك مزيدا من تفعيل القانون والشفافية والوضوح والعمل ضمن الأطر القانونية وتفعيل مرحلة العدالة الانتقالية في كل جوانب الحياة السورية: الأمن والصحة والتعليم والخدمات!

تلفزيون سوريا

——————————–

لمن انحاز ترامب في سوريا؟/ سمير صالحة

2025.04.13

يعوّل البعض محليًّا وإقليميًّا على تسجيل اختراقات سياسية في التعامل مع ملفات المنطقة، وانتزاع دور أو فرصة من خلال اللعب على التوازنات الحساسة القائمة، واحتمال اشتعال جبهات تضارب المصالح بين تركيا وإيران وإسرائيل.

من الممكن أن تساعد الظروف والمعطيات المحلية على أخذ بعض ما يريده في مكانٍ ما، لكن ذلك لا يعني بالضرورة أنه سينجح في تطبيق هذه الاستراتيجية في أماكن أخرى. إضعاف إيران في لبنان وإبعادها عن سوريا عبر الاستفادة من الورقة الإسرائيلية، لا يمكن البناء عليه وتكراره في سوريا من خلال الرهان على تفجير العلاقات الإسرائيلية – التركية، ودفعهما للمواجهة العسكرية المباشرة، معتمِدًا على واشنطن وموسكو لفتح الطريق أمامه هناك.

تذهب كثير من المؤشرات باتجاه أن التلويح بالقوة لن يصل إلى خط اللاعودة نتيجة للتصعيد الحاصل بين أنقرة وطهران وتل أبيب، وأنه من الصعب جني ثمار الانفجار الثلاثي من قبل البعض وبالمجّان. سبق أن اختلفت أنقرة وتل أبيب أكثر من مرة على تقاسم النفوذ والمصالح، وسبق لهما أن أنهيا هذا التوتر وأعادا العلاقات إلى ما كانت عليه وأفضل. إيران أيضًا قد تفاجئنا بخيارات بديلة إذا ما أعطت واشنطن ما تريده بعد أيام في الملف النووي. التعويل على تراجع نفوذ وتضارب مصالح الثلاثي التركي – الإيراني – الإسرائيلي في المنطقة، قابلٌ للتحوّل في كل لحظة إلى تفاهمات تخيب آمال المراهنين على الجلوس أمام طاولة انتزاع الأدوار من دون مقابل، وترامب هو ضابط الإيقاع هذه المرة.

يمنح الخبير العسكري والاستراتيجي التركي ورئيس مركز أبحاث “أسام”، إراي غوشلو آر، الجانبَ الإسرائيلي مدة نصف ساعة فقط قبل أن تفقد تل أبيب قوتها الجوية عندما تقرر القوات المسلحة التركية أن المواجهة حتمية. هو يذكّر تل أبيب أيضًا بأن تركيا هي من قطعت الطريق على مشروع تفتيت سوريا ومخطط اقتراب إسرائيل من حدودها الجنوبية بدلاً من إيران وميليشياتها.

هناك، بالمقابل، في الداخل الإسرائيلي، من يحاول أن يعيد إلى الأذهان ما فعلته إسرائيل في الأسابيع الأخيرة وعلى أربع جبهات إقليمية دفعة واحدة.

وإن “تل أبيب أوضحت بشكل لا لبس فيه أن أي تغيير في نشر القوات الأجنبية في سوريا، لا سيما إنشاء قواعد تركية في منطقة تدمر، هو خط أحمر وسيُعتبر خرقًا للقواعد”.

    شكّل ملف غزة في الثلث الأول من نيسان العام المنصرم أحد أهم أسباب التصعيد بين أنقرة وتل أبيب، وهو ما قاد إلى التراشق ثم سحب السفراء وتجميد العلاقات التجارية وقرار أنقرة الالتحاق بالداعمين لمقاضاة القيادات الإسرائيلية..

من منح تل أبيب تحديد قواعد اللعبة في سوريا ورسم خطوط تحرك البعض هناك؟ ربما هي غاراتها الجوية واستهداف العمق السوري دون رد تركي – عربي – إقليمي رادع. لكن ترامب هو الذي يدخل على خط التوتر والاحتقان، معلنًا رسم حدود التصعيد والمواجهة.

شكّل ملف غزة في الثلث الأول من نيسان العام المنصرم أحد أهم أسباب التصعيد بين أنقرة وتل أبيب، وهو ما قاد إلى التراشق ثم سحب السفراء وتجميد العلاقات التجارية وقرار أنقرة الالتحاق بالداعمين لمقاضاة القيادات الإسرائيلية أمام محكمة لاهاي. لم يكن الملف السوري حاضرًا بعد.

في الثلث الأول من شهر نيسان الحالي، شكر الجانبان التركي والإسرائيلي الرئيس الأذري إلهام علييف على جهود وساطته واستضافة محادثات الوفدين التركي والإسرائيلي لتفادي وقوع حوادث غير مرغوب فيها بينهما في سوريا. الحصيلة الأولى هي “قرار الاتفاق على مواصلة الحوار عبر قناة تواصل مباشرة للحفاظ على الاستقرار الأمني في المنطقة، بعد عرض كل طرف لمصالحه الأمنية”. تصريحات الرئيس الأميركي كانت مفتاح الحوار التركي – الإسرائيلي حول سوريا، حتى ولو قال إن أردوغان هو من يملك المفتاح في دمشق.

هناك ما يكفي من الأسباب التي تستدعي إبقاء العلاقات التركية – الإسرائيلية فوق صفيح ساخن. وهناك قناعة تركية – إسرائيلية أن تفعيل “آلية عمل مشتركة” بين البلدين لن تكفي لتحول دون وقوع الصدام المباشر بينهما في سوريا. لكن هناك من يردّد أيضًا أنها ليست وساطة باكو وقرار الدخول على خط التهدئة بين الشريكين التركي والإسرائيلي هي التي دفعت الأمور نحو التهدئة، بل هي رغبة ترامب، الذي استدعى بنيامين نتنياهو على عجل لإبلاغه بضرورة أن يكون منطقيًّا وواقعيًّا في طروحاته السورية حيال الجانب التركي، خلال لقاءات العاصمة الأذربيجانية.

احتمال أن تضحي واشنطن بحليفيها التركي والإسرائيلي في سوريا لصالح أي لاعب إقليمي ليس على جدول أعمال اليوم.

ترامب هو الذي دخل على الخط مجددًا لضبط الإيقاع، والحؤول دون انفلات الأمور، والتذكير بضرورة الأخذ بما يقوله الحليف الأكبر، وهو في طريقه لمفاوضة طهران على الملف النووي، وحيث لا يريدها أن تستقوي بالخلافات التركية – الإسرائيلية.

لمن انحاز ترامب في سوريا؟ المسألة لا تحتاج إلى كثير من الجهد للعثور على إجابة.

اشتعل التنافس التركي – الإسرائيلي في سوريا بعد الثامن من كانون الأول المنصرم مع سقوط نظام بشار الأسد. تل أبيب قلقة من تنامي النفوذ التركي، وترامب يراهن على “علاقته الرائعة بالرئيس رجب طيب أردوغان” لنزع فتيل التوتر بين البلدين. تصريحات ترامب حرّكت المبادرة الأذربيجانية، لكنها لم تفتح الطريق أمام حوار تركي – إسرائيلي بوساطة أميركية بعد.

سوريا على رأس أولويات ترامب في المنطقة لأن خيارات إسرائيل وتركيا متباعدة وتتطلب ذلك، وحيث يردّد الوزير هاكان فيدان بعد لقائه بنظيره الأميركي روبيو: “إن سلوك إسرائيل هذا لا يستهدف سوريا فحسب، بل يزعزع استقرار المنطقة بأسرها”.

لا يريد نتنياهو أن يستيقظ على كابوس انسحاب أميركي من سوريا لصالح أنقرة.

لكن الخيار العسكري بالنسبة لأنقرة وتل أبيب في سوريا يعني حتمًا فشلًا أميركيًّا سيكون له ارتداداته السلبية على مصالح واشنطن في الإقليم ككل.

سيقرأ الرئيس ترامب جيدًا نتائج اجتماعات منتدى أنطاليا للدبلوماسية، وما صدر عنه من مواقف علنية باتجاه تل أبيب وسياستها الفلسطينية، وتمسكها بحرب الإبادة ضد قطاع غزة. لكنه يعرف تمامًا أن ما قيل يعني واشنطن، الحليف والداعم الأول لنتنياهو، لمواصلة ما يقوم به ضد الشعب الفلسطيني.

رسائل أنطاليا كانت عربية وإسلامية وغربية، بدعم روسي وصيني أيضًا. هي اليوم تركز على الملف الفلسطيني، لكن لا شيء يمنع أن تنتقل الأمور إلى الملف السوري غدًا أو بعد غد، بسبب مواقف إسرائيل وتمسكها بإشعال المنطقة من هناك هذه المرة.

لا يملك الماعز الجبلي، الذي يتنقل في عالم من الصخور الحادة والمرتفعات الشاهقة، أجنحة. لكنه يملك ما هو أهم: الرشاقة، والمرونة، والقدرة على القفز بدقة، مستندًا إلى قوة ساقيه الخلفيتين، ومعتمدًا على فهمٍ عميق لطبيعة الأرض التي يتحرك فوقها. تغيير قواعد اللعبة والمعادلات لا يحتاج فقط إلى الطاقة والشجاعة، بل إلى معرفة مكان وضع القدم، وإدراك اللحظة المناسبة للتحرّك.

—————————-

في إمكان الثورة.. هل تثور الطوائف؟/ أحمد الشمام

2025.04.13

تعتبر البنى الاجتماعية (قبيلة، طائفة، أقلية دينية) التي ترى نفسها معبرة عن أفرادها في المجال السياسي أو تطرح نفسها كوسيط بين الدولة ومجتمع أبنائها وأتباعها جماعة ما قبل دولتية، والبنية الاجتماعية لها أنساق سلطة وتقليد، وتعتمد العصبية والتحشيد، وتحتكر نخبتها التمثيل الاعتباري لنشاطها؛ كما تمارس نشاطا يهدف لترسيخ التمايز عن الآخر ليس في المجال الثقافي أو الديني، بل في طبيعة النزوع السياسي المؤطر لمصلحة الجماعة وإيلاء تلك المصلحة على الدولة.

عند مقاربة البنى الاجتماعية السورية نجد أنماطا مختلفة فهناك الأقلية العرقية – أكراد، والأقلية الدينية – المسيحية-، والأقلية المذهبية – الطائفة، كما تظهر القبيلة غالبا كنموذج مفاهيمي للبنية والجماعة ما قبل الدولة، لكن المثير أن تظهر القبيلة كشماعة يمكن جلدها في المجال الثقافي العربي نظرا لانتسابها للأكثرية؛ في حين يغيب نقد الطائفة؛ حيث من المعتاد وسم فرد أو جماعة بثقافة قبلية وعشائرية من دون حرج، وقلّ من يصم أحدا بالتعصب الطائفي؛ ولا يتهم بإقصائيته ونمطيته وطائفيته وإن لم يكن ابناً لطائفة أو أقلية.

ينفرد المسيحيون في واقعيتهم، واستيعابهم للتحول الحضاري للدين وهوية الدولة الإسلامية سابقا وحاضرا؛ التي يظهر الدين في مجالها العام، إذ يمتلكون وعي استيعاب الدولة عبر قرون؛ ومنذ العهد الأموي عبر مشاركتهم فيها، ما عكس احتراما متبادلا بينهم وبين الدولة، إضافة إلى طبائع نجمت عن مؤثرات عميقة في الهوية؛ حيث لا يحملون عقدة هوياتية، ويشتركون مع جوارهم المغاير دينيا بنمط حياة مشرقي يكاد يشكل هوية خاصة تميزهم عن مسيحيي الغرب، وتربطهم عادات وتقاليد وأعراف وأنماط حضور الدين في حياتهم؛ أكثر مما يربطهم بالغرب المسيحي، إضافة إلى حملهم انتماء للعروبة الثقافية ولثقافة إسلامية اندرجت ضمن عادات مجتمعات المشرق.

أما الأكراد فجماعة إثنية خضعت لموجة تحفيز قومي، وتظهر عبر مطلب سياسي أكثر منه اجتماعي؛ عبر حركة سياسية كردية ارتهنت (أي الحركات السياسية وليس الكرد) في عمومها لخارج إقليمي ودولي، استغلت مظلومية الكرد إنسانيا لتحولها إلى قضية سياسية تحملها النخب وترسّخها لتوكيد الجماعة كهوية خاصة تختلف وتتمايز عن محيطها، وتحتاج دراستها لبحث كثير لا يستوعبه مقالنا، وينفرد التركمان بعدم محاولتهم التمايز سياسيا عن محيطهم العربي.

أما الطوائف فنجد لدى الإسماعيليين تصورا يشابه التصور المسيحي بطمأنينتهم، مع استنادهم إلى هوية عروبية أولا، وحملهم شعورا جمعيا بأنهم جزء من كتلة بشرية؛ لها ثقافتها العامة التي لا تنفي خصوصيات مجتمعاتها المحلية، ولعل العامل الأهم هو انتشارها في بضع أمم وقارات، فما عادت الطائفة تظهر كتعبير سياسي، ولا تضمر حوامل فعل سياسي خاص بها بل تنفتح على الدولة. ورغم اختلافها مذهبيا عن الأكثرية السنية وعدم اشتراك كتلتها الاعتبارية في الثورة؛ لكنها أظهرت دورا مميزا في حماية فصائل الأمن العام المنتشرة في مناطقها، عندما حاولت فلول الأسد اقتحامها؛ فصمد أبناؤها وحموا قوات الأمن العام، ورفضوا تسليم أحد، وقد كتبت صحف غربية في تقرير مفصل كيف لعب الإسماعيليون دورا وسيطا بين قوى الدولة السورية الحديثة وبين بعض الجماعات العلوية المتشنجة في محيطها.

ثمة مفاهيم لا بد من تمييزها وتظهيرها وهي الثورة، والتمرد، والانخراط في الثورة حيث يمكن للطائفة أن تثور وللقبيلة كذلك بما يشبه التمرد ضد ظروف معينة لاكتساب حق أو إحداث تغيير، أو تقوم الجماعة بعمل عنفي ضد جماعة أخرى كحرب طائفة على طائفة أو قبيلة على قبيلة، وهو عمل داخلي أو مناطقي لا يستهدف الدولة عموما، وبين ثورة وطنية وهذه غالبا لاتبدؤها الطائفة ولكنها قد تنخرط فيها ما يفتح الباب على كثير من الأسئلة حول الأقلية والأكثرية، وقيمة كل منهما في الفعل الاجتماعي والسياسي.

وللذهاب أبعد من أحداث الثورة السورية؛ لا بد من التقديم بأن الثورة في هذا المقال، تعني أي حدث يؤدي إلى تغيير مصيري مقرون بمفاهيم وطنية لمصلحة البلد الذي تتشاركه هذي الجماعة مع جماعات أخرى والبيئة الأوسع اجتماعيا وسياسيا، أي الفعل الوازن والفاعل في مجتمع البنية ومحيطها الدولتي، وبغية البحث عن نقاط تمايز فارقة قد تتحدد أكثر؛ وهي الانضمام لمحيط ثائر مثلا كما في الثورة السورية، ويتحدد المفهوم أكثر بفعل الثورة ضمن البنية- الجماعة- لتحقيق استجابة للمنجز الدولتي عبر انتصار الثورة، أي إمكانات انفتاح أبنائها ومدى قدرتهم على الثورة ضد قوى العطالة التي تستغل العصبية ضمنها.

نجد لدى جميع البنى السالف ذكرها؛ أن استجابة الكتلة الاعتبارية للثورة تنطلق وفقا لرائز، أو دافع هو مصلحة الجماعة من القبيلة حتى الطائفة. وهنا لا بد من مقارنة بين القبيلة كبنية تمثل نموذجا مفاهيميا في أكثر حالاتها تشخيصا من تماسك وتجييش وأطر تحشيد؛ مثل محافظة الحسكة بقبائلها التي والت النظام وتبرأت من ثوارها، وبين الطائفة. وعند عقد هذه المقارنة عن قرب وبتشخيص واضح للدوافع لدى ثوار القبيلة الذين قد لا يكونون مثقفين ولا متعلمين تعليما جيدا، نجد أن ابن القبيلة في الجزيرة ثار رغم ضآلة نسبتهم من كتلة القبيلة الكلية، ورغم تعاون القبائل بعموم ضد أي ثائر ولو كان من خارج القبيلة، لدرجة أن الإخبار عنه أو قتله لا يولد ثأرا قبليا، نجد أن ثائر القبيلة ثار بعيدا عن حسابات المصلحة، وبصورة أدق حرق مراكبه كلها، في حين أن ابن الطائفة وغالبهم مثقفون دخلوا الثورة أيضا؛ ولكنهم عجزوا رغم ثقلهم وتأثيرهم في محيطهم مقارنة بتأثير وثقل ثائر القبيلة.

كان مثقف الطائفة مخلصا للثورة مثل ثائر القبيلة، ونتحدث في مقالنا هذا عن هذه العينة لا المتسلقين ولا المواربين ضمن الطائفة، لنجد أن مثقف الطائفة قد حوصر ليصبح ليس بأفضل حالا من ثائر القبيلة، لكننا نجد أنه وبالرغم من انفتاح ثائر الطائفة ومثقفها على شبكة علاقات أوسع، وثقافة ومجال عمل سياسي؛ فقد عجز عن تفكيك تلك البنية الدينية للطائفة وثقل مرجعياتها التقليدية والتي تغولت على الدور الاجتماعي والديني وصارت فاعلا سياسيا يشتغل بالتحشيد والتجييش ويفرض رؤيته ويجيش لها رجالها، بعيدا عمن انخرط من مثقفين معارضين للنظام وعلمانيين عادوا إلى خانة الشيخ والمشيخة، وبدت الطائفة أكثر قوة وتأثيرا وذلك لعوامل عدة منها التحالف والمصلحة التي ترومها الطائفة في المستوى الدولتي، في حين أن القبيلة تنزع للوزن والسلطة المحلية المكانية وتريد السلامة والتنفع محليا، بينما فتحت الطائفة باب التحالف حتى خارج حدود الدولة؛ لتؤثر في الدولة نفسها ولتكسب حصة كجماعة، ما يحيل انطلاقا من هذه النقطة في قوة الطائفة على ضرورة تنطع مثقف الطائفة الذي ثار ضد النظام أن يقوم بمواجهة جديدة وهي مواجهة بيئته المحلية وجماعته وبدء ثورته التي يعلن فيها خروجه على ذهنية الطائفة والتمرد على مراكز ثقلها، ما دام لم يستطع أن يستثمر فيها وفي رمزيتها ليوصلها إلى نهج وطني فوق مستوى رؤى الجماعة ما دون الدولتية، والتي تريد فرض رغبتها في الدولة وجود ضرورة جديدة لدى ثائر الطائفة، وهي صعبة جدا ولكنها بكل حال من باب الإخلاص للثورة التي يؤمن بها؛ أن يواجه بلا تردد مثلما واجه ابن القبيلة قبيلته وعانى القتل والتشريد، لدرجة أن ثوار القبيلة في العينة التي وردت بمحافظة الحسكة يطالبون الإدارة الجديدة بأن تكون إدارتها بتوجه تمثيل ثوري، لا ديمرقراطي يشرك القبيلة بسوادها الموالي للنظام البائد والمتسلح بعصبة القبيلة، لكي تسود قيم الثورة على الذهنية والنفعية والتبعية العمياء للسلطة أيا كانت.

تلفزيون سوريا

——————————–

الليليون الصامتون في أزقة دمشق القديمة/ سمر يزبك

13 ابريل 2025

هم شحاذو دمشق، أولادها، مراهقوها، المنتشرون في كل زاوية من زوايا المدينة. لا يترددون في الإمساك بثيابك، ينهَرونك لتمنحهم ما يسدّ رمق جوعهم. أولئك الذين يدهنون أقدامهم الصغيرة الحافية بالوحل المتجمد في برد فبراير/شباط القارس فقط كي يبدو البؤس واضحاً، هؤلاء بين أزقة دمشق القديمة، لن يأكلوك، ولن تلوث قذارتهم ملابسك النظيفة. أولئك الليليون الصامتون الذين يصرخون نهاراً.

بعنادٍ، حاولت أن أفهم حركتهم، أفعالهم، كانوا هوسي لأيام. لدرجة أنهم بدأوا يتساءلون فيما بينهم: من هذه “الخالة اللزقة”؟ من هذه الطفيلية التي تريد تحويل مأساتنا إلى مشهد للفرجة؟ ربما هذا ما نفعله جميعنا، نحن الذين نكتب عن آلام الآخرين دون القدرة على إنقاذهم. إنه عارٌ آخر يُضاف إلى عار البشرية.

تخرج في الليل أصوات بشرية تختلف عن تلك التي نسمعها في عز النهار. لا يبدو أصحابها وكأنهم يبحثون عن شيء محدد، بل هناك غضب وفراغ يهيمنان عليهم. في عيونهم تتقافز انفعالات كثيرة، لكنها تُختصر في اثنين فقط: الفراغ والغضب. الرجاء والتوسل المعتادان يظهران كقشرة رقيقة، يستطيع الرائي، الإنسان الحقيقي، أن يخترقها. حتى الروائي المتوحش، قد يذرف بضع قطرات أمام تلك النظرات المتوسلة المضلِّلة. نعم، هناك فراغ وغضب، لكنك، يا عزيزي، لا تملك الوقت أو الطاقة لفهم كل نظرة على حدة. ولا تنخدع، فنحن حين نتحدث عن “الليليين الصامتين” في دمشق، لا نعني أنهم جماعة متجانسة قابلة للتحليل أو الفهم أو التصنيف. هذه فكرة بائسة، بالية. لا يمكن قياس أي مجموعة بمعايير ثابتة، خاصة في مكان اسمه سورية، أصبح مخيفاً بطريقة عصية على التصديق.

الليليون الصامتون هم أنفسهم أولئك الأشخاص الذين يتغيرون كلياً في النهار. يصرخون، ويركضون، ويزعقون. لكن الليل يسلبهم أصواتهم، إلّا من بقي منهم يزمجر ويسبّ ويشتم بعيون مشتعلة بالحقد والغضب، إلى أن يغلبهم التعب وينامون. هؤلاء جاهزون لتقويض العالم بأسره. ويوماً ما، سيزحفون كالجراد ليبتلعوه.

لنتفق. ليست هذه قصةً عن أطفال الشوارع في دمشق، بل هي محاولة كتابة ضد النسيان، ضد التبسيط، ضد الرواية الرسمية عن الطفولة. لا تلد الحرب أيتاماً فقط، بل تلد مفهوماً جديداً للطفولة؛ طفولة بحذاء مثقوب، تسير على جسد المدينة كأنها تمشي فوق جماجمها، عن البؤس المجرد من ملامحه الإنسانية.

هذا نصٌّ عن الأصوات التي لا تصرخ، عن نظراتٍ تفكك المدينة أكثر مما فعلت القذائف. لا ترتعب، لا تخف وأنت تقرأ هذه الكلمات.

بحكم إقامتي في دمشق القديمة، في حي القيمرية تحديداً، كنت قد راقبت ثلاث مجموعات من “الليليين الصامتين”. إحداها تقف عند ساحة باب توما، وأخريان تظهران بعد الانعطافة الأولى يساراً، خلف الساحة مباشرة. لم يكونوا ثابتين كمجموعات، يظهرون أحياناً فرادى، وأحياناً تتغير تركيبتهم، لكنّ مجموعة القِيمرية احتلت المكان الرئيس في دماغي. تتألف من ثلاث فتيات. واحدة بالكاد تتجاوز الثالثة من عمرها، الصامتة الكبيرة رغم صغرها. الثانية في نحو السابعة، والثالثة على مشارف المراهقة، قالت إنها في الثالثة عشرة. كانت الوحيدة التي قبلت أن تعطيني اسماً، عرفت لاحقاً أنه ليس اسمها الحقيقي.

في الطريق إليهن كل ليلة، كانت هناك عجوز. امرأة لا تتوقف عن الكلام والتوسل، وحيدة على كرسي بعجلات. تجلس في الزقاق، تكرر مناشدتها نفسها، تتلقى النقود من المارة. حولها يتحرك أولاد بألسنة حادة، يسبّونها، يختفون، ثم يعودون. كنت أراقبها من بعيد، أرتجف لبردها المرتعش. بعد أن تنال نقودها، يظهر شاب، يقترب منها، يأخذ ما في يدها، تشتمه وتدعو عليه بالموت، وهو يفرّ، بينما الأولاد يتحلقون حوله. كان مشهداً يتكرر بنظام محكم. كلٌّ يعرف دوره. عينا الشاب واسعتان، تراقبان العجوز كما تُراقبان فريسة. ينقضّ، ثم يهرب. تولول، ثم تسكت، ثم تعود. قيل لي إن جماعات كاملة تعمل على تشغيل العجائز والأطفال.

هذه العجوز لم تكن تؤدي دوراً تمثيلياً. كانت فعلاً عاجزة. وجهها تحت ضوء الشارع الأصفر شاحب، تصرخ، تشتم الأولاد الذين يقرصونها، أو يصرخون في وجهها، أو يحاولون انتزاع رغيف من بين يديها. في لحظة ما، يغادر الأولاد، ويبتعد الشاب. يختفي، لا ألمحه. ثم تصمت. تصمت نهائياً بعد منتصف الليل. ثم يعود لا بد أنه هو، في وقت ما من الفجر، يعود الشاب ذاته ليأخذها إلى مكان آخر. في الصباح لا أراها. لكنها تعود دائماً بعد منتصف النهار، لتُوضع في نفس الزاوية، بنفس الحالة، وكأن شيئاً لم يحدث.

لم تجبني يوماً حين خاطبتها، لكنها رغم إعاقتها كانت تشكل منافساً خطيراً للمجموعة القريبة منها. أما البنات الثلاث، فكن وحدهن مع صبي لم يقبل أن يخبرني بعمره، وبدا مدهوشاً من سؤالي. اكتفى بتكرار جملته: “بدي آكول يا خالة”. يمكنك، عزيزي القارئ أن تذهب إليه بسندويشة، وسيأخذها. لكنه سيشتمك أيضاً، لأنه لم يحصل على النقود المطلوبة. الشاب الذي يأخذ النقود من العجوز، يطالب الصبي أيضاً بالمال. وإن لم يحصل عليه، يضربه. لقد ضربه مرة، خبط رأسه بالحائط، أمام أعين المارة، الذين واصلوا طريقهم كأن شيئاً لم يحدث. نظرة خاطفة على الرأس المرتطم، ثم مضوا. تشعر للحظة أن لا شيء يمشي للأمام في هذه المدينة، بل يعود إلى الوراء، إلى لحظة ما قبل النطق، حين كان كل شيء يفهم بالبكاء.

في باب توما، لا يتوقف الزحام ليلاً. الشوارع مكتظة، في كل زاوية من زوايا المدينة، طفل يمدّ يده ويسأل، كأن سؤال الحاجة صار جزءاً من مِعمار الشارع، نُقشَ في الحجر مثل كتابات السومريين. محلات بيع الطعام تعج بالزبائن، والأطفال الشحاذون ينبتون هناك كالعشب، عشب طري، عشب يابس، عشب يُداس أو يُنظر إليه بلا اكتراث، ثم يُترك وراء الأقدام.

قررت أن آتي بعد منتصف الليل، أن أبقى وأنتظر، لأعرف متى يرحلون. كانت الليلة من أواخر فبراير/شباط الماضي. في أماكن أخرى من سورية، الناس لا يخرجون بعد الخامسة مساءً، هذا رأيته في اللاذقية وجبلة. لكن دمشق مختلفة.

يتقاتل السوريون على صحة المعلومات. كلٌّ لديه أسبابه. كلٌّ ينتمي إلى “سوريا” مختلفة. ما يُقال في دمشق ليس كذباً، وما يُقال في الساحل ليس كذباً. يتعاركون على الصواب والخطأ، بينما كل واحد يحمل حصته من الحقيقة، وحصته من الأسى، وحصته من العار. لكن في زواريب باب توما، كانت الحياة تمضي مع “الليليين” بطريقة مختلفة.

كنت أقف في الزاوية، أراقب الفتيات الثلاث. عيني على الصغيرة؛ حافية القدمين، ترتدي ثوباً يصل إلى ركبتيها، تحته سروال قصير. قدماها ملوثتان بطين داكن، كأن أحداً دهَنهما بمادة سميكة. الطين نفسه على يديها، وعلى وجهها. القدم الصغيرة النحيلة، والوجه المعفّر بالطين، جعلاها تبدو ككائن خرج لتوه من فيلم، لا من زقاق.

جلست على الأرض المبللة بماء المطر. ثوبها رطب، لونه؟ لا لون له. ربما كان أبيض يوماً. كانت تنظر إلى أقدام المارة فقط. عيناها على مستوى الأقدام دائماً، تمد يديها بلا كلمة، بلا حركة. وإن اقتربتَ منها، جفلت.

في النهار، فتاة أخرى على مشارف المراهقة. عينان سوداوان، شديدتا التركيز. تربط شعرها كذيل حصان. حافية أيضاً، لكنها ليست مغطاة بالطين مثل الصغيرة. شعرها خفيف، ملبّد. ترتدي فستاناً واسع الأكمام، وتحته بنطال طويل. هي التي تقود. تتكلم، تشحذ، تغضب، تتوسل، تطرق أبواب العالم بصوتها. كانت أحياناً هادئة، أحياناً حازمة، وأحياناً تصرخ. تجأر. الطفلة، ذات الثلاث سنوات أو أقل أو أكثر بقليل، تقول “يا عمو” و”يا خالتو” في النهار، بينما في الليل، تنخفض عيناها إلى حيث تسير الأقدام. بعض المارة، حين تلامسهم لحظة من الذنب أو الحزن أو الغضب أو رحمة مؤقتة، يعطون النقود. البعض الآخر يتحاشاهم.

في أحد الأيام، أمسكت سعاد، هذا الاسم الذي أعطتني إياه صاحبة العينين السوداوتين بعد تفاوض طويل مقابل مال، بتنورة امرأة مرت بجانبها. سعاد قالت لي إن اسمها كذلك، ثم أعطتني اسماً آخر في يوم آخر. كل معلومة بثمن، وكانت تعرف ذلك تماماً. ذكية، مدرّبة، وتعي قواعد اللعبة. عندما شدّت سعاد تنورة المرأة، صفعتها الأخيرة، صرخت وهربت، تردد خلفها: “حرامية! حرامية!”. سعاد لم تصمت. صرخت هي الأخرى: “كذابة!” ثم أطلقت شتيمة من العيار الثقيل، وبصقت على الأرض، ونهرت البنتين معها لتلحقان بها. لكنها كانت قد تركت يد الصغيرة. والصغيرة، المذعورة، بدأت تركض خلفها وحدها.

لو أردتَ الجلوس في ساحة باب توما، فهناك مقاعد ما زالت باقية من حديقة صغيرة، لم تعد حديقة منذ وقت طويل. جلستُ مع سعاد، وافقت أن نجلس ونتحدث، لكنها بدأت بقول حاسم: لا أريد أن أقول شيئاً، وإذا كنتِ قادرة على مساعدتي، فافعلي، ثم انصرفي. سألتها: أين أهلك؟ قالت باقتضاب: ماتوا. سألتها عن الفتاتين، هل هما أختاها؟ قالت: لا. قلت: إذاً من بنات مَن؟ نظرت إليّ تلك النظرة الساخرة، كأنها تقول: هل أنتِ غبية؟

في تلك اللحظة بدت وكأنها في الثلاثين، رغم أن ملامحها ما زالت مراهقة. قوية، واثقة، صلبة. فكرتُ أنها لا بد تتعرض للتحرش، فهي جميلة، لكن القذارة التي تغطي وجهها أوقفت هذا الخيال. تبدو تلك القذارة جزءاً من الزي، ضرورة يومية. قلت لها بوضوح: أستطيع مساعدتك. سألتها: أين تنامين؟ أشارت إلى الشارع. قالت: في الشارع. ثم أضافت: إذا أردتِ مساعدتي، أعطيني نقوداً. قلت: ألا تريدين مكاناً للنوم؟ نظرت إليّ تلك النظرة الفظيعة، ثم هربت. كل المعلومات التي جمعتها خلال الأيام السابقة أكدت أن من يُشغّل هؤلاء الأطفال هم عصابات موزعة في أنحاء دمشق.

سعاد بالتأكيد ولدت في بدايات الثورة، لم تعرف عن سورية التي عرفناها شيئاً، قضت معظم طفولتها في الشارع. فتاة قوية. صلبة. جاهزة لتفترسك. تدافع عن البنتين بشراسة، لكنها لا تعترف بأنهما شقيقتاها. ربما لم تكونا فعلاً، رغم حدسي أنهما كذلك.

في الليل، تصمت سعاد. البنتان تصمتان. والولد الذي يرافقهنّ يصمت أيضاً. بعد العاشرة مساءً، كنت أروح وأجيء أمامهنّ، وأقول لها: أنا أسكن هنا، إذا احتجتِ شيئاً أنا موجودة. تتجاهلني تماماً. أقف في زاوية بعيدة، حيث لا تصلني إنارة الشارع الخافتة، وأراقب الفتيات الثلاث والصبي. سمعتها تناديه “محمد”. أما الصغيرة، بالكاد تمشي. تجلس على الأرض، تمد رجليها في طريق المارة. إذا لم ينتبه أحدهم وداس قدمها، تصرخ. يرتبك، يعود ويعطيها نقوداً. أسلوب واضح، مدروس. تأخذ النقود، تخبّئها في يدها الصغيرة، تقبض عليها بقوة. بعد قليل، تمد يدها لسعاد، تعطيها النقود. سعاد تضعها في جيبها. ثم تمرّ النقود إلى يد محمد. بعدها، لا أعرف إلى أين يذهب. يختفي لساعات، ثم يعود.

“مو إخواتي”

تمشي سعاد كما لو كانت رجلاً. عندما تكونين فتاة تنام في الشوارع، لا بد أن تتعلمي السير كأنك لا تخافين أحداً. تمشي مثل رئيسة عصابة صغيرة. تنظر بثقة إلى من حولها، لا تتوسل، لا تذل نفسها. لا بد أنها تعرضت لتحرش، وربما أكثر. جميلة، مشرّدة، فتية. لا بد أن كثيرين قالوا لها “تعالي معنا”. أخذت أفكر! ربما كثيراً.

في اليوم التالي بعد أن هربت مني في ساحة باب توما، قلت لها إنني أستطيع أن أصلها بجمعيات تهتم بها وبـ”أخواتها”. قالت بازدراء: “مو إخواتي”. ثم أضافت: “هاتِ حق ساندويشة”. هزت رأسها بسخرية، ومشت أمامي مشية مسرحية ساخرة، عينها تلمع باحتقار الدنيا، وكأن العالم سينفجر منها. شعرها الخفيف الملبد بدا كأنه على وشك أن يشتعل. كل السخرية والحقد والعار الذي يمكن أن يُحمل في عين واحدة، رأيته في عينيها. وكان لها كل الحق. كل الحق أن تنظر لي، للعالم، بهذه الطريقة.

وضعت يدها على خصرها، فتحت ساقيها قليلًاً كما يفعل زعماء العصابات، رفعت رأسها إلى السماء، وأشارت لمحمد، الذي كان يقف على مبعدة منها، دائماً في نفس النقطة، كأنه مرسوم هناك. اتجه صوبها، وأنا أدرت ظهري، وغبت في نهار المدينة.

مع اقتراب منتصف الليل، يبدأ التعب بالظهور على وجوه الفتيات. يفترشن الأرض، حافيات، تمدّ الواحدة منهن قدميها المغطاة بالطين حتى منتصف الزقاق. على من يمر أن يتفاداهن، أن ينحني بحركته، أن يعترف بوجودهن ولو لحظة. كنّ مسترخيات، متعبات، لا ينطقن بحرف. الولد يروح ويجيء. يختفي، ثم يعود. لحقت به مرة. كان يسير في زقاق آخر نحو ولد آخر، يقف على مسافة. ولد صغير، نحيل، لكنه حيوي. كأنهما يؤديان مهمة. على مقربة منهما، مجموعة أخرى لم أرها من قبل. فتاتان، ربما بين التاسعة والعاشرة، ومعهما طفلة لا يتجاوز عمرها السنتين، بالكاد تقف. تبدو متعبة، متسخة، تترنح. المجموعات تتوزع، كل منها في رقعة. صبية تمرّ بين هذه المجموعات تربطها ببعضها، كأنهم وسطاء. وأولاد آخرون، يتحركون وحدهم بخفة. يتوسلون، يصرخون، يشتمون.

ولد، ربما في السابعة من عمره، عندما لم ألتفت إليه، وواصلت طريقي، شتمني. ثم ركض مبتعداً. إنهم يفعلون ذلك، ينبتون في كل مكان. ربما هنا، في ساحة باب توما والمدينة القديمة، يعرفون أن نسبة الزوّار والغرباء كبيرة، لذلك يتواجدون بهذه الكثافة. كانت تلك فرصة لهم، ليعتاشوا قليلاً، أو لينشطوا، وتُدار حركتهم من قبل من وزّعهم على الحارات. أتذكّر المرأة التي قالت لسعاد: “حرامية!” ثم طلبت من الجمع المتجمهر أن “يلحقوا بهذه المتشرّدة الحيوانة”، كما وصفتها. قالت إن هؤلاء الأولاد يشكّلون خطراً أكبر من كل الأخطار المحيطة بسكان دمشق، وعندما اقتربت منها وقلت: “إنها مجرد طفلة”، ردّت: “هؤلاء يقتلون من أجل ألف ليرة! أنا أعيش هنا، وأعرف ما يفعلون. إنهم شبكة منظّمة. هؤلاء ليسوا أطفالاً. هؤلاء مجرمون”. ثم نظرت إليّ تلك النظرة التي تحمل تعالياً وقرفاً، وهزّت تنورتها كما لو كانت تنفض عن نفسها الغبار. أو عن روحها الذنب، وتمنح نفسها، وحدها، امتياز النجاة.

لا أحد يستطيع الجزم من أين أتى كل هؤلاء المشردين. لكنها الحرب الطويلة. وفي الليل، يتحولون إلى كائنات صامتة. ربما بسبب التعب. وربما لأن عملهم في النهار يؤتي ثماره ليلاً، عبر هذا الصمت. وعرض الأجساد. أجساد شمعية موحلة. أراقبها عن كثب، تحت سماء شاهدة على عسف البشر وفجورهم. أجساد تستلقي في كل الأمكنة وتصير جزءاً من المشهد الاعتيادي، من لوحة دمشق الجديدة. دمشق ما بعد الحرب. من يرى الخراب المحيط بدمشق وريفها وبلداتها، ربما يخمّن من أين جاء هؤلاء الأطفال. التقيت فتاة تعمل في إحدى منظمات المجتمع المدني. أصرت على إخفاء هويتها واسم المنظمة. قالت إن بعض الأطفال يأتون من الشمال، وليس بالضرورة أن يكونوا جميعاً من أيتام الحرب. قالت إن هناك أطفالاً يُرسَلون من أهاليهم إلى الشارع، للشحاذة، مقابل طعام أو ما تيسّر. سألتها: وهل هناك كثير من العائلات التي ترسل أبناءها؟ قالت: نعم، هناك كثير. وهناك فتيات صغيرات يتعرضن للتحرش. عندي ثلاث حالات اغتصاب لطفلات. أطفال وطفلات يظهرون فجأة، ثم يختفون فجأة. ولا أحد يعرف ماذا يحصل لهم.

لم أكن أنوي، وأنا أبدأ هذا البحث عن حياة هؤلاء الليليين الذين ينامون في الشوارع ويتمشّون بيننا، أن أعود إلى الإحصائيات، أو أن أطرق أبواب المنظمات المعنية بحقوق الطفل. كان همّي الوحيد هو ملاحقة الحيوات الشخصية للفتيات الثلاث. كنّ صامتات. سعاد، الكبيرة، كانت وحدها المسموح لها بالكلام.

في اليوم السادس، وعند الساعة الحادية عشرة ليلاً، كانت الفتيات ممددات في الشارع. أجساد صغيرة متعبة، أقدام موحلة، أيادٍ ممدودة تنتظر قطعة نقود من مارٍّ شغله ضميره أو لحظة شفقة. تتحرّك سعاد، الفتاة الأكبر، جيئةً وذهاباً إلى آخر الزقاق، ثم تعود كمن يراجع موقعه في ساحة معركة. في تلك اللحظة، كانت المدينة تتنفس ببطء، وكان شباب الهيئة يمرّون بين الناس، يراقبونهم دون أن يرمشوا، والناس تنظر إليهم بفضول أو ريبة أو لا مبالاة. مجموعات تتقاطع وتتجاهل، والبعض يمشي مسرعاً كما لو أنه يهرب من احتمال اللقاء بعينٍ تتّهمه بالصمت. اقتربتُ من سعاد مجدداً. هذه المرة حاولت أن أكون أكثر وضوحاً. قلت لها إنني كاتبة وصحافية، وإنني أريد مساعدتها. نظرت إليّ باشمئزاز وسألت: “كم بتعطيني مقابل اللي بحكيه؟”.

“إنتِ شو خصّك؟”

لم يكن سؤالاً بريئاً، بل تأكيداً على علاقة القوة التي فرضتْها منذ اللحظة الأولى. كنت أكرر عليها في كل محاولة: “أريد مساعدتك”، وأقوم باتصالات أمامها لتصدق. لكنها في كل مرة كانت تطردني، أو تسخر مني، أو تطلب نقوداً بلا مقابل. حين اقترحت أن نعتني بالطفلة الصغيرة، تلك التي لا يتجاوز عمرها الثلاث سنوات، ضحكت سعاد وقالت بسخرية: “أي صغيرة؟ ما في حدا صغير هون”. صوتها كان حاداً، وبدت كأنها تلفظ كل شيء دفعة واحدة، لكنني لمحت شيئاً يتحرك في عينيها للمرة الأولى منذ أن عرفتها؛ بريق ماء، خيط دمعة، شيء رقراق كاد يسقط، ثم تماسك. قالت لي بلهجة مرهقة ومهزومة: “خلّينا نسترزق واتركينا بحالنا”، ثم عادت وجلست قرب الفتيات الثلاث، واحتضنتهن كما لو أن العالم كله يكمن في هذا الاحتضان.

سيقانهنّ الموحلة كانت تلمع تحت ضوء الشارع البارد، كعيدان خشبية متآكلة. وعندما حاولت الاقتراب مرة أخرى، صرخت: “وإنتِ شو خصّك؟”، ثم مدت يدها، وقبل أن تنصرف، أطلقت عليّ شتيمة ثقيلة، لم أستطع الرد عليها. ابتعدت. شعرت أنني فقدت القدرة على اختراق هذا الجدار. كنت واثقة أن شخصاً ما سيأتي قريباً ليأخذهن إلى مكان يختفين فيه قبل أن يُطلقن من جديد صباحاً.

تجاوز الوقت منتصف الليل، كانت سعاد تحتضن الصغيرة، وقد أغمضت عينيها من التعب. عدد المارّة بدأ يقل. مرّ عاشقان، لا يتلامسان، لكن عيونهما كانت تشي بتلك النظرة الفاضحة. توقفت الفتاة العاشقة قليلاً، نظرت إلى الفتيات الثلاث، وضعت يدها على فمها وأغمضت عينيها. كانت نحيلة، ترتدي بنطال جينز ضيّقاً، ويبدو أنها كانت تبكي، في حين أخرج الشاب قربها مبلغاً ومده نحو الفتيات. المنظر كان مفجعاً. خاصة تلك الطفلة التي بالكاد تبلغ الثالثة، أو أقل. كانت تبدو أقرب إلى عامين، نحيلة كأنها تعاني فقر دم، جسد صغير بالكاد يصمد أمام البرد، شبه عارية، حافية، مستلقية على الأرض كحجر مهمل في زقاق منسي.

في اليوم التالي، قال لي صاحب المحل المجاور: “هي ضرورات الشغل يا مدام”. قالها كمن يقدّم تفسيراً بسيطاً لمشهد معقّد. وعندما صارت الساعة الواحدة ليلاً، لم أعد قادرة على الاحتمال. كنت أرتجف من البرد، أدور حولهن ولا أعرف ما الذي ينتظرني أو ينتظرهن، ثم تركتهن وعدت محمّلة بخواء مرعب.

في الرابعة والنصف صباحاً، استيقظت مذعورة. لم تمضِ سوى ثلاث ساعات على نومي، كنت أعرف أنني لن أستطيع إغلاق عيني من جديد ما لم أراهنّ، ما لم أتأكد أنهن ما زلن هناك، في مكانهن المعتاد عند زاوية الزقاق. خرجت من البيت قبل الفجر بقليل، ركضت في الأزقة المبللة بمطر دمشق الخفيف، وأنا أتساءل عمّا سأجده.

عندما وصلت، كان المشهد كما تركته. الفتيات الثلاث كن نائمات، وكأنهن قد تحوّلن إلى كائنات من طين وضوء؛ ملفوفات ببطانية رمادية رقيقة بالكاد تكفي لتغطية نصف أجسادهن. سعاد، الفتاة الأكبر، احتضنت الصغيرة ذات الأعوام الثلاثة، بينما كانت الثالثة تمسك بيدها وتضع رأسها على كتفها. كان محمد، الصبي الذي يظهر ويختفي مثل ظل، نائماً في آخر الزاوية، تغطيه بطانية مختلفة. المطر الناعم انهمر فوق رؤوسهم. كانت الأرض مبللة، والهواء بارداً، والسماء ثقيلة. ومع ذلك، لم يتحرك أحد. فقط خدودهم التي تساقط عليها الرذاذ، وأنوفهم التي بالكاد تظهر من تحت البطانيات.

كانت شفتا سعاد مزرقّتين من البرد، ووجهها جامداً كصخرة. الصغيرة كانت تغطّ في نومٍ عميق، ومخاطها يسيل بهدوء، وكأنها اعتادت أن تنام بهذه الطريقة. البنت الوسطى كانت جميلة على نحوٍ مخيف. جمال هشّ، يتوسل النجاة. اقتربت ببطء، حذرة من أن أوقظهن أو أثير فزعاً. ومع ذلك، فتحت سعاد عينيها، ولم تتحرك. فقط نظرت إليّ، بتلك النظرة الساخرة، العميقة، الحادة كحد السكين، ثم رمشت بعينيها تحت المطر. لم تقل شيئاً. لم تحرك عضلة من وجهها. لكن النظرة كانت كافية. كانت كل ما يمكن قوله. لغة كاملة من دون حروف. أردت أن أسمع منها شيئاً. أي شيء. جملة تفُكّ هذا الصمت. حكاية واحدة. لكنها لم تفعل. لم تقل من أين جاءت، ولا من هي تلك الطفلة الصغيرة، ولا من يكون محمد. تركتني معلّقة، مثلي مثل آلاف السوريين الذين يمرّون بهؤلاء الأطفال كل يوم، ويعودون إلى بيوتهم ممتلئين بالخواء والأسئلة.

في لحظة، راودتني فكرة أن أجلس قربهن. أن أفعل ما تفعله الجدة الطيبة في القصص. أن أسرد حكاية، أن أغطيهن جيداً، أن أشتري لهن إفطاراً ساخناً. كان يمكن أن يكنّ حفيداتي. لكن بدلاً من ذلك، تركتهن. ومشيت في شوارع دمشق القديمة، تلك الأزقة التي كانت يوماً مأوى للعشاق والذكريات، وصارت اليوم مأوى للغضب، والتشرد، والمصائر المجهولة.

المطر الذي كنت أظنه احتفالياً بعد سنوات المنفى، صار كالسياط. لم يكن يلامس وجهي، بل يجلده. كنت أبتعد، وأشعر بالخذلان يثقل ظهري. خذلانهن، خصوصاً خذلان سعاد التي كانت هناك، رغم كل شيء، تحرس الفتاتين كلبؤة جريحة. كان من الممكن أن يكنّ مجرد أدوات في شبكة منظّمة لاستغلال الأطفال. وكان من الممكن أن يكنّ حقاً أخوات. أو أن يكون محمد شقيقهن. وربما لا أحد منهم يعرف الآخر، وربطتهم الحياة فقط، هكذا، على الرصيف، في هذا الزمن المهزوم. لكن الشيء الأكيد الوحيد أن سعاد، تلك الفتاة الصغيرة ذات العينين الميتتين، كانت تقف سداً صلباً بين الطفلتين. كانت تحميهما بكل غضبها وصمتها. وفي نظرتها الأخيرة، كانت تقول: “اقتربوا وسأقتلكم”.

في النهاية، هذا ليس تقريراً. هذه ليست سوى كتابة مفككة، ضد التوثيق، ضد الأرشفة. ضد أن تُحصر الطفولة في أرقام وإحصاءات. هذا مجرد كلام يمشي حافياً مع سعاد، ويجلس قربها، في صمتٍ، تحت مطرٍ لا يتوقف. ليتني قلت لها: “أنا آسفة. فقط آسفة”.

(روائية سورية)

العربي الجديد

—————————

 كاتب «ما يطلبه الجمهور»/ راشد عيسى

تحديث 15 نيسان 2025

كان لدينا أمل كبير، مع سقوط نظام المخلوع بشار الأسد، بامتلاك هامش هائل من حرية القول، فقد كانت الوظيفة الأولى للنظام الجاثم على منطقة تتسع لتشمل كل دول محور الممانعة، ولا نبالغ بالقول إن منطقة نفوذه امتدت لتصل إلى كل مكان فيه عرب، سوريون، فلسطينيون، لبنانيون، وعراقيون.. فقد نسج، بمعية طهران، أحزاباً عابرة للقوميات والطوائف، قبل أن نتعرّف مع الأيام على جيوش إلكترونية وذباب.

ومن البديهي تَصوُّر أن سقوط هذه الشبكة المعقدة، وانفكاك خيوطها، سيجعل القول ممكناً، بل إن الحياة نفسها ستكون أكثر رحابة بمختلف شؤونها. سيكون بالوسع أن يقول المرء كلمته بخصوص أي قضية في الكون من دون أن يرتعد إزاء اتهامات التخوين وإيهان نفسية الأمة.

غير أن ما يحدث اليوم من تجييش يبدو «أدق رقبة»، فإن كان مفهوماً أن يكون جلادوك في السابق من مؤيدي النظام الممانع، فلا يصدّق اليوم أن رافعي السيوف هم ممن كانوا إلى جانبك في خندق مناهضة نظام القهر والتسلط، ينتهجون الأساليب ذاتها من المهاجمة والاتهامات، وأقلها سياط التهكّم. كنت تفترض أن ما من خلاف عظيم سينشأ بعد سقوط النظام، فالكل متفقون على بناء بلد تسوده العدالة، والديمقراطية، وحرية القول، والصراخ، والتظاهر، والمطالب.. فواضح أن الجوع للصراخ سابق لكل ما عداه.

اختلفنا أولاً على أشياء بسيطة، من المفترض أنها لا تفسد الاتفاق المبدئي على أولوية البناء، مثلاً لماذا يظهر علمٌ فصائلي في اجتماع الحكومة، فقال السيّافون أعطوهم وقتاً، وحين ظهرت الحكومة بعلم الثورة، لم يعتذروا، بل قالوا: أرأيتم! إنها مسألة وقت فقط.

ثم على المناهج التعليمية للمدارس، وقد تجرّأتْ الإدارة الجديدة على تغييرات هائلة من شأنها أن تذهب بالبلاد فوراً إلى نظام طالبانيّ الطابع، فداهمنا «رفاق الدرب» بالتكذيب، وأن شيئاً لم يعدّل، وعندما وضعت التعديلات في وجوههم، بل وسارعت الحكومة نفسها إلى التوضيح وما يشبه التراجع، تصرفوا وكأنهم غير منتبهين.

إلى أنْ وصلَ الخلاف على انتهاكات واعتقالات ثم مجزرة، وما صدّقَها أحدٌ إلى أن اعترف رئيس البلاد شخصياً بانتهاكات، وشُكّلت لجنة تحقيق، ومع ذلك اعتُبر الاعتراف كافياً لرمي المسؤولية في مكان آخر، وكفى الله السوريين شرّ القتال من أجل العدالة.

مختلفون اليوم على كل شيء، على فيديو لدريد لحام عابراً مطار دمشق الدولي، وصراخ سيدة أمام محافظ السويداء، وعلى محافظ السويداء نفسه، وإن كان يحمل شهادة دكتوراه حقاًُ أم لا، على تعيين مجالس نقابية (كنقابة الفنانين، واتحاد الكتاب العرب، ورئيس نقابة التشكيليين)، حول تسريحات الموظفين، ثم إعادتهم، مظاهر الإفطار المعلنة في رمضان، المسلسلات التلفزيونية، طول لحية الرئيس، ملابس زوجته، ويزيد الشقاق ليتسع في أمكنة أكثر جوهرية؛ الإعلان الدستوري، شكل الحكومة الأخيرة، مدى التمثيل فيها. وعندما يصل الخلاف على المناطق الخارجة عن السيطرة، السويداء، ودرعا جنوباً، وشمال شرق الفرات، والساحل السوري، سيتخذ الصراع شكلاً أكثر دموية، ولو تسنى لسكان الفضاء الافتراضي الأزرق الوقوف مرة وجهاً لوجه، بسلاح أبيض، أو من دونه، لشهدنا أكبر مذبحة في التاريخ. وإن كان لديهم برلمان لأكَلَ بعضُهم آذان البعض الآخر.

ولن نزعجكم بخلافات جانبية، داخل البيت السني العريض، من قبيل أن المسبحة بدعة، وشرب الماء على القاعد، أن يسألك المسؤول الجديد في استمارة العمل ما هو مرجعك الديني، إلى تغيير كل طواقم المساجد، والإتيان بطواقم من خارج البلدة أو المدينة والقرية.

كما لا ننوي التطرق إلى أشكال من المزايدات لا حصر لها، في كل شيء، فإن كنت ضد النظام السابق سيأتيك من يطالب بأن تكون ضده أكثر فأكثر، وإن كنت مع الإدارة الجديدة، وهذا بديهي إن كنت مع الثورة في الأساس، فسيأتي من يطالبك أن تكون معه أكثر فأكثر، وسيكون له تفسيره الخاص، إذ عليك أن تتحول إلى «شبّيح» مستجد، فإياك أن تنتقد تعديلاً في منهاج، أو وزيراً في المكان الخطأ.

كل شكل من الانتقاد سيعني أنك في قائمة الفلول، وهذا اسم مستجد لإيهان نفسية الأمة، والأسوأ أن هناك من ينتظرك على هذه الضفة أيضاً: عليك أن تنتقد على طريقته هو، كما يريد حزبُه، معلّموه، عليك أن ترى الأمور بعينه هو، وتكتب على مزاجه. يعاني الكاتب، الصحافي، على الدوام ممن يريده نوعاً من «ما يطلبه الجمهور». يحدث أن يصحو امرؤ على فيديو ما، مثلاً عن مآسي أهلنا في مخيمات اللجوء (المأساة المستمرة والمحزنة بدون أي شك)، هكذا يروح الأخ يرى في مأساة المخيمات أولوية للكتابة، وفي كل من لا يكتب عنها خائناً للقضية. ثم يصحو آخر، أو قد يكون هو نفسه، ليستصبح بفيديو عن لقاء ناشطي السويداء بالمحافظ، أو ممثل الحكومة، سيتأثر بشدة، وستصبح قضية الانتهاكات والمعتقلين والحريات أولوية، بل وتحديداً عبر لقاء الناشطين بالمحافظ، ويجب على مانشيتات الصحف غداً أن تنطق كلّها بصوت واحد عن القضية، وقد يحدث أن تُروى للسيد المُزاوِد حادثة اعتداء على محل للمشروبات الروحية في باب شرقي، أو تحطيم تمثال في مدينة ما، فيصبح هذا الأمر أولوية الأولويات، وويحك إن لم تقل، أو تكتب.

إذن هل كنا حقاً نناضل من أجل الحرية والخلاص من ربقة الاستبداد وسيوف الرقابة والمنع أو الإكراه؟ أم هي مجرد رغبات الانتقام من نظام دموي متوحش، أفضت إلى مواجهات لوّثتنا بأوحال ليس من السهل الخلاص منها؟

أياً كان الدافع، فلقد وصلنا إلى ما وصلنا إليه، لنجد أنفسنا فوق أنقاض «وطن دعائمه الجماجم والدم، تتحطم الدنيا ولا يتحطم»، إلا إنْ آمنا بالفعل بأننا جميعاً شركاء في العيش، ولا سبيل إلى الحياة مع كل هذه السيوف والسياط المرفوعة، إلا إذا آمنا بأنه لا بدّ أن أدفع حياتي، وتدفع حياتك، من أجل حرية كل منّا في قول رأيه.

العيش في ظل عقود مديدة اختُرع فيها كل هذا الظلم والقهر والقمع يجب أن يعلمنا التسامح وتفهّم الرأي والمطلب وأشكال الاحتجاج. ولا نعني على الإطلاق بالتسامح القول عفا الله عمّا مضى، نرجوكم ألا تتسامحوا مع أصغر ارتكاب وإساءة سابقة تستحق العقاب، ولكن دائماً تحت سقف القانون وأقواس العدالة. ولكن ما يفعله سوريون كثر اليوم ليس سوى التنكيل بعضهم بالبعض الآخر، في ما يبدو أنه تجسيد لعبارة «إما أن تكون معنا، أو أنك ضدنا»، ولا خيار لك بالاصطفاف.

يلزمنا جميعاً بعض دروس حقوق الإنسان، الاطلاع على المواثيق المهنية، ومن أهمها مواثيق الصحافة والإعلام، من دون التحايل عليها بحجج مزيفة استخدمها النظام البائد، وتستمر باستخدامها الأنظمة الديكتاتورية، من قبيل خصوصيات محلية وثقافية ودينية، فالحرية هي الحرية، وسوريا ليس لديها الوقت للتثاؤب والمطمطة، أو التجريب.

القدس العربي

——————————-

الوجه الآخر للمثقف/ فوّاز حداد

15 ابريل 2025

يُعتبر المثقف فاعلًا سياسيًا واجتماعيًا مؤثرًا في عصره، ما دام منخرطًا في أحوال زمانه، سواء في تبرير سياسات الدول أو نقدها سلبًا أو إيجابًا، وهو ما يضعه وراء الكثير من المتغيرات سواء في محيطه المحلي أو قد يتجاوزه إلى المحيط الأوسع في العالم.

أكثر ما تكون دعوات المثقف بروزًا على المستوى الداخلي والخارجي تبدو في أن يكون محرضًا على الحرب وداعيًا لها، أو الدعوة إلى السلام والمساهمة في كبح جماح العنف. فإذا ذهبنا إلى التاريخ، عندما كانت الثقافة تُصنع في الأديرة والكنائس والجوامع، كان للمثقفين الدينيين إسهام كبير في إشعال الحروب الدينية، تبدى في إشعال الحروب الصليبية، المترافقة بخطاب ديني تبريري، أعلن عنه البابا أوربان الثاني. صحيح أن البابا رجل دين، لكنه محسوب على المثقفين والعلماء، بدعوته إلى الحملة الصليبية الأولى لاستعادة الأرض المقدسة، ما أعطى الشرعية للمذابح التي ارتُكبت في القدس.

في مرحلة الاستعمار الأوروبي، قدم العديد من المثقفين الغربيين غطاءً فكريًا لتبرير السطو على قارات واحتلال أراضٍ ونهب ثروات الشعوب، تحت غطاء نشر الحضارة بين الشعوب المتخلفة، إلى حد أن الفيلسوف الأميركي جون ستيوارت ميل سوّق هذه الدعوى على أنها واجب أخلاقي اضطلعت به الدول المتحضرة، بينما صاغ الشاعر والروائي روديارد كيبلينغ فكرة “عبء الرجل الأبيض” في تمدين الشعوب وإخراجها من الظلام إلى النور، ولم يكن النور سوى المجازر التي سفكت دماء السكان الأصليين.

أعطى الخطاب الفكري الشرعية الأخلاقية للاستعمار، وكان للمثقفين الدور الأكبر في تحويل الحروب التوسعية إلى رسالة دينية أيضًا بموجب تحويل الشعوب الوثنية إلى الإيمان المسيحي، ما برر أيضًا تجارة الرقيق السوداء.

ومن الغرابة أن الفلاسفة الكبار للقرن العشرين زلّت بهم فلسفاتهم، أو انحرف بهم تفلسفهم إلى تأجيج النزاعات بشكل مباشر من خلال التنظير الفلسفي لسياسات وفرت المسوغات الأيديولوجية للحروب. فمثلًا في ألمانيا النازية، لعب المفكرون والفلاسفة القوميون، مثل مارتن هايدغر، دورًا في تبرير سياسات التوسع العسكري والهيمنة العرقية، ما دعم صعود الحزب النازي، فكانت فكرة “تفوق العرق الألماني” امتدادًا منطقيًا لفلسفته، وبالتالي منح الشرعية لممارسة النظام النازي العنف ضد اليهود.

كما جسدت مجموعات “المحافظين الجدد” في أميركا صوت الحرب باعتبارها الوسيلة الضرورية لتقوية النفوذ الأميركي في العالم، وهيمنة أميركا على العالم بمرجعية ترجح الحلول العسكرية على الحلول الدبلوماسية والسياسية، ودعت أطروحاتهم تحت غطاء تعزيز الديمقراطية إلى التدخل في بلدان العالم، حتى لو اقتضى إحلالها استخدام القوة العسكرية.

لم يأت المحافظون الجدد من السياسة فقط، كانوا مثقفين، قدموا من الكتب والجامعات وصناعة الرأي، ما جعلهم يلعبون دورًا كبيرًا في دفع الولايات المتحدة إلى حرب العراق عام 2003.

ليس هناك نظام سياسي ديمقراطي أو دكتاتوري إلا ويحف به مثقفون من طغمة الحكام، يبررون له تجاوزاته وحجره على الحريات وتلاعبه بالرأي العام، ما أكد أن الثقافة لا تقل عن الاقتصاد كمحرك رئيسي لتلك الموجة من الحروب التي لا تهدأ في أرجاء العالم.

بالنسبة إلى سورية، كمثال حاضر في زماننا، أسهم مثقفو النظام في تجريم الإسلام، واعتباره ليس علمانيًا ولا ديمقراطيًا ولا تقدميًا، ما جاز لهم اتهامه بالتخلف وتبرير المجازر المرتكبة تحت راية علمانية زائفة، لم توفر إلا القتل والدمار والنهب والتعذيب، ولم تحقق التقدّم إلا نحو المقابر الجماعية.

لا تزيد في اعتبار المثقف المشارك الأكبر في حراك التاريخ نحو إيجاد الحلول الإنسانية للبشرية، أو أسوأ أنواع الخيارات غير الإنسانية.

* روائي من سورية

العربي الجديد

——————-

التقاط اللحظة السورية/ عدنان عبد الرزاق

15 ابريل 2025

يعيش جلّ السوريين، كما العروس خلال شهر العسل. فتارة ترى الأمل بدولة ومواطنة وتطوّر يكسوهم، وأخرى تبدو عليهم علائم الإحباط ويلفهم اللا أمل. كما العروس التي تعوّل بلحظة على المستقبل والإنجاب والملكية، وأخرى تفكر بالانفصال والطلاق.

ومن يطلع على واقع التناقضات في سورية، منذ تحريرها من نظام الاستبداد في الثامن من ديسمبر/كانون الأول الماضي، سيعذر السوريين المتأرجحين بمواقفهم وعواطفهم، وقد يجد مبررات للمترددين بالخارج، سواء للعودة أو الاستثمار والمساهمة بتطوير وطنهم.

فأمواج المخاطر التي تتعالى تباعاً، أتت على قسط وافر، من فرحة النصر وتطلعات البناء والعيش بسكينة. سواء كانت الأمواج من جراء ملامح التمزّق الداخلي وتعالي أصوات الانفصاليين، أو استسهال التعدي على حدودهم من العدو الأزرق، كما يصف السوريون دولة الاحتلال الإسرائيلي.

وكل هذا، إن لم نأخذ ما يراه المحبطون، في أداء الحكومة الاستئثاري وانعدام الموارد واستمرار شبح العقوبات، عوامل إضافية لأسباب ترددهم.

كما قد يرفع المطلع قبعته للحالمين، بعد الذي ذاقه السوريون ومرّ عليهم، خلال سنوات ثورتهم الطويلة، فخبروا واختبروا اللجوء والأصدقاء، وأيقنوا أن الحل داخل سوريتهم، حتى وإن كان المستقبل محفوفا بالضبابية والمجاهيل.

فمجرد أن تعيش بدولة لا تلاحقك بإقامتك ولا تتهمك بتبديد مواردها وأسباب تخلفها، سبب كاف لتبدأ، ولو من تحت الصفر.

كما بملامح الانفتاح الخارجي وتهافت السوريين المهاجرين، سبب إضافي يزيده الحالمون على ضرورة العودة وزيادة الآمال بسورية التي تشهّاها مهاتير محمد يوماً، وطمح إلى أن يصل بماليزيا لمصافها.

قصارى القول: كل من الضفتين على حق، أو هكذا يبدو حين استعراض الحالمين أسباب تفاؤلهم، والمحبطين عوامل إحجامهم وترددهم. إلا أن حلقة مفقودة خلال هذا التقييم المنطقي بشكله ومضلل بمضمونه وأهدافه ربما. وهو سورية الوطن، لا سورية الفندق.

إذ وحين يتم نقل المفاضلة من المكاسب والأرباح وحتى الراحة والأمان، إلى المصير والمستقبل وحق الأبناء، فستتبدل النظرة على الأرجح وتتغير النتائج ولا شك. وبالأخص، أن ملامح القوة والثروة المبددة، تغلب وبمسافة، كل ما يمكن استجلابه من مخاوف وأسباب الابتعاد واليأس.

وإن قرّبنا الطرح من العملي والواقعي وابتعدنا عما قد يؤخذ علينا، من العزف على أوتار العاطفة أو طرح الشعارات العريضة، فسنرى حقيقة أن أسباب الأمل متوفرة وعوامل القوة كثيرة والفرص، إن استثمرت، أكثر من أن تعد وتحصى.

بالأمس، على سبيل الذكر لا الحصر، تمت استعادة جغرافيا الجنوب “محافظة درعا” لسيطرة الدولة، ما يزيد الآمال باستعادة محافظة السويداء وقطع الطريق على دعاة التقسيم وذرائع العدو الأزرق، بالتدخل والاحتلال، وحتى بالإعاقة لمشروع الدولة السورية الواحدة.

ويوم السبت الماضي، زار وزير الطاقة، محمد البشير، مصفاة بانياس للنفط، بعد استئناف عملها بطاقة إنتاجية تصل إلى نحو ٩٥ ألف برميل يومياً، ومن يعرف أهمية النفط بسورية، بعد تحولها من مصدر لنحو 200 ألف برميل إلى مستورد بمثلها، وأثر ذلك على الإنتاج والخدمات وحتى موارد الخزينة، يعرف أهمية خبر كهذا، بواقع زيادة الآمال بتنفيذ الاتفاق مع قوات سورية الديمقراطية واستعادة الدولة السورية حقول النفط.

وغداً، ضمن ملامح الأسباب، تستقبل سورية نهاية أيار/ مايو المقبل، نحو 500 شركة من عشرين دولة عربية وإقليمية ودولية، في المعرض الدولي للبناء، ما يفتح الباب واسعاً، لجذب الاستثمارات ولقاءات مباشرة، مع المشاركين، وبالتالي التسريع بعملية البناء وإعادة التأهيل، إن لم نقل التأسيس لإعادة الإعمار.

وأما إن خرجنا بأمثلتنا إلى ما وراء الحدود، فسنرى الوعود والنيات الطيبة بالمساعدة، سواء من تركيا أو قطر والسعودية، إقليميا أو حتى ممن يترددون حتى اليوم، برفع سيف العقوبات عن رقاب وقوت السوريين، فما رأيناه في مؤتمر المانحين من الدول الأوروبية مثال، وما لمسناه من استعادة كوريا الجنوبية علاقاتها آخر، وما شهدناه من تقارب خلال مؤتمر أنطاليا الدبلوماسي بتركيا، مثال ثالث.

بل حتى الولايات المتحدة التي يصعب على عاقل توقع سلوكها بظل حكم دونالد ترامب، ها هي ترحب بمشاركة ثلاثة وزراء سوريين “المالية، الاقتصاد والخارجية”، فضلاً عن حاكم مصرف سورية المركزي عبد القادر الحصرية باجتماعات صندوق النقد والبنك الدوليين التي ستستضيفها نيو يورك في وقت لاحق من الشهر الجاري، لتكون أول مشاركة لوفد سوري رسمي في اجتماعات، الصندوق والبنك الدوليين، منذ عقدين على الأقل.

نهاية القول: العبرة ليست برؤية الأفكار المنتشرة على قارعة الطرقات، كما يقال، بل فيمن يترجمها عملياً وواقعاً على الأرض، وكذا اللحظات السورية والفرص اليوم، السر فيمن يغتنمها ويلتقط اللحظة بشروطها وخصوصيتها، فيترجمها عملياً لما فيه خير سورية والسوريين، إذ اللحظة التي تتاح اليوم قد لا تتكرر غداً أو مرة أخرى، تماماً كما مياه النهر الجارية التي لا يمكن الاستحمام فيها مرتين.

بمعنى، لا يمكن لمستثمر يجذبه مناخ سورية أو محبته لها والمشاركة في نهضتها، أن يحافظ على شغفه ومجازفته إن علم أنّ لا بنية تحتية ولا أرضية قانونية تنظم عمله وتحفظ أمواله وحقوقه حتى اليوم.

ولا يمكن لشركة أو دولة، حتى إن جازفتا رغم سيف العقوبات الغربية، أن تعلنا عن توطين مشروعات بسورية، من دون أن تعرض حكومة الشرع خريطة استثمار، وتعلن عن مؤتمر تقدم خلاله المزايا والتسهيلات والفرص التي يحتاجها النسيج الاقتصادي السوري.

وقائمة الأمثلة تطول لتطاول استقرار سعر الصرف واستثمار الموارد المهدمة والمهدورة، بشرية كانت أم مادية والتي يرتبط معظمها، إن لم تقل جميعها، بالتقاط اللحظة اليوم وتحقيق شروط الخارج التي تلتقي بمعظمها مع مطالب السوريين، من مشاركة الجميع وفتح الباب للجميع وإبعاد كل ما من شأنه تكريس نظرة الاستئثار والإقصاء… فسورية الحالمة والمحتاج أهلوها لشروط العيش الآدمي، بعد سنوات الحرمان والتنكيل، ليست من الترف بما يدفعها للمكايدة وخسارة الفرص أو ضياع اللحظات المتاحة.

العربي الجديد

——————————

كيف نكون معارضةً جذريةً من دون إعادة الاستقطاب؟/ سمر يزبك

15 ابريل 2025

لم تدخل سورية بعد سقوط النظام (نهاية عام 2024) لحظة انتصار، بل مرحلةً شديدةَ التعقيد، كشفت أن إسقاط السلطة لا يكفي في حدّ ذاته لتدشين مرحلة جديدة، ففي غياب مشروع واضح لما بعد الاستبداد، اندفع المشهد السياسي إلى حالة من التنازع على المعنى، وتنافرت قوى المعارضة في سباق محموم على احتكار سردية الثورة، لا على بناء الدولة. في خضمّ هذه الفوضى، بات الحديث عن “المعارضة الجذرية” محفوفاً بالتباساتٍ عميقة، إذ اختُزلت الجذرية، في أحيانٍ كثيرة، إلى تصعيد لغوي أو تموضع أخلاقي راديكالي واتهامات وقوائم سوداء، فيما أُغفل معناها الحقيقي؛ القدرة على تفكيك المنطق الذي أنتج السلطة لا مجرّد معاداتها.

ليست الجذرية في رفع الصوت، بل في مساءلة ما يبدو بديهياً، وفهم آليات السيطرة كما تتسرّب في الخطاب، والمؤسسة، والوعي العام، وحتى داخل الحركات المُعارِضة ذاتها. في هذا السياق، تفقد المعارضة معناها حين تعيد إنتاج الاستقطاب نفسه الذي كان سمةً للنظام المخلوع، فمنذ الأيام الأولى لما بعد السقوط، طفت في السطح نبرات تصنيفية تفرز المشهد بين وطنيين وخونة، بين أصحاب شرعية وثوريين ناقصين. هكذا تتحوّل المعارضة سلطةً رمزيةً، تُقصي باسم الطهارة، وتخوّن باسم المبدأ، وتُنتج لغةً لا تحتمل التعدّد، بل تحاصر كلّ اختلاف تعدّه تهديداً للثوابت.

السلطة في هذا المعنى لا تُختزَل في جهاز قمعي أو قصر جمهوري (بحسب فوكو)، هي نمط تفكير، وشكل في توزيع الشرعية، وآليةٌ لإنتاج الهُويّة الجماعية. حين تعيد المعارضة تكرار هذه الأشكال (حتى من غير قصد) فإنّها تتحوّل مرآةً معكوسةً للنظام، لا إلى نقيضٍ بنيوي له. وهنا المفارقة المؤلمة، أن تفقد الثورة قدرتها على التجاوز، وتغرق في صراع الذاكرة، بدلاً من أن تنشغل ببناء المستقبل، ومواجهة عُسف السلطة الناشئة.

ثمّة أشباحٌ تملأ الفضاء السوري اليوم، أشباح من الذاكرة لا تزال حاضرةً في الوجدان العام، شهداء وسجون ومذابح وصدوع طائفية، لكنّ الخطر لا يكمن في حضور الذاكرة، بل في الطريقة التي تُستثمَر بها سياسياً، حين تتحوّل المعاناة إلى أداة فرز جديدة، تُستدعَى لتبرير الهيمنة أو الإلغاء، فتُصبح الثورة رهينةً لماضيها، لا مشروعاً للانعتاق منه.

لا تبدأ العدالة الانتقالية بالانتقام، بل بالاعتراف، ولا تتحقّق بإقصاء الآخر، بل ببناء عقد سياسي يتّسع للاختلاف. وحين تستقرّ الثورة في خطاب الضحية وحده، من دون مساءلة ذاتية، فإنها تحوّل الألم هُويّةً ثابتة، وتحوّل الخصم شيطاناً، وتُنتج ذاكرةً غير قابلة للتعايش. في المقابل، لا تكون السياسة في مثل هذه اللحظات امتحاناً للثأر، بل اختباراً للقدرة على التحوّل، من سردية المعاناة إلى مشروع للعيش المشترك.

في ظلّ الإعلان الدستوري المؤقّت، بدأت تتبلور ملامح نظام سياسي جديد، يحمل، في طيّاته، قلقاً عميقاً من إعادة إنتاج إقصاء باسم الشرعية. بعض المواد، كتحديد الهُويّة الدينية لرئيس الدولة أو مرجعية الشريعة، أعادت إلى السطح مخاوف قديمة، خصوصاً مع تصاعد التوتّرات الطائفية بعد المجازر الأخيرة في الساحل، لكنّ الخطر ليس في النصوص وحدها، بل في غياب النقاش العمومي الحرّ عنها، وخصوصاً عمّن يوافق عليها وعمّن يرفضها، والحوامل الاجتماعية للموافقين والرافضين.

التحوّل من خطاب الثورة إلى مشروع الدولة يتطلّب تفكيكاً جادّاً لمفهوم “المُعارَضة” نفسه، بوصف المعارضة لا قوةَ رفضٍ فحسب، بل قدرة على البناء، واقتراح تصوّرات بديلة، لا تكرّر أشكال السلطة السابقة بأسماء جديدة. معارضة ترفض أن تكون سلطةً مضادّةً، وتسعى بدلاً من ذلك إلى إعادة تعريف الفضاء السياسي نفسه، عبر خطاب يُدرج التعدّد بدل أن يقمعه، ويحتفي بالاختلاف بدل أن يحوّله تهمةً.

سورية بلد لا يمكن احتواؤه ضمن مقولات الهُويّة الأحادية. تعدّده الإثنيّ والدينيّ والسياسيّ لا يمثّل عائقاً أمام بناء الدولة، بل هو شرطٌ من شروطها، وأيّ مشروع لا يأخذ هذا التعدّد على محمل الجدّ، يتحوّل نسخةً محدّثةً من الإقصاء باسم الوحدة.

ما بعد السقوط ليس نهاية المعركة، بل بدايتها الحقيقية. الثورة لا تُقاس بما أسقطته فحسب، بل بما ستبنيه لاحقاً، والمعارضة التي تستحقّ هذا الاسم هي التي تخرج من أَسر الثنائية، وتتقدّم نحو صيغة سياسية جديدة، تُنقّب، وتفكّك، وتؤسّس. تكمن الجذرية في عمق السؤال. والسياسة لا تبدأ حين نُسقِط أحداً، بل حين نتوقّف عن تكرار ما سقط بالفعل.

العربي الجديد

————————————-

حل عقدة اللواء الثامن… خطوة لإنهاء ملفات تشكيلات سورية مشابهة؟/ محمد أمين

15 ابريل 2025

سلّم اللواء الثامن، وهو من أكبر الفصائل المحلية في محافظة درعا، جنوبي سورية، مقراته ومستودعات الأسلحة، لوزارة الدفاع السورية في جميع المدن والبلدات التي كان له حضور فيها، في خطوة من المتوقع أن يكون لها بعيد الأثر في تهدئة الأوضاع الأمنية في هذه المحافظة، والدفع باتجاه التعاطي مع ملفات مشابهة في البلاد. ونشرت شبكات إخبارية محلية منها “تجمع أحرار حوران” صوراً للسلاح والذخائر التي تسلمتها وزارة الدفاع السورية، أمس الأول الأحد، من مقرات اللواء الثامن التي كانت منتشرة في مدينة بصرى الشام ومحيطها في ريف درعا الشرقي. وتسلمت قوى الأمن العام التابع لوزارة الداخلية مقار اللواء في مدينة بصرى بريف درعا الشرقي، وسجنين اثنين في المدينة، وجرى نقل السجناء (10 منهم بتهم جنائية وأربعة بتهم أمنية) إلى مدينة درعا.

نهاية قصة اللواء الثامن

وأعلن العقيد محمد الحوراني، أحد ضباط اللواء في بيان له الأحد الماضي، حل التشكيل بشكل كامل وتسليم مقدراته العسكرية والبشرية لوزارة الدفاع السورية، وذلك “حرصاً على الوحدة الوطنية وتعزيز الأمن والاستقرار، والالتزام بسيادة الدولة وخطتها”. وتم تكليف النقيب محمد القادري بمهمة التنسيق المباشر مع الجهات المعنية لـ”إتمام عملية الانتقال والتسليم بسلاسة”، وفق البيان. وأكد عماد المسالمة وهو أحد وجهاء محافظة درعا، في حديث مع “العربي الجديد”، أن قصة اللواء الثامن “انتهت وبأقل الخسائر ومن دون تخريب أو تهجير”، مضيفاً: وزارة الدفاع وجهاز الأمن العام سيطرا على ريف درعا الشرقي خلال أربعة أيام. وتابع: أنا كنت من ضمن الموجودين في المنطقة لضبط الأمور. لم تحدث سرقات أو عمليات نهب أو انتقام، ما خلا تجاوزات بسيطة. وبيّن أن وزارة الدفاع السورية “نقلت الأسلحة الثقيلة التي كانت بحوزة اللواء إلى مقراتها”، مضيفاً: عادت بصرى الشام إلى وضعها الطبيعي في سورية. انتهى عهد الظلم والاستبداد.

وكانت منطقة بصرى الشام شهدت خلال الأيام القليلة الماضية توتراً واسع النطاق إثر اعتقال القيادي المحلي بلال المقداد، المعروف باسم بلال الدروبي الموالي للحكومة في دمشق، الخميس الماضي، من قبل عناصر تابعة للواء، وتوفي بعد يومين متأثراً بإصابته بطلقين ناريين. وكان أحمد العودة قائد اللواء الثامن رفض الانضواء في وزارة الدفاع السورية، إلا وفق شروطه، وأبرزها الدخول إلى الجيش السوري الجديد كتلةً واحدة وهو ما يخالف منهجية الوزارة.

وكان اللواء الثامن تأسس في عام 2018 من قبل الجانب الروسي، وضم عدداً من المقاتلين الذين كانوا في صفوف المعارضة السورية في ذلك الحين، والتي اضطرت إلى توقيع اتفاقات تسوية مع النظام المخلوع برعاية روسية. وانضم التشكيل في حينه إلى الفيلق الخامس المدعوم من موسكو، التي كانت داعمة رئيسية لقائده (العودة) الذي كان كانت لديه ارتباطات بأكثر من دولة إقليمية منها الإمارات. ويبدو أن الزيارة التي أجراها الرئيس السوري أحمد الشرع، أول من أمس الأحد، إلى أبوظبي، أسهمت في تحريك هذا الملف الشائك وحله بشكل سمح للدولة السورية بفرض سيطرتها على محافظة درعا بحدودها الإدارية.

في عام 2022 تغيرت تبعية اللواء إلى شعبة المخابرات العسكرية في النظام المخلوع، إلا أنه بقي سلطة أمر واقع في ريف درعا الشرقي رغم ذلك. وبحسب المعلومات المتوافرة سيمنح عناصر اللواء الثامن خيار الانتساب بشكل فردي إلى الجيش السوري الجديد، فيما لم يُعرف بعد مصير العودة، والمقربين منه. ومع حل هذا التشكيل تطوي الحكومة السورية واحداً من الملفات المعقدة في الجنوب السوري الذي شهد منذ إسقاط النظام في الثامن من ديسمبر/كانون الأول الماضي اعتداءات وتوغلات برية من قبل جيش الاحتلال، الذي استغل حالة عدم اليقين في هذا الجنوب لتنفيذ هذه الاعتداءات التي وصلت إلى ريفي درعا الغربي والشمالي. وكان مؤتمر النصر، الذي عقدته إدارة العمليات العسكرية في 29 يناير/كانون الثاني الماضي، وضم قادة 18 فصيلاً عسكرياً، أصدر العديد من القرارات، منها حلّ جميع الفصائل العسكرية، والأجسام الثورية والسياسية والمدنية، ودمجها في مؤسسات الدولة، وتشكيل مؤسسة أمنية جديدة وبناء جيش جديد على أسس وطنية.

وبدأت وزارة الدفاع في الحكومة السورية منذ ذلك الحين مفاوضات مع الفصائل والتشكيلات العسكرية لحلها ودمجها في فرق وألوية الجيش الجديد. ولكن العديد من الفصائل إما ترددت أو رفضت الانضواء في الجيش الجديد، ومنها اللواء الثامن الذي ربما يمهد إنهاء ملفه الطريق أمام التعاطي مع ملفات شبيهة في محافظة السويداء المجاورة لدرعا، وفي الشمال الشرقي من البلاد. في السويداء لا تزال غالبية الفصائل ترفض تسليم السلاح والذخائر التي استحوذت عليها من مقرات ومستودعات قوات النظام المخلوع، بسبب مخاوف من العهد الجديد في البلاد، وفق تبريرات قادة هذه الفصائل. وبحسب مصادر مطلعة في السويداء، أبرز التشكيلات التي لا تزال خارج وزارة الدفاع السورية حتى اللحظة، هي تلك المرتبطة بشيخ عقل الطائفة حكمت الهجري، ولواء الجبل، والمجموعات المنضوية في ما يُعرف بـ”المجلس العسكري”، مشيرة إلى أن أوضاع هذا المجلس “ملتبسة، وخصوصاً لجهة تبعيته”. وأوضحت المصادر أن هناك فصائل وتشكيلات عسكرية محلية اتفقت مع وزارة الدفاع وباتت ضمن هيكليتها، أبرزها: حركة رجال الكرامة، وفصيل ليث البلعوس، وتجمع أحرار جبل العرب.

تمهيد لحل قضية فصائل السويداء

برأي الخبير العسكري ضياء قدور في حديث مع “العربي الجديد”، فإن حل عقدة اللواء الثامن في درعا “سيكون له تأثير كبير في إنهاء ملف فصائل السويداء”، مضيفاً: ظهرت الحكومة في دمشق بموقف حازم غير قابل للتراجع عن خطتها في حصر السلاح بيد الدولة. وتابع: لكن ليس بالضرورة أن نشهد تداعيات ونتائج خلال فترة قصيرة، لكون ملف السويداء فيه من التعقيدات ما يكفي والتي تتطلب إجراءات دقيقة ومدروسة لمعالجته. كل ملف له ظروفه الخاصة. وبرأيه أيضاً، فإن حل ملف اللواء الثامن “خطوة ضرورية جداً لبسط سيطرة الدولة على كامل البلاد”، مضيفاً: لم يكن هذا اللواء يتمتع بقاعدة وحاضنة شعبية، لذا لم يكن قادراً على الصمود أمام أي تحرك عسكري اتجاهه من الحكومة في دمشق. كذلك، رأى المحلل العسكري فايز الأسمر في حديث مع “العربي الجديد”، أن “حل أي تشكيل عسكري مهما كانت تبعيته الإثنية والعرقية واندماجه الكامل في وزارة الدفاع لحصر السلاح المنفلت وغير الشرعي، يزيد ويعزز سيطرة الدولة السورية على كامل أراضيها ويسهم في تثبيت الأمن والأمان في البلاد”. وأشار إلى أن حل اللواء الثامن واستلام أسلحته من قبل وزارة الدفاع “خطوة ميدانية وأمنية مبشرة باتجاه حل جميع الفصائل والتشكيلات، سواء في محافظة السويداء أو شرقي نهر الفرات”، مضيفاً: لا يمكن لدولة تحترم نفسها وشعبها السماح ببقاء أي كيان مسلح خارج السيطرة المطلقة.

العربي الجديد

—————————————-

في المسؤولية العربية عن سورية/ معن البياري

15 ابريل 2025

أول القول إن العنوان أعلاه يحتاج تصحيحاً، فالسوريون وحدهم أصحاب المسؤولية عن بلدهم. ولكن الذي يُراد قوله هنا إن على العرب، دول الجوار والخليج ومصر خصوصاً، مسؤولية كبرى، في إسعاف سورية والذهاب بها إلى عتبات النهوض. أما التأشير إلى هذه البديهية، النافلة في ظنّ صاحب هذه الكلمات، فإنما لأن زعماً يتفشّى، ويساهم في إشاعته رئيس الولايات المتحدة الأصفر، أن سورية في لحظتها الراهنة حصّة لتركيا. ولئن يجدُر دائماً التذكير بأن دولة الجوار، ذات الحدود الطويلة في الشمال السوري (أزيد من 900 كيلومتر) لا بد أن يجري الحرص على أوثق العلاقات معها، على الأصعدة السياسية والاقتصادية وغيرهما، فإن هذا الأمر لا يجوز حسبانه قصْر مثل هذه العلاقات، بصفتها المدعوّ إليها هنا، على بلاد الأناضول، فلا ينطوي القول على شيءٍ من هذا. غير أن التملّي في أحوال الإقليم يُرينا أن تركيا تُحرز مكانةً قويةً في الإقليم، وصاحبة أدوار وطموحات، وذات نهوض اقتصادي وصناعي ظاهر، ولديها رؤية سياسية تتطلّع في إطارها إلى حضور فاعل، بأوجهٍ اقتصاديةٍ وأمنيةٍ واستراتيجية، في أفريقيا وآسيا، وتصوغ علاقاتها مع دولٍ كبرى بندّيةٍ ملحوظة، فيما الحال العربي في عجزٍ وتأخّر معلوميْن، وفي انكشاف لا يُرى لنهايته مدى، وفي متن هذا الراهن المعاش، لا حاجة إلى وصف الوضع السوري.

ومن طبائع الأمور، في هذا المجرى، وبحكم مفاعيل وعوامل لا حاجة إلى التذكير بها، أن يجد أهل الحكم والقرار في دمشق أنفسهم منشدّين إلى تركيا، سيما أنها كانت عوناً قوياً للثورة السورية ضد نظام بشّار الأسد، ولها سهم كبير في تأمين أسباب الانتصار الذي تأخّر 14 سنة وصار ناجزاً صباح 8 ديسمبر (2024)، غير أن هذا، مع التسليم ببداهته، لن يعني تناسي العمق العربي لسورية راهناً ومستقبلاً، ولا ينبغي أن يُحسَب الإتيان على هذا المفهوم رطانة ذائعة. والبادي أن لدى القيادة السورية إدراكاً لهذا الأمر، دلّت عليه شواهد منظورة، سيما أن الرئيس أحمد الشرع اختار السعودية أول وجهة له بعد تسلمه سلطاته.

ليس من مصلحة الأردن والسعودية وعموم دول الخليج ومصر، مثلاً، أن يتراجع زخَم إسناد التجربة السورية الراهنة، في لحظتها شديدة الحساسية، أمنياً وسياسياً واقتصادياً. والملحوظ أن مجهراً عربياً كبيراً عوين على سورية، غداة تحريرها من الأسد، وتقاطرت وفودٌ رفيعة المستوى إلى دمشق، لتأكيد اندفاعةٍ عربيةٍ باتجاه مساعدة هذا البلد في انعطافته الصعبة هذه، سيما أنه مثقلٌ بعقوباتٍ اقتصادية، وبإرث من البؤس العام. وبالتوازي، كانت الاندفاعة التركية في الاتجاه نفسه واضحة أيضاً، سيما أن بعداً أمنياً (وعسكرياً والله أعلم) ظاهرٌ فيها، ومعلنٌ إلى حدّ ما. ولا يحسُن، في أي حال، أن يُقرأ هذا التوازي تنافساً بين حضورين، عربي وتركي، في سورية ما بعد الأسد، بل يجدُر أن نراه تكاملاً لازماً، وربما ضرورةً تنجز نتائج أفضل. ولكن ما تواتر من أخبار، أخيراً، وما يتحسّسه المراقب المتابع لمسار العلاقات السورية العربية، ومع عموم الخارج، أن الاندفاعة التركية أكثر وضوحاً، وأنها متعدّدة المستويات. ومع حاجة دمشق إلى إسنادها في إعادة بناء قدراتها الأمنية والعسكرية والتسليحية يتسرّب أن ثمّة مجهوداً تركياً ماضٍ في هذا الخصوص، وإنْ يصعب الوقوف على تفاصيل مؤكدة. ولمّا بتنا نسمع تحذيراتٍ إسرائيليةً معلنة، وشديدة الوقاحة طبعاً، من أي عون عسكري وأمني تركي لسورية، فذلك يسوق إلى افتراض أن هذا البلد العربي صار ساحة مكاسرة بين أنقرة ودولة الاحتلال. والمتمنّى من أهل القرار في دمشق أن يغادروا هذا الاعتصام بالصمت الذي يقيمون عليه، ويكونوا أكثر شفافية في تنوير الرأي العام في بلدهم أولاً، وفي العموم العربي تالياً، برفض هذا الحال، وبتأكيد العمل الدائم على استقلال سورية وقرارها وسيادتها.

الخشية أن الزخم العربي باتجاه سورية الجديدة، الذي لوحظ في الأسابيع الأولى بعد فرار الأسد، تراجع نوعاً ما، ولم يعُد على الإيقاع الذي سرّنا، والمطلوب أن تزداد وتيرته، وتنشط مستوياته، فلا يبقى في إطار لفظي وكلام بياناتٍ دوريةٍ ومواقف للإعلام. ومع مواظبة الدوحة وعمّان والرياض، تعييناً وتخصيصاً، على تظهير إجراءاتٍ عمليةٍ تُعين سورية في تحديث بعض المرافق والبنى التحتية، إلا أن الحاجة شديدة الإلحاح لأن نرى العين العربية على هذا البلد المتعب أكثر وضوحاً، وأزيد حرصاً، أقله كما العين التركية التي نراها وترانا.

————————————

أما آنَ لنا أن نستريح؟/ رباب هلال

15 ابريل 2025

انقضت أشهر أربعة على تحقّق أولى مطالب أحلامنا: زوال الأسد إلى الأبد. لكنّنا لم نلبث أن مكثنا مجدّداً، ننتظر آملين أن تدفع بنا السلطة الانتقاليّة لغسل عارنا السوريّ، ونسيان فضيحة مقتلتنا المذلّة.

تجريم فلول الأسد المجرمين وملاحقتهم مطلبنا، وتقديمهم لمحاكمة عادلة. والرغبة شديدة في توحيد الجهود الوطنيّة كافّة، لإعادة بناء دولتنا الجديدة. إنّما هل يقوم البناء على نسيج مهترئ، ولا يزال ينزف؟ تطعنه انتقامات، وأحقاد، ولصوصيّة وفساد الفصائل المنفلتة، ثمّة مطالب إسعافيّة: تجريم السلطة الانتقاليّة القتلة ومشيعي الفوضى الترهيبيّة ومجيّشيها. تجريم استحلال السوريّ الدم السوريّ. تطبيق العدالة الانتقاليّة لتحقيق السلم الأهليّ.

حدث أن دمّرت مجازر النظام البائد مناطق عديدة في البلاد بذريعة ملاحقة الإرهابيّين. وفتكت بمعارضيها بتهمة الخيانة والتآمر، بمساندة حاشيته وشبّيحته من الأطياف السوريّة قاطبة. أمّا مجازر اليوم، وبوجه خاصّ في الساحل، فقد ارتكبت على أساس طائفيّ معلن، بذريعة ملاحقة فلول النظام المجرمين. يحمّل مرتكبوها طائفة بأكملها وزر إجرام النظام البائد، تهمتها الوحيدة انتماء الصفيق لها، ليحكم عليها بالعقاب الجماعيّ. ولأنّ تلك الطائفة عانت عائلاتها من الاستغلال، ومن الإمعان المتعمّد في إفقار وتخويف من أيّ سلطة بديلة. لذلك، هلّلت لخلاصها من ظالميها، ورحّبت بقدوم السلطة الجديدة، وسارع أغلبهم ممّن لديه سلاح إلى تسليمه للدولة، لكنّ ذلك لم يشفع لها.

استنكرنا الإجرام القديم، ونستنكر الإجرام الجديد، ونحمّل السلطة المسؤوليّة. ولا ننكر مبادرتها في الاعتراف بالانتهاكات، وتواصلها مع عدد من ذوي الضحايا لتعزيتهم. إنّما هل يكفي هذا لوقف سفك الدماء؟ وطمأنة الأهالي بجميع طوائفهم، تحقيق أمانهم، واستعادة ثقتهم، بتخليصهم من معاناتهم اليوميّة، وانسداد سبل كسب قوتهم، بسبب الممارسات الرهيبة للفصائل المنفلتة، من قتل عشوائيّ وسرقة البيوت أمام أعين أصحابها، وصدورهم العارية أمام فوّهات البنادق. ألم نتفق أنّ ثورةً يفجّرها الظلم عليها أوّلاً محوه؟

نتأمّل الراهن السوريّ، ونتذكّر ما مضى: قتل الشعب، اعتقال، نزوح وتهجير، عدالة مشلولة، قانون أعرج مزاجيّ، السلطات كلها في قبضة السلطة، فساد مصّاص للدماء، إفقار متعمّد، غلاء معجز، شبه انعدام للكهرباء والمياه والوقود، عقوبات اقتصاديّة، أمان غائب، فوضى أمنيّة، جرائم قتل فرديّة، خطف لكسب الفدية، ابتزاز أهالي المعتقلين، سرقات ممنهجة، وأخرى منفلتة. قبضة أمنيّة متأهّبة، هياكل مؤسسات الدولة بإدارات تندر الكفاءات فيها، أغلبها فاسدة، التضييق الممنهج على الأكفّاء النزيهين، الرقابة الإعلاميّة الغبيّة الشرسة، اغتيال الكلمة والأصوات الوطنيّة الحرّة، تدجين التعليم والثقافة، استغباء الشعب، تجييش وتضليل إعلاميّ، موالون شبّيحة فاسدون وقتلة، موالون انتهازيّون وصوليّون من نخب ثقافيّة مختلفة، موالون صامتون خائفون، وآخرون جهلة. تأجيج النعرات الطائفيّة وغيرها، ذريعة محاربة الإرهاب، استباحة التراث وآثار التاريخ العريق، مكافحة المؤامرات الخارجيّة، الارتهان والانصياع للخارج، احتلالات في الداخل، وشعارات منافقة لشجب العدوان الصهيونيّ المحتلّ على أرض البلاد. البلاد المحطّمة.

فلنتذكّر كي نبني، نستنكر الأخطاء، ننتقد بملء حبّنا وخوفنا على البلاد، بملء غيرتنا وحرصنا على شفائها التامّ. إنّما نأسف حقّاً لجهل بعضنا بحقوقهم وواجباتهم الوطنيّة. ولعدم تمييز آخرين بين أثافي الوطن الثلاث: السلطة، الحكومة، الدولة. فالحكّام زائلون، والدولة تبقى بقاء شعبها.

أما آن لترابنا المقدّس المجبول بدموع من بقي من أمّهاتنا وآبائنا، ودماء أبنائنا، أن يجفّ، فتعشب حقولنا بالمستقبل الأخضر الآمن؟

العربي الجديد

—————————————–

إعادة كتابة التاريخ/ حسان القالش

15 ابريل 2025

معظم السوريين لا يعرفون تاريخ بلادهم معرفة جيّدة، هذا معلوم لكثيرين، وهذا ما أثبتته السنوات الـ 14 الماضية. لكن لماذا هذا الجهل بالتاريخ؟

تكمن الإجابة في الطريقة التي صيغت فيها الرواية الرسمية لتاريخ البلاد، وذلك خلال مرحلتين، الأولى كانت خلال فترة الانتداب الفرنسي إلى ما بعد الجلاء في 1946، والثانية فهي حقبة انقلاب البعث واستلامه مقادير البلاد منذ 1963. ففي المرحلة الأولى كان الآباء المؤسسون ومعهم جيل الروّاد من المثقفين السوريين أمام امتحان ما تسمى عمليّة “بناء الأمّة”، ومن أبرز ما تتطلّبه هذه العمليّة انتاج الرواية الرسمية عن تاريخ البلاد، بما فيها من أحداث وأبطال وملاحم وأساطير في أحيان كثيرة، الأمر الذي يؤدي إلى تشكيل الهويّة الوطنيّة التي تجمع الأفراد المنتمين إلى وحدة ترابية محدّدة. وكان الامتحان صعباً، فقد ورث الجيل المؤسس كياناً سياسياً كان ما يزال جديداً في حدوده ولم يكتمل تماسكه، نتيجة السياسة الاستعمارية الفرنسية التي كرّست الانقسامات بين المناطق والجماعات السورية على أكثر من مستوى، فضلاً عن أنّ سورية كانت وقتها محلّ تنازع بين عدّة مشاريع في المنطقة أبرزها المشروع الهاشمي، بشقّيه العراقي والأردني.

كان الجيل المؤسس وقتها بحاجة إلى وقت يساعده على التأمّل في تاريخ البلاد الوليدة، خاصّة وأنّه لم يكن قد تخلّص يومها من ثقل مركزيّة دمشق، وإهماله لغيرها من المدن وللأطراف، فضلاً عن عدم عنايته بمسألة الأقليات في البلاد. وفي النهاية، لم يُتح له هذا الوقت، إذ دخلت البلاد في دوّامة الانقلابات وصولاً إلى حكم حزب البعث، وبهذا بقيت السرديّة بُني عليها تاريخ سورية فقيرة، تستند على أفكار العروبة والارتباط بأمجاد الحضارة العربية الإسلامية، وهي سرديّة ضاعت فيها سوريا الدولة أو الكيان، خاصّة مع الخطأ الفادح المتمثل في القطيعة مع التاريخ العثماني الذي ظهر فيه اسم سورية رسمياً أول مرة في التاريخ في 1865.

ومع انقلاب “البعث” في 1963، لم يكتفِ البعثيون في تكريس القطيعة مع التاريخ العثماني، بل أضافوا إليها قطيعة مع كلّ التاريخ الذي سبق وصولهم إلى السلطة، وكانت أداة هذا التجهيل الأساسية كتاب التاريخ المدرسي، إذ كان قرار إلغاء العمل بكتب التاريخ السابقة من أوّل قرارات “البعث”. وقصّة كتاب التاريخ المدرسي في سورية طويلة، خاصة وأنّ سورية نفسها لم تكن موجودة ككيان عندما انفصلت الولايات العربية عن السلطنة العثمانية. وهذه كلّها إشكالات وجدها نظام عائلة الأسد في بداية عهده، لكنها كانت نعمة له لا نقمة، فقرّر متسلحاً بالقمع، ومن دون تردّد أن يكتب للأجيال الجديدة تاريخه هو لا تاريخ الدولة، فتاريخ البلاد يبدأ معه، وما سبق من فوضى استعمارية أحاله على الهامش محتفظاً بالقليل من عناصره، وبهذا ولدت مقولة “سوريا الأسد”.

والنتيجة كانت انتاج أجيال منقطعة عن الماضي القريب، ومشوّهة بوعيها الوطني عبر أيديولوجيا متطرفة وإقصائية تمجّد العنف وتُضخّم الذات القوميّة من دون أساس، وبهذا نشأت وطنية سورية هشة ومشوّهة تستند في مخيلتها الجماعية على سوريا المفيدة ومركزها دمشق، وهي وطنية فوقية ومتعالية أحياناً.

هذه مناسبة للدعوة غلى قامة مؤتمر عام يجمع كلّ أساتذة التاريخ في سورية، ليعيدوا كتابة التاريخ الرسمي للدولة، وهذا استحقاقٌ لا يقلّ عن أولويات الاقتصاد وإعادة الإعمار وغيرهما، وهو استحقاق لا يجب انتظار أي حكومة للدعوة إليه وتنظيمه، فمن مهام هذا الاستحقاق إيجاد هويّة وطنيّة جامعة والوصول إلى المواطنة، وترميم وحدة الشّعب التي اهتزّت في مجزرة 7 مارس (في الساحل السوري) الذي بات يوماً علينا تدوينه في صفحات التاريخ ولا ننساه.

العربي الجديد

————————

الصحو من سكرة الانتصار/ شعبان عبود

15 ابريل 2025

لنعترف بأننا بالغنا كثيراً في توقّعاتنا، وذهبنا بعيداً في أحلامنا منذ اللحظة الأولى لإعلان سقوط نظام الأسد. ربما لأن غالبيتنا لم تكن لتصدّق أن نظام الاستبداد الحديدي الذي عايشناه أكثر من 60 عاماً يمكن أن يسقط، لكنه في النهاية سقط سقوطاً مدوياً، مثل أي نظامٍ عاش واستمرّ بقوة البطش وسطوة الأمن.

قد تساعد التجربة المرّة التي عشناها وفهم آثارها جيداً، في استيعاب تلك الحساسية، وتلك الانتقادات المبكرة لبعض قرارات وسياسات الإدارة السورية الجديدة، من بعض المهتمين والمشتغلين بالشأن العام. بصراحة شديدة، لم ينطلق الجزء الأكبر من تلك الانتقادات من مواقف مسبقة إزاء الإدارة، بل جاء مدفوعاً من ألم التجربة الطويلة والقاسية والمكلفة مع النظام السابق، والخوف تالياً من التأسيس لشيء مماثل.

جاء جزء كبير من تلك الانتقادات المبكرة بصيغة جرس الإنذار، حيث نبّهَ المنتقدون وحذّروا من مخاطر تأسيسنا بأيدينا نظاماً مشابهاً للذي ثُرنا عليه، وكلفنا اقتلاعه أكثر من مليون قتيل ودمار هائل يغطّي الجزء الأكبر من الجغرافيا السورية.

بصراحة، لم ننتبه كثيراً ولم نتوقف عند تلك الانتقادات، لأن سكرة النصر أو نشوته بسقوط النظام جعلتنا نغضّ الطرف حيناً، ونتجاهل أخطاء وممارسات هنا وهناك في أحيان كثيرة، وجعلتنا تلك النشوة بالانتصار باردين، هادئين، رصينين، وعلّمتنا كيف نأخذ جيداً بالاعتبار وطأة “التركة الثقيلة” التي ورثناها بحيث لا نرفع سقف مطالبنا وطموحنا عالياً، وجعلتنا نقول سراً في أنفسنا، وعلانيةً مع أصدقائنا: من صبر 60 عاماً يمكنه أن يصبر أشهراً قليلة. وقبل ذلك كله، لنعترف صراحة، لقد كنا متعبين جميعاً. فبعد 13 عاماً من الموت والدمار والتهجير واليأس والإحباط، لم يكن لدينا أدنى رغبة في مقاومة لحظة الفرح تلك، ولم يكن لدينا الجلد والهمّة للبدء بجولة جديدة من الأسئلة والتوتر والانشغال والقلق. لقد كنّا نبحث جميعاً عن استراحة، وعن أمل، عن وطنٍ جديدٍ نجد فيه ما افتقدناه: الحداثة والكرامة والعدل والحرية والرفاه. ومع كل أسف، استيقظنا جميعاً بعد شهرين أو أكثر على وقع أصوات صادمة: مطلوبين (أو غير مطلوبين) طُلبَ منهم العواء، فاستيقظنا غير مصدّقين ما رأيناه وسمعناه.

استيقظ بعضنا من حلمه. ولكن، ومن جديد، أشاح بعضُنا النظر، وبعضُنا الآخر قدّم نظريات جديدة، غايتها محاولة “تفهّم” ضحايا النظام السابق، وقالوا: لديهم حقد حجمه يحرق الأرض كلها. خفنا من أن يكون حجم الحقد ذاك واقعياً وحقيقيا، فقرّرنا أن نصمت ونعي ونتقبل من جديد حجم “التركة الثقيلة”.

لم ينتهِ ذلك كله عند إهانةٍ هنا وصفعة كفّ هناك، تطوّر لاحقاً ليُسمح للعنف الكامن بأن يُعبّرَ عن نفسه بطريقة مأساوية، في هذه المحافظة وتلك المنطقة، العنف الكامن وما يعتمل في الصدور، وجد منفذاً له من خلال هجمات استهدفت قوات الأمن العام، ثم لاحقاً وجد طريقه إلى بيوت الأبرياء والناس العاديين، الذين كانوا أيضاً مثلنا يحلمون بوطنٍ جديد ومختلف. هنا ربما استيقظنا، لتتلاشى نشوة النصر. لقد جَعلنا الحقد والعنف الكامن، ولكن المتوقع، نصحو جميعاً في اليوم التالي على أسئلة كبيرة، أسئلة عن المستقبل.

عبّرت تلك الأسئلة عن نفسها جيداً في الفترة التي واكبت الخلافات والمفاوضات بين الإدارة الجديدة وقوات سوريا الديمقراطية، وعبّرت عن نفسها مجدّداً في الفترة التي سبقت مؤتمر الحوار الوطني ورافقته وأعقبته، وعبّرت عن نفسها كذلك قبل الإعلان الدستوري وخلاله وبعده، وعبرّت عن نفسها أيضاً في مرحلة الإعلان عن الحكومة الجديدة وأسماء الوزراء، أسئلة في مجملها كانت عن المستقبل، مستقبل الوطن السوري، وعكست ربما صحوةً ما بعد سكرة الانتصار.

————————–

وزارة ترث اتحاداً بما عليه من ذنوب: الرياضة السورية على مفترق/ مازن الهندي

15 ابريل 2025

ما كان بالأمس يبدو حلماً بعيد المنال في دولة تقودها الأفرع الأمنية ويهيمن فيها حزب البعث على مقاليد الحكم في مؤسساتها وبمختلف القطاعات، أصبح في 30 مارس/ آذار الفائت حقيقة. فوزارة الرياضة والشباب أبصرت النور أخيراً بعد سنوات من المطالبة بها.

سيحظى الرياضيون، أخيراً، بهيكل تنظيمي بديل لما كانت تسمّى “منظمّة الاتحاد الرياضي العام”، التي تهالكت وتداعت وأصحبت عاجزة عن تلبية احتياجات الرياضة السورية، والعاملين في هذا القطاع من مؤسسات وأفراد. وقد شهدت هذه المنظمة محاولاتٍ عديدة لإنقاذها وإخراجها من غرفة الإنعاش التي دخلتها مع بدء تطبيق نظام الاحتراف في مطلع الألفية الثالثة، وهو النظام الذي كشف عورة الترهل والفساد الإداري والمالي في المنظمة، التي تأسست عام 1971 وبدأت مهمة لعب دور (الواجهة) في تسيير شؤون الرياضة في سورية، بينما كانت الأمور تدار في مكاتب مغلقة أخرى.

ربما كان من الصعوبة بمكان تلخيص حجم الفساد الذي ارتكبته السلطة الرياضية الأعلى في سورية خمسة عقود، فبمجرد الدخول من البوابة الرئيسية لمبنى منظمة الاتحاد الرياضي العام في منطقة البرامكة، يأتيك ذلك الشعور بالرهبة والخوف، فهي محاطة بمبنى الأمن القومي، وبحراسة مشدّدة، ثم لا يلبث هذا الشعور أن يترافق مع حذر تام من كل خطوة أو مكتب تزوره، أو كلام وسلام لهذا الشخص أو ذاك.. فالمحسوبيات والشللية كانت تطغى في هذا المكان، و(كلو بيوصل). فقد يؤدي ذلك لحرمانك من منصب في إدارة نادٍ أو سفرة مع منتخب، لأن رئيس الاتحاد الرياضي العام (الساكن في الطابق الثالث) حتى وإن أظهر لك ابتسامة دافئة، فإنه يطلب فوراً فتح ملف لك ومتابعتك في كل صغيرة وكبيرة عبر مكاتب وأشخاص يختصون بهذا الشأن.

المتضررون من هذه الهيمنة كثر، ورغم أن الأصوات التي ارتفعت في منتصف العقد الأول من الألفية الجديدة قادت إلى إصدار مرسوم القانون رقم 8 والذي حاول تصحيح منظومة وآليات العمل من أجل انتشال المنظمة من المستنقع الذي دخلته، إلا أن تطبيق هذا المرسوم (على علّاته) واجه صعوبات كبيرة بسبب الفساد (المتجذر) في أروقة عمل هذه المنظمة وفروعها.  

لماذا شكلت وزارة الرياضة حلماً؟

يجيب المحامي وحيد عرفات (نجل الشهيد مروان عرفات، والذي تولى منصب رئاسة الاتحاد السوري لكرة القدم في تسعينيات القرن الماضي): “الدافع الأساسي للمطالبة والحلم بوجود وزارة للرياضة في سورية بالنسبة لكثيرين من العاملين في الحقل الرياضي يعود إلى الإحساس التام بالفشل الذي عاشته الرياضة السورية خلال العقدين الماضيين، حيث كان جلياً أن منظمة الاتحاد الرياضي العام قد تجاوزت فترة صلاحيتها، وباتت عاجزة عن مواكبة وإدارة وتلبية احتياجات الرياضة السورية، ومواكبة التغييرات التي تعيشها الرياضة على مستوى العالم بشكل عام. وهو ما أدى إلى ظهور أصوات كثيرة تنادي بإنشاء وزارة للرياضة أو حتى هيئة عامة للرياضة والشباب، بهدف الخروج من الشكل الإداري والتنظيمي للاتحاد الرياضي العام”.

على مر عقود أصبحت منظمة الاتحاد الرياضي العام مكاناً لكثيرين من العاطلين من العمل والفاسدين وأصحاب الواسطات، وهو ما زاد في ترهل المنظمة على المستويين الإداري والمهني، خاصة مع إبعاد أهل الاختصاص والخبرات والشهادات عن المناصب والمراكز الحساسة، إضافة إلى التسلط الكبير على عمل الأندية والاتحادات الرياضية، مع “تخوين” أي محاولة للشكوى أو التذمر بحجة “الاستقواء بالخارج”.

ويقول عرفات “كان هناك تحفظ كبير لدى الأندية الرياضية والعاملين في القطاع الرياضي عموماً بشأن تدخل القيادة القُطرية لحزب البعث العربي الاشتراكي بجزء كبير من قرارات الاتحاد الرياضي العام.. وتجسد هذا التدخل من خلال تشكيل إدارات الأندية الرياضية من فروع الحزب في المحافظات، بشكل معلن أو غير معلن وذلك عبر المكتب المختص بالمنظمات الشعبية في القيادة القطرية للحزب”. وقد شكل هذا التدخل عائقاً كبيراً أمام استقلالية وحرية العمل داخل الأندية، التي كانت مجالس إداراتها مهدّدة دوماً بالانهيار في أي لحظة بمجرد تقديم الأعضاء الحزبيين فيها استقالاتهم، علماً أن القوانين الرياضية في سورية تفرض ألا تقل نسبة الأعضاء الحزبيين في مجالس إدارات الأندية عن 51%.

تحديات أمام الوزارة

سيجد الوريث الجديد لمنظمة الاتحاد الرياضي العام على طاولته تركة ثقيلة، هي نتاج عمل إداري وتنظيمي ومالي فاشل عمره عشرات السنين، فالفساد الحاصل والمتراكم والذي أصاب مختلف مفاصل العمل الرياضي في سورية خلال فترة النظام البائد كفيل بتأخير وتعطيل أي توجه أو خطط استراتيجية للنهوض بالرياضة السورية، كما يقول وحيد عرفات، ويضيف: “كان الانحدار في المنحنى البياني للرياضة السورية واضحاً للجميع واقتصرت الإشراقات على مواهب وإبداعات فردية بين الحين والآخر.. في حين وصلت المنشآت الرياضية إلى حالة مزرية للغاية لا تتلاءم مع أي معايير لاستضافة الأحداث والمباريات الرياضية الدولية… وهو ما يضع الوزارة الجديدة أمام تحديات كبرى تحتاج إلى فرق عمل متكاملة من الخبراء وأصحاب الرؤية الاستراتيجية والفكر الرياضي السليم لبناء هيكل تنظيمي يتناسب مع احتياجات الرياضة السورية والآمال العريضة للشارع الرياضي، ولعل من بين أبرز هذه التحديات تحديث وتغيير أنظمة وقوانين كثيرة أعتقد أنها ستكون مفصلاً مهماً للانطلاق نحو عهد جديد للرياضة السورية”.  

لكن وبما أن “اليد الواحدة لا تصفق وحدها”، فإن التعامل مع هذه التحديات والنجاح في تذليل الصعاب مترافق مع التوجه الجديد للحكومة المؤقتة ومدى الاهتمام والدعم الذي ستقدمه لقطاع الرياضة والشباب، سواء كان الأمر يتعلق بالرياضة الجماهيرية وتوسع القاعدة أفقياً أم عمودياً نحو رياضة احترافية، ونحو إشراك القطاع الخاص بعملية البناء، فمن دون هذا الدعم (العام والخاص والمشترك)، ستتم إعادة النموذج السابق الذي لم يشهد تقديم أي دعم يذكر للأندية الرياضية في سورية، علماً أن هذه الأندية تعد (عماد) البناء والتطوير واكتشاف المواهب ورفد المنتخبات الوطنية، مع الإشارة إلى أن الوضع المالي للأندية السورية يبدو في حالة يرثى لها حالياً بشكل يعرقل إقامة الأنشطة الرياضية ولو بالحد الأدنى، بما في ذلك أندية الهيئات (الجيش والشرطة والمحافظة وأندية النقابات)، التي تدخل حقبة جديدة من تاريخها.

العلاقة بين وزارة الرياضة واللجنة الأولمبية

إحدى المسائل العالقة والشائكة كانت ازدواجية المهام التي كانت توحد منصب رأس الهرم الرياضي ورئاسة اللجنة الأولمبية السورية، إذ شهدت دول كثيرة نماذج وحالات أسقطت الأنظمة الرياضية، وأدت إلى أخطاء ومشاكل وتبعات وصلت إلى حدود تجميد النشاط الرياضي وحظر المشاركات الخارجية بسبب ما اعتبر تدخلاً حكومياً وسياسياً في عمل المؤسسات والاتحادات الرياضية المحلية. 

وفي هذا السياق، يقول المحامي وحيد عرفات: “لن يكون من المقبول الوقوع في مثل هذه الأخطاء، لأن تبعات هذا الأمر باتت معروفة للجميع، وبالتالي فإن الفصل التام بين الأدوار، والتوصيف الوظيفي الصحيح لكل جهة سواء كانت وزارة للرياضة أو لجنة أولمبية، هو خطوة أساسية لمعرفة الأطر والحدود التي يمكن لكل جهة العمل فيها من أجل تجنب أي مشاكل قد تكون لها انعكاسات داخلية أو خارجية على مستوى الرياضة السورية”.

من نافل القول إن اللجنة الأولمبية ستكون معنية بالمشاركات الخارجية للمنتخبات الوطنية وبشؤون اتحادات الألعاب وصلت إليها وعلاقتها مع الاتحادات القارية والدولية واللجنة الأولمبية الدولية، في حين ستكون الوزارة معنية بالشؤون الداخلية للأندية وإعادة تأهيل المنشآت وتلبية احتياجات الرياضة ورسم خططها على مستويات قصيرة ومتوسطة وطويلة الأمد، من دون أي تداخل حقيقي بين الطرفين.. لذا، من الضروري عدم وجود ازدواجية في المهام بين رئيس اللجنة الأولمبية السورية ووزير الرياضة (كما كان عليه الأمر في عهد المنظومة السابقة)، فبالمحصلة ستضيّع هذه الازدواجية جهود مؤسسة أخرى.

الصلاحيات والتدخلية

من أهم الأمور التي يجب على الوزارة الجديدة التنبه إليها، مسألة ممارسة صلاحياتها وتدخليتها، لا سيما في عمل الاتحادات والأندية، أي عدم تغول القرار السياسي على الرياضي كما كان عليه الحال في السابق، ولا شك أن التدخل الكبير في لسلطة الاتحاد الرياضي العام في عمل الاتحادات، لا سيما فيما يخص الانتخابات والميزانية، جلب على الرياضة السورية الكثير من المتاعب على المستويين القاري والدولي، والأمثلة كثيرة في اتحاد كرة القدم، الذي تدخلت المنظمة في حله والتوجيه بانتخاب شخصيات محددة، ما عرّض نشاط كرة القدم في البلاد لخطر التجميد أكثر من مرة.

وعلى العكس، يجب أن تعمل الوزارة أن تؤمن أكبر قدر من الاستقلالية لعمل الاتحادات والأندية، وفيما يخص الأندية، فإن استقلاليتها المالية (على سبيل المثال)، بما في ذلك تخصيص الملاعب والصالات لها، سيكون من شأنها تذليل الصعوبات في مشاركتها بالمسابقات القارية، التي تعاني الأندية السورية من حرمان المشاركة فيها، لمثل هذه الأسباب وغيرها.

أول وزير للرياضة والشباب

تردّد أن تشكيل وزارة للرياضة كان قراراً قد اتخذ في الساعات أو الأيام القليلة التي سبقت الإعلان عن تشكيل الحكومة المؤقتة، والتي كان من المفترض أن تضم حسب بعض التسريبات 22 حقيبة وزارية، قبل أن يرتفع العدد في أمسية السبت، 30 مارس/ آذار 2025، إلى 23 حقيبة بإضافة وزارة الرياضة والشباب. وهذا ما يفسر لكثيرين تسمية محمد سامح الحامض وزيراً للرياضة والشباب كأول من يشغل هذا المنصب في سورية، إذ يعتقد أن الوقت الضيق الذي سبق اتخاذ هذا القرار لم يسمح بالمفاضلة بينه وبين أسماء أخرى تمتلك سيرة ذاتية أفضل كان يمكنها أن تشغل هذا المنصب.

ولعل نظرة سريعة إلى سيرة الرجل، في صفحة الاتحاد الرياضي العام، وتم تداولها عبر وسائل التواصل الاجتماعي للاعب كرة السلة السابق محمد سامح الحامض، وهو من مواليد 1976، تفيد بتجاهل ذكر الشهادة العلمية بشكل واضح، والتركيز على امتلاكه شهادة تحكيم سلوية لمنافسات الدرجتين الثانية والثالثة، وشهادة انتساب لتدريب كرة السلة، إضافة إلى توليه رئاسة الاتحاد الرياضي العام في 2024 (حقيقة الأمر أنه تسلم منصبه بعد سقوط النظام بمائة يوم تقريباً).. كما تفيد سيرته الذاتية بأنه تولى رئاسة نادي كفرتخاريم (من ريف إدلب)، ما بين عامي 2008 و2011، وناد يدعى النخبة (لم أسمع به أو بمشاركاته في البطولات)، بين عامي 2018 و2021.

العربي الجديد

—————————

هل لأدب السجون من وظيفة سوى البوح؟/ حسن يوسف فخور

15 ابريل 2025

 لم يقرأ صديقي العشريني أكثر من الغلاف قبل أن تلتف القبضة الأمنية حول خصره النحيل، وتصادر حريته. “القوقعة… يوميات متلصص” لمصطفى خليفة من الروايات السورية المحرّمة التي غيّبت العديد من السوريين في أقبية المعتقلات، فما هو دور أدب السجون حتى تستنفر أجهزة استخبارات الأنظمة القمعية لأجله؟

عادةً ما يعرّف أدب السجون بأنه نوعٌ أدبي يحاكي مرحلة الاعتقال وآثارها النفسية على الإنسان، لكن الروائي والطبيب راتب شعبو يميّزه بنوعين يحملان عناصر جيدة لبناء الوعي: “إنساني يتناول السجن بوصفه تجربةً إنسانية، لا يختلف كثيراً عن الأدب عموماً إلا من حيث الموضوع”، وآخرٌ “سياسي يهدف إلى التحريض المباشر ضد السلطة”، ويرفض صاحب رواية “ماذا وراء هذه الجدران” استخدام تعبير “ناشط ثوري” لاعتقاده بأنه “يخضع للتشويه”، ويراه “ستاراً للنشاط المحافظ والمدافع عن القمع والسلطات وليس عن المحكومين”، ويؤمن شعبو بأهمية أن يكون الناشط “نقدياً”، فالأدب باعتقاده “ينمي النقد عند القارئ، لكنه لا يكفي، فلا بد لأي ثوري من الوعي بالتاريخ وبالفكر الحديث”.

من الطبيعي أن يسهم أدب السجون في “تنشيط وعي قارئه، لا سيّما صاحب الحس أو الفكر الثوري” لأنه ووفق قراءة الأديب عبد الله نفّاخ “بتعرية الواقع وكشف الحقيقة ورصد آلام المعذبين يصنع دافعاً كبيراً عند قارئه لتفعيل دوره الإنساني أولاً والثوري ثانياً”، ويستشهد صاحب رواية “على ضفة العدم” بالتنظيمات اليسارية التي كانت “تسارع إلى تشجيع المنضمّين إليها على قراءة رواية “الأم” لمكسيم غوركي، فهي وإن لم تصنّف ضمن أدب السجون، فإنّها من وجهة نظره كقاص “بما فيها من عذاب ومعاناة انتهت بوفاة الأم المناضلة أو اعتقالها محفزةٌ لقارئيها ولا سيما أصحاب الاتجاه الحركي الثوري”، ويشترط نفّاخ نجاح دور الأدب بالعلاقة المتبادلة بين الأدب والمتلقي؛ إذ “لا يمكن أن يحرّك أدبٌ ثوري عالٍ قارئاً سطحياً أو بليد المشاعر والفكر، كما لا يمكن لأدب بعيد عن الثورية كالأدب الكلاسيكي الصوفي مثلاً، أن يهيج ثورياً القارئ مهما حمل في نفسه من مشاعر أو مبادئ ثورية”، ويؤكّد قدرة الأدب وحده على بناء القادة الثوريين وصنع المعجزات، مدللاً بالثورة البلشفية التي لم تكن لتقوم في روسيا “لو لم تغذِّ أرواح أبناء تلك البلاد أعمال كتّاب عظام سلطوا الضوء على المعاني الإنسانية والمعاناة من حولهم كتشيخوف وتولستوي”.

تعتقد القاصة سلوى زكزك أنّ أدب السجون “لا يستطيع تأسيس قادة ثوريين، لكنه يسهم بذلك من خلال حكاياته، فالناس تنظر إلى السجناء كأبطالٍ وتتعامل معهم برومانسيةٍ عالية، فيأخذ بعضهم صفات كبيرة قد تصل للتقديس عند الناس؛ تبعاً للاعتقاد الشعبي بأنّ السجن للرجال أصحاب القضايا الكبيرة، خاصةً السجن السياسي، وبالتالي تضفي عليهم هالةً كبيرة، ومن خلال قراءة أدب السجون تدرك أن هذه النماذج تشحنك، فتصبح تتعامل معهم على أنهم أبطال كونهم تحملوا قسوة السجون”، وبالرغم من أنّ السجن “عالمٌ من الضغط والتوتر”، لكن صاحبة المجموعة القصصية “ما تبقى من حياة” تنظر إليه من زاوية أخرى، فتراه “مواجهةً مع الذات، فالسجناء يواجهون ذواتهم، ومن الممكن أن يكتبوا ويخرجوا أفضل ما لديهم، يؤلفون كتب، أو يقولون أقوالاً تصبح حكماً، سرديتهم الشخصية، خبرتهم أقوالهم والمحصلة الكتابية والمعرفية التي يقولونها مهمةٌ جداً”، وبالرغم من إيمانها بأهمية الأدب وتأثيره. تؤكد “ناطورة حكايا السوريين” بأنّ “الأدب وحده لا يكفي لإيصال القضايا، ولا لبناء قادة ثوريين، فالأدب قراءةٌ شخصيةٌ يخلق حماساً شخصياً، ويؤثر كثيراً على وعي الأفراد، فيسهم بتشكيل وعي ثوري، وصقل جوانب من الشخصيات الثورية، لكنه لا يكفي أبداً، فنحن لا نملك فضاءاتٍ لقراءة الأدب بشكل جماعي”.

يرى القاص والسيناريست السوري ممدوح حمادة أنّ أدب السجون “يشكّل مادةً تحريضيةً بامتياز، تساهم بشكل كبير في تثبيت قناعات الناشط الثوري كما يقدم في طياته تجارب غنيةً ومادةً وثائقيةً عن الحياة داخل السجون تشكل عناصر ملهمةً لهذا الناشط”، ويختصر الحديث بالقول “لا يختلف اثنان بأنّ لهذا النوع من الأدب دورٌ كبيرٌ في تشكّل الوعي الثوري عموماً فما بالك لدى النشطاء”، ولا يعتقد حمادة أنّ “أدب السجون أو أي نوع من الأدب يكفي وحده لإشعال القضايا وبناء القادة الثوريين”، مؤكداً “ضرورة توافر العوامل الذاتية والموضوعية التي يشكل فيها الأدب جزءاً من الصورة وعاملاً مهماً من هذه العوامل. ويقول “للأدب وظائف كثيرة في هذا المجال، مثل: التحريض، وتعرية السلطة، والتوثيق، ونشر الوعي، وهذا أمرٌ في غاية الأهمية، لكنه لا يكفي بمفرده لإنتاج قادة ثوريين”، فهناك تفاصيل أخرى كثيرة إلى جانب الأدب يجب أن تتوفر لكي يتم ذلك برؤيته مثل: “الوعي السياسي، ومعرفة الواقع بعمق، والقدرة على التحليل والاستنتاج التي يصل إليها الفرد عبر التجربة والخبرة العملية”.

يغرّد الباحث علي إسبر خارج السرب، ويناقش المصطلح معتقداً أنَّه “يحتاج إلى تحديد، ولا يمكن ذلك إلا على أساس فهم نشأته التَّاريخيّة، إذ تُركِّز الدّراسات الغربيّة عن أدب السجون على أنَّ ظهور الشكل الأول لهذا النّوع من الأدب كان مع الفيلسوف الروماني بوثيوس الذي كان من فلاسفة الأفلاطونيّة الحديثة، فقد قام في العام 524 م من داخل سجنه وقبل إعدامه بتأليف كتاب أسماه “عزاء الفلسفة”، ويرجع ذلك إلى القبض عليه بناءً على أمر من ملك الجرمانيين الشرقيين ثيودوريك، للاشتباه في حياكته مؤامرة مع الإمبراطور البيزنطي الشرقيّ. جاء الكتاب بصيغة أدبيّة رائعة على هيئة حوار بين المؤلِّف والفلسفة التي تجسّدت معه في سجنه من أجل تعزيته وتعليمه. ولا نجد في تاريخ الثقافة الأوروبيَّة عملاً أدبيّاً يناظر عمل بوثيوس إلى مرحلة الحرب العالميَّة الثانيّة، حيث بدأ فعلًا ظهور تيار حقيقيّ يمثل أدب السجون، فمثلًا تناول القاصّ الألمانيّ فولفغانغ بورشرت مرحلة سجنه في عهد النازية بتهمة تقويض الرُّوح المعنوية العسكريّة في عديد من القصص القصيرة وفي قصته “زهرة الكلب” التي كتبها بين عامي 1946 و1947، كما نجد في مقابل الأدب الناجم عن القمع في السجون النَّازيّة أدبًا آخر ظهر بسبب القمع في السجون السوفياتية في الحقبة الستالينيَّة، فمثلاً صوَّر الكاتب الروسي ألكسندر سولجينتسين تجاربه في معسكرات العمل السوفييتية من عام 1945 إلى عام 1953 في قصة “يوم واحد في حياة إيفان دينيسوفيتش”، ثم توالت ظاهرة أدب السجون وانتقلت إلى الثقافة العربيّة، ونجد في هذا الاتِّجاه تجارب رائعة أصيلة في الأدب الفلسطينيّ الذي كُتب في سجون الاحتلال الإسرائيليّ”.

يثير أستاذ الفلسفة في كلية الآداب بجامعة دمشق الانتباه إلى أمر يعتقد وجوبه، “أن نميّز بين سجين يتحوَّل إلى كاتب وهذا هو المهم، وبين من يكتب عن السجن وهو لم يذق مرارة التجربة، وهذا معيار عالميّ في التمييز”. ويوضح أنَّ “أدب السجن في التَّراث العربيّ يفوق من حيث عمقه وكشوفه وعوالمه أدب السجون في التراث الغربيّ، ويمكن أن نحصل على هذا النوع من الأدب من كتب التَّواريخ والسِّير والأعلام أو التراجم في التراث العربيّ، أهمها ما خصص له عبود الشالجيّ الجزء الثالث من “موسوعة العذاب” لعرض أدبيات السجون في التراث العربيّ”. أمَّا بالنسبة إلى إسهام أدب السجون في تكوين الوعي الاجتماعيّ والسياسيّ للنُّشطاء الثوريين، يرى مؤلف كتاب “التحليل الأنطولوجي للعدم”، أنّه أمر “يتوقف على عمق هذا الأدب أهمها “دفاتر السجن”، للإيطالي أنطونيو غرامشي. ولا شك في أنَّ هذا النوع من الكتابة يُحدْث تأثيراً كبيراً في القرَّاء من ذوي الاتجاهات الإيديولوجيّة القريبة من اتجاه غرامشيّ أو في غيرهم من تتوفر فيهم القابليَّة للتأثُّر، أما إذا كان نوع الأدب المكتوب في السجن قائماً على سرد انطباعات ذاتيّة أو معاناة شخصيَّة فلا أُرجِّح أن يكون ذا تأثير، هذا، ورغم أنَّ ما كتبه غرامشيّ لا يتصل بوصف سجنه ومعاناته فيه على نحو مباشر، إلا أنَّ عمقه الحقيقيّ منبثق من تجربته في السجن”.

لا يؤمن علي إسبر بأنّ الأدب وحده قادرٌ على تكوين الوعي، إذ يراه “في هذا المقام محدوداً كمّاً وكيفاً، أي متصلاً بشخص أو مجموعة أشخاص يطالعون أدب السجون، وهذا الأدب نفسه متصل برؤى كاتبيه ومواقفهم الإيديولوجيّة، ولذلك لا يمكن الركون إلى تجارب فرديّة لتعميمها لتصلح معايير عامَّة للنَّاس، إذ لا يمكن تأسيس وعي مشترك إلا بوساطة عمليّة تربويّة كبرى، وإذا تركنا أدب السجون جانباً لنتحدث عن الدعوة الفكريّة إلى تغيير العالم بوساطة الثورة نجد مثلاً عنها ليس بعيداً، حركة 1968 فقد كان لكتابات هربرت ماركوز تأثير كبير في الحركة الطلابية في أوروبا والخارج، إذ كانت هذه الحركة تقوم على هدم القناعات الإيديولوجية، واليقينيات العلمية، والواجبات المدنية والفضائل، لكن لم يُقيّض لها النجاح، وكان هربرت ماركوز نفسه صاحب هذه الدعوة يعمل كمستشار للاستخبارات الأميركيّة، وقام بإعداد تحليلات للتكوين النفسي والأيديولوجي للجماعة النَّازيّة، من هنا أنا لا أوافق على فكرة القائد الثوريّ أو المنظِّر الثوريّ، بل يجب أن نبحث عن الشَّعب الثوريّ والوصول إلى هذه البغية لا يكون إلا بوجود شعب متجانس ومتِّحد بأطيافه كلِّها لصناعة مستقبله”.

لسنا الوحيدين

على امتداد العالم وعلى امتداد التاريخ كان أدب السجن وسيلة من وسائل المقاومة، ففي النهاية، حين يكتب إنسان عن تجربة سجنه، مهما كانت درجة الألم والقسوة التي فيه، فهو يقول: ما زال فيَّ نبض حياة، ما زال هناك أمل، هذه صرخة ضد اليأس.

كتب هنري شاريير روايته الأيقونية “الفراشة” حين كان في سجن جزيرة الشيطان، وكتب أنطونيو غرامشي “رسائل من السجن” والتي لم يكن مركزها آلام السجن، بل تضمّنت رؤاه وأفكاره السياسية والفلسفية وتصوره لمستقبل بلده ومستقبل العالم، وحين كتب جورج جاكسون “رسائل من زنزانة الموت” لم يكن يريد الحديث عن جدران الزنزانة، بل عن العنصرية في المجتمع الأميركي.

فيكتور هيغو في “أدب السجون” كتب عن تجربة لم يعشها، ولكنه كتب عن الظلم في المجتمع الفرنسي، من خلال حكايات السجن.

التجربة الخاصة التي علينا تذكّرها بإجلال في هذا السياق هي تجربة المعلم الكبير ديستويفسكي، والذي سجن عشر سنوات في أقسى سجون العالم في سيبيريا، وخلالها كتب “ذكريات في بيت الموتى” وهي تجربته في السجن، ويعدها النقاد من أهم الأعمال التي قدّمت نظرة عميقة للنفس البشرية، عند مواجهتها لهذه التجربة النادرة. كما كان كتاب “رسائل من السجن” دليلاً لأفكار ديستويفسكي وتأملاته في الحياة والموت والأمل، وهي الرسائل التي أرسلها لأخيه ميخائيل أثناء السجن.

الكتاب الأعظم الذي كتب بهديٍ من التجربة هو “الجريمة والعقاب” الرغم من أن هذه الرواية لم تُكتب بالكامل في السجن، إلا أن تجربته في السجن أثرت بشكل كبير على موضوعاتها وشخصياتها.

العربي الجديد

—————————————-

الكمّون السوري… ذات المطابخ معركةً ودرساً/ آلاء عامر

15 ابريل 2025

كأنّما لا يمتلك السوريون ما يكفي من أسباب الانقسام، ليحوّلوا مطابخهم إلى ساحة أخرى للشجار؛ حمص وحماة وحلاوة الجبن، منسف درعا ومنسف السويداء، وكمّون دمشق.

شهدت مواقع التواصل الاجتماعي، قبل سنوات، واحدة من أشهر المعارك السورية، إذ اشتعلت حرب ضروس بين المطبخ الدمشقي والمطبخ الحلبي، وكانت المساحة الافتراضية مملوءة برائحة الكمّون الذي استُخدم ليس بهاراً فحسب، بل أداة لتحديد الهوية الثقافية لكل مدينة، فبينما الدمشقيات أكّدن ضرورةَ إضافة الكمّون إلى المحاشي باعتباره اللمسة السحرية التي تضفي على الأطباق نكهة مميّزة، كانت المحاشي الحلبية تفخر بنقائها من رائحة ذلك البهار العطري الأصفر، مؤكدة أن الدمشقيات يُضفن الكمون إلى المحاشي كي يُخفين افتقارها إلى اللحم. … وبعد اشتداد المعركة، دخلت حمص وحماه إلى ساحة الاشتباك، ليشكر الجميع الله أن حلاوة الجبن لا تُصنع في دمشق، وإلّا لرشّ الدمشقيون عليها الكمّون أسوةً بما فعلوه في المحاشي.

ليس مُستغرباً أن تكون مشاجرات السوريين على مواقع التواصل منكّهةً برائحة الكمّون، إذ يُعتقد أن سورية هي الموطن الأصلي لنبتة الكمّون، فقد عُثر على بذور الكمّون في أحد المواقع الأثرية في تل الدير صوان في سورية، ويُعتقد أن المزارعين السوريين خبأوا هذه البذور قبل ألفي عام قبل الميلاد، ومنذ ذلك الحين وتُربة سورية مناسبة لزراعة الكمّون.

وكما وجد السوريون أن “البرد هو سبب كلّ علّة” وجدوا أيضاً أن “الكمّون دواء لكلّ علّة”؛ إذ إنّ السوريين هم الشعب الوحيد الذي صنع أكياس شاي تحتوي على كمّون وليمون، المشروب الذي يُعتبر بدعةً لم يجرؤ العقل التركي أو الأوروبي أو الأميركي على تجريبها، تحوّل إلى أكياس شاي تقدّم في أرقى المقاهي والفنادق، ويبدو أنهم، أقصدُ السوريين، قد استمدوا هذه الخبرة الطبية من نصائح أطباء الإغريق الأوائل، إذ أكّد أبقراط و ديسقوريدس فوائدَ نبتة الكمّون الكثيرة، ودورَها في تخفيف الالتهابات وتقوية المناعة وتحسين عملية الهضم، أَلَم أقل لكم إن الكمّون “دواء لكل علّة لك يابي”؟

وخلال سنوات سورية العجاف ردَّ الكمّونُ المعروفَ للسوريين، إذ كان سنداً للمزارعين في الشمال الذين استبدلوا زراعة الكثير من المحاصيل التي تحتاج إلى ظروف زراعة نموذجية كالري والسماد والمبيدات الحشرية بزراعة الكمون؛ النبتة المربحة القادرة على التكيّف مع الجفاف إذ لا يحتاج الكمّون إلى الري.

تَصفُ بقيةُ المحافظاتِ الدمشقيينَ بأنهم حريصون، ولا يحبّون التبذير أو أنهم “أبو كمّونة”، ويُستخدم وصف ” أبو كمّونة” للإشارة إلى الشخص الحريص، أو حتى في بعض الأحيان البخيل، وخلال البحث عن علاقة أبو الكمّون بالبخل أوصلني “غوغل” إلى الشاعر العباسي بشَّار بن بُرْد الذي هجا الشاعر حمَّاد عجرد لأنه أخلف وعده، وقال فيه:

“إذا جِئْتَهُ يوماً أَحَالَ على غَدٍ.. كما وُعدَ الكَمُّونُ ما ليسَ يَصْدُقُ”

“وَعَدْتَ فلم تَصْدُقْ وَقُلْتَ: غداً غداً..  كما وُعدَ الكَمُّونُ شِرْبَاً مُؤَخَّراً”

شبّه الشاعرُ بشّار الشاعرَ حمّاد بأنه صاحب مزرعة كمّون “أبو كمونة” لا يروي الكمّون من بخله، رغم أنه يقدّم للكمّون وعوداً كثيرة. إذاً، ليست المشكلة في الكمّون نفسه بل في صاحبه أي في “أبو كمّونة”، ويبدو أنه من هنا جاء المثل الشعبي “على الوعد يا كمّون”. وعن هذا المثل، يقول التراث الشعبي إن الكمّون اعترض على إهمال المزارعين له، وطالبهم بالاهتمام به وريّه أسوةً ببقية النباتات، لكن الفلاحين كانوا يَعِدونه بالسقي ثم ينكثون وعودهم، ولذلك بقي الكمّون يعيش على الوعود.

وتُعيد بعض التفسيرات سبب استخدام مصطلح ” أبو كمّونة” لوصف البخيل إلى أن الكمّون هو بهار عطري قوي، وصاحب نكهة لاذعة، ولذلك لا بدّ من استخدامه بحذر لأن التفريط في رشّه قد يفسد نكهة الطعام.

بعد سقوط نظام الأسد وبداية مرحلة جديدة في تاريخ سورية، لا يزال الكمّون قادراً على تفرقة السوريين وعلى تصفير ساعاتهم، لتتحوّل المساحات الافتراضية الزرقاء من مكان للحوار إلى ساحة معركة فيسبوكية، تشتعل من أجل اختلاف على أبسط تفاصيل الهوية والثقافة السورية، تماماً مثل الاختلاف الشامي الحلبي حول طبخة محشي، أو الحموي الحمصي بشأن براءة اختراع حلاوة الجبن، واليوم بات السوريون يختلفون على اسم دولتهم وطريقة حُكمها وتاريخ ثورتهم. لكن “الكمّون” كما أشعل وقودَ اختلافاتنا التي تسترت حينها تحت غطاء الطعام كان سنداً أصيلاً للمزارع السوري، إذ كان الكمّون كفؤاً ولبى الفزعة عندما لجأ الفلاحون في إدلب إلى زراعته خياراً اقتصادياً بديلاً، سعياً وراء عوائد مالية أكبر مقارنة بالمحاصيل التقليدية مثل القمح والشعير، إذ سجلت زراعة الكمّون في إدلب أرقاماً قياسية، بعد أن وصلت المساحة المزروعة إلى حوالى 4350 هكتاراً في إدلب وأريافها العام الماضي حسب مديرية الزراعة في حكومة الإنقاذ. إذاً؛ “الكمّون” الذي اختلف السوريون في شأنه، كان العامل الذي أنقذ محاصيلنا الزراعية، لأنه محصولٌ أصيلٌ يحمل الجينات السورية، واليوم أكثر من أي وقت مضى فإنّ السوريين بحاجة إلى الاقتداء بالكمّون، أي إلى تحييد اختلافاتنا، وتلبية نداء “الفزعة” لسورية التي تحتاج اليوم أكثر من أي وقت مضى جميعَ أبنائها وبناتها.

العربي الجديد

———————-

 السوري مبارِكاً لصديقه بالمنصب الجديد/ عمر قدور

الثلاثاء 2025/04/15

تتوالى التعيينات في سوريا على مختلف المستويات الحكومية والإدارية، وصارت معتادةً رؤية المباركات للمسؤولين الجدد على وسائل التواصل الاجتماعي، من قبَل أصدقاء لهم، أو من قبَل محتفلين بالتغيير عموماً. يلفت الاهتمام في هذه الظاهرة أن هناك اتفاقاً عاماً على فكرة المباركة للشخص المعني، وعلى نحو يجدد النظرة المعتادة إلى المنصب بوصفه امتيازاً أو مغنماً، لا بوصفه مسؤولية يتحمّلها شاغله. بالطبع ثمة فرق بين التهنئة لمسؤول بالتعيين والتهنئة لفائز بالانتخابات، فالمباركة للثاني هي تهنئة له على نيله الثقة، سواءً نالها شخصياً أو بفوز حزبه في الانتخابات.

في وضع سوريا الكارثي، قد يكون الأنسب أن يتمنى السوري لصديقه التوفيق والنجاح في تحمّل مسؤولية منصبه، وهو ما ينسجم أيضاً مع صدور الحفاوة من الذين ينسبون أنفسهم إلى الثورة على العهد البائد. على هذا الصعيد، لا يخفى أن جزءاً من الحفاوة مصدره التشفّي بمسؤولي ذلك العهد وهم يُبعدون عن مناصبهم في الحقبة الجديدة، لكن المؤسف ألا ينتبه المحتفلون بالتغيير إلى ضرورة تغيير ما في نفوسهم أيضاً وطريقة تعاطيهم مع السلطة.

لا شك في وجود ميل سائد إلى إقصاء المسؤولين المعيّنين في مختلف الإدارات، المتوسطة وحتى الدنيا، وهو ما يحدث حقاً من دون توقف عند أهمية المنصب وشاغله في العهد البائد، ومن المتوقع أن تمضي قدُماً عملية الإحلال خلال السنوات الخمس الانتقالية المنصوص عليها في الإعلان الدستوري. وقد صار واضحاً أن ذلك ينطبق على النقابات، إذ تصدر على التوالي قرارات بحل مجالسها أو مكاتبها التنفيذية، وتعيين قيادات بديلة، ويُنظر إلى التعيينات كأنها من طبائع الأمور.

يهمنا في هذا السياق التوقّف تحديداً عند الاستحواذ على مجالس النقابات، وآخرها تعيين مجلس لتسيير أعمال “اتحاد الكتّاب العرب”، بقرار صادر عن “الأمانة العامة للشؤون السياسية” أُعلن عنه قبل أسبوع. القرار صدر عن هيئة تمّ تشكيلها بعد الإعلان الدستوري، وغير منصوص عليها فيه، ويُنظر إليها كبديل للدور الذي كان يقوم به حزب البعث عندما كان بموجب الدستور “قائد الدولة والمجتمع”. الهيئة تتبع وزارة الخارجية، بينما تنشط في الداخل السوري، ويبدو أن صلاحياتها تعلو على صلاحيات الوزارات الأخرى، فالقرار الخاص بتعيين مجلس لاتحاد الكتاب كان يُفترض صدوره عن وزارة الثقافة.

يعلم السوريون أن المكاتب والمجالس التنفيذية لكافة النقابات كانت معيَّنة بقرار من السلطة السابقة، وتغييرها (بتعيين مجالس ومكاتب مؤقتة) ليس موضع خلاف من حيث المبدأ. لكن ما ينتقص من إزاحة مجالس سابقة (غير منتخبة باقتراع حقيقي) هو عدم وجود ما ينبئ باتخاذ مسار ديموقراطي يطوي تلك الصفحة، ففي قرار تشكيل مجلس تسيير أعمال اتحاد الكتاب هناك أربع فقرات لا تنص ولا واحدة منها على أن مهمة هذا المجلس هي التحضير لانتخابات ضمن مهلة محددة ومنطقية لا أكثر. بل إن القرار يخلو تماماً من الإشارة إلى انتهاء مهمة المجلس الجديد بانتخاب مجلس جديد، وهي المهمة التي يُفترض أن تكون أساس عمله.

واقعياً، لا يستلزم إجراء انتخابات لاتحاد الكتاب وقتاً طويلاً، فخلال ستة شهور مثلاً يمكن النظر في وجود منتسبين لا يحققون شروط العضوية، ودعوة الكتّاب المقاطعين لأسباب سياسية كي ينتسب منهم مَن يشاء، ثم تُجرى الانتخابات في المحافظات وصولاً إلى انتخاب المكتب المركزي. ما يصحّ على اتحاد الكتاب ينطبق بسهولة أكبر على معظم النقابات المهنية الأخرى، إذ يندر أن يكون هناك أعضاء مشكوك في صحة عضويتهم في نقابات مثل المحامين والصيادلة والأطباء والمهندسين والمعلمين… إلخ. وإجراء انتخابات في هذه النقابات جميعاً لا يتطلب وقتاً طويلاً، أو إجراءات لوجستية غير متاحة.

نجزم إلى حد كبير بأن إجراء انتخابات نقابية ممكن بحلول نهاية هذا العام، إذا وُجِدت الرغبة في إجرائها، ومن المستحسن بالتأكيد عدم الوصول إلى قناعة بانتفاء وجود نية لدى الحكم لإجرائها بموجب القواعد الديموقراطية المعروفة. أما إذا لم تكن النية متوفّرة فالأولى بأعضاء النقابات السعي إلى امتلاك زمام نقاباتها بأنفسهم، فلا يعوّلوا بالمطلق على حسن نوايا السلطة. ما نعنيه بهذا هي السلطة الحالية، وأية سلطة أخرى في مكانها أو حتى بالمعنى المطلق للسلطة، إذ من طبع السلطات جميعاً أن تحاول الهيمنة إذا لم تجد ممانعة من المجتمع، وهو ما يحدث أحياناً حتى في بلدان ذات تجربة ديموقراطية.

كان الأولى أصلاً بكل الذين قبِلوا استلام مهمات نقابية أن يشترطوا كونها مؤقتة بمهلة محدودة، وبمهمة واضحة هي إجراء انتخابات ديموقراطية، وأن يتعهّدوا على نحو لا لبس فيه بالتنحّي في حال لم يلتزموا بوعودهم؛ متضمنةً الالتزام بالمهل كي لا يصبح التنصّل منها سبيلاً للتنصّل من الاستحقاق الديموقراطي. والتشديد على واجب الالتزام بالذهاب إلى صناديق الاقتراع يكتسب أهمية استثنائية في سوريا؛ أولاً لأنه يأتي بعد ثورة طالبت عندما انطلقت بالحريات الديموقراطية، وثانياً لأن الإعلان الدستوري نصّ على مرحلة انتقالية من خمس سنوات، لن تكون هناك فيها أدوات رقابة سياسية منفصلة عن الحكم نفسه. إن تفعيل حيوية نقابية حقيقية سيكون بمثابة رقابة مجتمعية تسدّ النقص الذي أشار إليه كثر في الإعلان الدستوري، على صعيد فصل السلطات وخضوعها لمبدأ الرقابة.

استعادة النقابات مطلوبة لذاتها أولاً، وجدير بالذكر أن حافظ الأسد استكمل الإجهاز على استقلالية النقابات السورية في نهاية سبعينات القرن الماضي، فلم تكن التجربة النقابية السورية ممتثلة دائماً للسلطة على النحو الذي حدث منذ الثمانينات، بل إن مؤتمرات الطلبة في الجامعات السورية شهدت حتى بدايات الثمانينات أصوات معارضة انتقدت الأسد بشراسة. واليوم، مع تراجع التجارب الحزبية التقليدية، تبدو النقابات هي المدخل المتاح للانتظام حسب الاهتمامات والمصالح، والمدخل الأنسب أيضاً لاختراق الانقسامات الأهلية (الطائفية وغيرها) بتنظيمات مجتمع مدني تمهّد أمام تكتلات سياسية عابرة للمجتمعات الأهلية.

على العموم، يُؤخذ الحق انتزاعاً في السياسة، فلا يُنتظر الحفاظ عليه أو تعزيزه إلا من سلطة منتخبة تخضع للرقابة. وتغييب السياسة طوال عقود أدى إلى قمع ومن ثم فقدان المبادرة لدى السوريين، ليستردها البعض بعد سقوط الأسد، ثم يحدث انكفاء عن الحماسة الأولى بسبب الخيبة من المؤتمر الوطني والإعلان الدستوري اللذين لم يكونا على قدر التطلعات. قد تبدو المهمة شاقّة، لكن للتدليل على أنها غير مستحيلة يمكن الاستشهاد بالتجربة النقابية التونسية التي فرضت نفسها شريكاً أو خصماً يصعب تجاوزه في الحسابات السياسية. والشائع أن تونس هي أقرب بلدان المغرب العربي إلى سوريا، وربما هناك في التجربة التونسية العديد من الدروس الجديرة بالانتباه.

المدن

——————————–

 العودة النهائية إلى سوريا/ بشير البكر

الإثنين 2025/04/14

ترتفع أعداد السوريين المسافرين إلى سوريا بشكل ملحوظ، جواً وبراً. وهناك مؤشر مهم على ذلك هو قرار كل من شركتي الخطوط الجوية القطرية والتركية زيادة رحلاتهما إلى العاصمة السورية، من رحلة إلى رحلتين في اليوم، وذلك بسبب الإقبال الشديد، الذي يبدو واضحاً على الخطوط التركية، حيث يتعذر وجود مقاعد شاغرة على مدى شهر كامل، بسبب العدد الكبير للسوريين الذين يقيمون بتركيا، وهو يتجاوز ثلاثة ملايين.

هناك ملاحظة مهمة جدا وهي، ليست غالبية المسافرين جوا إلى سوريا من العائدين للإقامة في البلد، ويمكن الجزم بأن القسم الأكبر يذهب من أجل فحص الوضع العام، قبل أن يتخذ قرار العودة النهائية، التي تتم الآن من عدة اتجاهات، عبر المعابر البرية مع تركيا، ومن لبنان والأردن، وقد بلغ العدد حتى الآن قرابة 375 ألفا، قرروا أن يتركوا أماكن لجوئهم، ويعودوا ليستقروا بصورة نهائية في مدنهم وقراهم السورية، والكتلة الأكبر من هؤلاء تتوزع بين ريف دمشق، وحلب، وحمص وحماة.

رغم الزحام الشديد على المعابر البرية، ورحلات الخطوط التركية والقطرية، فإن عدد العائدين لا يتطابق مع التقديرات، التي كانت متوقعة في يوم سقوط النظام في الثامن كانون الأول الماضي. تبدو الأعداد أقل بكثير مما كان مترقباً، من عودة كثيفة، وخصوصاً من تركيا ومخيمات اللجوء في محافظة إدلب، التي تستقبل مع تركيا العدد الأكبر من المهجرين منذ بداية الثورة السورية، ولجوء النظام إلى العنف لمواجهة الحراك المدني.

لا تشكل حركة العائدين عبر المطارات مؤشرا، بل تبدو خادعة، لأنها تقتصر على شرائح وفئات من المجتمع السوري ذات دخل اقتصادي مختلف، عن أولئك الذين يعيشون في مخيمات اللجوء داخل سوريا وخارجها، كما هو الحال في لبنان. ومن الملاحظ أن المسافرين لدمشق عبر وسائل النقل الجوي، يعيش أغلبهم في المدن التركية وأوروبا والولايات المتحدة. ولذلك فإن العودة عن طريق المعابر البرية تبدو أكثر تعبيرا عن مسألة العودة النهائية، التي تعد خجولة جدا، وقد نشطت في المدّة الأولى لسقوط النظام، ولكنها بدأت تتراجع لأسباب مختلفة، أغلبها يستند إلى حسابات تتعلق بالخدمات والعمل والسكن والتسهيلات المالية.

من المرجح أن تحصل حركة سفر كبيرة إلى سوريا في المدّة القريبة القادمة، وذلك لأسباب عدّة، على رأسها تحسن حالة الطقس، لأن البرد يعتبر عاملا طاردا لفئات كثيرة في ظل عدم توافر الوقود الكافي للتدفئة. والسبب الثاني هو نهاية السنة الدراسية التي تشكل عاملا أساسيا في المعادلة، وحسب معلومات أوساط رسمية، فإن نسبة كبيرة من زوار سوريا كان هدفها التأكد من وضعية العملية التعليمية، التي تضررت على نحو كبير مثلها مثل بقية المرافق الحيوية، وباستثناء مراكز المدن، تعرضت المدارس للتدمير، وهي تحتاج إلى تأهيل كامل، يشمل بناها التحتية وكادرها البشري، الذي تهجر القسم الأكبر منه.

المشكلتان الكبيرتان بالنسبة لكل من يفكر بالعودة هما السكن والكهرباء. من لا يملك منزلا أو تعرض بيته للتدمير يخطط للاستئجار، ومن نجا منزله من التدمير، يعمل على إعادة تأهيله. وفي الأحوال كافة، يشكل تأمين الكهرباء معضلة كبيرة، وهناك مؤشرات على تحسن الوضع خلال الأشهر القليلة المقبلة، بعد توافر الوقود اللازم لتشغيل محطات توليد الكهرباء، وذلك بعد وصول امدادات من الغاز من دولة قطر، والاتفاق بين الدولة و”قوات سوريا الديموقراطية”، التي تسيطر على آبار النفط والغاز في منطقة الجزيرة السورية، بالإضافة إلى شحنات نفط مستوردة من الخارج، ولكن ذلك لا يكفي وحده، ولا يشكل حلا دائما، طالما أنه لم يتم رفع العقوبات الدولية المفروضة على سوريا، لأن البنية التحتية ومولدات الكهرباء شبه مدمرة ومتهالكة.

رفع العقوبات يقترن بعدة خطوات من أجل إعادة تأهيل سوريا، ولا سيما إعادة الإعمار، وتحريك عجلة الاستثمار الأجنبي وتشجيع رؤوس الأموال السورية على العودة، وفتح الباب أمام تحويلات المغتربين السوريين المالية، التي يمكن أن ترفد الخزانة السورية وتحسن مستوى المعيشة، وتسهم في التعافي المبكر من آثار الحرب. وقد زادت الآمال بعد تشكيل الحكومة السورية، وردود الفعل الدولية والعربية التي رحبت بها، بالإضافة إلى صدور مؤشرات مهمة من واشنطن على هذا الطريق من خلال تعيين جويل ريبورن مساعدا لوزير الخارجية، ومكلفا بالملف السوري، الذي يعرفه عن كثب، وتعاطف مع السوريين طيلة الأعوام التي سبقت سقوط النظام.

المدن

————————-

 بين لبنان وسوريا… ما هي الملفات الاقتصادية المشتركة؟/ مروان عيسى

الثلاثاء 2025/04/15

في زيارته الأولى إلى سوريا، التقى رئيس الحكومة اللبنانية نواف سلام، الرئيس السوري أحمد الشرع في دمشق، حيث بحثا في رزمة واسعة من الملفات المشتركة بين البلدين، وتطرّق اللقاء إلى مواضيع راهنة كترسيم الحدود وعودة اللاجئين السوريين، وبطبيعة الحال طال النقاش مستقبل العلاقات والاتفاقيات الموقعة بين البلدين. فما هي المجالات المشتركة التي تتقاطع فيها خطط التعافي في لبنان وسوريا؟

مصيرَين متشابهَين!

يواجه لبنان وسوريا مصيرَين متشابهَين، حيث يعاني كلا البلدين من صراعات مدمّرة من ناحية، ويسعيان لإرساء عملية تعافي وإعادة إعمار بقيادة حكومات جديدة من ناحية أخرى. في لبنان، يبقى التحدي الأكبر وضع حد للأزمة الاقتصادية التي بدأت عام 2019 وإعادة الإعمار بعد التصعيد الإسرائيلي، وإرساء نهج اقتصاد سياسي مختلف. أمّا في سوريا، فسيتعّين على السلطات الجديدة أن تبدأ من الصفر لبناء نظام حكم جديد بعد نصف قرن من هيمنة حزب البعث و14 سنة من حرب مدمّرة.

ومن غير السليم، تحليليًّا وواقعيًّا، التعامل مع البلدَين بمعزل عن الآخر، حيث يرتبط مصير لبنان مباشرة بمصير سوريا، والعكس صحيح، ويرتبط كلاهما بمصير منطقة المشرق والمنطقة العربية ككلّ. وعلى الرغم من الخصائص المحلية لكل بلد، تتقاسم بلدان المنطقة مجموعة من القضايا المشتركة، كطرق العبور، والعلاقات الاقتصادية، والأزمات المشتركة، والصراعات وغيرها من المشاكل التي تتطلّب تفكيرًا تعاونيًا.

ارتباط اجتماعي

يتخطّى الترابط التاريخي ما بين لبنان وسوريا المستوى الاقتصادي، ويتضمّن علاقات ثقافية واجتماعية وحتى عائلية، تأسّست منذ ما قبل السلطنة العثمانية، حيث المصاهرات العابرة للحدود وغيرها من العلاقات الاجتماعية والثقافية.

ديموغرافيًّا، شهد البلدان تنقّلًا مستمرًّا لسكّانهما عبر الحدود في الاتجاهَين. من ناحية، استفاد لبنان تاريخيًّا من القوى العاملة السورية، حيث عمل حوالي مليون شاب في القطاعات الإنتاجية في لبنان، وخصوصاً في مجالات الزراعة والبناء والصناعة قبل اندلاع الحرب في سوريا، بينما استفادت العائلات ذات الدخل المحدود في لبنان من الخدمات الصحية والتعليمية بأسعارٍ منخفضةٍ في سوريا.

ويشير أستاذ الاقتصاد المتخصص في اقتصاديات العمل والديموغرافيا، علي عبّود، إلى أنّ طبيعة العلاقة الشعبية بين البلدَين تغيّرت جذريًّا بعد 2011، حيث تحوّل الوجود السوري في لبنان من وجود يغلب عليه الطابع الشبابي العمّالي، إلى تواجد عائلي يشمل عائلات بأكملها.

أمّا سكّان المناطق الحدودية بين البلدين، فان العلاقات التي تجمعهم تعود إلى ما قبل تأسيس لبنان وسوريا في الأصل، وما يطلق عليه الكثيرون اليوم “التهريب” هو فعليًّا علاقة تجارية وعضوية بين سكّان الحدود.

تعاون اقتصادي ضروري

تجمع البلدَين، بحكم التقارب الجغرافي، علاقات اقتصادية مباشرة، إذ لطالما كان الترانزيت مجالًا محوريًّا يرتبط فيه اقتصادا البلدَين. لا تزال سوريا تشكّل طريق التجارة البرية الوحيدة للبنان ومركز عبور استيراد الطاقة، كما تبقى الشريك التجاري الرئيسي للبنان.

وفيما يتعلق بعملية إعادة الإعمار، هناك العديد من الملفات المشتركة بين لبنان وسوريا. تشير استاذة الاقتصاد المختصة في التنمية الاقتصادية الكلية، نادين يموت، إلى أن استقرار سوريا وإعادة دمجها في التجارة الإقليمية والعالمية من شأنه أن يخفف العديد من الضغوط على الاقتصاد اللبناني.

وهنا، تبقى العقوبات على سوريا مسألة أساسية لها تبعات وخيمة على قدرات الاقتصاديَن اللبناني والسوري في التعاون، ومن المرجّح أن تؤثّر بطبيعة الحال على قدرة سوريا من ناحية إدخال المساعدات الدولية المخصّصة للتنمية والتدخلّات الإنسانية، وقدرة المموّلين الدوليّين على إصدار حزمة مساعدات ذات طابع إقليمي أو مشترك بين البلدين أو على صعيد المنطقة.

ومن شأن رفع العقوبات عن سوريا أن يسمح للبنان باستيراد طاقة أوفر، الأمر الذي قد يساعد لبنان في صعوباته لتأمين الكهرباء، كما يساعد الاستقرار في سوريا أيضًا في خفض المخاطر الأمنية المرتبطة بالتجارة عبر الحدود، وبالتالي، أن يعود بالنفع المباشر على الشركات والصناعات اللبنانية.

يبقى قطاعا التجارة والنقل نقطتَي تعاون أساسيّتَين. كانت للسنوات الأخيرة في سوريا عواقب وخيمة على تعطيل سلاسل التوريد وارتفاع تكاليف التصدير في لبنان.

أمّا بالنسبة إلى سوريا، فيبقى مرفأ بيروت القناة الرئيسية التي يتم من خلالها استيراد البضائع المتجهة إليها. وتشير الدكتورة يموت إلى إن عمليّة إعادة الإعمار تشكل قطاعاً محتملاً آخر للتعاون بين البلدين. ومع دخول سوريا مرحلة إعادة الإعمار بعد الحرب، من الممكن أن تلعب الشركات اللبنانية دوراً مهماً، مستفيدة من قربها الجغرافي وخبرتها في تطوير العقارات.

ويبقى لقرار إدارة الرئيس الأمريكي دونالد ترامب بوقف المساعدات الإنسانية والتنموية، كما لقرارات عدد كبير من الدول الأوروبية بخفض الميزانيات المخصصة للمساعدات كالمملكة المتحدة وهولندا وغيرها، تأثير هائل على إمكانيّات إعادة البناء والتنمية في كلا البلدَين، في انتظار ملامح النظام العالمي الجديد  للمساعدات.

في ظلّ تطلّع حكومتَي لبنان وسوريا إلى شركاء إقليميّين وعالميّين في عمليّة النهوض الاقتصادي، يشير الدكتور عبّود إلى أنّ خيارات الحكومتَين العلاقوية أساسيّة هنا. بالنسبة لسوريا، تبقى تركيا شريك أساسي (وربّما الأهم) للحكومة الجديدة، ويتضمّن ذلك خطوط التجارة والنقل وغيرها. ما بين التجارة المباشرة والاختيار بين خطوط نقل شمالية-جنوبية أو شرقية-غربية، قد تأثّر العلاقة التركية-السورية واستراتيجية الاندماج الإقليمي لسوريا على آفاق التعاون الاقتصادي بين لبنان وسوريا، بحيث تقلّل أو تزيد من الاعتماد على الآخر.

الودائع السورية في لبنان

مع الانفتاح الاقتصادي النسبي الذي شهدته سوريا في بداية العقد الأول من القرن الحادي والعشرين، اتجهت المصالح التجارية اللبنانية الخاصة إلى سوريا، ومن بينها البنوك اللبنانية التي افتتحت فروعًا لها مستفيدة من التعداد السكاني الكبير في سوريا.

حتى اليوم، وبعد الأزمة المالية والاقتصادية في لبنان وغياب السيولة، لا يزال جزء كبير من الودائع السورية محتجزاً في البنوك اللبنانية، كما هو الحال مع غيرها من الودائع. لا تزال هوية أصحاب هذه الودائع غير معروفة، سواء كانت لأشخاص مستقلين أو لأزلام حزب البعث، ويشير عبّود إلى مسألة مشابهة حدثت ما بعد سقوط نظام البعث في العراق في بداية العقد حيث أودع العديد من أموال أعضاء الحزب في البنوك اللبنانية.

تبقى الودائع السورية أحد المسائل الشائكة في المرحلة القادمة وترتبط بمصير النظام المصرفي في لبنان، أن التعامل معها مشروط بما إذا كانت الحكومة الجديدة وحاكم المصرف المركزي كريم سعيد، سيشرعان في إعادة هيكلة القطاع المصرفي والإصلاحات المتعلقة بالشفافية والتي تشمل إلغاء قانون السرية المصرفية.

التهريب وترسيم الحدود

لا شكّ أن أحد الأمور الأساسية على المستويَين السياسي والاقتصادي بين البلدين اليوم هو ضبط الحدود، خصوصًا مع تطوّرات الأسابيع الأخيرة. تبقى الحدود غير المرسمة سبب أساسي للإشكالات والحساسيّات على المناطق الحدوديّة. على كلا الدولتين بحكومتهما الجديدة العمل بشكل استباقي على حل مشكلة الحدود ديبلوماسيًّا، وبشكل يتطرّق للتفاصيل المحليّة الضيّقة. يتضمّن ذلك العقارات الشخصية، وتقسيم ومشاركة مصادر المياه النهرية، وغيرها من الإشكالات التي تساهم في تفاقم الحساسيًّات المحليّة المزمنة.

من هنا، على الدولتَين تأمين بدائل اقتصادية عن التهريب لسكّان الأطرف والمجتمعات الحدودية، خيار القضاء على التهريب أمنيًّا من غير تأمين البدائل هو بمثابة القضاء على معيشة جزء كبير من سكّان الحدود، لا سيّما مع التخلّي التاريخي للدولة والمؤسسات الرسمية عن الاعتناء بهذه المناطق وتقديم الخدمات الأساسية اللازمة لنهضتها واندماجها في المخطّطات الوطنية بحيث يتمّ تعزيز الانتماء الوطني لمجتمعاتها.

بناء على ذلك، يبقى على حكومتَي البلدين أن تؤمنا خطط إنعاش اقتصادي وأنظمة حماية اجتماعية صلبة تؤمن من جهة فرص عمل لائقة لسكّان الحدود في لبنان، ومن جهة ثانية فرصة للاجئين السوريين الذين أسسوا معيشتهم في لبنان أن يتمكّنوا من العودة إلى سوريا وتأمين فرص المعيشة الضرورية هناك.

أمّا على الصعيد الإقليمي الأوسع، على بلاد المنطقة النظر بشكل جماعي إلى مصالحها الاقتصادية ومجالات التعاون المحتملة بشكل أوسع من المنظور الإصلاحي الوطني الضيّق والمنعزل.

فكما يلفت عبّود إلى أنّه “لا يمكن للبنان أن ينمى لوحده، لا يمكن لسوريا أن تنمى لوحدها”. و”يجب أن يكون هناك مفهوم التنمية المشتركة بين هذه البلاد… وما هي منفعة توسيع مرفأ طرابلس إن لم يكن موصولًا بحمص؟ وما هي منفعة إنشاء سكّة حديد بين الساحل اللبناني والداخل السوري إن لم يكن هناك منطلق للعراق وتركيا والأردن؟”

المدن

——————————–

أوتوستراد دمشق- حمص: ساعتان في السيارة برفقة “مهاجر” أويغوري!

15.04.2025

يكتب الزميل سرمد الحموي (اسم مستعار) عن المصادفة التي جمعته مع 8 مقاتلين أجانب (أويغور)، أقلّهم في سيّارته البيك آب بينما كان متجهاً من حمص باتجاه دمشق، الطريق الذي امتد ساعتين تحدث خلاله أحد “المهاجرين” عن رحلة وصوله إلى سوريا و”عمله”، والمستقبل الذي ينتظره بعد سقوط النظام.

فُتحت الجغرافيا السوريّة بعد سقوط نظام الأسد، وعادت الطرق السريعة بين المحافظات إلى وضع شبه طبيعي، أي أنه لم تعد هناك عشرات الحواجز، بل بضعة فقط!، وتناثرت على جوانبها بقايا جيش النظام من مدرعات وشاحنات مرميّة على الطرقات، صحيح أن الجغرافيا السورية لم تخضع مباشرة لحكومة دمشق، لكن عشرات السوريين، والصحافيين، والمهجّرين، تحركوا بحرية وحذر مما قد تخبئه هذه الطرق السريعة.

فئة جديدة من قاطني الأرض السوريّة ظهرت بصورة أوضح بعد سقوط النظام، وهي “المهاجرون” أو المقاتلون الأجانب، الذين بدأت صورهم وتسجيلاتهم تنتشر عبر وسائل التواصل الاجتماعي، سواء يحتفلون بـ”النصر” أو يتناوشون مع سكان المدن السوريّة التي بدأوا باكتشافها وزيارتها وترويع بعض من أهلها!

هؤلاء “المهاجرون” إشكالية تهدد مستقبل سوريا، فرفع العقوبات أصبح مرتبطاً بوجودهم، كونهم متهمين بأن مشروعهم جهاديّ بحت، ولا باع لهم في بناء الدولة، ونقصد هنا المقاتلين الآسيويين والفرنسيين وغيرهم ممن شاركوا هيئة تحرير الشام سابقاً في معاركها، والذين تُتداول أخبار عن “اندماجهم” في المجتمع السوري. وتردد نكتة بين المرحبين بهم مفادها أن السوريين هاجروا/ لجأوا إلى أوروبا ونالوا جنسيات بلدانها بعد سنوات عدة، ألا يحق للأجنبي أن يحصل على الجنسية السورية بعد سنوات من “الإقامة”؟!

من حمص نحو دمشق

منذ سقوط نظام الأسد، وأنا أتنقل بين المحافظات السوريّة في إطار عملي الصحافي، الطرق السريعة بين حلب حتى دمشق ثم درعا التهمت كاوتشوك سيارتي البيك آب، طرق حرمتُ المرور بها لسنوات والآن فُتحت أمامي، شهدت على أطرافها الاشتباكات، وإطلاق الرصاص، وبقايا آليات جيش الأسد، وجنوداً من النظام يفرّون، وأكواماً من البذلات العسكريّة، وأرتال قوات وزارة الدفاع السورية تعيد الانتشار والتوزع في الثكنات.

بعد شهر من فرار الأسد، كنت أقود سيارتي من حمص باتجاه دمشق لإنجاز أعمال متفرقة، الطريق الذي كانت تقطعه حواجز نظام الأسد، أصبح اليوم مفتوحاً، 3 حواجز فقط تسمح بمرور العابرين من دون مساءلة أو خوف، وبينما أنا خارج من حمص وبدأت عجلات السيارة تلتهب تحت الإسفلت، أشارت لي مجموعة من 8 أشخاص بعتادهم الكامل واقفين على جانب الطريق، أن أقف، فوقفت!

كانوا ذوي ملامح آسيوية، طلب مني أحدهم بلغة عربيّة “مكسّرة” أن أقلهم معي، وعلى الرغم من قلقي من صعودهم سيارتي، إلا أن مجموعة أسئلة تحتاج الى إجابات منذ أشهر أجبرتني على اصطحابهم، أو ربما هو الخوف !

جلس أحدهم في المقعد الأمامي بجانبي، والسبعة الآخرون جلسوا في الخلف، كنت أشبه بمن يقود فرقة خاصة بي!كنت قلقاً، لكنّ الطريق الذي يناهز الساعتين لا يمكن له أن يمرّ بصمت، خصوصاً أن فضولي كان أشد من خوفي، لأبدأ حديثاً مع ذاك القابع إلى جانبي واضعاً بندقيته بين قدميه، والذي لم يتردد بالحديث بعربيته المكسّرة، ليخبرني أن اسمه هاشم سيد، “مقيم” في سوريا منذ 8 سنوات، وصل وعائلته المؤلفة حينها من 5 أفراد قادماً من إقليم شينجيانغ الصيني  الذي تسكنه الغالبية الأويغورية المسلمة، التي تعرضت منذ عام 2014 في الصين إلى سلسلة انتهاكات وصلت حد الجرائم ضد الإنسانيّة.

 عبر هاشم طاجيكستان وقرغيزستان وإيران وصولاً إلى تركيا، والتي مكث فيها أكثر من 4 أشهر إلى أن تسنى له الدخول إلى سوريا عبر الحدود التركية – السورية بعد رحلة سفر استمرت 8 أشهر بتكلفة وصلت إلى 32 ألف دولار حسبما قال.

الحاجز الذي مررنا عبره لم يعر أي اهتمام لوجودهم معي في السيارة، عبرناه من دون أسئلة كنت أتوقع أن يطرحها عليّ الحاجز، لكننا تابعنا وتابع هاشم حديثه قائلاً، إن حالته المادية لم تكن جيدة في الصين، وما إن همّ بالسفر إلى سوريا حتى تكفلت أطراف (لم يسمها) بمصروف سفره وعائلته إلى سوريا.

يقول هاشم: “على الرغم من مشقة الطريق الطويل والمخاطر التي كانت تتهدد حياتنا، لا سيما في إيران حيث تعرضت مراراً لمحاولة القتل، وصلنا إلى تركيا واستقرينا في منزل قرب الحدود التركية – السورية، توافرت فيه كل متطلبات الحياة”.

 يلفت هاشم الى أنه بعد مكوثه 4 أشهر في تركيا، وصلته أوامر بالتوجّه إلى سوريا، لم يحدد مصدر” الأوامر”، لكنه أطاعها وعبر طريقاً بين الأشجار ثم نهر العاصي واجتاز وأسرته الحدود إلى أن وصلوا إلى منطقة حارم حيث التقى بـ”الكثير من أبناء بلده”، بعدها توجه إلى مدينة جسر الشغور، حيث استقر في إحدى القرى المحيطة هناك وانتسب إلى الحزب الإسلامي التركستاني.

يتابع هاشم إنه شارك في  “معارك” جسر الشغور وسهل الغاب غرب حماة، والكبينة شمال اللاذقية وغرب حلب، وعلى مدى السنوات الماضية وصل إلى جميع الجبهات التي كانت مشتعلة ضد قوات النظام حيث كان كل عمله ضمن الحزب الإسلامي التركستاني، لكنه لم يشارك في أي اقتتال داخلي بين الفصائل ولم يساند جهة ضد أخرى.

يؤكد هاشم أن هيئة تحرير الشام كانت الغطاء القوي لهم شمال غربي سوريا، وشارك الحزب التركستاني مع الهيئة بمعاركها حتى معركة التحرير الأخيرة، والتي أفضت إلى وصول زعيم تنظيم هيئة تحرير الشام، أحمد الشرع (أبو محمد الجولاني سابقاً) إلى سدة الحكم في سوريا.

سوريا بعد التحرير!

 غاب أي ظهور أو تكليف لأجانب في الصفوف الأولى في جيش سوريا الجديد، إلا أن هؤلاء “المهاجرين” لا يزالون يملكون الأسلحة الثقيلة والمتوسطة وينتشرون على مدى واسع من الجغرافيا السورية بدءاً من دمشق العاصمة مروراً بحلب وصولاً إلى جبال الساحل السوري، وبعضهم متهم بالمشاركة في مجازر الساحل السوري.

سألت هاشم بسذاجة: “لماذا اخترت سوريا كوجهة للاستقرار؟”، أجاب هاشم بكل أريحية بأن السلطات الصينية كانت تمارس عليهم مختلف أنواع الانتهاكات على أساس ديني، وبسبب وجود قاعدة قوية للإيغور في سوريا باسم التركستان، ووجود منازل وحياة مريحة نوعاً ما و”مصادر للدخل”، ذلك كله كان سبباً لتحمّل مشقة رحلة السفر الطويلة التي خاضها آلاف الإويغوريين الذين وصلوا إلى سوريا تباعاً، أما القتال تحت مسمى “الجهاد”، فيقول أنه “عمل” يؤديه مقابل حصوله على معيشته وحياته في سوريا.

بحسب الخبير بشؤون الجماعات الإسلامية في سوريا والناشط الميداني محمد أبو الهدى، فإن عدد عناصر الحزب الإسلامي التركستاني في سوريا فاق الـ 3700 مقاتل، وهذا العدد فقط للذين وصلوا إلى سوريا حتى العام 2018، بيد أن هذا العدد مرجح للزيادة الكبيرة بسبب طول مدة وجود التركستان في سوريا وبلوغ أبنائهم الذين وصلوا معهم سن القتال، لا سيما أن التركستان يعملون على انخراط الأطفال بصفوفهم بكثرة، ما يعني أن عدد المقاتلين فاق الـ 5000 بأقل تقدير، وهذا عدد لايستهان به.

الخروج إلى النور

وأكد أبو أنس التركستاني، أحد قيادات الحزب التركستاني في لقاء مع القدس العربي عام 2020، “أن هيئة تحرير الشام تدعمهم مالياً”، وبعد عام من رفع الحزب التركستاني من قائمة العقوبات الأميركية، أي عام 2021، عقد الحزب مؤتمره العلنيّ الأول في محافظة إدلب السورية، وبث عبر حساباته الرسمية على وسائل التواصل صوراً لاجتماع قيادته في سوريا.

ساند الحزب التركستاني هيئة تحرير الشام في قتالها ضد نظام الأسد منذ وصوله إلى سوريا، وأيضاً في حربها ضد بعض الفصائل العسكرية الجهادية مثل “حراس الدين” و”أنصار التوحيد”. ومنذ العام 2014 كان الحزب التركستاني حركة عسكرية مستقلة ينتشر عناصرها في ريف اللاذقية وأرياف حماة وحلب، إلى أن أدرجت هيئة تحرير الشام الحزب ضمن صفوفها وبات يحصل على تمويله منها كفصيل تابع لها.

تمركزت عائلات التركستان في قرى ومنازل الأقليات التي سيطرت عليها فصائل المعارضة في إدلب وحلب واللاذقية بعد تهجير أهلها، كما أشار المرصد السوري لحقوق الإنسان إلى أن “الكثير من مقاتلي التركستان صاهروا عوائل سورية ضمن مناطق سيطرتهم، وتزوجوا من مواطنات سوريات، إلا أن الكثير من الزيجات هذه فشلت بسبب اختلاف اللغة والثقافة بشكل كبير”.

سألت هاشم سيد عن آخر التطورات التي شهدتها سوريا، وعن انهيار نظام الأسد، وعن موقفهم مما يحصل ومستقبلهم في سوريا، فأجاب بأن عناصر الحزب لم يتملكهم الخوف من هذه التطورات، لا سيما أنهم ذوو مكانة خاصة لدى هيئة تحرير الشام، ووجودهم وعددهم وسلاحهم يشكل ثقلاً في الساحة السورية، لكن التخوف الأكبر حسب رأيه هو” أن تتم المتاجرة بملفهم وتحويله إلى ورقة ضغط سياسية من الدول الكبرى”، أما وضعهم المعاشي في سوريا فحتما سيكون ضمن ترتيب جديد يتيح لهم “التأقلم مع السوريين”، وتأمين “أماكن سكن مريحة”، لكن لم يكشف ماهيتها.

ساد صمت قرابة ربع ساعة قبل أن نصل ساحة العباسيين في دمشق، ألقى هاشم علي السلام ونزل السبعة من السيارة لتستقبلهم العاصمة بضجيجها وتلوثها، وأعين سكانها التي تنظر بريبة إلى أولئك الأجانب ذوي العربية “المكسّرة”.

تعهد الرئيس السوري غير المنتخب أحمد الشرع في أكثر من اجتماع على إرجاع الحقوق للسوريين كافة، وهنا السؤال: أين يسكن التركستان بعد عودة أهالي القرى والبلدات المسيحية والدرزية والعلوية إلى منازلهم، وحتى لحظة نشر هذا التقرير لم يطرأ  تغيير على تلك الممتلكات، ولم تسجل تلك البلدات عودة حقيقية لأبنائها في ظل استمرار وجود عناصر التركستان فيها واستيلائهم على مساحات شاسعة من الأراضي الزراعية.

الوضع القانوني لـ”الأجانب”ما زال غامضاً، فلم تلمح الحكومة السورية أو تذكر ملف الأجانب وآلية التعامل معهم وما موقعهم من المجتمع السوري، لكن انتشرت فيديوهات كثيرة لمقاتلين أجانب في ساحات المساجد الكبرى بالمحافظات مثل الجامع الأموي في دمشق، إلى جانب تسجيلات تظهر عملهم كحرس منشآت حكومية، ما يُفسر مضي الحكومة الحالية في اعتمادها على كل الفصائل الموالية لها.

درج

———————————-

اللواء الثامن”… من التأسيس إلى التفكيك في جنوب سوريا/ عباس شريفة

لا سلاح خارج إطار الدولة بعد الآن في درعا

آخر تحديث 14 أبريل 2025

شهدت محافظة درعا، جنوبي سوريا، خلال يومي 10 و11 أبريل/نيسان 2025، تطورات أمنية وعسكرية متسارعة، على خلفية محاولة اغتيال استهدفت القيادي بلال الدروبي، أحد القادة المحليين الموالين للدولة. وقد أسفرت الحادثة عن اشتباكات بين فصائل محلية مسلّحة وقوات حكومية، وسط توتر تمركز بشكل خاص حول “اللواء الثامن” بقيادة أحمد العودة، الذي يتخذ من مدينة “بصرى الشام” في ريف درعا معقلا له.

وجاءت هذه التطورات بعد اعتقال الدروبي يوم الخميس، وإطلاق النار عليه من قبل أربعة عناصر يُعتقد بانتمائهم إلى “اللواء الثامن”، حيث وُجهت له اتهامات بحيازة مواد مخدرة، بينها الكبتاغون.

وفي مسعى لاحتواء الأزمة، دخلت إدارة الأمن العام على خط الوساطة، لتتوصل إلى اتفاق مع قيادة “اللواء الثامن”، نصّ على السماح بإقامة حاجز أمني على مدخل المدينة، وتسليم العناصر الأربعة المتهمين بمحاولة الاغتيال. وبموجب الاتفاق، تم الإعلان من قبل المتحدث باسم اللواء محمد سليمان الحوراني يوم 13 أبريل 2025 عن تسليم سلاح اللواء لوزارة الدفاع وتفكيك الفصيل ودمج عناصره في هياكل وزارة الدفاع السورية، كما قام اللواء بتسليم المعتقلين لديه إلى الدولة السورية.

وتأتي هذه التطورات في وقت حساس كان يشهد فيه “اللواء الثامن” ضغوطا متزايدة من قبل الحكومة السورية للاندماج الكامل ضمن تشكيلات الجيش النظامي، وهي مساعٍ كانت تواجه بتحفظات من قبل أحمد العودة الذي كان يشترط الحصول على ضمانات تتعلق بالرتب العسكرية والنطاق الجغرافي لانتشار قواته.

كيف تأسس “اللواء الثامن”؟ أين ينشر؟ ما حجم قوته وعلاقته مع حكومة دمشق؟ ما تداعيات حل نفسه على الجنوب السوري؟

التأسيس والتحولات

تأسس “لواء شباب السنة” عام 2013، وتلقى دعمه حينها من “غرفة تنسيق الدعم المشتركة” (موك)، التي ضمت أجهزة استخبارات في 11 دولة عربية وأجنبية برئاسة وكالة الاستخبارات المركزية (سي آي إيه). وفي 21 أغسطس/آب 2016، انضم إلى فصيل “شباب السنة” 16 فصيلا عسكريا من الجيش الحر تحت قيادة أحمد العودة.

منذ منتصف عام 2018، ومع الحملة العسكرية الروسية على الجنوب السوري لإرغامه على الدخول في المصالحة مع النظام السوري بدأ ضباط روس بالدخول إلى مدينة بصرى الشام، حيث عُقدت عشرات الجلسات التفاوضية التي اتّسمت بالسرية التامة. لم تقتصر الاجتماعات حينها على “شباب السنة” فقط، بل شارك فيها عدد كبير من القادة المحليين من مختلف التشكيلات العسكرية العاملة في المنطقة. ومع مرور الوقت، بدأت تفاصيل تلك المفاوضات تتسرب تدريجيا، لتظهر إلى العلن اتفاقية التسوية والمصالحة مع فصيل “شباب السنة” الذي تحول بموجب الاتفاق إلى “اللواء الثامن” التابع للفرقة الخامسة ضمن مرتبات جيش النظام السوري مع رعاية روسية.

في تلك الفترة، وُجّهت اتهامات لقائد “شباب السنة” أحمد العودة بـ”الخيانة” وتسليم محافظة درعا للروس وللنظام السوري، إلا أن بعض عناصره وقادته أكدوا أن ما قام به كان بهدف حماية المنطقة وتجنبها ويلات التصعيد العسكري والقصف الروسي، الذي اتبع حينها سياسة “الأرض المحروقة” في عدد من المناطق السورية.

عدد من القادة المحليين أشاروا إلى أن الدور البارز الذي لعبه أحمد العودة في المفاوضات مع الجانب الروسي. ومع نهاية عام 2018، تحول فصيل “شباب السنة” إلى ما بات يُعرف رسميا بـ”اللواء الثامن”، والذي أُعلن تبعيته للفيلق الخامس المدعوم من روسيا، ليصبح الذراع العسكرية لروسيا في الجنوب السوري. وبدأت عناصره المشاركة في مناورات ومهام عسكرية في الساحل السوري، مؤكدين في حينها أن تلك المهام تندرج ضمن إطار التعاون العسكري مع الجيش السوري، دون الانخراط المباشر في معارك.

امتدت فترات المناوبة لعناصر اللواء إلى نحو 30–40 يوما في معسكرات سلمى والدويركة في ريف اللاذقية، و15–20 يوما في محافظة درعا. وفي 20 يونيو/حزيران 2020، تعرّضت حافلة مبيت تابع للواء الثامن لتفجير قرب بلدة كحيل شرق درعا، أثناء عودته من إحدى تلك المناوبات، ما أسفر عن مقتل تسعة عناصر وإصابة 25 آخرين. وقد تحوّل تشييع الضحايا حينها إلى مظاهرة شهدت هتافات ضد إيران و”حزب الله”، إضافة إلى مطالبات بإسقاط النظام السوري.

وفي نهاية يوليو/تموز من العام ذاته، خرّج “اللواء الثامن” دورة عسكرية حضرها ممثلون عن الشرطة العسكرية الروسية وعدد من القادة المحليين، حيث أقيم عرض عسكري في محيط قلعة بصرى، ورفع فيه العلم الرسمي السوري، فيما ارتدى العناصر زي الجيش السوري. إلا أن المناسبة انتهت بخروج العناصر في مظاهرة تطالب بإسقاط النظام.

كما دفعت روسيا بـ”اللواء” للقتال في البادية السورية ضد تنظيم “داعش”، لكنه توقف عن المشاركة بعد تعرضه لضربات غادرة من الميليشيات الإيرانية، ولم يسجل على اللواء أنه شارك مع النظام السوري في عملياته ضد فصائل المعارضة في الشمال السوري رغم الضغوط التي تعرض لها.

وفي عام 2021، تم تحويل تبعية “اللواء الثامن” من الفيلق الخامس إلى الفرع 265 التابع لشعبة الأمن العسكري التي يديرها لؤي العلي في خطوة اعتبرها خبراء عسكريون جزءا من جهود روسيا لإنهاء وجود أي فصيل محلي مسلح خارج سلطة الدولة السورية، ولمواجهة التمدد الإيراني في الجنوب السوري والمشاركة في جهود مكافحة المخدرات التي كانت تديرها الميليشيات المرتبطة بإيران.

وقبل إعلان اللواء عن حل نفسه تقلص عدد عناصره والذي بات يتراوح بين 300-400 عنصر وبقي محصورا في جغرافيا منطقة بصرى الشام ولم يستطع التمدد في غرب ووسط درعا رغم المحاولات.

علاقة “اللواء الثامن” مع دمشق

بدأت التوترات بين “اللواء الثامن” وغرفة عمليات “ردع العدوان” في يوم 8 ديسمبر/كانون الأول بعد دخول قوات من الجنوب السوري بقيادة أحمد العودة إلى دمشق وانتشاره على كل مؤسسات الدولة في خطوة استباقية لقطع الطريق أمام “ردع العدوان” من دخول دمشق والسيطرة عليها ولكن المشكلة حُلت بعد اجتماع أحمد الشرع بأحمد العودة يوم 11 يناير/كانون الثاني 2025 والاتفاق على انسحاب قوات العودة من دمشق وتسليمها لإدارة “ردع العدوان”.

كان التوتر بين “اللواء الثامن” ووزارة الدفاع السورية يشهد تصاعدا ملحوظا، في ظل استمرار الخلافات بشأن مسألة الاندماج الكامل في صفوف الجيش الجديد. ففي الوقت الذي أعلنت فيه وزارة الدفاع، في فبراير/شباط الماضي، 2025 أن نحو مئة فصيل وافقوا على الانضمام إلى الجيش، فإن وقتها كان “اللواء الثامن” بقيادة أحمد العودة يتحفظ على الانخراط الكامل، مفضلا الحفاظ على سلطته المحلية.

وفي “مؤتمر النصر” الذي عقد في 29 يناير 2025 الذي جمع قادة الفصائل العسكرية في الجيش الوطني وإدارة “ردع العدوان” ودرعا والذي تغيب فيه أحمد العودة رغم حضور نائبه في المؤتمر في رسالة أظهرت عدم رضا أحمد العودة عن المؤتمر.

واشترط العودة تقديم ضمانات واضحة تتعلق بالرتب العسكرية لأفراده وبالنطاق الجغرافي لعمل قواته، في ظل مخاوف متزايدة من فقدان النفوذ أو التفكك دون مقابل واضح.

ولم يستطع أحمد العودة خلال الشهور الأربعة الأخيرة أن يبني جبهة قوية لإجبار حكومة دمشق على التنازل لمطالبه بعد أن ساءت علاقة العودة مع فصائل درعا التي أجمعت على ضرورة الالتحاق بدمشق كما أن علاقته مع فصائل السويداء لم تكن جيدة لبناء تحالف معها بسبب عمليات الخطف المتبادل قبل سقوط النظام ومهاجمة العودة لمناطق السويداء أكثر من مرة، كما أن علاقة العودة مع حاضنته الاجتماعية في منطقة بصرى الشام لم تكن على ما يرام بعد فرض الإتاوات. أضف لكل ذلك عدم قناعة الكثير من عناصر اللواء بموقف العودة البعيد عن دمشق خصوصا مع التهديدات الإسرائيلية باختراق الجنوب وربطه أمنيا بإسرائيل، كل هذه الأسباب عجلت بقرار حل الفصيل الذي لم يستطع العودة مواجهته.

تداعيات حل “اللواء” على الجنوب

إن قرار “اللواء الثامن” حل نفسه والاندماج ضمن هياكل وزارة الدفاع وتسليم سلاحه وهو الفصيل المعارض لدمشق يؤكد على تنامي دور الأجهزة الأمنية الجديدة(كالأمن العام) في بسط النفوذ بالمناطق التي كانت ساخنة.

فنجاح هذه الأجهزة في دخول بصري الشام وإنهاء التوتر فيها سيشجعها على تطبيق الأسلوب نفسه في بلدات أخرى إذا لزم الأمر. وربما يشهد الجنوب السوري خلال الفترة المقبلة سلسلة من عمليات التسوية الجديدةبرعاية الدولة، تضبط حالة الفلتان الأمني. ولا شك أن بعض عناصر الفصائل الجنوبيةسيحاولون التكيف مع الواقع الجديد حفاظا على بقائهم؛ كما حصل مع مجموعات أحمد العودة التي سارعت لتسليم سلاحها وحل نفسها وإعلان ولائها للدولة أثناء الأزمة.

على الجانب الآخر، قد يختار قلة من المتشددين مواجهة هذا المسار، لكن موقفهم سيكون ضعيفا دون حاضنة شعبية أو دعم لوجستي خارجي غير متاح حاليا.

باختصار، شكلت تطورات 10-11 أبريل/نيسان 2025 جرس إنذارلبقايا الفصائل المسلحة في الجنوب السوري. الرسالة الواضحة هي أنه لا سلاح خارج إطار الدولة بعد الآنفي درعا، وأن أي قوة محلية لن يُسمح لها بتقويض الاستقرار الذي تسعى الحكومة لفرضه، خاصة مع التغيرات السياسية والعسكرية على المستوى الوطني.

وقد يؤدي هذا المنحى إلى استقرار أمني نسبي في المحافظة إذا ما تم استيعاب المقاتلين السابقين وترتيب أوضاعهم، لكنه أيضا يطوي صفحة من نفوذ قادة محليين مثل أحمد العودة ممن لعبوا لسنوات على هامش المنطقة الرمادية بين المعارضة والموالاة.

وهكذا سيكون مستقبل الفصائل المسلحة في الجنوب امتدادا لمسار هذه الأحداث: تفكيك الكيانات العسكرية المستقلة وتوحيد القرار الأمني بيد الدولة، في مشهد جديد قد ينهي عقدا من تعدد القوى في درعا والسويداء وهو ما يعني إضعاف قدرة العامل الإسرائيلي على التغلغل في الجنوب خصوصا مع وجود قوات ممانعة من أبناء المنطقة نفسها.

المجلة

———————————-

في نبوءات النظام البائد وآثارها على الحاضر السوري/ مصطفى إبراهيم المصطفى

2025.04.15

تؤثر وسائل الإعلام في الجمهور بطريقة مبرمجة، أطلق عليها خبراء الدعاية مصطلح: “هندسة الجمهور”. وضمن هذا السياق علينا أن نتوقع أن الحكومات حول العالم تحاول – قدر استطاعتها – أن تهندس جمهورها بشكل يخدم الخط السياسي الذي تتبناه، فمن خلال الوسائل الدعائية التي تهيمن عليها الحكومات تستطيع غرس بعض المفاهيم والقناعات التي تمكنها من التحكم بنمط التفكير عند شعوبها.

فبناء الأفكار والتحليل والاستنتاج عند البشر – عموماً – يتمحور حول بعض الثوابت والأفكار والمعتقدات التي تصنف على أنها حقائق لا تقبل الجدال. لكن تلك المعتقدات التي تصنف لدى مجتمعات بعينها على أنها حقائق؛ غالبا ما تكون بنظر الآخرين مجرد أوهام جعلها التكرار والغرس المتعمد تبدو كذلك.

أهمية سوريا

في مقال بعنوان: “عن سوريا .. كذبة أهميتها وموقعها الاستراتيجي” يقول الكاتب عهد الهندي: “نشأ السوريون معتقدين أن بلدهم مطمع للدول الاستعمارية، وأن دول الغرب والإمبريالية الأميركية تتربص بسوريا كي تسيطر عليها نظرا لموقعها الاستراتيجي وثرواتها، لتأتي الثورة السورية ويدرك من خلالها السوريون أن الغرب من ناضلوا تاريخيا لعدم سيطرته المتوهمة على سوريا لم يتدخل فيها رغم دعواتهم العديدة والمتكررة له، ورغم وجود الحجج العديدة لهذا التدخل”.

ولكن هنا لا بد من تسجيل ملاحظة، وهي أن السوريين لم يدركوا هذه الحقيقة رغم أنها شديدة الوضوح، ذلك أنهم كباقي البشر يتأثرون بآلية التحيز التأكيدي بخصوص القناعات الراسخة لديهم. أي، البحث عن المعلومات التي تتوافق مع قناعاتهم، وإهمال المعلومات التي تتنافى مع هذه القناعات. وهكذا يستطيع السوريون الخلط بين أهمية سوريا لدول الجوار واضطرار أميركا إلى التدخل من أجل إدارة الصراع بأقل كلفة ممكنة، وأهمية سوريا بالنسبة للدول الاستعمارية التي هي في الواقع تتحين الفرصة للانسحاب من المشهد السوري تاركة خلفها كنز الثروات الذي يتوهم السوريون بوجوده، في حين يعتقد “ترمب” أن هذا البلد ليس فيه سوى الغبار والدماء.

قناعات خطرة

في الواقع تبدو معظم قناعاتنا نحن السوريون هي مجرد أوهام أراد لها الحكم البائد أن تتحول إلى حقائق لا تقبل الجدال، وكان له ما أراد من خلال تشكيل إدراكنا للواقع. رغم ذلك، تبدو الأطروحة التي تشكك بكل، أو بمعظم ما تلقاه المواطن السوري من وسائل الدعاية للنظام البائد أطروحة غير مقبولة بالعموم، فهو (المواطن السوري) لو صدقها سوف يقع في فراغ معلوماتي ونفسي، ومأزق يصعب تجاوزه. لذلك، وبما أن تجاوز إرث الماضي ضرورة ملحة، وخاصة على المستوى الثقافي والمعرفي، فالقضية تستحق المجازفة، خصوصا إذا علمنا أن بعض هذه القناعات تشكل خطرا على حاضر المجتمع السوري ومستقبله.

وهنا يعتقد أن تبني استراتيجية التدرج التي قد تجعل الصدمة أقل حدة، أو لنقل إنها تتيح إمكانية الإحلال المعرفي على جرعات بدل اقتلاع هذا المخزون دفعة واحدة. من هنا نتساءل: ماذا لو جربنا مثلا التحقق من مقولة “مؤامرات التقسيم”. تلك المؤامرات التي مازالت توحي للسوريين كل يوم بخريطة جديدة لسوريا المقسمة لعدة دويلات، أو تلك التي تعد أخطر القناعات على حاضر السوريين ومستقبلهم.

أوهام التقسيم

لا أعتقد أنه يوجد فينا من لم يسمع عن مؤامرة “سايكس – بيكو” التي قسمت الوطن العربي إلى الدول العربية المعروفة في الوقت الراهن، كما أنه لا يوجد فينا من لم يسمع عبارة “تقسيم المقسم وتجزيء المجزأ” آلاف المرات؛ في إشارة إلى إستراتيجية اتفقت عليها دول الغرب التي لن يهنأ لها بال حتى تنفذها. ولكن رغم كل الضجيج الذي أثير حول هذه المقولات؛ يبدو أن القضية لا تعدو عن كونها شعارات تهدف إلى تعبئة الجماهير أحيانا، وتخويفها في أحيان أخرى، فعلى سبيل المثال: هل يستطيع أحد الباحثين أن يثبت أن فرنسا وبريطانيا عندما احتلتا دول المشرق العربي بموجب اتفاقية “سايكس – بيكو” كانتا تنويان التقسيم ثم الخروج؟ فإذا كانت النية هي الدخول من أجل التقسيم ثم الخروج لصدقت اتهامات مؤامرات التقسيم، أما إذا كانت البقاء في هذه البلدان، فالقضية تندرج في إطار التنافس الاستعماري الذي تقاسم النفوذ في كل مكان (وهذا لا ينفي أن طريقة التقاسم كانت مؤذية). أما بالنسبة لتقسيم المقسم فإن لم يكن إفشال محاولة إقليم كردستان العراق الانفصالية أمام أعين العالم وبمباركته كافيا لنقض هذه النظرية، فإن غياب هذه المحاولات عن سوريا التي أصبحت متاحة للتقسيم، منذ أن بدأت المناطق تتساقط بيد الثوار، هو المثال الأكبر لنقض هذه النظرية.

النبوءة المحققة لذاتها

يكمن الخطر في معتقد التقسيم أن النظام البائد قد نسج حول هذا المعتقد نبوءة تقول: “إن زوال النظام سوف يفضي إلى تقسيم سوريا”، والخطير في الأمر أنه ثمة صنف من التنبؤات يصدق إذا صدقناه، وهو ما يسمى لدى علماء النفس وعلماء الاجتماع: “النبوءات المحققة لذاتها”؛ ذلك أن هذا النوع من النبوءات يحفز سلوكا من شأنه أن يجعل التصور الزائف يصبح واقعا. وخير مثال على ذلك هو المصرف الذي قد يؤدي ارتكابه لخطئ بسيط أن يتنبأ بعض العملاء بإفلاسه فيبادرون إلى سحب أرصدتهم، ثم يتبعهم الآخرون تحت تأثير ذات النبوءة، فيفلس البنك. وفي بعض الأحيان قد يدفع المتنبئ، أو المؤمن بالنبوءة الأمور دفعا باتجاه تحقيق نبوءته لكي يقول: ألم أقل لكم ذلك؛ كأن يحاول أول من تنبأ بإفلاس البنك أن يعمم مخاوفه على بقية العملاء كي يسحبوا أرصدتهم. وعلى المستوى السوري؛ يعتقد أن نبوءة تقسيم سوريا، إلى جانب نبوءة إبادة مؤيدي النظام قد حفزت أنواعا من السلوك لدى بعض الفئات وضعها في موقف محرج أحيانا، وخطير في أحيان أخرى، فالبعض استسهل فكرة الدعوة إلى الانفصال أو طلب الحماية على أساس أن مخطط التقسيم جاهز، والبعض مازال متقوقعا حذرا، والبعض الآخر حمل السلاح وحرض. ورغم أن كل ذلك لم يجعل نبوءات النظام البائد تتحقق، إلا أنه أربك المرحلة الانتقالية حتى الآن.

يعتقد عالم الاجتماع الأميركي “روبرت ميرتون” الذي يرجع إليه الفضل في صياغة مصطلح “النبوءة المحققة لذاتها” أن الطريقة الوحيدة لكسر حلقة “النبوءة المحققة لذاتها” هي أن نعيد تحديد القضايا التي تستند إليها افتراضاتها الكاذبة من الأصل. وهذا ما نظن أننا سعينا إليه في هذا المقال المقتضب.

————————

هل يمكن أن تصبح سوريا.. سنغافورة الجديدة؟/ محمد السكري

2025.04.15

عقب سقوط الأسد، ارتفعت رغبات وتصورات السوريين حول سورية الجديدة، وراح المواطنون والمسؤولون في سورية، يبنون “حلم دولتهم” ويقاربونها مع نماذج دولية عديدة، مشابهة في حد القحط والفقر والتدمير النموذج السوري. حيث تعتبر سوريا بلداً مدمراً بشكل شبه كامل، ويعيش أكثر من 90% من شعبها تحت خط الفقر، فضلاً عن وجود الملايين من اللاجئين في دول مختلفة.

وفي لاس فيغاس، صرّح وزير الخارجية السورية “أسعد الشيباني” بأنّ الرؤية السورية الجديدة، تركّز على تحويل سوريا إلى “سنغافورة” والاستفادة قدر الإمكان من هذه التجربة.

عقب ذلك اللقاء، بدأ السوريون يحتفون ويحلمون بتجربة بلد بني من الصفر، فهل التجربة السنغافورية بالفعل تجربة تنطبق على الحالة السورية؟ وماهي مقوماتها؟ وكيف تحققت؟ وهل المؤشرات الأولى بعد مرور خمسة أشهر على سقوط نظام الأسد تدلل على أنّ سوريا ستكون سنغافورة الجديدة؟ ولا سيما كل من الدولتين واجهتا “لحظة صفر سياسي”.

لم تكن سنغافورة التي تحتل في الناتج المحلي الإجمالي “Gross Domestic Product” المرتبة 31 عالمياً، سوى جزيرة متهالكة لا تزيد مساحتها عن 735 كيلومتراً مربعاً، حتى مياهها تأتي من ماليزيا، إذ كانت تعيش على نشاط قاعدتين عسكريتين بريطانيتين اللتين تشكلان حوالي 30% من الناتج المحلي، وضمن تركيبة اجتماعية معقّدة، في ظل عدم وجود أي ملامح مقومات دولة. وقد عاصرت بعد الحرب العالمية الثانية إلى مطلع الستينيات حروباً وصراعات طائفية داخلية بين الأكثرية الصينية وغيرهم من الملايويين والهنود والأورانغ والمكونات الأخرى.

لكن المحطة التاريخية الفارقة، كانت بظهور “حزب العمل الشعبي” منتصف الخمسينيات، بقيادة “لي كوان يو” وهو من الأغلبية الصينية الذي يعتبر مؤسس الدولة، ويطلق عليه مصطلح “الوزير المعلم” لكونه السبب الرئيسي في تشكيل الدولة وقيادة النهضة في البلاد.

يقول الوزير المعلم في كتابه “قصة سنغافورة ” لو كنت وزملائي نعلم عندما أنشأنا حزب العمل الشعبي حجم ونوعية المصاعب التي ستواجه رؤيتنا على طول الطريق الذي انتهجناه لما فكرنا بدخول معترك السياسة أصلاً، فلم يكن في أذهاننا آنذاك سوى فكرة واحدة وهي الخلاص من الاستعمار البريطاني، أما ما عدا ذلك فكنا نعتبره تفاصيل صغيرة ومشكلات تافهة يمكن معالجة كل منها في حينها، لكننا كنا مخطئين كثيراً، فنحن كنا في واقع الأمر نواجه مهمة ثقيلة وشاقة إلى أقصى الحدود، وهي تأسيس وإيجاد دولة وشعب وهوية من لا شيء”.

بدأت التجربة بالتركيز على ملفات عديدة، كان أهمها ما يمكن تسميته “نظام الجدارة” من خلال الخروج من السياسات التقليدية القديمة، وتشكيل فضاء اجتماعي ملائم لمكونات الشعب السنغافوري، وتنطلق فكرة هذا النظام بأنّ الأذكياء ليسوا فقط ضمن فئة “الأغنياء” وإنما كذلك ضمن فئة “الفقراء” أو ما يعرف حديثاً “رأس المال الاجتماعي” والانتقال من رأس مال السلطة إلى رأس مال “الوطن”. وذلك عبر الالتزام الأخلاقي بتحقيق المساواة والعدالة وتكافؤ الفرص.

يركّز نظام الجدارة على قطاعات عديدة أهمها الاقتصاد والتعليم، مما دفع وقتها إلى بناء نظام تعليمي مناسب للحالة السنغافورية كمدخل أولي لبناء “الهوية الوطنية” الأمر الذي يتطلب بدرجة أساسية “صناعة النخبة” والذي يشمل “كل المواطنين” وكل طبقات المجتمع؛ لأنّ بناء النظام التعليمي على هذا الأساس سيفتح المجال أمام بناء نظم إدارية وحوكمية متقدمة في القطاعات العامة والخاصة، وهذا بالفعل ما حصل، حيث بدأت المؤسسات تستخدم أدوات نظام الجدارة وهو “HAIR” وهي سياسات تنموية تشير إلى: النزاهة والكفاءة وعدم القابلية للفساد والموارد البشرية كعنصر موردي وحيد وأساسي في الدولة الفتية، ساعد ذلك، على وجود مديرين في عمر الشباب في مناصب إدارية في مؤسسات مختلفة، بالتالي الاستفادة وتطوير موارد الشعب، وبناء “بيروقراطية الجدارة”.

من جانبها، اختارت الحكومة السورية الجديدة نظاماً مركباً يجمع بين الولاء والكفاءة وغالباً ما تميل للولاء -لحد اللحظة- وخاصة أنّ الظروف الأمنية مختلفة نوعاً ما، وقد بررت حكومة تصريف الأعمال نهجها بضرورات المرحلة المؤقتة، مما يعني أن سوريا لن تعتمد بشكل كامل على نظام الجدارة وإنما تتعامل مع الملف من مدخلات أمنية وليس تنموية إلا في الهوامش المتاحة، وهذا يبعدها عن صلب النموذج السنغافوري، ولعلّ هذه السياسات غير مرتبطة بالعقوبات الاقتصادية وإنما بعقلية ونهج الحكم.

بذات النسق، ركّزت الحكومة في سنغافورة على تحسين الظروف الاجتماعية لشعبها وذلك عبر تسهيل حياتهم المهنية والعملية، وضمان عدم المساس بالمواطنين أو إهانتهم، وقد عزز احترام الشعب لحكوماتها بتطبيق نظام “الادخار الوطني” CPF الذي ساعد المواطنين على امتلاك بيوت خاصة بهم بعد مرور فترة قصيرة. صحيح أن الحالة الاجتماعية السورية مختلفة، لكن مع ذلك تحاول الحكومة الجديدة تقديم وعود بتحسين الواقع الخدمي والمعيشي للسوريين إذ ما زال من الصعب الحكم على مستوى وحجم التطور وما إن كان موجوداً.

في العلاقات الدولية، اعتمدت سنغافورة بعد إخراجها من “الاتحاد الماليزي” الأمر الذي دفع الوزير المعلم للبكاء على الهواء، على تحويل هذه الصدمة الاستراتيجية إلى فرصة لإعادة التفكير ببناء مدرستها الخارجية بالاعتماد على مصالحها ونفسها وعدم التبعية لدولة أخرى، فاتسمت المقاربة الخارجية بالحيادية الإيجابية وكان هناك رفض للانصياع لأيّة دولة، وكانت الفكرة تقوم على أنّ التجربة السنغافورية لا يمكن لها أن تنجو قبل تجاوزها إقليمها.

أصل الفكرة تنطلق بأنّه في الغالب الدول الكبيرة تتصارع على الدول الصغيرة، فكان لا بد من تحييد سنغافورة من هذه الصراعات؛ بعدم التبعية لأيّة دولة، لتجنيب البلاد صراعات قد تهدد المشروع التنموي، وهذا ما قامت به من خلال علاقات استراتيجية مع الصين وعدم الدخول في استقطاب مع الولايات المتحدة الأميركية، ورغم العلاقة المعقدة مع الجيران أي إندونيسيا وماليزيا إلا أنها اعتمدت على دور الدولة الصغيرة الصلبة “Hard Small State” وتوازن التفاوض مع القوة والحق، وضمان الردع من دون إثارة الخصوم.

في حين كان تموضع سوريا من الناحية الدولية والإقليمية أكثر تعقيداً، ولعلّه من الصعب على سوريا اعتماد مبدأ الحيادية الإيجابية رغم المحاولات الجادة ووجود دول داعمة، بخلاف التجربة السنغافورية التي كانت “شبه وحيدة” مما يزيد من فرص سوريا وخاصة مع سياسات ترمب الجديدة في الشرق الأوسط التي تركز على التهدئة. في المجمل تشارك سوريا التجربة السنغافورية صعوبة إعادة رسم تحالفاتها الإقليمية والدولية.

لم يؤمن مؤسس الدولة في سنغافورة، بالديمقراطية كأداة للتغيير، بل فضّل “التكنوقراط” وركّز على التنمية المستدامة والوعي الجمعي بفرض قوانين صارمة لتغير سلوك وعادات المواطنين أكثر من التركيز فقط على القيم السياسية، ورغم عدم الإيمان بالديمقراطية كمسار يطبق على التجربة، لكن مجرّد تتبع خطوات البناء التنموي قد عزز من القدرات الديمقراطية لأنّ أصل فكرة المساواة في الفرص وتشويق القدرات والتنافس هي مبدأ :ليبرالي”، مما وضع سنغافورة ضمن مصاف الدول الديمقراطية رغم سيطرة الحزب الواحد على الحياة السياسية، حيث ارتفع مؤشر الديمقراطية لأرقام كبيرة في السنوات الأخيرة، فحصلت على 6.14 في تصنيفها ضمن مؤشر الديمقراطية وهو رقم مرتفع، متفوقةً على دول عديدة منها تركيا وعدد من الدول الأوروبية بفارق درجتين على الأقل.

بلا شك النموذج السنغافوري ديمقراطياً ليس الأفضل عالمياً لكنه مقبول في ظروف سياقها، في حين لم تتجاوز سوريا لحد الحين الـ 1.40 مما يجعل المهمة السورية طويلة.

ولعلّ المقاربة السورية تنطلق من ذات الرؤية بالتركيز على التنمية أكثر من الديمقراطية، لكن فكرة التنمية تحتاج لتجاوز العوامل الأمنية المهددة لها أو على الأقل تخطّي عقبة التعينات الأمنية “شرعية المنتصر” على حساب تلك الإدارية “شرعية الكفاءة” التي يميل لها مبدأ الجدارة؛ بالتالي، الانتقال من البيروقراطية الأمنية إلى بيروقراطية الجدارة كشرط مسبق للتنمية.

بذات النسق تعاملت سنغافورة مع تحدي المواطنة من خلال تبني مبدأ “حيادية الدولة” واحترام جميع الأديان والأعراق وحقوقهم، وبناء هوية وطنية جامعة تيمناً بالوزير المعلم الذي بنى التجربة على أسس المواطنة؛ فرغم أنه من الأغلبية الصينية إلا أنه دفع تجاه اعتماد اللغة الإنكليزية لغة للبلاد بدلاً من اعتماد لغة الأغلبية وبذات النسق مبدأ المواطنة في الفصل الخامس عشر من الدستور الذي صدر العام 1965، لدرجة أنّها وصلت لترأس الدولة بعد عقود “حليمة يعقوب” عام 2018 على الرغم من أنها من الأقلية الملاوية، عكس سوريا التي ما زالت تضع حدود دستورية في هذا الشأن، مع أنّ الخطاب السوري الوطني مشجع؛ لكنه يحتاج لتطبيقه على أرض الواقع، فلا يجب أن يتم التعامل مع السوري على أساس هويته الدينية والطائفية والعرقية وإنما على أسس سوريته، وإعادة هندسة العلاقة بين المكونات السورية وبناء عقد اجتماعي حقيقي من مدخل المواطنة العادلة للجميع مع حفظ الحق للجميع للممارسة السياسية بكل مستويات الدولة.

وتبقى في نهاية المطاف التجربة السنغافورية تجربة عملية أكثر من أن تكون شفهية، ركّزت على التكنوقراط لكنها لم تهمل الحريات رغم كل التحديات الأمنية والاقتصادية التي تحيط بها، ولم توظّف السؤال الأمني في عرقلة السياسات التنموية ولم تعد إنتاج ذات السياسات الحوكمية السابقة، وإنما دفعت للقطيعة التامة معها.

الفرق بين سورية وسنغافورة أنّ سوريا أراد شعبها وكافح من أجل الاستقلال، في حين لم يرد السنغافوريين هذا الاستقلال ولم يكافحوا لأجله لكنهم وجدوا أنفسهم أمام خيار واحد “العمل”، ورغم انطلاق التجربتين من نقطة اللا دولة إلا أن طبيعة التحديات والموارد تختلف بينهما، فسنغافورة نهضت بفعل التكاتف الوطني والعقل التنموي والانضباط الاجتماعي، في حين ما تزال سوريا تتلمس طريقها وسط صراع بين منطق الجدارة البيروقراطية والشرعية الأمنية وصراعات الهوية الطائفية والعقوبات الاقتصادية، وتبقى التجربة السنغافورية نموذجاً ملهماً يدلل على أنّ الإرادة السياسة والوعي الوطني المدني المقترن برؤية تنموية قادران على تحويل الدول الفتية والضعيفة إلى نماذج ناجحة.

———————————-

المجتمع المدني بعد سقوط الأسد.. فرص جديدة ومسارات محفوفة بالمخاطر/ وائل قيس

15 أبريل 2025

يُشكّل إعادة إحياء وتنظيم عمل مؤسسات وجمعيات المجتمع المدني محورًا رئيسيًا في رسم ملامح سوريا الجديدة بعد سقوط نظام الأسد، خصوصًا في ظل التحديات المتراكمة التي تواجه هذا القطاع، سواء على المستوى القانوني أو التنظيمي أو السياسي، في ظل تطلعات السوريين لبناء دولة قائمة على المواطنة، والمساءلة، والتعددية، بعد عقود من القمع وتغييب الفضاء المدني.

ومع انهيار منظومة حكم آل الأسد السلطوي على مدى أكثر من 50 عامًا، تبرز الحاجة إلى مجتمع مدني قادر على لعب دور مركزي في مسار التحول الديمقراطي، من خلال تعزيز المشاركة، ورأب الانقسامات، ودعم مسارات العدالة الانتقالية، وسط مطالب متزايدة بإقرار قانون عصري يحمي استقلاليته ويضمن له بيئة حاضنة ومستقرة.

المجتمع المدني أمام اختبار مصيري

يفتح سقوط نظام الأسد الباب واسعًا أمام المجتمع المدني للعب دور محوري في إعادة بناء الدولة، غير أن هذا الدور لا يزال محفوفًا بتحديات معقدة، وفق ما تؤكده ناشطتان مدنيتان في حديث لموقع “الترا سوريا”. فطريق سوريا الجديدة نحو رسم ملامح عمل سياسي ومدني واضح يمر عبر استحقاقات كبرى، مثل الدستور والعدالة الانتقالية، وسط عقبات بنيوية تتعلق بالفساد والتمويل والانقسامات القانونية والتنظيمية.

“لم يسقط النظام خلال ثمانية أيام”، بهذه الكلمات تبدأ الدكتورة صبا نجد حديثها لـ”الترا سوريا”، وتضيف: “بل استغرق الأمر 14 عامًا”، وهي مدة تصفها بـ”الطويلة التي أثرت بعمق على الوضع السوري ونشوء المجتمع المدني الفاعل، وأتاحت للسوريين والسوريات فرصة الترتيب ضمن بنى المجتمع المدني المتخصصة، بعد أن كان هذا المشروع قد أُجهض في ربيع دمشق”، في إشارة إلى المنتديات السياسية والفكرية التي أحيت الحياة السياسية لفترة وجيزة بين عامي 2000 و2001.

وتشير نجد إلى مساهمة المجتمع المدني في “رأب الصدوع الكبرى التي خلفها تراجع دور الدولة ومؤسساتها، حيث بقيت رهينة خدمة بقاء سلطة الأسد”، لكنها تستدرك قائلةً إن “بنية المجتمع المدني لم تسلم من الفساد”، مشيرةً إلى أن بعض المنظمات “استخدمت لتغطية هذا الفساد أو تمريره بطريقة غير مباشرة”. ومع ذلك، تذكّر بدور المجتمع المدني “المحوري” في محادثات جنيف، وتؤكد أنه قدّم “خطابًا وطنيًا جامعًا أكثر تأثيرًا من خطاب النظام والمعارضة، وكان ممثلًا حقيقيًا للنساء والشباب، ونجح في الضغط في لحظة من اللحظات”.

    يتمتع المجتمع المدني بقدرة حقيقية على التأثير في صياغة مستقبل سوريا، إلا أن هذا الدور لا يتحقق تلقائيًا، بل يتطلب وجود مناخ وبيئة سياسية داعمة وإرادة جماعية للتغيير

وتنظر طبيبة الأسنان إلى مرحلة ما بعد سقوط نظام الأسد بوصفها “فرصة ذهبية للتخلص من الترهيب الأمني، خاصةً من الأفرع أمنية، مثل فرع فلسطين”. وترى أن “هذه الفرصة لا تزال قائمة”، شريطة “إعادة بناء بنية المجتمع المدني ضمن فضاء حر خارج عن هيمنة أي قوى من قوى الأمر الواقع”. وتؤكد أن هذه العملية يجب أن تُفضي إلى “نواة لمشروع وطني جامع، قادر على تجاوز الطائفية والمناطقيّة، وممارسة دور ضاغط على أي سلطة حاكمة في مستقبل سوريا”.

وبينما قدّمت نجد قراءة لمسار التحوّل التاريخي للمجتمع المدني في سوريا، تركز الناشطة الإنسانية أحلام الرشيد على التحديات البنيوية التي تعترض طريق هذا المجتمع اليوم. وفي هذا السياق، تشير الرشيد في حديثها لـ”الترا سوريا” إلى أن “انهيار النظام السلطوي فتح الباب أمام المجتمع المدني للمساهمة في إعادة بناء الدولة على أسس ديمقراطية”، مؤكدةً أن ذلك يمنحنا القدرة على التأثير “في صياغة الدستور، وتعزيز الحوكمة، وترسيخ ثقافة المواطنة والمساءلة”.

وتوضح الرشيد أن عملية إعادة البناء تمثل فرصة حقيقية للدفع بتمثيل “الفئات المهمشة من نساء وأقليات ونازحين وذوي الإعاقة، وضمان أن تكون أصواتهم حاضرة في صياغة السياسات الوطنية”. كما تشدد على أن من بين أبرز مهام المجتمع المدني اليوم “قيادة جهود العدالة الانتقالية، من خلال توثيق الانتهاكات ودعم الضحايا والمطالبة بالمحاسبة”، باعتبارها خطوات جوهرية “لبناء الثقة”. وتلفت كذلك إلى أن المجتمع المدني السوري يمتلك “شبكة علاقات دولية واسعة تمكّنه من الشراكة في مشاريع التنمية وإعادة الإعمار، وتوسيع أثر العمل المدني”.

وتحذّر الناشطة من جملة من التحديات المعقدة، أبرزها “الفراغ الأمني والسياسي، وتعدد الولاءات داخل المجتمع المدني، وغياب الإطار القانوني”. وتلفت إلى أن “عدم وجود قوانين واضحة تنظم عمل منظمات المجتمع المدني، قد يؤدي إلى حالة من الفوضى، أو إلى إعادة إنتاج نماذج سلطوية تحت مسمى العمل المدني”. وتضيف أن “ضعف التمويل وغياب الشفافية في بعض الحالات خلق فجوة مع المجتمعات المحلية”، مشيرة إلى أن “غياب قواعد بيانات محدثة لخدمات الحماية يعيق تنسيق الاستجابة وتوجيه الدعم بشكل عادل وفعّال”.

حاجة المجتمع المدني إلى قانون عصري

تخضع الجمعيات ومؤسسات المجتمع المدني، إضافةً إلى الأنشطة والفعاليات المدنية، لأحكام القانون رقم 93 الصادر عام 1958، إلى جانب التعديلات اللاحقة التي طالت مواده، خاصةً خلال حقبة حكم حافظ الأسد (1970 – 2000). وقد أدّت تلك التعديلات إلى إحكام السيطرة على العمل المدني والسياسي، عبر فرض قيود صارمة ومصادرة أي نشاط مستقل خارج إطار حزب البعث، الذي نصّت المادة الثامنة لدستور عام 1973 على أنه “قائدًا للدولة والمجتمع”، وهي المادة ذاتها التي أُلغيت لاحقًا في دستور 2012.

يوضح المحامي مصطفى كليب في حديثه لـ”الترا سوريا” أن قانون الجمعيات والمؤسسات المدنية الصادر عام 1958 “يمنح وزارة الشؤون الاجتماعية صلاحيات واسعة للإشراف والتراخيص وحل الجمعيات ومؤسسات المجتمع المدني”، مضيفًا أن القانون ذاته يرسم “صلاحيات واسعة فيما يخص الموافقات للجهات الأمنية”.

ويشرح كليب أن واقع العمل المدني في سوريا انقسم لعدة مستويات، فمن الجانب السياسي “لم يكن هناك مجال لأي عمل مدني مستقل”، مرجعًا ذلك إلى “ضغوطات أمنية في مناطق سيطرة النظام” حتى ما قبل 8 كانون الأول/ديسمبر 2024. أما في مناطق سيطرة المعارضة، فيرى أن “العمل كان مرهونًا بسلطات أمر الواقع”، وهو ما أدى إلى “عدم وجود قانون ناظم للعمل المدني”.

وفي ضوء التطورات الحالية، وبعد سقوط نظام الأسد، عبّر كليب عن أمله بأن يتم “إلغاء القانون أو الاستعاضة عنه بقانون أفضل، يعطي صلاحيات أوسع للجمعيات”، مشيرًا إلى التعميم الذي صدر مؤخرًا والذي يشترط “الحصول على موافقة أمنية لأي اجتماع أو ندوة”، معتبرًا أن هذا “أمر يعيدنا خطوة إلى الوراء”.

يُشار إلى أن التعميم رقم (28) الصادر عن الشؤون الاجتماعية والعمل في 20 شباط/فبراير 2025، نص على تنظيم عمليات التواصل والتنسيق مع منظمات الأمم المتحدة والجهات الدولية حصريًا عبر الوزارة. وعدَّ أي تواصل مباشر من الجهات المحلية دون موافقة مسبقة مخالفة إدارية، وفق ما جاء في التعميم، الذي يربط تنفيذ مشاريع التعاون الدولي بموافقة مديرية التخطيط والتعاون الدولي في الوزارة.

وأوضحت الشؤون الاجتماعية والعمل في بيان صدر لاحقًا أن “القرار موجّه حصريًا إلى المديريات التابعة للوزارة”، مؤكدة أنه “قرار داخلي ينظم إجراءات العمل داخل الوزارة”، ولا يشمل الجمعيات أو المنظمات غير الحكومية. كما شددت على أن “عمل الجمعيات والمنظمات مستمر وفقًا للأطر القانونية المعمول بها”، وأنها “تحترم حرية عمل هذه الجهات بما يتماشى مع القوانين ويخدم المصلحة العامة”.

ومن هذا المنطلق، يؤكد الخبير القانوني أنه “من الأفضل صدور قانون عصري يمنح مؤسسات المجتمع المدني هامشًا للحرية، دون فرض أي قيود على الاجتماعات، أو يكون رهينة لموافقات السلطات الجديدة”، مشيرًا إلى أن “البيئة السياسية ستكون متأثرة بعملية الانتقال السياسي وشكلها”، ويختم حديثه لـ”الترا سوريا” متسائلًا “إن كان سيتم فرض المزيد من القيود على المجتمع المدني؟”.

دور المجتمع المدني صياغة مستقبل سوريا

يتمتع المجتمع المدني بقدرة حقيقية على التأثير في صياغة مستقبل سوريا، إلا أن هذا الدور لا يتحقق تلقائيًا، بل يتطلب وجود مناخ وبيئة سياسية داعمة وإرادة جماعية للتغيير. ومع سقوط نظام الأسد، ترى العديد من الأصوات الفاعلة أن المجتمع المدني بحاجة إلى استقلالية وتنظيم ذاتي، إضافة إلى تحالفات عريضة تُمكّنه من الاضطلاع بدور مركزي في عملية إعادة بناء الدولة السورية الجديدة.

تؤكد الرشيد في تعليقها على ذلك أن “المجتمع المدني يمتلك القدرة على التأثير في صياغة مستقبل سوريا”، لكنها تشدد على أنه لا بد من توافر مجموعة من الشروط والعوامل المتكاملة، من بينها “التنظيم الذاتي وتشكيل تحالفات قوية تُمثّل طيفًا واسعًا من السوريين”، و”الاستقلالية عن الأجندات السياسية والعسكرية، والاستثمار في بناء القدرات المؤسسية والبشرية”، بما يشمل “التدريب على قضايا العنف القائم على النوع الاجتماعي”، إلى جانب “المشاركة النشطة في العملية السياسية، والتركيز على خدمات إدارة الحالة والتقييم الميداني المستمر”.

وفي ختام حديثها لـ”الترا سوريا”، تؤكد الرشيد على أن سوريا الجديدة بعد سقوط نظام الأسد تحتاج إلى “مجتمع مدني قوي، مستقل، شامل، يؤمن بالعدالة والكرامة الإنسانية”، وترى أن “هذا المجتمع يمكن أن يشكل حجر الزاوية في بناء مستقبل ديمقراطي ومستقر، إذا ما توفرت له البيئة الحاضنة والإرادة الجماعية للتغيير”.

وفي حين ركّزت الرشيد على ضرورة تعزيز البنية المؤسسية وضمان الاستقلالية، قدّمت نجد مقاربة مختلفة تسلط الضوء على أهمية إشراك المجتمع المدني في صياغة المشروع الوطني. وضمن هذا الإطار، تقول نجد: “لا تستطيع أي سلطة اليوم النهوض بمؤسسات الدولة من دون إشراك فعلي لقوى المجتمع المدني، بما في ذلك القوى السياسية”، معتبرة أن “غياب هذه التشاركية يشكل تحديًا جوهريًا أمام أي عملية بناء، لا سيما في ظل الانقسامات التي تعمّقها الاستقطابات القومية والدينية المفروضة من قوى الأمر الواقع”.

وتضيف أن هذا الواقع يغذّي “خطاب كراهية خطير يتطلب معالجة عاجلة، بل ويستدعي استنفارًا عامًا من كافة قوى المجتمع المدني”، محذرة من خطر تفاقمه إذا تُرك دون مواجهة حقيقية. وتختم نجد حديثها لـ”الترا سوريا” بالتأكيد على عدم إمكانية “إنكار وزن المجتمع المدني في سوريا اليوم، فهو شريك لا غنى عنه في أي مشروع وطني جاد”، داعية القوى السياسية والمدنية الساعية إلى بناء سوريا موحدة إلى التعامل بجدية مع هذا الواقع، من أجل “امتلاك بوصلة لعملها”، وتوفير الجهد والوقت اللازم للتخطيط، بدلًا من “إعادة اختراع عجلة العمل المدني بشكله الفضفاض داخل سوريا”.

——————————–

====================

عن الأحداث التي جرت في الساحل السوري أسبابها، تداعياتها ومقالات وتحليلات تناولت الحدث تحديث 15 نيسان 202

لمتابعة مكونات الملف اتبع الرابط التالي

الأحداث التي جرت في الساحل السوري

———————————-

التطمينات المخيفة: المجزرة كألف حالة فردية/ عبد الحميد يوسف

ما قبل أحداث آذار في الساحل السوري وما بعدها

14-04-2025

        يقف العلويون في سوريا بعد مجازر آذار (مارس) الماضي أمام سؤال وجودي تطرحه الأفعال والأقوال معاً: هل نحن جميعاً أعداء الحكم الجديد في سوريا؟ الإجابة التي يحددها الأداء والنهج السائد حتى اللحظة هي نعم، وهذا الجواب هو عنوانٌ لمرحلة مستمرة، من الضروري لفهمها والتعليق عليها أن نبدأ في رصد مسار الأحداث منذ لحظة سقوط النظام السابق. لكن لحظة سقوط الأسد نفسها تحتاج بدورها إلى إلقاء الضوء على مرحلة مهمة بالنسبة للسوريين عموماً، وبالنسبة لمناصري النظام السابق خصوصاً، وهي السنوات الخمس الأخيرة من حكم الأسد.

        تلك الفترة مهمة جداً لفهم سبب تقبّل سقوط النظام من جانب عموم العلويين في الساحل السوري، بما في ذلك الذين كانوا مؤيدين جداً للأسد في سنوات سابقة، واستبشارهم خيراً بالخطوات الإيجابية الأولى والتطمينات التي أُطلقت، والتي أَصبحت يوماً بعد يوم مخيفةً إذ لم يظهر أي شي مبشّر معها على الأرض، بل كانت المؤشرات المتتالية تدلّ على مقتلة قادمة أو احتمال نشوب حرب أهلية انتقامية. لم تحدث الحرب الانتقامية عند سقوط النظام، ولكن مع مرور كل أسبوع كانت تصرفات السلطة الجديدة وفصائلها «تسوق» الخوف إلى مظاهر الطمأنينة.

        أحاول في هذا المقال إيضاح السياق العام المؤدي إلى المجازر وقراءة نتائجه، وقراءة أفعال السلطة الجديدة لا أقوالها، ومقاومة النزعة التي تهدف إلى فصل الحوادث عن بعضها بعضاً. وطبعاً هذه الأفعال ليست محصورة بالساحل ولا بالعلويين، لكن السياق الراهن يقطع الطريق حتى أمام المكونات الأخرى للتعاون على بناء دولة للجميع، هذا إن وجدت النية والهدف أصلاً.

        ما قبل السقوط

        بعد أن استعاد النظام سيطرته على كثير من المناطق التي كانت قد خرجت عن سيطرته، وذلك بعد تدخل إيراني والميليشيات التابعة لها، والتدخل الروسي ـ غطاءً جوياً ونقاط تمركز ـ منذ 2015، وبعد تهجير أهالي الغوطة إلى إدلب ثم المعارك والتهجير من حوران ضمن اتفاقات برعاية روسية في العام 2018، لم يَعُد على «الأراضي المفيدة» للنظام أي جبهة مفتوحة سوى إدلب (التي دخلت جبهاتُها أيضاً منذ 2020 في استقرار متقطع برعاية روسية تركية)، باستثناء اشتباكات ومواجهات محدودة هنا وهناك على جبهات أخرى.

        اتجه النظام أثناء هذه الفترة إلى سوق الكبتاغون، وإلى الجباية من السوريين القاطنين في مناطق سيطرته، جباية دون رحمة يدفع ثمنها الأهالي عن طريق «تشليح» التجار على الحواجز، وخاصة رسوم حواجز الفرقة الرابعة التابعة لماهر الأسد، الأمر الذي كان التجار يعوضونه عبر رفع أسعار المنتجات. وكذلك عن طريق ما شاعت تسميته «المكتب السري» في القصر الجمهوري، الذي عُرِفَ بتشليح وحتى اعتقال التجار والصناعيين، عن طريق فرع الخطيب ذائع الصيت، ليفتدوا أنفسهم بمبلغ يتم تحديده «من القصر».

        في تلك الفترة، وخاصة منذ نهاية 2019 وبدء انهيار الليرة السورية بقفزات كبيرة، أخذ النظام يعتمد على الجباية بقوانين أو بدونها لتأمين تكاليف بقائه من رواتب وتكاليف تسيير المؤسسات وغيرها، كما عمل على التلاعب بسعر صرف الدولار والهيمنة على الأسواق عبر أركان السلطة ومحاسيبها، بينما كانت ترتفع قيمة السلع دون زيادات مُقابِلة في أجور العمال والموظفين ليكونو قادرين على شرائها، إضافة إلى سياسات سطو أخرى عبر حوالات المغتربين لإعالة ذويهم وبدل الخدمة العسكرية ودوريات التموين التي باتت أشبه بعصابات تشليح متنقلة وغير ذلك، مُحافظاً بهذا على استعباد اقتصادي للناس جميعاً في مناطقه، متذرِّعاً دائماً بالعقوبات الغربية لتبرير التدهور المعيشي.

        لستُ هنا في وارد الشرح الدقيق لتفاصيل تلك المرحلة، فقد كُتب كثيراً عنها وعن أساليب النظام أثناءها. لكن التفصيل الذي لم يُلقَ عليه الضوء كثيراً في ذلك الوقت هو نتائج هذه المرحلة على أنصار النظام من علويين وغيرهم، وانعتاقهم من الولاء له يوماً بعد يوم بسبب الوضوح الذي صارحهم به علناً، وهو ضرورة دفع الجميع له لضمان استمراره.

        وبالتأكيد لا يمكن إنكار التأييد الواسع لنظام الأسد بين العلويين في سنوات الثورة والحرب، لكننا لا نستطيع بالمقابل أن نُجملهم في سلة واحدة كي لا يكون النظام قد انتصر علينا مرتين، إذ نعيد تأكيد روايته بأنفسنا اليوم، فمن المعروف أنه كان على وشك السقوط في 2014 لولا تدخل الجيش الروسي والمليشيات الإيرانية، وفي ذلك الوقت كان عدد الفارين من الخدمة العسكرية في طرطوس مثلاً قد وصلَ إلى 15000 حسب موظف في شعبة التجنيد، وهو عدد غير قليل بالنسبة لمدينة صغيرة. وقد أصبح العدد أكبر في سنوات لاحقة، وهو لم يصل إلى ما وصل إليه لولا وجود بيئة حاضنة لفكرة التخلي عن النظام، فكل المتخلفين عن اللحاق بـالخدمتين الإلزامية والاحتياطية التزموا بيوتهم وحصلوا على دعم عائلاتهم.

        ولا يعني هذا أن هؤلاء كلهم أصبحوا معارضين أو داعمين للثورة على النظام، لكنهم كانوا يرفضون الموت المجاني من أجل الفساد وبقاء بشار وأولاده وأولاد حاشيته في بيوتهم بينما «نحن نقاتل لحمايتهم» كما كان يردد كثيرون.

        التطمينات المخيفة

        هكذا وصلنا إلى لحظة تخلي معظم مؤيدي النظام عنه، بحيث لم يبقَ من داعميه إلّا المرتزقة، ولهذا تم استقبال تطمينات السلطة من قبل أغلبية العلويين بارتياح، ولهذا أيضاً كانت الخيبة اللاحقة بالغة القسوة.

        للحديث عن شريط أحداث الساحل السوري وأحواله، منذ فرار بشار الأسد في 8 كانون الأول (ديسمبر) إلى مجازر آذار (مارس)، يمكن تقسيم تلك الفترة إلى مرحلتين بناءً على أحداث مفصلية، وقد يكون من المناسب أن نبدأ من أكثر حدث أثار ضجة خلال الشهر الأول بعد سقوط نظام الأسد، أي من خطاب الشيخ صالح منصور في قرية عين الشرقية، الذي هدد فيه بالمطالبة بحماية دولية للعلويين إذا استمرت الانتهاكات، وذلك لأنه جاء حصيلة 34 يوماً من التصرفات المتقلبة والأحداث المتتالية.

        في 12 كانون الأول (يناير) 2025، وأمام حضور جماهيري حاشد في قرية عين الشرقية التابعة لمنطقة جبلة في ريف اللاذقية الجنوبي، ألقى الشيخ منصور خطابه ذاك في تشييع جثمان الشاب الصيدلاني قصي حمزة عبود، الذي وُجِد مقتولاً في مزرعته في قرية قرفيص، والذي جاء مقتله بعد يومين من مقتل ثلاثة فلاحين من عائلة واحدة (أب وابنه الطفل وابن اخته) على يد عناصر أجنبية تابعة للفصائل، وذلك بينما كانوا يعملون في أرضهم في بلدة عين الشرقية التابعة لمنطقة جبلة.

        جمع ذاك الخطابُ كل التجاوزات التي تم ارتكابها خلال شهر، مع مفاعيلها والدروس المأخوذة من نتائجها منذ لحظة «اذهبوا فأنتم الطلقاء» التي رافقت سقوط النظام، والتي كانت العتبة الأولى للإحساس بأن عمليات الانتقام لن تحدث بالطريقة التي كان يخشاها الناس، أو بالطريقة التي ربّاهم حافظ الأسد ونظامه على أنها ستحدث حال سقوطه، عندما تم إقناع عموم العلويين أنّ أمنهم مرتبط ببقائه على كرسي الحكم.

        اعتبرَ كثيرٌ من العلويين في الساحل أن هناك تطمينات كافية بالنسبة لهم، وذلك مع وصول المحررين إلى دمشق وسقوط النظام دون حدوث مجازر بحق العلويين في حمص ودمشق، وخاصة بعد هروب عدد غير قليل من علويي حمص باتجاه الساحل بعد تحرير مدينة حماة من قبضة النظام، وعودتهم بعد أيام إلى بيوتهم هناك لعدم حدوث أعمال انتقامية، وكذلك تصريح الفصائل لكل الموالين والمحسوبين على النظام أنهم بأمان، وأن تسوية أوضاعهم ستتم بسرعة شريطة تسليم السلاح، وتسليم المتورطين بدم الشعب السوري من عناصر الأمن والشبيحة.

        المهم هنا هو توضيح أسباب و ظهور المخاوف والرغبات، أو ربما الحلول العقيمة، التي عبّرَ عنها خطاب الشيخ منصور، وتوضيح السياق الذي أوصله إلى التهديد بطلب حماية من الحكومة الفرنسية. لقد بُني الخطاب على مطالب خلقتها تجاوزات أمنية واقتصادية، أشعلت الخوف في قلوب أهالي المنطقة وكسرت الثقة التي كانت قد بُنيت نتيجة تعامل الأمن العام التابع للسلطة الجديدة مع الأحداث والمناطق برويّة وتفهّم. لم يكن الوضع تحت السيطرة بقدر ما كانت السلطة الجديدة تحاول أن تظهره، وخاصة بعد ظهور فصائل لا تتبع على الأرض لجهاز الأمن العام، ما حالَ دون قطف ثمار نهج «اذهبوا فأنتم الطلقاء».

        جاءت مطالب الحماية الدولية تلك نتيجة تجاوزات على مدى شهر كامل، عززها غياب مخافر الشرطة والأمن عن مفاصل المناطق الريفية في الساحل، ما تركها مفتوحة أمام اللصوص والفصائل غير المنضبطة. وقد يكونون فعلاً مجرّد مجموعات صغيرة لا فصائل كاملة في ذلك الوقت، كما وصف بعض الذين تواصلنا معهم من تلك المناطق، لكن الانتهاكات والجرائم كانت تحدث في الوقت الذي لا يستطيع الأهالي فيه حمل السلاح، وذلك بعد إبلاغ الإدارة العسكرية جميع السكان بتسليم سلاحهم، والتقدم لتسوية أوضاع العسكريين والأمنيين السابقين في إطار ضرورة «احتكار الدولة للعنف». لكن احتكار الدولة للعنف يُلزمها بالمقابل بحماية السكان، وهو ما كان غائباً.

        لعلّ الحادثة الأكبر قبل خطاب الشيخ صالح منصور كانت في قرية خربة المعزة في ريف طرطوس في 25 كانون الأول (ديسمبر) 2024، فقد كان ذاك الاشتباك الكبير الأول بين فلول نظام الأسد وقوات الأمن العام، الذين دخلوا القرية بحثاً عن محمد كنجو حسن، أحد القضاة العسكريين المسؤولين عن ملف الإعدامات بحق المعتقلين في سجن صيدنايا. حدثت مشادات بين عناصر الهيئة وشقيق اللواء كنجو، وأثناء خروج دوريات الأمن العام وقعوا في كمين من قبل جماعة مسلحة تابعة لكنجو قُتل بنتيجته 6 عناصر وأُحرِقَت إحدى سيارات الأمن العام، الأمر الذي رد عليه الأمن العام باستدعاء تعزيزات وتنفيذ عملية أمنية في المنطقة تسببت بقتلى وجرحى ومعتقلين. رافق الحدث انتشار فيديو قديم لإحراق مقام الإمام أبي عبد الله الخصيبي، وهو مقام مهم للطائفة علوية في حلب، ما أدى إلى خروج مظاهرات في طرطوس والمناطق الأخرى، كانت محدودة لكنها ضُخِّمَت وتزامنت مع خبر الكمين في قرية خربة المعزة.

        تلتها حوادث قتل في منطقة شاطئ الأحلام، في القسم الجنوبي لكورنيش طرطوس، على يد فصيل متشدد تابع للهيئة أراد الاستحواذ على المنطقة، لكن بنتيجة تكرار الحوادث هناك واعتراض الناس لدى المحافظ، تم إخراجهم من المنطقة مؤقتاً (عادوا إليها لاحقاً بعد مجازر آذار).

        تزامنَ ذلك مع فصل موظفين وعاملين في قطاعات حكومية عديدة وخاصة في القطاع الصحي في طرطوس (إجازات بأجر كان واضحاً أنها مقدمة للفصل)، ومع إغلاق مراكز طبية من أرياف الساحل، (تناولت موضوع مديرية الصحة في طرطوس في مقال مفصّل في 17 شباط الماضي). الجدير بالذكر أن كل من تحدثتُ إليهم لإعداد المقال حينها تم فصلهم بشكل فعلي في الأول من آذار.

        ترافقت الحوادث الأمنية والظروف الاقتصادية القاسية مع تزايد السرقات، ومع اعتقال عناصر سابقين من الجيش الأسدي أثناء حملات التمشيط أو على الحواجز، بالإضافة إلى توارد أخبار عن حوادث انتقامية وانتهاكات شبه يومية بحق العلويين في مدينة حمص، بالإضافة إلى حوادث ضد العلويين في ريفي حمص وحماة ومضايقات وأعمال سطو وتهجير وقتل، والمصير المجهول للعناصر الذين فروا إلى العراق يوم سقوط النظام، ثم سلموا أنفسهم للسلطة الجديدة بالاتفاق مع الحكومة العراقية، وكان أغلبهم من الساحل. طالب الأهالي أكثر من مرة في بياناتهم وبيانات المشايخ بالإفراج عنهم، أو معرفة مصيرهم على الأقل.

        ازدادت تلك الأحداث يوماً بعد يوم حتى تُوِّجَت بمطالب الشيخ صالح منصور أثناء التشييع، إذ طالب الأمنَ العام بحماية الناس والإفراج عن العساكر وصرف الرواتب، وهدَّدَ بعريضة يوقّع عليها مشايخ العلويين في تركيا وجبل محسن في لبنان و«مرصد حقوق الإنسان» كما قال (دون أن يكون واضحاً ما هو المرصد الذي يقصده تماماً)، وتقديمها إلى الأمم المتحدة وطلب الحماية من الحكومة الفرنسية، مؤكداً في آخر خطابه أن اليد ممدودة للدولة الجديدة شريطة صون حقوق العلويين وحمايتهم.

        قد تبدو تلك الأحداث متفرقة، لكنها كانت تراكمية أعطت الانطباع لكثيرين بأنها ممنهجة. وقد ضجَّ السوريون على إثر طلب الحماية من فرنسا في كل أنحاء سوريا، ونزلت دورية للأمن العام في اليوم نفسه إلى القرية وقامت بإطلاق النار ليلاً في الهواء، في عمل لا هدفَ منه سوى الترهيب. لتقوم مجموعة من فلول النظام في المنطقة، على رأسهم بسام حسام الدين قائد مجموعة أسود الجبل التابعة للفرقة 25 بقيادة سهيل الحسن الملقب بالنمر، بنصب كمين لدورية الأمن العام في اليوم التالي نهاراً، ونتج عن الاشتباك مقتل عنصرين وأسر سبعة عناصر، ظهروا في فيديو مُصوَّر نشره بسام حسام الدين، طالب فيه بخروج القوات من قرية عين الشرقية وإلا فإنه سيقتل الأسرى، كما طالبَ العلويين في الجبال بالانتفاضة و«الجهاد نحو إقامة إدارة ذاتية بلا غرباء» حسب قوله.

        أرسلت الإدارة العسكرية قوات مدعومة بأسلحة ثقيلة وطائرات مروحية إلى المنطقة، تم بعدها تحرير الأسرى بسرعة، فيما قتلَ بسام حسام الدين نفسه بقنبلتين. تؤكد كل المصادر والأهالي أن الشيخ صالح منصور نفسه، وبغض النظر عمّن يكون وعن أهدافه، كان له الدور الأكبر في إنهاء العملية، وفي عودة الأسرى سالمين بعد أن فشل بسام حسام الدين في الحصول على مساندة أهالي القرية. جاء ذلك تأكيداً على أن بسام يمثل نفسه فقط ولا يمثل أهل القرية، فـ«المطلوب للمحاكمة بسبب جرائمه السابقة لا طريق له للنجاة سوى إقحام الجميع في حرب طائفية يختبئ وراءها» حسب تعبير كثيرين ممّن تحدثتُ إليهم من أبناء المنطقة. بالمقابل، لم تُعاقِب السلطةُ القريةَ كلها بسبب تصرف بسام حسام الدين، وهو ما ستفعل نقيضه مراراً في المرحلة التالية.

        بدأت المرحلة الثانية بأحداث فاحل ومريمين وجبورين، وكان بداية لظهور الممارسات التي كانت التطمينات تحاول إخفاءها، وهي الممارسات الانتقامية الجماعية، التي حتى لو كانت على يد فصيل صغير، إلا أنها تبقى جماعية ولم يَعُد يمكن وصفها بالفردية. في 23 كانون الثاني (يناير) الماضي دخلت مجموعات مسلحة تابعة للسلطة الجديدة إلى تلك القرى من ريف حمص الغربي، وارتكبت انتهاكات واسعة من نهب وإذلال واعتقالات عشوائية، بلغت ذروتها في إعدام 15 شخصاً ميدانياً في قرية فاحل. لا تنفصل المرحلة الأولى عن الثانية فعلياً، بل هو سياق يومي متصاعد نحاول توضيحه عبر وضع نقاط علّام فيه. كانت مجزرة فاحل نقطة تحوّل في المسار، وبالنتيجة فإن الرهانات كانت لصالح المُحرِّضين من كلا الطرفين: بقايا الشبكات الأمنية والعسكرية من النظام البائد التي راهنت على أن الإبادة قادمة لا محالة مُعتمدة على تاريخ فصائل السلطة الإجرامي، وبالمقابل أولئك الذين يحرّضون على العلويين معتبرين أنهم جميعاً يكمنون للسلطة الجديدة ويجب محاسبتهم. انتصر هذان الرأيان، وأصبح لدينا سلطة جديدة تقتل من لا يشبهونها وتروّعهم ما استطاعت.

        لم تتوقف السلوكيات الانتقامية الواضحة والتجاوزات اليومية والجماعية منذ اقتحامات وجرائم ريف حمص الغربي، والأسوأ أن اعتراف السلطة ببعضها لم يؤدِ إلى توقّفها، وصولاً إلى حادثة عين شمس في ريف مصياف التابعة لمحافظة حماة في 27 شباط (فبراير)، عندما تم قتل وإذلال واعتقال عشرات الأشخاص في القرية بذريعة «ملاحقة الفلول»، إلى حادثة الدعتور في اللاذقية في 4 آذار قبل يومين من هجمات «الفلول» والمجازر التي أعقبتها منذ 6 آذار، والتي جاءت رداً على هجوم تعرّض له عناصر الأمن العام، وكان سلوك الانتقام الجماعي فيها واضحاً.

        سارت هذه التجاوزات في خط بياني صاعد واضح، يعبر عن طريقة واحدة للتعامل مع العلويين، عبر وضعهم في خانة مواطنين من الدرجة العاشرة، تسهل تصفيتهم دون سؤال ويمكن إذلالهم واعتقالهم وانتهاك حقوقهم ببساطة، ويمكن محاسبتهم بشكل جماعي وعشوائي على أي فعل يصدر من أي واحد منهم ضد السلطة الجديدة أو قواتها. بات شعور الاستباحة عاماً في أوساط العلويين، ولم تعد التطمينات اللفظية إلّا عبارات مخيفة تزجّ بهم عراة أمام مسلحين لا يمكن محاسبتهم على أفعالهم.

        ما الذي تعنيه المجزرة وما بعدها إذن؟

        لا نستطيع نزع الحوادث عن سياقها إذن، وخاصة أن المطالبات بالقبض على المطلوبين من مجرمي النظام الأسدي من قبل أهالي الساحل كانت قد ارتفعت كثيراً، وبالذات بعد حادثة عين الشرقية، فهؤلاء المطلوبون من بقايا النظام السابق لا خيار أمامهم سوى القتال وجمع الناس من حولهم، بحيث بدا بالنسبة لكثيرين أن ترك الأمن العام لهم ما هو إلا طعم لدخول المناطق واقتحامها. وقد طُرِحَت أكثر من مرة فكرة إعلان قوائم بالمطلوبين في كل منطقة لوضع مهلة وخطة يجبرون بها على الهروب أو تسليم أنفسهم بعد محاصرتهم، لأنهم بالنسبة لأهالي القرية قنبلة موقوتة تنذر بالكارثة.

        نقلت هذه التجاوزات والجرائم والسياسات الثقة بالسلطة الجديدة وتطميناتها إلى الهاوية، وصار يقيناً عند بعض مقاتلي النظام السابق الفارين أنهم على حق في ضرورة القتال ضد الإدارة الجديدة. قادنا كل هذا السياق إلى مجازر الساحل من 7 حتى 11 آذار (مارس) ردّاً على تمرد بعض مجموعات النظام السابق في 6 آذار، والتي أثبتت إثباتاً كلياً ونهائياً أن السلطة تُضمر الانتقام من العلويين بشكل كامل.

        جاء خطاب أحمد الشرع الذي يعترف بوقوع تجاوزات مساء الجمعة 7 آذار، ولم تتوقف المجازر الإبادية لمدة ثلاثة أيام بعده، ليكون هذا دليلاً على ضوء أخضر بما حدث، وعلى أن الانضباط النسبي الذي حاولت قوات السلطة الجديدة إظهاره حتى أواخر شباط لم يكن إلّا جزءاً من مرحلة تعويم سياسي. لماذا لم يتم التعامل بالطريقة المنضبطة نفسها مع الكمائن القذرة التي نفذها فلول النظام في 6 آذار؟ فالمجزرة لم تكن معركة ضد فلول النظام بل بدأت بعد نهاية المعركة، وكانت حرباً ضد مدنيين وبلسان القتلة الذين صوروا أفعالهم بأنفسهم لأيام دون خوف من سلطة أو قانون. هذه العلانية بدورها جاءت دليلاً على الضوء الأخضر، تماماً كما أن تصفية الذكور جميعاً في بعض القرى، كما جرى في قرية المختارية في ريف اللاذقية، جاءت دليلاً على النهج الإبادي.

        لم يتوقف هذا السياق حتى اليوم، ونستطيع أن نتكلم أننا في المرحلة الثالثة الآن، مرحلة التصفية اليومية التي تشمل أعمال قتل وخطف وترهيب متفرقة شبه يومية، أو مرحلة الخروج للصيد كما أسماها أحد أهالي طرطوس، وهو من المعارضين المعروفين للنظام الأسدي، لكنه «علوي» أي تنطبق عليه المواصفات الكاملة للطريدة؛ يقول: «أخرج لجلب حاجيات المنزل تماماً مثل أي طريدة، وقد لا أعود اذا تعثّر بي صيّاد في هذه الغابة الوحشية».

        يعيش العلويين اليوم تحت وطأة الخوف والرعب والشعور بالاستباحة (يتفاوت حجم هذا الشعور بين منطقة وأخرى ووقت وآخر)، فقد يطرق بابهم وفي أي وقت فصيل ما، أو مجموعة مسلحة، أو أمن عام دون لباس أمن عام، ويقتحم عليهم منازلهم أو طريقهم أو يخطفهم ويقتلهم دون القدرة على الدفاع عن النفس. لا شك أن من يعتبرون أن هذا مجرّد تهويل، أو يعتبرون أن المجازر التي وقعت كانت قدراً وأنها انتهت الآن، يعرفون معنى أن يدخل مقاتلان تابعان لوزارة الدفاع إلى بيت في قرية ويقتلوا مُضيفهم ومختار القرية وعائلته في أول أيام عيد الفطر، قبل أن يمرّ شهرٌ على المجزرة، في حادثة قرية حرف بنمرة في ريف بانياس؛ هل يستطيع الأهالي بعد هذه الحادثة تصديق مسرحية الشرطي الجيد (الأمن العام) والشرطي السيء (الفصائل)؟ هل يستطيعون إقناع أنفسهم أن دخول الأمن العام سيحميهم، بعد اعترافه بوجود فصائل «غير منضبطة» للمرة الألف، وتركها تجوب الساحل في الوقت نفسه.

        من يعرف الساحل والمنطقة يعرف جيداً صعوبة الخروج و«التصيد» قتلاً أو خطفاً على يد شخص لا يتبع للفصائل، وفضلاً عن ذلك قد يؤخذ أي شاب على الحاجز أو من بيته ويوجد لاحقاً مقتولاً. هناك حوادث متكررة شبيهة بالحادثة التي فجّرت أحداث آذار، حين أرادت قوة من الأمن العام اعتقال شخص من بيت عانا بسبب وشاية، وقد اعترض بعض أهالي القرية على الاعتقال كي لا يجدوه لاحقاً مرمياً في الأحراش كما حصل في حوادث أخرى. وطبعاً لا يعني هذا إنكار وجود الفلول وهجماتهم، لكن السياق يضع مسؤولية  ما جرى ويجري على عاتق من يريد من مجموعة من البشر أن تتعامل معه كدولة، وهو لا يريد أن يتعامل معهم كمواطنين.

        السياق الحالي في الساحل وأرياف حمص وحماة كما تقول شهادات أغلب من تحدثتُ إليهم من علويين في مناطق متعددة: «نعيش يومنا بقلق وحذر، وخوف بشأن قدرتنا على تحصيل يومياتنا للعيش، مع أخبار شبه يومية عن اختفاء أشخاص في طريقهم إلى أعمالهم أو مدارسهم أو لجلب حاجياتهم. وحين تغيب الشمس نتحول إلى العيش في عالم آخر مثير للذعر، لا نستطيع مدَّ رؤوسنا لمعرفة مصدر الأصوات من انفجارات قنابل وإطلاق رصاص يحدث بشكل متكرر في مناطق عديدة، وحتى على صفحات التواصل لا أحد يعرف مصدر إطلاق الرصاص والأصوات، لأنه لا أحد منا يستطيع الخروج ليعرف السبب. كما أن أكثر المؤسسات الرئيسية حتى هذا اليوم لم تفتح أبوابها للمواطنين بشكل فعلي؛ اقتصاد مشلول، أعمال متوقفة، لجنة تحقيق لم تعلن شيئاً حتى الآن، بينما لم يتوقف القتل والترهيب حتى الآن أيضاً».

        أغلب من سألناهم عن رأيهم في تمديد عمل لجنة التحقيق في المجازر لم يعطوا أي أهمية للأمر، فالنتيجة بالنسبة لهم واضحة ومحسومة سلفاً، تقولها الأفعال المستمرة ما بعد المجزرة، ويقولها عدم محاسبة أحد على الصعيد الفردي كحد أدنى. هم يحتاجون أن يصدقوا أن الفرصة ما زالت مُتاحة لإرساء الأمان وحمايتهم وحماية أولادهم، لكن أفعال السلطة تقول العكس حتى اللحظة.

        سألتُ عدة أشخاص من العلويين في مناطق لم تشهد حوادث عموماً عن أسباب خوفهم ويأسهم الآن، على عكس آمالهم في الشهر الأول؟ الجميع أكدوا أن كل ما يجري حولهم يَعدُهم بمقتلة قادمة وأن الدور على المناطق الأخرى قادم، وأن أخبار الحوادث اليومية والشعور بالاستباحة توحي بذلك. وحادثة تهديد عشيرة أبو الحارث قسطون لمناطق في جرد الدريكيش خير مثال، فقد تم خطف القيادي الأمني على يد أشخاص من المنطقة، وأفراد عشيرته يعرفون الخاطفين بالاسم كما يقولون، لكنهم يقولون علناً دون أي رادع إنهم سينتقمون من أبناء المنطقة بشكل جماعي إذا لم يظهر أبو الحارث حياً؛ «هل الشخص من عندهم يساوي ألفاً من عندنا؟ هذا مثال تدعمه أمثلة يومية أخرى تقول إن علينا انتظار دورنا في المجزرة، هل يريدون القول إن لا أمان لنا، وإنه ليس هناك من ينوي حمايتنا» يقول أحد أبناء المنطقة.

        نحن الآن إذن أمام دفع واضح للناس إلى المقتلة واليأس، ما يُذكِّر بالنظام الأسدي حينما استباح حياة الناس في المناطق الثائرة عليه، وأوصلهم إلى أوضاع دفعتهم لقبول أي سلاح لحماية أنفسهم وحماية عوائلهم. هل تدفع السلطة الحالية الناس في الساحل إلى هذا السياق كما تفعل أي سلطة تريد أن تثبت أنها تحارب إرهابيين؟ ليس هناك توقعات ممكنة بشأن مسار الأمور، ولكن العلويين في سوريا لم يعودوا ذاتهم الذين كانوا في الشهر الأول بعد سقوط الأسد: يتلقون التطمينات دون أن يتوقعوا الفردوس بالتأكيد، لكنهم كانوا يصدقون أن الخلاص في خطوات قادمة، خطوات تعاملهم كمواطنين لا كطرائد للانتقام الطائفي والسياسي. نحن اليوم أمام مسار من إعادة إنتاج السلطة السابقة أو تدويرها، ما سيؤدي إلى انتهاء فرص للسوريين في تحقيق مصلحتهم المشتركة في العيش الآمن على الأقل قبل التفكير بالتكافل. أول خطوة هي المحاسبة تحت سقف القانون للجميع دون تمييز، قبل أن تُبتر أقدام السوريين جميعاً على الطريق نحو بناء كرامة متساوية يُبنى عليها مشروع وطنٍ ما، وطنٍ بلا دماء على الأقل.

موقع الجمهورية

——————————–

هل تسهم بعض النخب السورية في إنتاج وتكريس الطائفية؟/ حسن النيفي

2025.04.15

لم تتمكّن النخب السورية – بمختلف انتماءاتها – من تجسيد حالة نوعية أو مفصلاً فارقاً في سياق المواجهة بين الشعب السوري ونظام الأسد منذ عام 2011 وحتى الثامن من شهر كانون الأول الماضي، ويعزو بعضهم هذه العطالة في الدور النخبوي إلى انزياح الثورة في وقت مبكر إلى العسكرة، وتحييد الحراك السلمي والمجتمعي موازاة مع سيطرة الحالة العسكرية والفصائلية.

في حين يتحدث آخرون عن دور التدخّل الدولي، بل التحكّم الخارجي بمفاصل القضية السورية وتحوُّل أطراف الصراع المحلّيين إلى كيانات وظيفية ينحصر دورها في الامتثال لرعاتها الخارجيين وما تقتضيه مصالحهم، الأمر الذي دفع بكثير من المثقفين والناشطين السوريين إلى الانزواء خلف الأحداث والاكتفاء بمراقبة المشهد أو الانشغال بتحليل ما يجري وربما التفكير أو الانشغال بما يمكن أن تكون عليه سوريا فيما بعد العهد الأسدي.

النخب ومرحلة ما بعد التحرير

جسّد سقوط الأسد حافزاً لكثير من النخب السورية للعودة بحماس إلى التعاطي مع قضايا الشأن العام سواءٌ من داخل البلاد أو من خارجها، وقد جسّدت مظاهر الندوات والمحاضرات والحوارات المعقودة داخل المدن السورية حالةً من الغبطة باعتبارها نشاطاً مجتمعياً حرّاً لا تقيّده سطوة الحاكم ولا توجهه مؤسسات السلطة، وهذا هو المدخل الصحيح لإيجاد حراك ثقافي يؤسس للاعتراف بالتغاير ومشروعية الاختلاف بالرأي، إلّا أن هذا النزوع النخبوي نحو المصارحة في بسط المسائل والمضيّ في مقاربات أكثر شفافية حيال مرحلة ما بعد الأسد سرعان ما اصطدم بشرخ مباغت تمثّل في الأحداث الدامية التي وقعت في مدن الساحل السوري في السادس من شهر آذار الماضي.

الشيء المهم الذي كشفته أحداث الساحل – شأنها كشأن أي حدث مفصلي – هي أنها عصفت بكثير من الأقنعة الفكرية والأيديولوجية لأصحابها، وأسفرت عن الوجه الحقيقي الكامن خلف القناع، وهذا الأمر قلّما يحدث إلّا في أعقاب حوادث ذات حساسية متجذّرة في البنى الذهنية والنفسية للأفراد، إذ غالباً ما تخفي الانتماءات الكونية الكبرى – الفكرية والسياسية – بشعاراتها ومجمل تجلياتها التعبيرية، انتماءات أخرى خلفها – دينية – طائفية – عرقية – وقد نجد في التاريخ الحديث تجليات عديدة لهذه الظاهرة في أوساط النخب الثقافية والسياسية سواء في الحرب اللبنانية أو في حرب الخليج الأولى والثانية، وقد حملت الثورة السورية في بداياتها جانباً من هذه الظاهرة، ولكنّ الجانب الأكثر وضوحاً بدا أكثر صراحةً في التعبير عن نفسه في ما بعد السادس من آذار، وذلك من خلال انشطار الخطاب النخبوي السوري إلى صنفين، يسعى كلٌّ منهما إلى تحصين سرديته بجملة من الوقائع والتصورات التي تستلهم التجييش والاستثارة العاطفية وغلبة الصوت المرتفع أكثر ممّا تستلهم الحقائق والدقة في النقل والرواية، وخاصة أن الميدان الأرحب لاشتباك هذين الشطرين من الخطاب هو وسائل التواصل الاجتماعي التي توفّر مناخاً خصباً لهذا اللون من الاشتباكات.

في النكوص نحو المظلوميات

1 – يختزل الصنف الأول ما جرى في الساحل السوري في أنه محاولة انقلابية على نظام الحكم، وبالتالي فإن جميع ردّات الفعل المنبثقة من فصائل تابعة لوزارة الدفاع إنما هي في سياق الرد على ما قامت به فلول النظام من اعتداءات، في مسعى واضح للتنكّر لأي تجاوزات من جانب

الفصائل العسكرية على أرواح المدنيين وممتلكاتهم بدوافع طائفية، سواء من خلال عمليات التصفية الجسدية أو الإذلال أو السلب والاغتصاب، وهو وإن اضطر إلى الاعتراف بما وقع بالفعل، فإنه سرعان ما يواجه ذلك بمظلومية سابقة للعرب السنة، متذرّعاً بما مارسه نظام الأسد من إبادة طوال عقود من الزمن، وكأن مظلوميته التي كان هو في موقع الضحية منها، تجيز له أن يتحوّل إلى دور الجلّاد، وبالتالي هو لا يفكر خارج منطق الانتقام، ليس ممن ظلمه أو تسبب في مظلوميته، بل من مواطنين أبرياء، وهو بسلوكه هذا لا يجافي منطق العدالة فحسب، بل أي عرف إنساني أو أخلاقي آخر، فضلاً عن تجرّد هذا المنطق من أي قيمة ثورية ذات صلة بالمسألة الوطنية.

2 – أمّا أصحاب الصنف الثاني من الخطاب النخبوي فحاولوا الاشتغال بحرفية تحريضية على النصف الثاني من الوقائع فحسب، فحذفوا الجزء الأول من المشهد ( المحاولة العسكرية التي استهدفت عناصر الأمن العام ونكّلت بهم) كما أنكروا صلتها بأي طرف إقليمي خارجي، في حين أن داعميها الإقليميين لم ينكروا ذلك( وكالة مهر الإيرانية على سبيل المثال لا الحصر)، فضلاً عن اعتراف قادتها ومموليها على شاشات التلفزة. كما حاولوا اختزال المشهد على أنه قتل لمجرد القتل فحسب، يمارسه العرب السنة ضدّ العلويين، في مسعى واضح لاستدرار العطف الدولي وتأليب الرأي العام على الحكومة السورية، ولإثبات ذلك غالباً ما لجأ هؤلاء إلى حشد أكبر قدر من الوقائع والروايات المُجتزأة من سياقها، بأسلوب يقترب من سرد مشهد روائي يتداخل فيه الخيال مع الواقع، وربما كان بعضها غير صحيح، وهذا ما جعل بعضاً من هؤلاء يتنكّر أو يحذف في اليوم الثاني ما كان قد ادّعاه أو أثبته في اليوم الأول، ومضى هذا الخطاب في نبرته التحريضية مدّعياً أنه لا يجوز لوم الضحية أو إسكاتها عن الصراخ، في حين أن تزييف الوقائع واستثمارها هو الانتهاك الحقيقي لصوت الضحية ومصادرة لحقها في الإفصاح عن وجعها الحقيقي وليس المُستعار. وقد بلغت نزعة الاستعلاء لدى هذا الضرب من الخطاب إلى اعتبار جميع السوريين ممّن لا يتماهون معه بأنهم عديمو الضمير، أي لا يكفي من وجهة نظر هؤلاء، أن تدين الجريمة وترفضها، بل عليك أن تنخرط في جوقة التحريض التي يقودها ذلك المثقف النخبوي الذي لا تستبطن نخبويته أكثر من ( مختار طائفي)، كما يتوجب عليك مشاطرته الجهد في التبشير بنهاية الحكم الجديد في البلاد، وحينها فقط، يمكن أن تحظى بصكّ نظافة الضمير والانتماء إلى الإنسانية.

ما هو لافتٌ لدى أصحاب الموقفين معاً هو أن كليهما، ومن خلال خطابه المجافي للحقائق الموضوعية، يسهم في إفراغ مظلوميته التي يتحصّن بها من بعدها الإنساني والأخلاقي معاً، ولئن كانت مظلومية العرب السنة تتجسّد بما مارسه بحقهم نظام الأسد من إبادة واستئصال طوال عقود من الزمن، فإن هذه المظلومية تفقد اعتبارها الإنساني إن تحوّلت إلى سلوك انتقامي يصبح من خلاله مَنْ كان ضحيّةً في الأمس، جلّاداً هذا اليوم. وكذلك إذا اعتقد أصحاب الشطر الثاني من الخطاب أن التأسيس لمظلومية علوية ربما يفضي إلى طمس معالم المظلومية الأولى أو تقويضها، فهذا ضرب من الوهم أيضاً، ذلك أن أهالي الضحايا لم ينتهوا حتى هذه اللحظات من البحث عن رفات أبنائهم، سواء في صحراء تدمر أو في سجن صيدنايا أو أماكن الإبادة الأخرى.

وما هو لافتٌ لدى الطرفين أيضاً، هو أن الحكومة الرسمية للبلاد لم تتنكّر لما حدث في الساحل، ولعل إقدام رئيس الجمهورية على تشكيل لجنة للتحقيق وتقصّي ما حدث هو الدليل الأوضح على الإقرار بها، وهذا أمر في غاية الأهمية، فلمَ الاستمرار في اتهام الحكومة بنكران ما حدث؟ ثم لماذا ارتفعت نبرة التشكيك في عمل اللجنة التي تشكلت بهذا الخصوص قبل أن تعلن عن أي نتيجة؟

ربما يبدو من نافل الكلام أن نكوص النخب السورية إلى صراع المظلوميات إنما يجسّد تكريس العجز عن إنتاج خطاب وطني يتّسم أولاً بمزيد من المسؤولية الوطنية و الأخلاقية، ويتّسم ثانياً بقدرته على المقاربة الموضوعية والإحاطة الشاملة وغير المجتزأة لقضايا البلاد بعيداً عن مؤثرات الرواسب الأيديولوجية والانتماءات ما دون الوطنية. وأخيراً يمكن التأكيد على أن (الوباء الطائفي) في جزء كبير منه، هو مُنتَجٌ نخبوي، أكثر مما هو ظاهرة متجذّرة في المجتمع السوري.

تلفزيون سوريا

——————————

====================

الإعلان الدستوري لسوريا 2025-مقالات وتحليلات- تحديث 15 نيسان 2025

لمتابعة هذا الملف اتبع الرابط التالي

الإعلان الدستوري لسوريا 2025

———————————-

الإعلان الدستوري وطبيعة الأشياء: عروبة وإسلام في كليهما/ محمد أمير ناشر النعم

15 ابريل 2025

وقّع الرئيس السوري أحمد الشرع، في 13 مارس/ آذار 2025، إعلاناً دستورياً يُحدّد مدة المرحلة الانتقالية في البلاد بخمس سنوات، وانقسم السوريون حوله ما بين مؤيّد ومعارض، ولا سيّما حول المادّة الأولى التي وصفت الجمهورية السورية بالعربية، والمادّة الثالثة التي نصّت على أنّ دين رئيس الجمهورية الإسلام، والفقه الإسلامي هو المصدر الرئيس للتشريع. وباعتباري مواطناً سورياً، أدلي هنا بشأن هاتين المادّتين بين بقية الدلاء.

بداية من الأكراد والهوية العربية، حيث اعترض كثيرون من الإخوة السوريين الأكراد على المادّة التي حدّدت اسم الدولة بـ”الجمهورية العربية السورية”، أي: أكّدت صفة العربية في اسم الدولة، ورأوا في ذلك نفياً لكرديّتهم، وتجاوزاً على حقّهم، وإكراهاً لهم في حمل هوية مغايرة.

وهنا لا بدّ من الإشارة أولاً إلى تعرّض الشعب السوري في الستين سنة الأخيرة إلى ظلم لا يُجارى، وإذا كان العرب السوريون قد تعرّضوا لذلك كله تعرّضاً مفجعاً، فالأكراد السوريون تعرّضوا له تعرّضاً مضاعفاً، ظُلموا بوصفهم سوريين، ثمّ ظُلموا بوصفهم أكراداً. وليست هذه المطالعة في وارد تفصيل صور هذا الظلم اللئيم الذي عمّ وطمّ. وأمام هذه المحنة، فإنّ من واجب الدستور السوري أن يُسهم في إنصافهم، وردّ اعتبارهم، في دولة الحريات والمواطنة، وتمكينهم من حقوق المواطن في تجلياتها كافّة لا ينقص منها حق. ولذلك، نحن نتفهم حساسية الكردي حين يرفض كلمة “العربية” في وصف الدولة، بعد أن غدت كلمةً تنزّ منها تجربةٌ مريرة في ظل حكم البعث البائد، غير أنّ تحميل هذه الكلمة وزر الجريمة البعثية فيه نظر، فالأكراد في العراق حين حكمه “البعث” تعرّضوا لما تعرض له إخوانهم في سورية، علماً أن الجمهورية العراقية خلت من كلمة العربية.

عندما يقول الكردي: “أنا لستُ عربياً” فهو محقٌ من حيث نفي الانتساب العرقي، ولكنّه مخطئٌ من حيث نفي الانتساب الثقافي التاريخي، وهو عندما يصرُّ على هذا النفي يرفض ميراثاً غنياً ثرياً وافراً زاخراً، فالكردي الذي يرفض الهوية “العربية” ثقافياً يمزّق بيديه إهابه الأقرب إليه زمناً على مدار أكثر من 1400 سنة، ويحرم نفسه من مساهمته الحضارية في هذه المدّة التي هي من أهمّ المساهمات الثقافية العالمية! فما كتبه الكرد وأنجزوه باللغة الكردية على مدار تاريخهم لا يمكن مقارنته بما كتبوه بالعربية، لسببين:

الأول، لم يشعر الكردي في تاريخه الإسلامي بالتناقض بين هويته العرقية التي ينتمي إليها نسباً وهويته الثقافية الدينية التي ينتمي إليها محيطاً ومجالاً، بل كان بسعته وحصافته وانفتاحه يؤمن بهويته المركّبة ويفتخر بها. هذه الهوية التي تغتني في كلّ وصف جديد يُضاف إليها، كما يغتني الجناح في كلّ ريشة تنبت له. نقرأ في نهاية كتاب رحلة طه الكردي الباليساني في العراق وبلاد الشام والأناضول ومصر والحجاز، الذي انتهى منه سنة 1789م: “انتهى تحريره على يد محرّره الفقير طه بن يحيى بن الأمير سليمان بن الأمير محمد علي بيك، المأمومي الكردي اليمني، الشافعي مذهباً، والقادري طريقةً، والإبراهيمي ملةً، والمحمدي أمةً، والباليساني بلداً، والخشناوي عشيرةً، والشامي مهاجراً، والحمد لله أولاً وآخراً”، وما أغنى هذه الشخصية الكلاسيكية! وما أغزر هذه الهوية المركّبة المنصهرة في بوتقة واحدة! وهذه الشخصية كانت النموذج المعمّم في هذا الحوض الحضاري الذي يتلاقى فيه الكردي والعربي والفارسي والتركي إلخ، بل هي الهوية المركّبة لبلاد الشام/ سورية، التي تقع فيها الهوية العربية الإسلامية كاللون الأساس في اللوحة، ثمّ تأتي بقية اللوينات الأخرى فتمتزج به وتعطيها فرادتها وجمالها وبهاءها.

الثاني، أنّ اللغة العربية أسعفت الكردي بانضباطها معجماً ونحواً وصرفاً وفقهاً وإملاءً، وهو انضباطٌ سبق انضباط اللغة الكردية بأكثر من ألف عام، فأتاحت له بحبوحةً في الكتابة وبُلَهْنية في التأليف، بل كان هو نفسه أحد المساهمين في ضبط هذه اللغة وصقلها وارتقائها، إلى جانب الكتّاب الآخرين من الفرس والعرب والأمازيغ إلى آخر ما هنالك من قوميات.

كان الكتّاب والمؤلفون الكرد تاريخياً عرباً في الكتابة، عرباً في التذوّق الأدبي، عرباً في التبنّي الفكري والثقافي، عرباً في أسمائهم، والأمثلة أكثر من أن تُحصى أو أن تُستقصى، وحسبنا أن يُشار هنا إلى قاضي القضاة في مدينة دمشق أبي العباس شمس الدين أحمد بن محمد بن إبراهيم بن أبي بكر بن خلِّكان الذي يُنسب إلى قبيلة الزرزارية الكردية، مؤلف كتاب “وفيات الأعيان وأنباء أبناء الزمان”، وقد وصفه الإمام الذهبي بقوله: “كان بصيراً بالعربية، علّامة في الأدب”، ولذلك فنحن في كتابه هذا لا نقرأ تاريخ شخصيات يترجم لها فقط، بل نقرأ كنزاً أدبياً حقيقياً تتجلى فيه ذائقة ابن خلكان العالية في الأدب العربي

ويُشار أيضاً إلى نموذج آخر، شيخ الإسلام تقي الدين أبو عمرو عثمان بن عبد الرحمن بن عثمان بن عبد الرحمن بن عثمان بن موسى الكردي الشهرزوري الموصلي الشافعي، المعروف اختصاراً باسم ابن الصلاح الذي ولد في شهرزور، ثمّ استقر بعد تنقلات عديدة في دمشق، وصار شيخ المدرسة الأشرفية، وهذا الرجل هو نقطة علّام في علوم الحديث النبوي، ومقدمة ابن الصلاح في مصطلح الحديث تضارع مقدمة ابن خلدون في علم الاجتماع أهميةً ومكانةً، وكان أحد شيوخ ابن خلكان، ويصفه في كتابه وفيات الأعيان بأنّه “من جلة مشايخ الأكراد المشار إليهم […]، وأحد فضلاء عصره في التفسير والحديث والفقه وأسماء الرجال وما يتعلق بعلم الحديث ونقل اللغة”، وواضح هنا أنّ المقصود باللغة اللغة العربية.

المثال الأخير الذي لا أرتضي إغفاله فهو الملك أبو الفداء الحموي إسماعيل بن علي بن محمود بن محمد بن عمر بن شاهنشاه بن أيوب الأيوبي، صاحب كتابي “المختصر في تاريخ البشر” و”تقويم البلدان”، وهذا المؤلِّف الكردي من أهمّ العقول الكردية نسباً، العربية كتابة وتفكيراً، والإنسانية توجّهاً، ولذلك عرفته أوروبا معرفةً ليست أقل من معرفة العرب به، إلى درجة أن شيخ المستشرقين الروس كراتشكوفسكي قال عن “تقويم البلدان”: “إنّه لم يَفُقْه في الشهرة هناك، أي في أوروبا، إلا مصنفان في اللغة العربية بأجمعها: القرآن وألف ليلة وليلة”.

هذه أمثلة لشخصيات كردية علمية عظيمة هي السلف الأقرب للعرب والأكراد معاً جنباً إلى جنب مع العلماء والشعراء الأكراد القلة ممن كتبوا باللغة الكردية والعربية، ولا نغفل هنا عن ذكر الحكّام الأكراد، وفي مقدّمتهم السلطان صلاح الدين وأولاده، والأسر والسلالات الكردية الحاكمة الأخرى، كالشداديين، والحسنويين، والمروانيين، التي كانت ترعى العلم والعلماء من كل الأعراق، كابن شداد، وعماد الدين الأصفهاني، والقاضي الفاضل، ومئات العلماء الآخرين، وتَكْفَلُهم وتموّل تآليفهم وأعمالهم العلمية العربية الإسلامية، ولو راجعنا أسماء أمراء هذه السلالات الكردية فسنجدها في معظمها أسماء عربية، مثل أسماء العلماء الأكراد المذكورين للتوّ، لاعتزازهم بالهوية العربية الإسلامية، وليس لأنّ موظّف النفوس البعثي كان يجبرهم عليها، أسماء من قبيل: المهلهل بن محمد، وأبو الفتاح محمد بن عناز، وظاهر بن هلال بن بدر، وأبو علي الحسين بن مروان، وأبو النصر أحمد بن مروان، وصلاح الدين بن يوسف بن نجم الدين بن أيوب، وعثمان بن صلاح الدين، وناصر الدين محمد بن سيف الدين… إلخ، وهكذا نرى أن العربية هي جزءٌ أصيل في الهوية الكردية، وليس مفتعلاً ولا طارئاً ولا عرضياً ولا استثنائياً. الطارئ والعرضي والاستثنائي هو الحالة المعاصرة المتنكّرة لهذا التاريخ الطويل الممتد لأكثر من ألف عام، ومن السهل هنا سرد مسوغات هذا التنكّر، والدفاع عنه بدافع القومية تارةً والإيديولوجيا تارةً أخرى، ولكنّها تظلّ مجرّد مسوغات لا تستوعب فداحة هذا التنكّر الذي يسلب من أمة كاملة تاريخها، ويحرمها منه، ويجهّلها به، تماماً كمن يهدم أساس بيته ليعمّر حيطانه وسقفه.

الكردي عندما يتقبّل الهوية العربية بوصفها جزءاً من تاريخه الثقافي لا يعترف بتاريخه فقط، بل ينفتح على الغالبية العظمى من الشعب السوري، وينفتح أكثر على ما يتيح له الانخراط في عالمٍ رحيب كعالمه الكردي نفسه، عالمٍ ممتد يعادل قارّة بأكملها، بما يحمله هذا الامتداد من إمكاناتٍ تشاركية وتفاعلية ثقافةً واجتماعاً واقتصاداً.

دين رئيس الدولة الإسلام

ويعترض بعضهم على هذه المادّة بأنّ غير المسلم السوري لن يكون في مقدوره أن يترشّح للرئاسة، وهذا اعتراض مهمٌ ومُحقٌّ، ويخدش في المساواة التي نتطلع إليها، غير أنّنا في المقابل لا نستطيع أن نقفز على الواقع، ولا أن نتجاوزه، فنحن في دولةٍ أغلبية شعبها مسلم، ويجب مراعاة هذه الأغلبية لسبب جوهري، هو إضفاء الشرعية على مقام الرئاسة، فالدين الذي يدين به أغلبية أفراد الشعب ويؤمنون به يقول إنّ الإسلام هو أحد شروط صحة الولاية العامة، أي: رئاسة الدولة، وبدونه لا تصح هذه الولاية، ويفقد الرئيس شرعيته دينياً، فيصعب عليه قيادة البلاد، لأنّه لا يمتلك الشرعية في الضمير الديني لدى الغالبية، ولا يؤمنون بضرورة تقديم الطاعة والولاء له، ولكن عندما تخرج فتوى فقهية في المستقبل تسوّغ إمامة غير المسلم، ويقتنع بها عموم الناس فعند ذلك تصبح هذه المادّة الدستورية زائدة عن الحاجة، أما الآن فهي ضرورة، لأنّنا بحاجة إلى الشرعية، وبدونها لن تسير البلاد إلا فركحة.

وعلى سبيل الاستطراد: من شروط الولاية العامة في الرأي الفقهي التقليدي الذكورة أيضاً، وعليه لا تصح رئاسة المرأة، وهذا الحكم كان من المسلّمات الفقهية، ولكن في أكبر بلد إسلامي من حيث العدد، أي إندونيسيا، انتخب المسلمون لأول مرة في تاريخ البلاد ميجاواتي سوكارنو رئيسة للجمهورية سنة 2001، بعد أن مهّدت جمعية نهضة العلماء Nahdlatul) (Ulama في البلاد لذلك، وكانت هذه الجمعية قد خاطبت الشخصيات المشهورة من علماء المسلمين، وطلبت منهم إعطاء رأيهم في هذه المسألة، فجاءتهم بعض الأجوبة التي هي اجتهاد جديد في عالم الإسلام مجيزةً ذلك ( )، وكان قد سبقها إلى منصب رئاسة الوزراء الشيخة حسينة وخالدة ضياء في بنغلادش، وبي نظير بوتو في باكستان.

الفقه الإسلامي المصدر الرئيس للتشريع

ومرّة أخرى، نقول بضرورة هذه المادّة الدستورية، لأنّها تعطي الشرعية لمجمل القانون السوري والقضاء السوري والمحاكم السورية، وبدونها تستنكف الكثرة الكاثرة من المواطنين السوريين عن الاعتراف بهذا القانون، ويتعاملون معه تعاملاً سلبياً، بل كان هذا حال سوريين كثيرين حتى بوجود هذه المادّة، لأنّهم عدّوها صورية، لذلك كانوا يلجأون إلى المشايخ ليحلوا لهم مشكلاتهم، وكانوا يقولون فيما بينهم: “خلّوا الشرع يحكم بيننا”، في تصريح واضح بأنّ القانون يمشي في سياق مختلف بالنسبة إليهم! ونحن بحاجة أكيدة لإزالة هذه الازدواجية التي لها آثار سلبية قوية عديدة، لم نبحث فيها ولم نلاحظها.

نريد أن يعترف الشعب بالقانون والقضاء والمحاكم، وأن يكون القانون ذا هيبة وحاكمية، وهذه المادّة تساعد على ذلك، أما التخوّف منها والتفجّع الذي نراه في أصوات بعضهم وهم يقولون: “سوف يرجعوننا إلى 1200 سنة مضت”! فمردّه إلى الجهل فقط، ولا شيء غير الجهل، فهم يتصوّرون الفقه الإسلامي مدونةً أُنجزت قبل 1200 سنة، ثم أُغلقت وطُويت، وأنَّ هذه المادّة الدستورية ستعيد تفعيل جسم محنّط تجاوز عمره الألف عام، ولا يدركون أنّ للفقه الإسلامي مسيرته المضطردة التي رافقت المجتمعات الإسلامية بل الدول الإسلامية منذ النشوء حتى هذه اللحظة، وأنّ الفقه الإسلامي ظلّ في حالة تطوّر دائمة مُبدِياً مرونة واستجابة تفوق خيال هؤلاء المتشنجين من هذه المادّة الدستورية، ولا سيما في عهد الدولة العثمانية التي غدت إمبراطورية، وظهرت فيها (القوانين نامة) لتغطية الحاجة إلى تنظيم الشؤون الإدارية، وحفظ الرعية من جور الحكام والولاة، وتحقيق الوحدة القضائية في أرجاء السلطنة، وقد انبثقت هذه القوانين من أصول التشريع الإسلامي ومقاصده، معتمدةً في الدرجة الأولى على الفتاوى الفقهية، ثمّ على الأوامر السلطانية التي تدخل تحت مبدأ (السياسة الشرعية) الذي يعطي ولي الأمر صلاحيات واسعة في سن التشريعات في سبيل تحقيق مصالح الناس المعتبرة، وتدبير شؤونهم بما يتفق مع الشريعة، ثمّ على العادات والأعراف على قاعدة:

والعُرف في الشرع له اعتبارُ…. لذا عليه الحُكم قد يُدارُ

بدأت هذه القوانين بالظهور سنة 882 هـ/ 1477م، مع “قانون نامة محمد الفاتح” الذي أشرف على كتابته الفقيه الحنفي ليث زادة التوقيعي، ثمّ توالى بعده “قانون نامة السلطان سليم الأول” الذي كان يقف وراءه شيخ الإسلام ابن كمال باشا، و”قانون نامة سليمان القانوني” الذي رعاه فقهياً شيخ الإسلام أبو السعود أفندي.

تعدّدت القوانين نامة، لأنّها كانت في حالة تطور دائم بحسب التوجيه الذي ختم به محمد الفاتح الباب الأول من قانون نامة عندما قال: “هذا ما ارتأينا من نظام أحوال السلطنة، وعلى أبنائنا الكرام إدامتها أو تعديلها لما هو أفضل”. وقد ظهرت حركة ترجمة واسعة لنُسخ كثيرة من قوانين نامة العثمانية إلى مختلف اللغات الأوروبية، بين القرنين 16 و18 الميلاديين، فاستفاد منها الأوروبيون. وفي المقابل، استفادت السلطنة من التقنين الأوروبي، وتحديداً الفرنسي الذي قفز قفزةً عظيمة في عهد نابليون بونابرت، فاقتبست منه القوانين المتعلقة بالعقوبات والتجارة والأراضي، أما القانون المدني فحرصت السلطنة على أن يكون مستمداً بحذافيره من الشريعة الإسلامية على المذهب الحنفي، وسُمّي مجلة الأحكام العدلية التي ظهرت ما بين عامي 1869 و1876. وبعد استقلال سورية عن الدولة العثمانية، ظلت مجلة الأحكام العدلية القانون المدني إلى أن حدث انقلاب حسني الزعيم سنة 1949، فألغى العمل بها، ظانّاً أنّه يقوم بثورة تشريعية، كما أوحى له وزيره للعدل أسعد الكوراني، الذي كان يكنّ عداوة خاصة للمجلة ولنظام الأوقاف الذري، وخلال أربعة أشهر ونصف (إبريل/ نيسان ـــ أغسطس/ آب 1949) أصدر القوانين المدنية والجزائية، مستمداً إياها من القانون المصري ذي الأصل الفرنسي، ولأنّ الزعيم لم يستوعب خطورة ما قام به على مستوى تفاعل أفراد المجتمع مع هذا القانون واعترافهم بشرعيته، نصّت الجمعية التأسيسية التي أنيط بها وضع دستور للبلاد، بعد إطاحته وإعدامه، سنة 1949 على أنّ “الفقه الإسلامي هو المصدر الرئيسي للتشريع”.

والسوريون اليوم بحاجة إلى إعادة صياغة التجربة التاريخية الوطنية في الخطاب العام والمعاصر لتحقيق مصلحة تحرّرية، ومن جملة بنود هذه الصياغة إعادة بناء التشريع القانوني على أسسه ما قبل الاستعمارية، هذه الأسس التي كانت تراعي التطور الإنساني العام وتجاريه، وهذا شكل من أشكال المقاومة، وسبيل من سبل النهضة.

والخلاصة: لم يخترع الإعلان الدستوري هذه المواد، ولم يضف شيئاً جديداً، بل كانت موادَّ ثابتة راسخة في كلّ دساتير سورية المتعاقبة، ما خلا دستور 1930 إبّان الاحتلال الفرنسي، فلما زال أُعيدت هذه الموادّ، وظلّت ثابتة في الدساتير اللاحقة حتى لحظة الإعلان الدستوري الحالي الذي أثبتها كما أثبتتها الدساتير قبله.

العربي الجديد

——————————–

إبراهيم درّاجي: نقاط جيّدة في الإعلان الدستوري وأخرى مقلقة

عز الدين عز الدين

15 ابريل 2025

منذ صدور الإعلان الدستوري في سورية في مارس/ آذار الماضي، لم يتوقف النقاش حوله، وبرزت وجهات نظر مختلفة ومتباينة بين من يعتبره إنجازاً دستورياً هاماً ومن اعتبره نكسة مخيبة للآمال بعد ثورة عظيمة خاضها الشعب السوري وقدم خلالها تضحيات جسيمة.

يعرض أستاذ القانون الدولي إبراهيم درّاجي، في المقابلة معه، ما تعد مؤاخذات قانونية على الإعلان الدستوري، مع مناقشة عدة تفاصيل بشأنه.

ماذا يعني مصطلح الإعلان الدستوري؟ وما الفرق بينه وبين الدستور الدائم والمؤقت؟ وهل يعتبر إصداره من حالات الضرورة؟

هذا جدل فقهي وأكاديمي غير محسوم، حيث لا يستطيع أحد أن يزعم إن هناك قواعد وضوابط لما يسمّى إعلاناً دستورياً أو دستوراً مؤقتاً أو دستوراً دائماً. حاول الفقهاء استخلاصه من تجارب الدول التي كانت تصيغ خلاصات دستورية في مرحلة ما بعد الحرب والنزاع المسلح. كانت هذه الخلاصات تقوم على أن الإعلان الدستوري هو الوثيقة الأولى التي تعلن نهاية مرحلة دستورية من دون أن تحدّد المسار الدستوري الذي ستسير عليه المرحلة المقبلة. أما الدستور المؤقت فهو الذي ينظم الأوضاع القانونية بمرحلة انتقالية، ويجب أن يكون مقيّداً بانتهاء هذه الفترة، ويكون مقتضباً بنطاق زمني محدّد، إما أن يكون محدداً بنص الإعلان الدستوري نفسه، أو بربطه بالمرحلة الانتقالية. بالتالي، ووفقاً لهذا التصنيف، الوثيقة التي نحن بصدد نقاشها في سورية دستور مؤقت، أما الإعلان الدستوري فهو مقرّرات مؤتمر النصر في 29 يناير/ كانون الثاني الماضي (2025)، وفي سورية يجب أن نمر بثلاث مراحل: إعلان دستوري، وهو مقرّرات مؤتمر النصر، والدستور المؤقت وهو موضوعنا، الموقّع من الرئيس أحمد الشرع في 13 من الشهر الماضي (مارس/ آذار)، وصولاً إلى دستور دائم.

للوصول إلى تقييم موضوعي وواقعي، هل نقارن الإعلان مع الدساتير السورية السابقة، أم مع الدساتير الدولية الديمقراطية؟ وما هي الآلية العلمية في تقييمه؟

غلبت على تقييماتنا، نحن السوريين، بعد 8 ديسمبر (2024)، الانطباعات الشخصية، فالذين يحبّون الإدارة ويؤمنون بها يعتقدون أن كل ما يصدر عنها هو جيد، والذين لا يحبونها يعتقدون أن كل ما يصدر عنها سيئ بالضرورة. نحن نمر بمرحلة تاريخية، وعلينا الآن أن نقيّم بصورة موضوعية. ولذلك من الطبيعي أن تعجبنا مواد بهذا الإعلان، ولا تعجبنا مواد أخرى، وهنا تبرز الحاجة إلى الاستناد لعدة معايير يمكن أن تقوم عليها عملية التقييم، وهي:

الأول: يجب مقارنة هذا الإعلان بالدساتير السورية السابقة لكي نحدّد بدقة مستوى ثقافتنا الدستورية، والتي تراكمت منذ بداية تشكل الدولة الوطنية ومراحل تطوّرها، إذ لا يمكننا إلا أن نبني عليها، حيث إن سقفنا الدستوري منخفضٌ جداً. على سبيل المثال، ينص الإعلان الدستوري الحالي على مادّة خاصة بالجيش والقوات المسلحة، وهذه المادة وفق المعايير الدولية عادية جداً، ولكن بمقاييسنا السورية هي ثورة، لأننا، ببساطة، لم نكن نجرؤ على الاقتراب من هذه المواضيع في دساتيرنا السابقة.

الثاني: أن نقارنه مع دساتير دول ما بعد الحرب والنزاعات المسلحة وليس مع دساتير الدول الديمقراطية المستقرّة. عملتُ أكثر من سبع سنوات مع لجنة الأمم المتحدة الاقتصادية والاجتماعية لغرب آسيا (إسكوا) لإنجاز وثيقة اسمها “سورية… بدائل دستورية”. وعندما كنا نعمل، لم نكن نستند إلى الدستور الأميركي أو الفرنسي مثلاً، بل كنا نعمل على استلهام تجارب مثل تجربة رواندا وسيراليون والعراق وليبيا ومصر وتونس، لأنها جميعاً دولٌ أتت دساتيرها بعد ثورات أو انقلاب أو حرب أهلية.

الثالث: عدم الفصل بين الواقعين القانوني والسياسي، فعلى سبيل المثال لا يمكنني مقارنة هذا الإعلان بالإعلان الدستوري المصري الذي صدر بعد ثورة يناير (2011)، حيث إنه صدر بعد ثورة شعبية سلمية لأسابيع أسقطت نظام حسني مبارك. أما في سورية فكان هناك صراع مسلح وقوة عسكرية أسقطت النظام، وهذه خصوصية يجب النظر إليها عند إجراء أي تقييم لهذا الإعلان.

ما هو المبرّر الدستوري والقانوني للنص على تحديد دين رئيس الدولة في الإعلان؟ باعتبار أنه إعلان مؤقت ولا إمكانية لإجراء انتخاب لمنصب رئيس الجمهورية؟ بالإضافة للنص على الشرع الإسلامي مصدراً للتشريع.

تحديد دين رئيس الدولة موضوع هام جداً ومتداخل ويحمل إشكالية. فعندما سألنا اللجنة لماذا لم تضعوا مادة تحدد جنسية المرشّح لرئاسة الجمهورية؟ كان الجواب أنه لا توجد انتخابات. سألناهم لماذا وضعتم نصاً يحدد دين رئيس الجمهورية إذا كانت لا توجد انتخابات؟ … يرتبط تحديد دين الرئيس في الإعلان بالنقاش حول هوية الدولة أكثر من شروط الترشّح لرئاسة الجمهورية. كنتُ من المشاركين في مؤتمر الحوار الوطني. وللأمانة، كانت أغلبية الحضور تطالب بأن يكون الإسلام دين الدولة، بل تطالب بنصوصٍ قاطعة وصريحة بموضوع هوية الدولة الدينية. وكانت وجهة نظري أن لا أحد يملك الحقّ في تغيير هوية الدولة لا لنا ولا ضدنا. واللجنة التي تقوم بالصياغة ليست مخولة بذلك، لأن هذا الدستور لن يعرض على الاستفتاء العام. العرف السائد في مرحلة الدساتير المؤقتة أن لا يجري المسّ بالثوابت، ومنها هوية الدولة. وبالرغم من أن توجهي دولة مدنية ومن أنصار عدم تغيير هوية الدولة في المرحلة الانتقالية لعدم إمكانية إجراء استفتاء شعبي، باعتقادي أن هذا النص حيادي أبقته اللجنة تماشياً مع الدساتير السورية المتعاقبة، مع ملاحظة أنه بحاجة إلى نقاش هادئ. كما أن أهم القوانين التي تؤثر في حياتنا اليومية من خلال التطبيق هما قانونا العقوبات والأحوال الشخصية، وهما صدرا قبل الخمسينيات وما زالا ساريين، ولم يتعدلا ولم يؤثر عليهما النص أو عدم النص على أن الفقه مصدر التشريع أو المصدر الرئيس للتشريع. نصّ دستور تونس عام 1957 على أن الإسلام دين الدولة. وبالرغم من هذا النص فإنه لم يحدّ من وجود قوانين تونسية مدنية في عهد الرئيس بورقيبة، بل نصّ على عدم تعدّد الزوجات.

ما تقييمك للإعلان من حيث الحقوق والحريات؟ هل رأيت فيه تطوّراً عن دستوري 1973 و2012 من حيث ضمان الحقوق والحريات؟ وما أهمية المادة التي تذكر القانون الدولي والشرعة الدولية لحقوق الإنسان؟

طبعاً، لا نستطيع مقارنته بدستور 1973 أو دستور عام 2012، لأنه دستور مقتضب، فلا يمكن لنا مقارنته بدستور دائم، فالمواد الواردة فيه المتعلقة بالحقوق والحرّيات محدودة. ولكن من المناسب الإشارة إلى بعض المواد، مثل المادة المتعلقة بالحقوق الجماعية التي لا يجري التركيز عليها عادة، مثل الحقوق الثقافية، وقد تم ذكرها ولأول مرة بالدساتير السورية، وهذا يعدّ أساساً دستورياً يمكن أن يمهد نحو التفكير في كيفية تجسيد هذا النص، كإقرار لغة رسمية ثانية في بعض المناطق (لغة كردية في شمال سورية مثلاً). أما الفقرة الخاصة بمعاهدات حقوق الإنسان، فهذا كان دوماً مطلباً لنا، لأن الدساتير السورية كانت صامتة تماماً عن ذلك، بل ولم تذكر “حقوق الإنسان” على الإطلاق. وكانت مطالباتنا بأن تتشكّل المنظومة القانونية وفقاً للتالي: أن يكون الدستور أولاً، والمعاهدات الدولية ثانياً، ثم القوانين الوطنية ثالثاً. وقد جاء هذا النص بشيء يفوق توقعاتنا، أن هذه المعاهدات جزء من الدستور، أي تسمو على القوانين الوطنية. وهذا إنجاز جيد، ولكن يجب أن ننتبه إلى أن المقصود بذلك اتفاقيات حقوق الإنسان فقط التي صادقت عليها الحكومات السورية، وليس كل قواعد القانون الدولي. ويجب ملاحظة أمرين هامين لا ينتقصا من النص، ولكنهما يثيران القلق، هما كيفية التطبيق وأن الحكومات السورية قد تحفّظت على مواد في اتفاقياتٍ مصادقٍ عليها لأسباب مختلفة، وينبغي العودة إلى كل اتفاقية، ومعرفة حدود هذه التحفّظات؟ والقضية الثانية أن هذا النص يحتاج تطبيقاً على أرض الواقع، وبالتالي لا نقدر ان نذهب إلى قاضٍ، ونطلب منه تطبيق أي معاهدة قبل أن تصبح جزءاً من القوانين، تستند إليها المحاكم، وهذا بحاجة إلى نص تشريعي يدمج المعاهدات المصادق عليها مع القوانين الوطنية.

تنصّ المادة 23 على حق السلطة التنفيذية بتقييد الحريات حفاظاً على النظام العام والصحة العامة والآداب العامة، هل تجدها مادة مقلقة، وهل تشكل خطراً على الحقوق والحريات العامة؟

هذه المادّة موجودة بدساتير عديدة، بل هي مأخوذة من الاتفاقية الأوروبية لحقوق الإنسان. ولكن المشكلة ليست في النص، إنما في بيئة التطبيق، في أوروبا مثلاً، لن يخشى من إساءة تطبيق هذا النص، لوجود رقابة شعبية حقيقية ومحكمة دستورية مستقلة وبرلمان قادر على مراقبة أداء الحكومة وأمين مظالم ورأي عام وأحزاب ومجتمع مدني وصحافة. فإذا تم التفكير بخرق هذا المبدأ والتوسّع بمفهوم النظام العام أو الآداب العامة والأمن العام ستكون هناك آلية رقابة. ولكن عندنا في سورية ولدى أغلبية الدول العربية، قلق كبير منه، ولا سيما أن لدينا، في الأساس، مشكلة كبيرة مع المصطلحات والنصوص الفضفاضة العائمة، فلدينا نصّ ما زال في قانون العقوبات يجرّم “وهن نفسية الأمة”، وحوكم سوريون كثيرون بسببه، وأنا أحمل الدكتوراه في القانون منذ ربع قرن ولا أعرف ماذا يعني هذا المصطلح، ولا أعرف كيف يمكن لأحد أن يوهن نفسية الأمة.

ما رأيك بالمادة المتعلقة بالمرأة؟ هل تؤسس لواقع جديد للمرأة السورية، وتمهّد الطرق نحو تحقيق المساواة بينها وبين الرجل، وحمايتها من كل أشكال العنف والتمييز؟

هذا أيضاً من النصوص التي تحمل إيجابيات وشيئاً من القلق. موضوع حقوق المرأة أكبر من مادّة دستورية، عندما نريد الحديث عن حقوق المرأة نتحدّث عن لغة جندرية واضحة، عن “كوتا” نسائية، عن تعديل قوانين، عن هيئاتٍ دستورية، عن حقوق واضحة، ويجب أن أذكّر بأنه دستور مقتضب، ولم نكن نتوقع أن يحقّق جميع مطالبنا في ما يتعلق بحقوق المرأة. وأيضاً المادة التي تنصّ على اعتبار الاتفاقات الدولية جزءاً من الإعلان الدستوري يمكن البناء عليها، لأن سورية موقعة على اتفاقيات دولية رئيسية في مواضيع حقوق المرأة.    

هل جرى ضمان استقلال السلطة القضائية في هذا الإعلان؟ مع العلم أن قانون السلطة القضائية الذي لا يزال ساري المفعول ينص بشكل واضح على أن رئيس الجمهورية هو رئيس مجلس القضاء الأعلى، ووزير العدل نائبه؟

في موضوع القضاء، نص الإعلان على إيجابيات عديدة، أهمها إخضاع القضاء العسكري لوزارة العدل، وإلغاء المحاكم الاستثنائية. وعندما صدر الإعلان الدستوري ولم أجد فيه ما ينصّ على أن رئيس الجمهورية هو رئيس مجلس القضاء الأعلى، اعتبرت هذا من أهم الإيجابيات. ولكن عندما شاهدت عضواً في لجنة صياغة الإعلان يقول على التلفزيون عندما سئل عن ذلك: نعم، لا يزال الرئيس رئيس مجلس القضاء الأعلى، لأن القانون ينص على ذلك، وبرّر بأنه إذا لم يكن رئيس الجمهورية هو رئيس مجلس القضاء الأعلى، فقضاة النظام البائد سوف يترأسون المجلس. ولكن هذا لا يعني أن النص الدستوري غير هام، بل قد يفتح نافذة أمل بتعديل قانون السلطة القضائية في المستقبل، وأن ينص على مادّة تضمن استقلال السلطة القضائية عن السلطة التنفيذية، تشبه النصوص في قوانين الدول الديمقراطية، بالتالي، هذا النص جيد بانتظار التطبيق.

هل تعتقد أن إعطاء الرئيس صلاحية تعيين أعضاء المحكمة الدستورية خرق لمبدأ فصل السلطات؟ ولكن هل توجد طريقة أخرى لتعيينهم في ظل عدم وجود مجلس تشريعي، وعدم استقلال مجلس القضاء الحالي؟

نعم، يعيّن الرئيس في أميركا رئيس المحكمة العليا، ولكن لمرّة واحدة، ويبقى رئيس المحكمة في منصبه حتى وفاته. ولكننا لا نستطيع مقارنة حالتنا بحالة الولايات المتحدة. لدينا مشكلاتٌ عديدة، ونحن نتحدث عن ضوابط. النظام رئاسي ولكن الرئيس سيعيّن السلطة التشريعية، النظام رئاسي ولكن الرئيس ما زال رئيس السلطة القضائية. وبسبب خصوصيتنا السورية، وتجربتنا المرّة مع الديكتاتورية عقوداً طويلة، لا نستطيع أن نأخذ كل معايير النظام الرئاسي ونقارن أنفسنا بدول لديها كل الآليات الفعّالة للرقابة المجتمعية على السلطات، وأولها سلطة رئيس الجمهورية. كان علينا التفكير بخيارات مبتكرة أخرى مع تعقد الوضع السياسي والقانوني، أحدها على سبيل المثال في دستور 1950، والذي كان نظاماً برلمانياً، كان الرئيس يقترح 15 اسماً ليكونوا أعضاء المحكمة الدستورية، والبرلمان ينتخب سبعة منهم. هذه آلية تشاركية على سبيل المثال، كما يمكن أن يقوم مجلس القضاء الأعلى بالترشيح، ويقوم الرئيس بالتعيين أيضاً. هذه آلية أخرى. وبالمناسبة، رشّح الرئيس هاشم الأتاسي عدة قضاة لعضوية المحكمة، ولكن القضاء رفض المرشحين، وقالوا إنهم لا يريدون ترشيح الرئيس، وفشلت جلسة البرلمان التي كانت معدّة لتشكيل المحكمة الدستورية. هذا حصل في سورية عام 1950. الحقيقة، نحن في مأزق، فنحن بحاجة إلى رئيس قوي حتى يستطيع ضبط الأمن والحيلولة دون شبح التقسيم. وفي الوقت نفسه، نخشى من صلاحيات واسعة لرئيس قوي يعيد منظومة دكتاتورية مستبدة. نحن نسير على خط خطير جداً. ولذلك مشاعرنا تتبدّل عشرات المرات في اليوم الواحد.

من الانتقادات الكثيرة التي طاولت الإعلان عدم النص على آلية لكتابة الدستور الدائم وإقراره، ألا تعتقد أن لجنة صياغة الإعلان أصابت بذلك؟

ليس المطلوب أن يضعوا مضمون الدستور، فقط آلية صياغة الدستور وإقراره، أي كان يجب أن يحدّدوا كيف ستتم صياغة الدستور الدائم وإقراره. نحن كنا بحاجة لنصٍّ في الدستور المؤقت يقول إن الدستور الدائم سيلتزم بمعايير المشاركة المجتمعية، ولو بجملةٍ أو جملتين، تؤكد على المشاركة الشعبية بنص دستوري، يكون مُلزماً حتى لا تُصاغ الدساتير في غرف مغلقة من دون مشاركة وتشاور مجتمعي. كما كان المطلوب أن تحدّد آلية إقرار الدستور إما عبر جمعية تأسيسية منتخبة كدستور 1950. وفي هذا الحالة الجمعية، تنتخب لجنة لصياغة الدستور ثم تتم مناقشته وإقراره. وعندها لا داعي لعرضه على الاستفتاء الشعبي، لأن هذه الجمعية منتخبة ومفوّضة من الشعب. أو عبر لجنة خبراء تصوغ الدستور من أجل عرضه على الاستفتاء العام، ومن ثم إقراره، والطريقتان ديمقراطيتان. وكان يجب أن ينصّ على مدة إنجاز الدستور الدائم، حتى لا تتكرر تجربة تشكيل لجنة مؤتمر الحوار، أو لجنة صياغة الإعلان، من حيث السرعة وعدم التنوع. حيث يخشى أن ننتظر أربع سنوات أخرى، وفي آخر ثلاثة أشهر نصوغ دستوراً دائماً. مع ملاحظة أن في الإعلان آلية مرنة لتعديله، حيث يملك الرئيس صلاحية اقتراح التعديل الذي يتم بموافقة ثلثي المجلس التشريعي. وبالتالي، لو جرى النص على أن يتم خلال ثلاث سنوات إنجاز الدستور الدائم للبلاد من لجنة منتخبة أو لجنة معيّنة، على أن يعرض للاستفتاء مع مراعاة المشاركة المجتمعية. كان هذا مطمئناً، ولو وجدوا في المستقبل أن الأمر بحاجة إلى جمعية تأسيسية منتخبة، يمكن أن يعدّل ذلك في نص الإعلان بآلية التعديل المنصوص. وانأ لا أعرف لماذا لم يتم ذلك؟

وجّهت انتقادات كثيرة إلى طول المرحلة الانتقالية، بينما وجدتها آراء أخرى مناسبة بالنظر إلى المدّة التي يحتاجها بناء المؤسّسات المنهارة، كيف تقيم ذلك؟

ليس معيار الفترة الانتقالية مدة ولاية الرئيس، أربع سنوات أو سبع سنوات، وهي ليست فترة رئاسية. المطلوب من الفترة الانتقالية حل مشكلات الدولة، وهذه قد تحتاج 50 سنة. مفهوم الفترة الانتقالية هو إيجاد بيئة آمنة للشعب لاستعادة انتمائه السياسي والوطني بالانتخابات. لأن من ستأتي به الانتخابات، حكومة منتخبة أو رئيس منتخب، هو من سيقوم بعملية الإعمار وعودة اللاجئين، وهذا يتطلب سنوات. هناك خلط ومفهوم خاطئ أن المرحلة الانتقالية ستحوّل سورية جنّة. هذا يحتاج سنوات طويلة. معيار الفترة الانتقالية أن يصبح الشعب قادراً على استعادة دوره السياسي. وفترة خمس سنوات طويلة. ربما كان التفكير من سنتين إلى ثلاث سنوات أفضل. ربطت أكثرية الدول الفترة الانتقالية بمدّة إنجاز الدستور. ولذلك كان يجب التفكير في ما إذا كان الدستور الدائم يحتاج خمس سنوات؟ يحتاج الوضع الطبيعي سنتين مع مشاركة مجتمعية ونقاش ثلاث سنوات، فإذا أنجزنا دستوراً دائماً خلال هذه المدّة ماذا نفعل به؟ هل نضعه في البرّاد حتى تنتهي الفترة الانتقالية؟ صحيح أن هناك دولاً مشابهة كانت الفترة الانتقالية فيها ست سنوات وسبع سنوات. لكن المدّة مرتبطة بالأوضاع الخاصة بكل دولة. ولكن، كمؤشر أولي، كان يجب أن تضع ثلاث سنوات، وإذا احتاج الأمر أكثر من ذلك يمكن التمديد على ضوء التطور الميداني. 

توجد مادة تنصّ على صياغة قانون أحزاب وقانون جمعيات لكن متى؟ لم تحدّد المادة أجلاً زمنياً. أحد الأمثلة التي علّمنا إياها الآباء الدستوريون في دستور 1950 أنهم قالوا: نحن بحاجة إلى قانون أحزاب، وقانون انتخاب، وقانون سجل مدني، ولكن لم يتركوا الأمر للمجهول. وضعوا قيديْن: نص ذلك الدستور على إنجاز قانون الأحزاب خلال عامين. كما نصّ الدستور بشكل واضح على تنظيم ذلك بقانون وفق مبدأ الإعلام (الإخبار)، وليس الترخيص المسبق، بمعنى أنهم هم أنفسهم وضعوا المبادئ التي يجب أن يُصاغ عليها القانون بنص الدستور، وبذلك أرادوا تقييد السلطة التشريعية حتى لا تقرّ قوانين سيئة. ولكن الدرس المهم الذي علمونا إياه أنهم هم أنفسهم حوّلوا أنفسهم من جمعية تأسيسية إلى سلطة تشريعية، أي بمعنى آخر هم وضعوا هذه القيود على أنفسهم، وقد كانوا على علم مسبق بذلك، أي أنهم خشوا على القوانين من أهوائهم ونزعاتهم، هذه الدروس كان يجب أن نستفيد منها في صياغة الإعلان الدستوري. 

في النهاية، يمكن القول إن الإعلان الدستوري يحوي نقاطاً جيدة، ولكنه يحتوي على نصوص مثيرة للقلق، ونصوص عدم وجودها يثير قلقاً. ومن أجل الوصول إلى تقييم موضوعي، يجب النظر إلى الإعلان منظوراً متكاملاً، والتطبيق هو معيار الفصل.

 أثارت المواد المتعلقة بصلاحيات الرئيس وآلية تشكيل المجلس التشريعي، في الإعلان الدستوري، نقاشات وآراء مختلفة، ومن أهم الانتقادات منح صلاحيات كبيرة لرئيس الجمهورية على حساب باقي السلطات، مع العلم أن هذا من ميزات النظام الرئاسي المطبق في دول عديدة، إضافة إلى أن رأياً آخر يقول إن منح السلطة التنفيذية يحتاج الحرية اللازمة لإدارة هذه المرحلة من أجل إعادة بناء المؤسّسات، ما رأيك؟

ما ورد في الإعلان الدستوري، إذا أردت مقارنته بما ورد في صلاحيات الرئيس بالدساتير السابقة، جيد ومتطور، فهناك تقليص لصلاحيات الرئيس، وأهمها صلاحية التشريع، فالرئيس المعزول على سبيل المثال أصدر 25 مرسوم عفو من 2011 حتى 2024، بالرغم من أن الدستور الملغى كان يعطيه الحق في إصدار مراسيم العفو الخاص، بينما العفو العام من صلاحية البرلمان الذي لم يُصدر أي مرسوم عفو عام، ولكن استنادا إلى نص بالدستور كان يعطيه سلطة التشريع ليس فقط في حال غياب البرلمان، وإنما أيضاً في حال الضرورة التي كان يقدّرها كما يريد. كما أن حالة الطوارئ يستطيع إعلانها بقرار من مجلس الوزراء، وليس عليه أي قيود من حيث السبب أو المدة. أما الإعلان الحالي فقد وضع ضوابط جيدة، منها موافقة المجلس القومي، ثلاثة أشهر فقط، لا تجدّد إلا بموافقة البرلمان. ولكن الإشكالية أن الرئيس في النظام الرئاسي ليس له صلاحية اقتراح القوانين، بينما منحه الإعلان هذه الصلاحية. ويجب أن نعترف بأننا نسير في وضع استثنائي في هذا الإعلان. وأعتقد أن هناك مواد زرعت قد تفيدنا في كتابة الدستور الدائم قد لا نشعر بقيمتها حالياً، فإذا أبقينا في الدستور الدائم أن لا تكون للرئيس صلاحية التشريع أو في الإبقاء على ضوابط إعلان حالة الطوارئ فهذا جيد.

ما رأيك بآلية اختيار المجلس التشريعي. هل لدينا الحرية باختيار طريقة أخرى بالنظر إلى عدم وجود أي سلطة شرعية سوى سلطة الرئيس؟ وهل نستطيع اللجوء إلى الانتخاب المباشر؟ وبالاستناد إلى أي قانون؟

الطريقة التي نص عليها الإعلان في اختيار المجلس التشريعي هي أنسب خيار، فتجربة الانتخابات في الوقت الحالي غير ممكنة، لأننا نحتاج قانون انتخاب، ولا توجد سلطة تشريعية لإقراره. كما أن مقرّرات مؤتمر النصر، الذي يعد باعتقادي إعلاناً دستورياً، أعطى الرئيس سلطة تعيين كل أعضاء المجلس التشريعي، والخيار المعتمد في الإعلان هو الأقل سوءاً. ولم يعد لدينا في سورية اليوم، ترف الخيار المثالي، بل الخيار الأقل سوءاً. وهذا الخيار الذي جرى تبنيه العبرة في كيفية تطبيقه. وقد يكون هذا الخيار مفيداً جداً، وقد يكون كارثة، حيث يعيّن الرئيس ثلث أعضاء المجلس، وفي الوقت نفسه، يعين هيئة تعيّن هيئات ناخبة، تنتخب ثلثي الأعضاء الباقين. إذا جرى الأمر بمعايير الشفافية والتشاركية والتعدّدية والتنوع والنزاهة، فهذا قد يؤدّي الى إنتاج مجلس تشريعي مقبول. وإذا كان الثلث الذي سيعيّنه الرئيس يعبّر عن التنوع ويسدّ الخلل في التوازن، ويعوض النواقص والعيوب التي يمكن أن تحصل في الانتخاب، فهذه قد تكون بداية جيدة، فالعبرة بكيفية التطبيق. رغم أن تجاربنا السابقة لم تكن موفقة مع اللجان، سواء في لجنة مؤتمر الحوار أو لجنة صياغة الإعلان الدستوري، فقد أنتجت في الغالب أعضاء من لون واحد.

العربي الجديد

———————————-

كل هذا الحضور لدستور 1950 في منعطفات سورية/ محمد أمين

15 ابريل 2025

لم يغب الدستور الذي وضعه السوريون في عام 1950، عن أفقهم السياسي منذ انطلاق ثورتهم في ربيع عام 2011، وانتهت بانتصار مدوٍّ في 8 ديسمبر 2025، فهو، وفق قانونيين وسياسيين سوريين كثيرين، أفضل دستور في تاريخ البلاد، ما يؤهله للحضور في كل منعطف تاريخي تمر به، ولعل المنعطف الحالي المتمثل بسقوط النظام وفتح البلاد صفحة جديدة مع ذاتها، يعد المرحلة الأهم لمناقشة هذا الدستور.

حضر الدستور الذي أقرّه السوريون عام 1950 بقوة في المشهد السياسي في بلدهم، بعد أسقاط نظام الأسد في 8 ديسمبر/ كانون الأول من العام الفائت، حيث جرت مداولات في المنتديات العامة والخاصة بين النخب السورية، فالبلاد كانت بمسيس الحاجة إلى إطار قانوني يحكم المرحلة الانتقالية في ظل رفض عارم لدستور وضعه بشّار الأسد في عام 2012، مفصّلاً على مقاسه، حيث منحه سلطات مطلقة في حكم البلاد. وتنبع أهمية دستور 1950 وتميّزه من أنه الأول في تاريخ سورية الذي كتبته جمعية تأسيسية منتخبة بعد حوارات مكثفة، شارك فيها عدد من رجالات الاستقلال المشهود لهم بالكفاءة والوطنية، وكبار رجال القانون في ذلك العام البعيد. ورغم أن قائد الانقلاب الثالث في تاريخ سورية، أديب الشيشكلي، عطّل هذا الدستور بعد عام من إقراره، فإنه كان الضامن لمرحلتين انتقاليتين مرّت بهما سورية الأولى في 1954، عندما غادر الشيشكلي البلاد عقب انقلاب عليه، والثانية في 1961 بعد انفراط عقد الوحدة السورية المصرية. وبعد مرور 74 عاماً على كتابته حضر هذا الدستور مجدّداً في العام الحالي (2025)، إذ استوحت اللجنة التي شُكّلت بعد إسقاط نظام الأسد لوضع إعلان دستوري ناظم للمرحلة الانتقالية من روحه لكتابة مواد هذا الإعلان الذي دخل حيّز التنفيذ منتصف الشهر الماضي (مارس/ آذار).

وبدأت رحلة السوريين مع الدستور قبل أكثر من قرن مع ظهور بلادهم بحدودها الجغرافية والسياسية الحالية في 1920 الذي شهد كتابة أول دستور، سرعان ما انتهى العمل به بسبب دخول الفرنسيين الى البلاد محتلين واضعين حداً لنظام ملكي لم يدم سوى عدة أشهر بشكل دستوري. وفي عام 1928 كتبت الكتلة الوطنية التي فازت بأغلب مقاعد مجلس تأسيسي منتخب، دستوراً وسّع صلاحيات المجلس النيابي، إلا أنه تعرّض للتعديل من الفرنسيين في عام 1930. وبعد الاستقلال عن فرنسا في 1946، وجد الوطنيون السوريون أن البلاد بحاجة لدستور يضاهي أرقى الدساتير التي كان معمولاً بها في ذلك الزمان في العالم، فبدأ النقاش حول مسوّدة دستور في خريف 1949، إلى أن جرى إقراره في العام التالي. وبقيت البلاد من دون دستور دائم إلى 1974، حيث وضع نظام حافظ الأسد دستوراً، عزّز من سلطاته، وفرض هيمنته المطلقة على البلاد، وكرّس في مادته الثامنة حزب البعث قائداً للدولة والمجتمع، ما عطّل الحياة السياسية في البلاد بشكل كامل حتى ربيع 2011. ولا يزال مشهد تغيير سريع ومرتجل لإحدى مواد هذا الدستور مما كان يسمّى “مجلس الشعب” في منتصف عام 2000 للسماح لبشّار الأسد الذي لم يكن تجاوز الـ34 من عمره، حاضراً في الذاكرة السورية، فالعبث في الدستور آنذاك، وعدم احترام ما نصّ عليه، كان الدليل الأبرز على أن النظام كان يعتبره جزءاً من ديكور سياسي لا أكثر ولا أقل. حاول بشّار الأسد الالتفاف على الثورة التي خرجت ضد نظامه في عام 2011 من خلال كتابة دستور جديد، حذف منه المادة الثامنة التي كانت في دستور أبيه، في مناورة سياسية لم يخف عن السوريين الهدف الأبرز لها، لذا استمرّوا في طريقهم نحو تحرير البلاد من نظام مستبد لم يكن يكترث أصلا بالدستور الذي وضعه، حيث لم ينفّذ أياً من مواده الأساسية. 

إذن، عرفت سورية في تاريخها خمسة دساتير، واحد منها فقط كتبته لجنة منتخبة، وهو دستور 1950 الذي اعتبره أحمد القربي، وهو باحث سياسي كان عضواً في لجنة كتابة الإعلان الدستوري، “أفضل الدساتير في التاريخ السوري”. وقال لـ”سورية الجديدة” إن ذلك الدستور “لم يكن من أفضل دساتير العالم العربي بمعايير ذاك الزمان فحسب، بل من أفضل دساتير العالم في حينه”. وأضاف “كل الدساتير السابقة بما فيها دستور عام 1920 لم تكتبها جهة منتخبة ذات بعد تمثيلي واسع”. وبيّن القربي أن دستور عام 1950 “راعى حقوق الانسان، وركّز على التوازن بين السلطات، ومثّل كل أطياف الشعب السوري السياسية من إسلاميين وعلمانيين وليبراليين، وكان حصيلة توافق سياسي ومجتمعي بين عدة تيارات، ما أعطاه قيمة مضافة. لقد اجتمعت فيه الشرعية الشعبية والحرفة القانونية. ولذلك دائماً ما ترجع النخب السورية إليه عند كل استحقاق دستوري”.

وقال الباحث السياسي، رضوان زيادة، لـ”سورية الجديدة” إن دستور عام 1950 يعد من الدساتير الأكثر قبولاً لدى الشارع السوري لجهتي الشكل والمضمون. من حيث الشكل، وضعته جمعية تأسيسية منتخبة من الهيئات الناخبة يوم 5 نوفمبر: تشرين الثاني عام 1950 في اقتراع شاركت فيه المرأة السورية لأول مرة، وشكلت الجمعية لجنة لصياغة الدستور، تمثلت فيها مختلف القوى السياسية وغير السياسية في سورية. وبيّن أن اللجنة اطلعت على 15 دستوراً أوروبياً وآسيوياً، قبل كتابة المسودة التي خضعت للنقاش في الجمعية قبل إقرار الدستور بصيغته النهائية، مؤلفاً من 166 مادة، بعدما طويت 11 مادة. كما أن ذلك الدستور “حافظ على الطبيعة البرلمانية لنظام الحكم، وقلّص صلاحيات رئيس الجمهورية، وسحب حق نقض القوانين والمراسيم منه، وأمهله عشرة أيام فقط للتوقيع عليها”. وحافظ رئيس الجمهورية في ذلك الدستور على اختصاصه بالتصديق على المعاهدات الدولية، وتعيين البعثات الدبلوماسية في الخارج، وقبول البعثات الأجنبية، ومنح العفو الخاص، وتمثيل الدولة، ودعوة مجلس الوزراء للانعقاد برئاسته. كما بيّن زيادة أن دستور عام 1950 “رفع من درجة صلاحيات البرلمان، ومنعه من التنازل عن صلاحياته التشريعية للحكومة ولو مؤقتاً”، و”عزّز من سلطاته تجاه الحكومة، فألزمها بالاستقالة في بداية كل دور تشريعي، وعزّز أيضاً من سلطة القضاء باستحداث المحكمة الدستورية العليا”. وأشار زيادة إلى أن “مواد الحقوق العامة في دستور 1950 بلغت 28 مادة تتناول الحرّيات العامة، ومنها حصانة المنازل، وحرية الرأي والصحافة والاجتماع والتظاهر، والمحاكمة العادلة”. ومنع دستور عام 1950، كما أوضح زيادة، الاعتقال التعسفي، والتوقيف من دون محاكمة فترة طويلة، فضلاً عن أنه “حفظ حق الملكية، والمشاركة في الحياة الاقتصادية، وتأطير الملكية العامة للدولة، وحماية حقوق الفلاحين والعمال على وجه الخصوص، وجعل العمل حقاً لكل مواطن وجب تأمينه، إضافة إلى رعاية المواطنين المرضى والعجزة والمعوقين”. و”تناولت تلك المواد حقوق الطوائف الدينية باتباع شرائعها من جهة، وفي التعليم من جهة ثانية. ونص الدستور على كون التعليم حقاً لكل مواطن، إلزامياً ومجانياً، وأوجب على الدولة إلغاء الأمية خلال عشر سنوات”، وفق زيادة.

ومن المفترض أن يتخلل المرحلة الانتقالية التي دخلتها سورية أخيراً، والمتوقع أن تستمر نحو خمس سنوات، كتابة دستور دائم للبلاد، يُعرض على الاستفتاء العام، بعد إجراء إحصاء شامل لسكان البلاد.

وحول إمكانية الاستفادة من دستور عام 1950 في الدستور الذي ينتظره السوريون، قال محمد خالد الشاكر، أستاذ القانون الدولي، زميل كلية ساكرامنتو للسياسة المقارنة وأنظمة الحكم/ الولايات المتحدة، لـ”سورية الجديدة” إن من غير الممكن الاستناد بشكل كامل إلى دستور 1959 “بسبب فكرة محورية في بناء الدساتير مؤدّاها الارتباط البنيوي بين نوع النظام السياسي (برلماني أو رئاسي أو شبه رئاسي…) وآلية توزيع الصلاحيات والاختصاصات بين السلطات الدستورية الثلاثة التشريعية والتنفيذية والقضائية، التي تخضع لنوع النظام السياسي”.  وأوضح أن “دستور 1950 ينصّ على نظام برلماني، بانتخاب رئيس البلاد بشكل غير مباشر من البرلمان، على خلاف النظام الرئاسي المزمع والأنسب تطبيقه في الدستور السوري المقبل، والذي ينتخب فيه الرئيس من الشعب بشكل مباشر، وبالتالي تباين الصلاحيات والاختصاصات واختلافهما لكل سلطة على حدة”. وبيّن أن “من أهم محاسن دستور 1950 أنه جاء من رحم جمعية تأسيسية اتسق عملها مع نوع النظام السياسي كنظام برلماني، فأعطت صلاحيات واسعة للسلطة التشريعية، وبالتالي تقليص صلاحيات واختصاصات مؤسّسة الرئاسة (السلطة التنفيذية)”. وأوضح أنه “يمكن الاستفادة من دستور 1950 فهو دستور عصري تضمّن الآليات الكفيلة لفصل السلطات في إطار النظام البرلماني”، مضيفاً أنه ذكر كلمة الديمقراطية والسيادة الشعبية في الفصل الأول، ووضع آليات محكمة لضمان حقوق الأفراد وحرياتهم العامة، وبالتالي، يمكن القياس عليه في إطار المعايير العصرية لكتابة الدساتير. وتابع: يمكن الاستفادة من دستور 1950 عند التأسيس لدستور سوري عصري في إطار النظام الرئاسي المتوقّع اعتماده في سورية، فذلك الدستور كان واضحاً في تطبيق المبادئ العامة للدساتير، وفي مقدّمتها فصل السلطات في إطار النظام البرلماني، الذي سيختلف في التطبيق في النظام الرئاسي، من دون الإخلال بمبدأ التوازن بين السلطات، بما يضمن العدالة وسيادة القانون. وبيّن أن “دستور 1950 أكد استقلالية القضاء، وبالتالي ربط فكرة استقلالية القضاء بقوانين السلطة التشريعية، وفي ذلك تأكيدٌ على مبدأ السيادة الشعبية، وعزّز ذلك صلاحيات مجلس النواب في رفض مشاريع القوانين الصادرة عن الرئيس”. وأوضح الشاكر في معرض شرحه، أن دستور 1950 “عزّز فكرة المحاسبة بانتخاب سبعة من أعضاء المحكمة العليا المنوط بها الرقابة على دستورية القوانين من مجلس النواب”. مضيفاً: يمكن للدستور السوري القادم أن يستفيد من ذلك في إطار النظام الرئاسي كآليات دستورية. وفي المقابل، بيّن الشاكر مثالب دستور عام 1950، بقوله “إنه لم يأخذ بالظروف الموضوعية للمجتمع السوري، وهو ما أدى إلى هزات عنيفة عصفت بالدولة، وفي مقدمتها الانقلابات المتتالية بعد صدوره”. ورأى أن النظام الرئاسي “قد يكون الأنسب في الدستور السوري القادم لضمان وحدة البلاد”. وقال إن “دستور 1950 لم يستنسخ تجارب برلمانية جاهزة”. ودعا إلى تجاوز ما ورد في الإعلان الدستوري الذي أقرّ أخيراً في الدستور الدائم لجهة استنساخ النظام السياسي الأميركي، فقد طاولته انتقاداتٌ كثيرة، بسبب تبنّيه نظاماً فريداً من نوعه في العالم.

العربي الجديد

———————————-

====================

الحكومة السورية الانتقالية: المهام، السير الذاتية للوزراء، مقالات وتحليلات تحديث 15 نيسان 2025

لمتابعة مكونات الملف اتبع الرابط التالي

تشكيل الحكومة السورية الجديدة

———————————-

5 تحديات صعبة أمام حكومة الشرع في سوريا/ عبد الرحمن الحاج

14/4/2025

أدّى وزراء الحكومة الانتقالية السورية القسَم في قصر الشعب بدمشق في 29 مارس/ آذار الفائت، بعد مضي نحو أربعة أشهر من إسقاط نظام الأسد، وأظهرت السير الذاتية تمتّع معظم الوزراء بخبرات وكفاءات مناسبة للحقائب التي كلّفوا بها، ويحمل إعلان الحكومة الانتقالية التكنوقراطية دلالات سياسية مهمة، فهي تعكس من جهة استقرار السلطة المركزية في دمشق، ومن جهة أخرى، تعكس التنوع السوري الديني والقومي والسياسي إلى حد كبير، وإن لم يكن مثاليًا.

والأهم أنها تعكس التوجهات العامة للرئيس أحمد الشرع في الاستجابة لمتطلبات المرحلة القادمة والتحديات التي تواجهها البلاد، والرئيس نفسه على وجه الخصوص.

وفي 7 أبريل/ نيسان الجاري عقدت الحكومة أوّل اجتماع لها، الذي حدد فيه الرئيس الخطوط العامة لعمل الحكومة، متمثلة في: التعافي الاقتصادي، وإصلاح مؤسسات الدولة، وإعادة الإعمار والسلم الأهلي، وهي ملفات تشير بوضوح إلى أن سوريا على مفترق طرق وعرة، وسيكون للمسار الذي تسلكه الحكومة من خلالها أثر بالغ على استقرار سوريا، وشكل نظام الحكم في المرحلة الدائمة بعد خمس سنوات، أي ما ستكون عليه سوريا الجديدة.

الصياغة المجملة للملفات في اجتماع الحكومة هي تحديات داخلية، إلا أن ثمة تحديات إستراتيجية خارجية للدولة السورية، لم يتم الإفصاح عنها في التقرير الرسمي عن الاجتماع، لكن يمكن إدراكها بيسر.

ويمكن القول إن الحكومة الانتقالية أمام مجموعة من التحديات، يمكن تلخيصها في خمسة تحديات رئيسية:

التهديد الإسرائيلي

في اليوم التالي لسقوط نظام الأسد، ودخول المعارضة دمشق، أي 9 ديسمبر/ كانون الأول، أصدر وزير الدفاع الإسرائيلي يسرائيل كاتس أمرًا بعمليات عسكرية شاملة في سوريا تستهدف ضمان ألا يشكل انتصار المعارضة تهديدًا لأمنها، وأن يتم إضعاف القدرات العسكرية للدولة السورية إلى أقصى الحدود، بحيث تعجز عن بناء جيش جديد، يمكن أن يشكل تهديدًا مستقبليًا وإستراتيجيًا، واستغلال الفرصة التي قد لا تتكرر لفرض وقائع جديدة والتمدد في الأراضي السورية؛ بهدف السيطرة على المنطقة العازلة، والسيطرة على المناطق الإستراتيجية مثل قمة جبل الشيخ.

كما قصفت إسرائيل منظومات الأسلحة الثقيلة الإستراتيجية في جميع أنحاء سوريا، بما في ذلك شبكات الدفاع الجوي وأنظمة الصواريخ، ومنشآت الدفاع الساحلية، وبدأت عمليات برية في عمق الأراضي السورية على الفور.

مع الوقت تبلورت أهداف سياسية إستراتيجية إسرائيلية، أيضًا متمثلة في إضعاف الحكومة المركزية، وجعلها غير قادرة على بناء دولة موحدة وقوية قدر الإمكان، دون أن يؤدي إلى انهيارها، عبر دعم الأقليات، وإقامة اتصال مع مجتمعاتها وقادتها لإقامة حكم ذاتي، وأيضًا في الضغط على تركيا وإعاقة نفوذها في سوريا وتموضعها العسكري الذي يشكل التهديد الأكبر للأهداف الإسرائيلية.

رغم الاستفزازات المتعددة والمتعمدة عمل الشرع على ضبط النفس حتى في التصريحات، ولجأ إلى القنوات الرسمية عبر الدول العربية للجم الاندفاعة الإسرائيلية، وخلال الأشهر الأربعة التي سبقت تشكيل الحكومة الانتقالية لم تنجح إسرائيل في تحقيق تفدم كبير في أهدافها السياسية، لكنها لعبت دورًا مؤثرًا في الحيلولة دون استقرار الجنوب، وتعزيز الخلاف بين السويداء، والسلطة المركزية بدمشق.

تسعى تركيا لإقامة قواعد عسكرية كبيرة في سوريا تحقق من خلالها عدة أهداف: منع عودة تنظيم الدولة، وضمان منع أي عودة للمليشيات الإيرانية، وضمان تنفيذ اتفاق قوات سوريا الديمقراطية مع السلطة المركزية في دمشق، وإنهاء الإدارة الذاتية، والحد من التهديد الإسرائيلي.

ويعتبر مطار ألتياس العسكري في نقطة T4 الإستراتيجي في وسط سوريا مثاليًا – والذي يبعد نحو 220 كيلومترًا عن مرتفعات الجولان، و250 كيلومترًا عن الحدود التركية، و175 كيلومترًا عن الحدود العراقية جنوب سوريا، ويمثل زاوية المثلث الذي كان ينشط فيه تنظيم الدولة- لوجود قاعدة جوية للجيش التركي هناك، أو نشر بطاريات صواريخ أرض- جو، ما سيضطر إسرائيل إلى إنشاء آلية لمنع التصادم مع القوات التركية في سوريا، وهو أمر يحد من حريتها في التصرف في سوريا، وهو ما لا يريده نتنياهو.

ولأن سياسات نتنياهو تجاه النفوذ التركي في سوريا لم تحظَ بدعم أميركي، فقد اضطر إلى التفاوض مع تركيا بوساطة أميركية لمنع التصادم على الأراضي السورية، ما يعني أن الوجود التركي العسكري في سوريا سيزداد، وسيضعف الاندفاعة الإسرائيلية العسكرية ويحد من قدرتها على فرض وقائع مستدامة على الأرض، وتركيا تشكل ضامنًا إقليميًا لاستقرار سوريا، ومنع عودة الخطر الإيراني، وعودة الإرهاب وتنظيم الدولة، وهي مصالح إستراتيجية للأمن القومي التركي والإقليمي، وفي الوقت نفسه للأمن القومي الأميركي فضلًًا عن الأوروبي.

تتمتّع دمشق بقدر كبير من الاستقلالية، خلافًا للتقديرات الشائعة، وهذا ما يمنحها قدرة على تحديد خياراتها، وعلى الرغم من الدور التركي الأساسي في مواجهة التهديدات الإسرائيلية في سوريا، فإن السلطات في دمشق يتعين عليها التصرّف عبر القنوات الدبلوماسية، والاستناد إلى حلفائها العرب والغربيين في لجم الاندفاعة الإسرائيلية والتصعيد من جهة، وإيجاد آليات محلية تضعف التدخلات الإسرائيلية الميدانية.

ففي الوقت الذي تتجنب فيه القوات الحكومية التي لا تزال في طور التشكل الانجرار إلى صدام مباشر مع القوات الإسرائيلية؛ لحرمان إسرائيل من استخدام فائض القوة، وفرض وقائع جديدة، فإن هذا التحدي يتطلب إستراتيجية طويلة الأمد تعتمد على تعزيز قدرة السكان في الجنوب على المقاومة المسلحة.

وقد ظهرت بوادر هذه المقاومة الشعبية في 3 أبريل/ نيسان الجاري في بلدة كويا جنوب درعا ضد التوغل الإسرائيلي، واستثمار تصاعد الغضب الشعبي، ومع الوقت ستصبح المقاومة منظمة من تلقاء نفسها، وهو أمر لا ترغب به إسرائيل على الأرجح، التي لا تريد تكرار تجربتها في لبنان.

قد يكون الهدف الإسرائيلي من العمليات العسكرية والوقائع التي فرضتها هو تقوية شروطها في اتفاقية سلام مع سوريا قد تكون في المستقبل، للحفاظ على الجولان، وعلى قواعد عسكرية متقدمة، وفي مقدمتها التلال الإستراتيجية وقمة جبل الشيخ.

في حين كانت مفاوضات السلام في الماضي جميعها تدور حول حدود الانسحاب الإسرائيلي من الجولان إلى بحيرة طبريا، لكنّ اتفاقًا محتملًا مثل هذا في المستقبل ليس من مشاغل دمشق في الوقت الراهن، الأولوية هي لوضع حد للتهديد الإسرائيلي.

نزع السلاح وبناء الجيش

بسقوط النظام انهار جيش الأسد، واختفى تمامًا، ترك المجندون أسلحتهم وهرب الضباط الذين قادوا العمليات، إما إلى قراهم في الساحل، أو خارج الحدود. وقوات عمليات ردع العدوان شُكلت من أكثر من 80 فصيلًا من قوات المعارضة المختلفة، والتي تختلف أيديولوجيًا مع هيئة تحرير الشام، ولكن معركة ردع العدوان وحدتها.

شكلت هذه الفصائل بطبيعة الحال ضمانًا لعدم وجود فراغ بعد انهيار الجيش، وسهلت مشاركتها في العمليات التفاهم لإدماجها في الجيش الجديد الذي يسعى الشرع أن يكون جيشًا احترافيًا يلغي التجنيد الإجباري، ويمنع تكرار الماضي، ويمكنه من تشكيل حماية حقيقية للدولة، وهو توجّه يلقى تأييدًا شعبيًا كبيرًا.

لكن المشكلة أن إعادة بناء جيش احترافي تتطلب وقتًا، وحيث إنه يجب عدم تكرار الماضي، فإن إعادة إدماج الضباط السابقين في الجيش أضحت مستبعدة تمامًا، ولكن ثمة حاجة إلى كفاءات وخبرات جديدة لبناء الجيش، ليست متوفرة في الخبرات السورية، لذلك تمَّ تأخير إدماج المنشقين الذين لعبوا دورًا في فترات سابقة في الجيش الجديد.

وإضافة إلى ذلك يتطلب بناء الجيش وقتًا طويلًا نسبيًا، وأظهرت أحداث مارس/ آذار المؤسفة في الساحل عقب حركة التمرد التي قام بها فلول من النظام السابق مدى حاجة الجيش إلى التسريع في إدماج عناصر الفصائل في الجيش، وتدريبها وفق أسس جديدة تضمن انضباطها وتحركها وفق قواعد محددة، وأيضًا مدى الحاجة إلى نزع السلاح من السكان والسيطرة على السلاح المتبقي في أيدي الفلول، فقد أدّت سنوات الحرب الطويلة إلى انتشار السلاح بين السكان على نطاق واسع.

لإنجاز ذلك على نحو يضمن مستقبلًا مستقرًا في سوريا، تحتاج الحكومة الانتقالية للاستعانة بخبرات من الدول الحليفة، وبشكل خاص الدول الأوروبية، وتركيا، ودول الخليج، وكندا، سواء في التدريب أو في بناء الجيش وقدراته العسكرية، وفي كل الأحوال ستلعب تركيا الدور الرئيس في كل ذلك.

بناء جيش وطني يتطلب وجود قانون ينظّم عمله، وهو ما لم يصدر حتى الآن نظرًا لعدم تشكيل مجلس تشريعي مخوّل بذلك. ويُفترض أن يعكس هذا الجيش التنوّع السكاني في البلاد بشكل عادل، مع سنّ مواد قانونية تضمن حياديته واستقلاله عن التجاذبات السياسية الداخلية، ومنع تكرار التجارب السابقة التي تسببت في عسكرة السياسة أو تسييس المؤسسة العسكرية. وتدور في الأوساط السياسية والمدنية نقاشات حول طبيعة العقيدة العسكرية التي يفترض أن يحملها الجيش الجديد، ومدى توافقها مع مفاهيم الدولة الوطنية الحديثة وأدوار الجيوش المحترفة.

إعادة الإعمار والتعافي الاقتصادي

خزينة فارغة وبلد مدمّر، نصف مدنه الكبرى تمت تسويتها بالأرض، والبنية التحتية متهالكة أو مدمرة تمامًا، الكهرباء والطاقة في وضع سيئ للغاية، نحو 90% من السكان تحت خط الفقر، وأكثر من مليون ونصف المليون في المخيمات بدون مأوى، وفوق كل ذلك عقوبات اقتصادية شديدة ومرهقة على البنك المركزي، وعلى قطاعات مختلفة تمنع وصول الأموال والمساعدات إلى الحكومة في دمشق.

وعلى الرغم من وجود رغبة كبيرة عربية وأوروبية لتقديم المساعدات، فإن العقوبات الأميركية، وبشكل خاص قانون قيصر، تعيق كل ذلك، وفشلت جميع المساعي حتى الآن في دفع الإدارة الأميركية في رفع العقوبات وفك الحظر عن “السويفت كود” للبنك المركزي.

وبالرغم من أن المحاولات مستمرة، فإنه لا تلوح في الأفق مؤشرات على رفع هذه العقوبات، فإدارة ترامب تتبنى على ما يبدو تطلعات إسرائيل في إبقاء الدولة السورية الجديدة ضعيفة، وغير قادرة على إعادة بناء قدراتها، وبشكل خاص العسكرية، لكنها في الوقت نفسها لا تريد أن يؤدي ذلك إلى عدم استقرار الدولة، لأن ذلك يشكل خطرًا على الشرق الأوسط برمته والأمن العالمي.

ومع ذلك، فإن استمرار العقوبات على المدى الطويل قد يُفضي إلى تداعيات غير مقصودة، من بينها دفع دمشق إلى تبني سياسات لا تنسجم مع التوجهات الأميركية في المنطقة. وقد يسهم هذا المسار في تعزيز حالة عدم الاستقرار الإقليمي، وخلق مناخ قد تستغله بعض القوى أو التنظيمات المتطرفة للظهور مجددًا.

تعي الحكومة الانتقالية في دمشق مخاطر أن تبقى العقوبات مستمرة، ومع يبدو أن لا خيار لها سوى بناء إستراتيجية تكيف مع العقوبات وبناء الدولة على أساس أنها مستمرة، خصوصًا أنها في محيط إقليمي متحمس لها ومستعد لاحتضانها، ويسعى لنجاحها لمصلحة أمن واستقرار المنطقة، ويعزز ذلك حرص الإدارة المتكرر والحقيقي بالإعلان عن أن سوريا بلد يريد السلام، ولا يريد أن يكون مصدر إزعاج وتصدير للأزمات في المنطقة والعالم.

الأمن والاستقرار

رافق انهيار الجيش، انهيار واختفاء أجهزة الأمن، وبالنظر للدور الذي لعبته الأجهزة الأمنية في المجازر الوحشية، وعمليات القمع والإخفاء القسري للسكان فقد كان ثمة إجماع بضرورة إعادة بناء الأجهزة الأمنية، وتشكيل جهاز أمن يضمن الأمن ويمنع تكرار الماضي.

وعلى هذا الأساس تم حل جهاز الأمن الداخلي (الشرطة) أيضًا، وتم الاعتماد على جهاز الأمن العام الذي شُكل في إدلب كنواة لإعادة بناء جهاز الأمن الوطني وملء الفراغ الأمني الذي شكله انهيار النظام.

بيدَ أنه وبالنظر إلى أن تعداد جهاز الأمن العام لا يكفي للانتشار على مساحات شاسعة، فهو لم يكن مهيأً للعمل خارج محافظتي إدلب وحلب، فقد فتح باب الانتساب بشروط تضمن عدم عودة النظام من جديد، وقام بتخريج دفعات كبيرة من المنتسبين لقوات الأمن العام عبر دورات إعداد وتدريب سريعة، ظهرت عيوبها سريعًا في ضعف سيطرتها وفرض النظام بشكل حاسم، وفشلها في بعض الأحيان، ثمة توجه بتعزيز دور المجتمعات المحلية في الأمن بتعيين عناصر الأمن والشرطة من أبناء كل منطقة في منطقتهم، وهذا التوجه قد يخفف من ضغوط الإدارة الحكومية إلا أنه قد يقلل من قدرة عناصر الأمن على فرضه.

وعلى الرغم أيضًا من عدم وجود قانون حتى الآن لتشكيل قوات الأمن التي تم حلها في بيان النصر في 30 ديسمبر/ كانون الأول مع الجيش السابق، فإن الفراغ الأمني لا يتيح مجالًا لانتظار صدور قانون.

ويحظى الأمن العام بقبول شعبي واسع ما يمكّن المشرعين في المرحلة المقبلة من إقرار بنية هيكلية قريبة ومنسجمة مع ما تم إنجازه حتى الآن، ولكن قد يثير أي قانون يتعلق ببناء الأمن العام نقاشًا عامًا فيما يتعلق بدور المجتمعات المحلية في هيكليته.

ولأن الأمن مرتبط ارتباطًا وثيقًا بالاقتصاد فإن بسط الأمن واستعادته في عموم البلاد، يساعد على التعافي وتقليل الخدمات الأساسية، ويشجع على الاستثمار، وتقليل التحديات أمامه، وهو مرتبط ارتباطًا وثيقًا بتحقيق الاستقرار، وتخفيف نزعات التمرد والمطالب في الحكم الذاتي في الساحل والسويداء، ومحاولات إضعاف الحكم المركزي، وذلك كله يجعل موضوع فرض النظام العام أولوية.

يرتبط تحقيق الأمن بالعدالة الانتقالية بشكل جوهري، وتجاهلها لتحقيق الانتقال السياسي سيؤدي على المدى الطويل إلى منع الاستقرار، وسيكون مصدرًا لتوليد موجات عنف محتملة، ولا يمكن التنبؤ بها، فثمة أكثر من مليون قتيل ضحايا للمجازر، وعمليات القتل الجماعي خلال 14 عامًا في الصراع مع الأسد، بالإضافة إلى مئات الآلاف من المغيبين قسريًا، ونحو ثلاثة ملايين معوق، إن تركة بهذا الحجم تستوجب تشكيل هيئة متخصصة بالعدالة الانتقالية على النحو الذي نص عليه الإعلان الدستوري، غير أن تنفيذ محاكمات يتطلب تحقيق الأمن أولًا، وهذا قد يستغرق بعض الوقت، لكن ذلك يجب ألا يجعل الموضوع محل نزاع.

بناء مؤسسات الحكم

الهدف النهائي للحكومة الانتقالية هو تحقيق الانتقال السياسي، ما يعني أنّ عليها أن تعيد بناء مؤسسات الحكم، وكتابة دستور جديد دائم، وتهيئة الظروف، وتحضير البنية التحتية لإجراء انتخابات عامة في نهاية المرحلة الانتقالية التي تمتدّ لخمس سنوات.

ويتطلب ذلك منها، نظريًا، تشجيعًا على المشاركة الواسعة في الحياة السياسية، وسنّ قانون للأحزاب، لكن من الناحية العملية، فإن ظروف عدم الاستقرار قد تدفع الحكومة للحذر من النشاط الحزبي لفترة تبعد الحكومة عن التجاذبات السياسية، لكنها تحافظ على الحريات العامة والأنشطة السياسية. والموازنة بين إبقاء الحريات السياسية محمية وبين الحد من الأنشطة الحزبية دقيقة للغاية.

استعان الشرع بإدارة سياسية كانت شكلت في إدلب قبل سنوات، وتولت الخطاب السياسي أثناء عملية ردع العدوان، وتم توسيعها خلال الأشهر الأخيرة، ومدها إلى معظم المحافظات تقريبًا.

وفي 27 مارس/ آذار أصدر وزير الخارجية قرارًا مثيرًا للجدل يحمل رقم (53) ينص على تشكيل “أمانة عامة للشؤون السياسية”، مهمتها “الإشراف على إدارة الأنشطة والفعاليات السياسية” داخل سوريا، “وتنظيمها”، و”توظيف أصول” حزب البعث والجبهة الوطنية التقدمية وما يتبع لهما من لجان لصالحها.

مصدر الجدل يكمن في السيطرة على المجال العام، وفهم الأمر على أنه تشكيل لحزب السلطة وتكرار دور حزب البعث، ولا توجد آلية يحتكم إليها لإبطال القرار الذي يفترض أنه ليس من صلاحيات الوزير المختص بالسياسات الخارجية، وهذا ما يوضّح تحديًا جديدًا في بناء مؤسسات الدولة، فالدولة السورية لديها بيروقراطية قديمة، وأنظمة وتشريعات يجب تجاوزها حتى لا يعاد إنتاج النظام، وإنشاء أنظمة بيروقراطية حديثة تجبر مثل هذا الخلل، وتعزز النزاهة والشفافية.

بيدَ أن المشكلة الرئيسية التي تواجهها الحكومة، هي أنه على الرغم من أن معظم الوزراء يمتلكون خبرات قوية في مجالهم، فإنهم لا يمتلكون خبرات في العمل الحكومي.

تحديات أخرى

لا تنحصر تحديات الحكومة الانتقالية الجديدة في التحديات المذكورة أعلاه، فثمّة الكثير من التحديات الأخرى التي تواجهها، لكنّها أقلّ أهمية، ويمكنها التغلّب عليها، مثل العلاقات مع روسيا، والتمثيل الدبلوماسي، والحفاظ على علاقة متوازنة مع المجتمع الدولي، وترسيخ صورة سوريا كعامل استقرار في المنطقة، وجذب السوريين في المهجر للمساهمة في بناء الدولة، والشراكة مع المجتمع المدني الذي سيلعب دور الوسيط مع التمويل الدولي لإعادة الإعمار، وخلق بيئة استثمارية جاذبة، وتطوير أنظمة التعليم بما يلائم تطلعات البلاد للتنمية، وغيرها.

تعتمد قدرة الحكومة على تجاوز هذه التحديات، على أمرَين:

    الأول: بقاء رصيد الشرع الشعبي مرتفعًا بما يجبر عثرات الحكومة ويساعد على مواجهة التحديات الأمنية، ومحاولات التمرّد، وتقسيم البلاد.

    والثاني: الاستفادة من الشعور العام باستعادة الدولة ورغبة الجميع في المساهمة في بنائها، ويتطلب ذلك العمل على إشراك المجتمع بمختلف مكوناته في بناء الدولة، ومنع حدوث أي قطيعة بين مؤسسات الدولة والمجتمع.

الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.

أكاديمي وباحث متخصص في الحركات الإسلامية

الجزيرة

———————————–

====================

عن التدخل الاسرائيلي السافر في سورية الجديدة، ملف تناول “شهية إسرائيلية لتفتيت سوريا” – تحديث 15 نيسان 2025

لمتابعة مكونات الملف اتبع الرابط التالي

التدخل الاسرائيلي السافر في سورية الجديدة

———————————-

السياسة التركية الجادّة لضبط إسرائيل/ فاطمة ياسين

13 ابريل 2025

أثير لغط بشأن جديد الضربات الجوية الإسرائيلية على مواقع عسكرية ومطارات في الداخل السوري، طاولت مناطق في حماة وحمص، وعلى إثرها خرجت تصريحات من تركيا وإسرائيل، فأكّد وزير الخارجية التركي، هاكان فيدان، أن بلاده لا تريد أن ترى أيّ مواجهة مع إسرائيل في سورية، لأن سورية ملك للسوريين. وكان نتنياهو قد قال أيضاً إن إسرائيل لا تسعى إلى مواجهة. أوضح الطرفان فور انقشاع دخان الغارات رغبتهما في تجنّب المواجهة.

السياق الذي تظهر فيه الضربات الإسرائيلية، والتصريحات التي أعقبتها، ينبئان بمحاولة جدّية لإيجاد مسافة كافية بين الطرفَين، مع تفهّم التضارب في المبادئ الذي يقود كليهما، فلتركيا الآن وجود فعلي في سورية، وهي من ساعد الإدارة الجديدة في الوصول إلى الحكم، وتتمتّع باحترام وتقدير منها، والجانب السوري يحاول بناء أفضل العلاقات مع تركيا خصوصاً في الشقّ العسكري، وهذا ما جعل إسرائيل تبدي توجّساً، وتتحرّك بمنطق ردّة الفعل الفوري، الذي عادة ما يأتي عنيفاً من حكومة نتنياهو، وهو ما حاولت تركيا امتصاصه ومحاولة بناء بروتوكول جديد ينظّم العلاقة بينهما، منعاً للتصعيد المتزايد.

تؤمن تركيا بأن الإدارة السورية الجديدة تحتاج بشدّة إلى الهدوء من أجل العمل المثمر، وقد تمادت إسرائيل في عملياتها العسكرية، وخاصّة التي تطاول مناطق الوسط السوري التي تبرّرها إسرائيل تحت عنوان “تدمير سلاح النظام البائد”، رغم أن هذا العنوان سقط بسقوط النظام نفسه. لذا، كان التدخّل التركي مطلوباً، فالحديث وجهاً لوجه مع إسرائيل أمر يتجاوز رغبة القيادة الحالية السورية، فرغم تصريحات الرئيس السوري أحمد الشرع بأن سورية ليس لديها نيات عسكرية ضدّ أحد، نظراً إلى التحدّيات الداخلية التي تواجهها في أكثر من صعيد، إلا أن إسرائيل تصرّ على عدم وجود أيّ من أنواع القدرات العسكرية في حدودها، وقد كانت تفاهماتها مع نظام الأسد تؤمّن حدودها، إذ التزم الأسد بخطوط تماسّه العسكرية باردةً إلى حدّ التجمّد، ما أحدث حالة من الطمأنينة، توحي إسرائيل اليوم بأنها حالة لم تعد مضمونةً بوجود مجموعة حاكمة جديدة ذات شكل إسلامي.

يدخل الرئيس الأميركي ترامب في خطّ التفاهم مع تركيا وإسرائيل، والأخيرة تدرك وجود علاقة حارّة تربط ترامب وأردوغان، وتريد أن تستثمر في العلاقة مُحاوِلةً كشف النيّات التركية حول سورية من النواحي العسكرية، وترغب بتطمينات يضمنها ترامب لتبقى حدودها مع سورية هادئةً لتتجنّب فتح جبهة جديدة، وكانت إسرائيل قد تصرّفت بشكل منفرد عقب سقوط الأسد باختراق الشريط الأمني العازل المحاذي للجولان والصعود إلى جبل الشيخ، فتشرف على المنطقة الحدودية، ولم يبالِ القادة الإسرائيليون بتحذيرات أممية عديدة في هذا الشأن. وبعد أن أمّنت حدودها المباشرة، ترغب إسرائيل في مزيد من الأمان يحميها من أيّ هجمات مباغتة بمسيّرات أو تسلّلات عسكرية، وتعتقد إسرائيل أن علاقة تركيا بالإدارة السورية الجديدة تؤهّلها لمنح ضمان من هذا النوع.

يدرك حكّامُ دمشق الجدد حاجةَ سورية العسكرية الملحّة إلى تركيا في هذه المرحلة، وكذلك يعرفها الأتراك، فالدولة بدأت من مرحلة ما قبل الصفر بلا أيّ بنية عسكرية، وقد تم استهلاكها أو تدميرها في مدى السنوات السابقة في أتون الحرب على الشعب السوري أو تحت ضربات القوات الإسرائيلية، وهي بحاجة إلى إعادة بناء كلّي، لضرورة الجانب العسكري في تحقيق الأمن والاستقرار في سورية، التي تقع في فالق سياسي خطير جدّاً، وخصوصاً في وجود دول إقليمية لا تُخفي موقفها المعادي لسورية، والدور التركي مطلوب لتحقيق التوازن، وإسرائيل تعرف ذلك وتدركه، وتؤمن بضرورة إبعاد إيران عن المشهد، أو تحييدها نهائياً، ومحادثات اليوم بين تلّ أبيب وأنقرة، التي وصفها فيدان بالفنّية، تصبّ في هذا الإطار، ومن المتوقّع أن نجد تعاوناً سورياً تركياً واسعاً تحت نظر وسمع إسرائيل، ومن دون اعتراض أميركي، أو حتى روسي.

العربي الجديد

————————

سوريا: تحدي التقسيم ومساعي الانفصال/ فايز سارة

15 نيسان 2025

يميل البعض إلى قول إن سوريا قيد التقسيم أو في الطريق إليه، ويستند القائلون في قولهم إلى ما يظهر في الواقع السوري الراهن من اختلافات وصراعات بين سلطة العهد الجديد المكرسة في دمشق، وسلطة الأمر الواقع في شمال شرقي سوريا التي تمثلها «الإدارة الذاتية»، وما يظهر من اختلافات وتباينات بين سلطة دمشق وبؤر الحراك المدني والعسكري بمحافظتَي الجنوب السوري في السويداء ودرعا. ولا ينسى المتحدثون عن التقسيم في سوريا الإشارة تصريحاً وتلميحاً إلى الساحل السوري الذي كان في الشهر الماضي مسرحاً لصراعات مأساوية، أطلقت بدايتها بعض فلول نظام الأسد، وصعّد بها متطرفون في الجانب المقابل، ذهب ضحيتها جنود من الأمن العام ومن الجيش السوري الجديد، وضحايا مدنيون عزل من الساحل السوري بينهم أطفال ونساء وشيوخ، وصعود في نزعة انفصال الساحل، وربطها أحياناً بطلب تدخل دولي.

وتعود الاختلافات والصراعات بين سلطة العهد الجديد في دمشق والأطراف السياسية/ العسكرية في المناطق الثلاث إلى أسباب سياسية محورها نزاع على الشرعية، إن لم يكن بصورة واضحة وعلنية، فإنه صراع قائم بالنتيجة، حيث يتم التشكيك بما تقوم بها سلطة دمشق من خطوات وإجراءات، يبنى عليها ويتعزز خلاف سياسي مثل الاختلاف حول حصة كل طرف في السلطة، ومطالبة كل طرف بمزايا تستند إلى ضرورة المشاركة، والتي هي حق مشروع، لكنها في التطبيق تذهب نحو خلق كيانات داخل كيان يفترض أن يكون موحداً، من طراز أن يتم انضمام «قوات سوريا الديمقراطية» (قسد) إلى الجيش السوري على أساس بقاء هياكلها وسماتها الحالية، مما سيخلق «جيشاً» من مؤسستين مختلفتين، وثمة أشياء مقاربة في المنطقتين الأخريين تكشف نزوع الأطراف نحو وحدة شكلية في الدولة السورية تقوم على تشارك أطراف وهياكل مختلفة ومتناقضة.

وإذا كانت السياسات والإجراءات السابقة التي تتابعها قوى سياسية/ عسكرية، تمثل سنداً محلياً يدعم نزعات التقسيم أو الانفصال في سوريا، فإن الأخيرة تجد لها مساندة خارجية تدعم وتساند فكرة التقسيم، ومساعي الانفصال عن سوريا، واتخذت المساندة الخارجية في الفترة الأخيرة أشكالاً عملية وليست سياسية فقط. وإن كان لا بد من إشارة إلى أطراف محددة، فإن الأهم إيران وإسرائيل، ثم روسيا التي لعبت دوراً خاصاً في الساحل وأحداثه الأخيرة يستحق وقفة تفصيلية.

وتكمن أهمية الدور الإيراني في تعزيز علاقاتها مع القبضة الحاكمة في «الإدارة الذاتية» المنتمية لحزب الاتحاد الديمقراطي الكردي، وهي علاقة وثيقة نمت في فترة الوجود الإيراني في سوريا، حيث تشارك الطرفان العداء للمعارضة السورية السياسية والمسلحة، ومعه العداء لتركيا ووجودها في سوريا الذي يتناقض جوهرياً مع وجود وأهداف الحليفين، وسعت إيران إثر خروجها من سوريا بعد سقوط نظام الأسد إلى تواصل مع شخصيات في الجنوب السوري لتنشيط معارضتهم للنظام الجديد في دمشق، لكن الأهم في دور إيران بدا في الإعلان عن تشكيل جبهة المقاومة الإسلامية، وتأكيد دعمها الذي سبق أحداث الساحل التي فجّرها فلول النظام الشهر الماضي، ونالت دعماً متعدد الجوانب من إيران وميليشياتها في الجوار السوري ممثلة بـ«حزب الله» اللبناني والميليشيات العراقية.

وسار الدور الإسرائيلي بموازاة الدور الإيراني في تعزيز علاقات مع شخصيات وجماعات في المناطق الثلاث وسط تركيز خاص على السويداء، شاركت فيه الحكومة الإسرائيلية من جهة وزعماء من الطائفة الدرزية في إسرائيل ركزت على دعم بعض الحراك بالسويداء في المجالين السياسي والمادي وصولاً إلى فتح أبواب سوق العمل الإسرائيلي أمام البعض، وأضاف الإسرائيليون إلى ما سبق تصعيد عملياتهم العسكرية في الأراضي السورية لتقريع السوريين وسلطتهم الجديدة، وتصويرها قوة عاجزة وضعيفة، مما يسهل التمرد عليها ومواجهتها.

ولأن أثبتت الوقائع حتى الآن ضعف نزعات الانفصال ومساعي تقسيم سوريا ومحدودية قوة سندها الداخلي والداعمين لها في الخارج، فإنها تواجه معطيات وحقائق سياسية وعملية تمنع تحققها في المستويات الداخلية والخارجية. ففي الداخل هناك معارضة سياسية وشعبية واسعة لفكرة تقسيم سوريا أو انفصال أي جزء عنها، وثمة تداخلات في التركيبة السكانية في أغلب المناطق السورية، ولا تتوفر أسس مادية كافية لإقامة دولة في مناطق «التوترات». أما في المستويات الخارجية، فثمة أمران مهمان؛ أولهما أن تقسيم سوريا والانفصال عنها سيضع أغلب كيانات شرق المتوسط أمام ذات المصير، والأمر الثاني أن ثمة توافقاً دولياً مؤكداً على مساندة العهد السوري الجديد ومساعدته في مواجهة ما خلفه العهد الأسدي من خراب وكوارث في سوريا، ووضعها على سكة إعادة البناء والعودة إلى المجال الإقليمي والدولي.

الشرق الأوسط

————————–

هذا الإلحاح التركي على الدبلوماسية/ معن البياري

14 ابريل 2025

ظنّ زملاء صحافيون، عربٌ وأتراك، أنهم يُحرجون وزير الخارجية التركي، هاكان فيدان، في مؤتمره الصحافي الذي اختُتم به، أمس الأحد، منتدى أنطاليا الدبلوماسي، عندما توجّهوا بعدّة أسئلةٍ إليه عمّ ستقوم به بلادُه، وهي ترى سورية تقصفها إسرائيل، مرّة تلو أخرى، وعن إجراءاتٍ ستتّخذها ضد دولة الاحتلال التي تتمادى في جرائم حرب الإبادة في غزّة. لقد بدا أن هذه الأسئلة تعكس رهاناً على تركيا وحدها، ما دام أن العرب لم يفلحوا في كفّ يد آلة العدوان الإسرائيلي المتوحشة عن أهل قطاع غزّة، منذ أزيد من 17 شهراً، وما دام أن أحداً في العالم لم يستطع هذا، رغم أرطالٍ من التصريحات والبيانات والخطب التي ندّدت بهذه اليد الآثمة. ولمّا كانت سورية تحظى في انعطافتها الراهنة بشيءٍ من الرعاية التركية، إن صحّ القول (أظنّه يصح؟)، فإن طرح الأسئلة التي تلقّاها الوزير فيدان عن هذا البلد العربي يصبح من الطبيعي المتوقّع، وقد نمّ بعضُها عن شعورٍ لدى من طرحوها بأن ثمّة نوعاً من المسؤولية التركية تجاه سورية، وهي تتعرّض لاعتداءات إسرائيلية متتالية…

لم يتلعثم الرجل أو يناور في كلام عائم، بل أجاب، وكله ثقةٌ وقناعةٌ بما يقول، وباسترسالٍ ووضوح، ولم ألحظ في تقاسيم وجهه، وكنتُ في الصف الأول من حضور المؤتمر الصحافي، أي تبرّمٍ مما يُسأل بصددِه، سيّما أن بعض أسئلةٍ تكرّرت في هذا الاتجاه، بل ظلّ على البشاشة التي يتصف بها، وهو الذي يتقن التباسط مع سامعيه ومن يتحدّث إليهم. قال إن بلاده تريد تحقيق الاستقرار في سورية، والابتعاد عن الاستفزازات، وتعمل على عدم الدخول في أي صراع مع أي دولة داخل الأراضي السورية. وأشار إلى اتصالاتٍ وجهودٍ تبذلها تركيا في اتجاه وقف التعدّيات الإسرائيلية التي لن تحقّق الاستقرار المنشود في هذا البلد. وأنها ستواصل جهودها للتنسيق مع الأطراف المعنية، بما فيها إسرائيل والولايات المتحدة لتجنّب حصول تصادم في سورية. وأفاد بأن المباحثات التركية مع إسرائيل في أذربيجان، بشأن سورية، هدفت إلى منع هذا. وبالتوازي، تساهم تركيا في تلبية الاحتياجات الأمنية في سورية، على الصعيدين الفني والعسكري. وتتّسق هذه الإجابة مع مرتكز ظاهر في السياسة التركية، صار ملحوظاً بكيفيّات تزداد وضوحاً، سيما بعد تصفيرها مشكلاتٍ كانت تؤزّم علاقاتها مع غير بلد، وهو توسّل الدبلوماسية في نشاط تركيا وفاعليّتها وحضورها في الإقليم وفي خارجه. وهذا ما تأخذ به في الشأن الإسرائيلي في سورية.

ومع توالي جرائم حرب الإبادة في غزّة، وقد سمعنا الرئيس أردوغان، في افتتاح منتدى أنطاليا يأتي على مقاطع منها، ويشير إلى جريمة استهداف صحافيين في خيمتهم أخيراً، وجاء على اسم الغزّي أحمد منصور منهم، ومع استهتار دولة العدوان بكل الاعتبارات، واستخفافِها بمناشداتٍ واسعةٍ بالتوقف عن استهداف المستشفيات والمدنيين والمسعفين والأطباء، لا تتورّع عن المضي في همجيّتها هذه. وفي هذه الغضون، عندما يُسأل الوزير فيدان عن إمكانية قطع علاقات بلاده مع إسرائيل، يُجيب أنها قطعت علاقاتٍ تجارية، وأنها تنشط في عقد اجتماعات مع عدّة دول في الإقليم وغيره، للتباحث في ما يمكن فعله دبلوماسياً من أجل وقف إطلاق النار وإنهاء المأساة الحادثة في غزّة. ولا تبتعد هذه الإجابة، ومثيلاتٌ لها من كبار المسؤولين الأتراك، عن خيار الدبلوماسية والحركية السياسية نهجاً تعمل الإدارة التركية على هديه ومقتضياته في غير شأن، وهي التي كانت قد اختارت، على النقيض من هذا، خيار التدخّل العسكري في ليبيا، ونجحت به في إبعاد خليفة حفتر عن السيطرة على العاصمة طرابلس.

يتّسق العنوان الذي اختير للدورة الرابعة لمنتدى أنطاليا، “التمسّك بالدبلوماسية في عالمٍ منقسم”، مع الإلحاح الظاهر في أداء تركيا السياسي في غير ملفّ، وقد أوضح فيدان أن “المنتدى ناقش سبل تبنّي الدبلوماسية والتوافق بدلاً من الاستقطاب، مع تأكيد أن الدبلوماسية ليست مجرّد أداة تُستخدم في أوقات الأزمات”. ولن يجد واحدُنا نفسه يخالف هذا الممشى، فالمُشتهى أن تظلّ الدبلوماسية الخيار الأول لدى صنّاع القرار في كل الدول، غير أن دولةً اسمُها إسرائيل، قامت على طرد أهل الأرض التي أُنشئت عليها، لا تتوسّل غير العدوان وسيلةً لفرض وجودها في المنطقة، المستقوى بالتحالف الوثيق مع الولايات المتحدة، هل تُجدي معها الدبلوماسية… لم يُطرح سؤالٌ كهذا على الوزير البشوس هاكان فيدان.

العربي الجديد

——————————

لمن انحاز ترامب في سوريا؟/ سمير صالحة

2025.04.13

يعوّل البعض محليًّا وإقليميًّا على تسجيل اختراقات سياسية في التعامل مع ملفات المنطقة، وانتزاع دور أو فرصة من خلال اللعب على التوازنات الحساسة القائمة، واحتمال اشتعال جبهات تضارب المصالح بين تركيا وإيران وإسرائيل.

من الممكن أن تساعد الظروف والمعطيات المحلية على أخذ بعض ما يريده في مكانٍ ما، لكن ذلك لا يعني بالضرورة أنه سينجح في تطبيق هذه الاستراتيجية في أماكن أخرى. إضعاف إيران في لبنان وإبعادها عن سوريا عبر الاستفادة من الورقة الإسرائيلية، لا يمكن البناء عليه وتكراره في سوريا من خلال الرهان على تفجير العلاقات الإسرائيلية – التركية، ودفعهما للمواجهة العسكرية المباشرة، معتمِدًا على واشنطن وموسكو لفتح الطريق أمامه هناك.

تذهب كثير من المؤشرات باتجاه أن التلويح بالقوة لن يصل إلى خط اللاعودة نتيجة للتصعيد الحاصل بين أنقرة وطهران وتل أبيب، وأنه من الصعب جني ثمار الانفجار الثلاثي من قبل البعض وبالمجّان. سبق أن اختلفت أنقرة وتل أبيب أكثر من مرة على تقاسم النفوذ والمصالح، وسبق لهما أن أنهيا هذا التوتر وأعادا العلاقات إلى ما كانت عليه وأفضل. إيران أيضًا قد تفاجئنا بخيارات بديلة إذا ما أعطت واشنطن ما تريده بعد أيام في الملف النووي. التعويل على تراجع نفوذ وتضارب مصالح الثلاثي التركي – الإيراني – الإسرائيلي في المنطقة، قابلٌ للتحوّل في كل لحظة إلى تفاهمات تخيب آمال المراهنين على الجلوس أمام طاولة انتزاع الأدوار من دون مقابل، وترامب هو ضابط الإيقاع هذه المرة.

يمنح الخبير العسكري والاستراتيجي التركي ورئيس مركز أبحاث “أسام”، إراي غوشلو آر، الجانبَ الإسرائيلي مدة نصف ساعة فقط قبل أن تفقد تل أبيب قوتها الجوية عندما تقرر القوات المسلحة التركية أن المواجهة حتمية. هو يذكّر تل أبيب أيضًا بأن تركيا هي من قطعت الطريق على مشروع تفتيت سوريا ومخطط اقتراب إسرائيل من حدودها الجنوبية بدلاً من إيران وميليشياتها.

هناك، بالمقابل، في الداخل الإسرائيلي، من يحاول أن يعيد إلى الأذهان ما فعلته إسرائيل في الأسابيع الأخيرة وعلى أربع جبهات إقليمية دفعة واحدة.

وإن “تل أبيب أوضحت بشكل لا لبس فيه أن أي تغيير في نشر القوات الأجنبية في سوريا، لا سيما إنشاء قواعد تركية في منطقة تدمر، هو خط أحمر وسيُعتبر خرقًا للقواعد”.

    شكّل ملف غزة في الثلث الأول من نيسان العام المنصرم أحد أهم أسباب التصعيد بين أنقرة وتل أبيب، وهو ما قاد إلى التراشق ثم سحب السفراء وتجميد العلاقات التجارية وقرار أنقرة الالتحاق بالداعمين لمقاضاة القيادات الإسرائيلية..

من منح تل أبيب تحديد قواعد اللعبة في سوريا ورسم خطوط تحرك البعض هناك؟ ربما هي غاراتها الجوية واستهداف العمق السوري دون رد تركي – عربي – إقليمي رادع. لكن ترامب هو الذي يدخل على خط التوتر والاحتقان، معلنًا رسم حدود التصعيد والمواجهة.

شكّل ملف غزة في الثلث الأول من نيسان العام المنصرم أحد أهم أسباب التصعيد بين أنقرة وتل أبيب، وهو ما قاد إلى التراشق ثم سحب السفراء وتجميد العلاقات التجارية وقرار أنقرة الالتحاق بالداعمين لمقاضاة القيادات الإسرائيلية أمام محكمة لاهاي. لم يكن الملف السوري حاضرًا بعد.

في الثلث الأول من شهر نيسان الحالي، شكر الجانبان التركي والإسرائيلي الرئيس الأذري إلهام علييف على جهود وساطته واستضافة محادثات الوفدين التركي والإسرائيلي لتفادي وقوع حوادث غير مرغوب فيها بينهما في سوريا. الحصيلة الأولى هي “قرار الاتفاق على مواصلة الحوار عبر قناة تواصل مباشرة للحفاظ على الاستقرار الأمني في المنطقة، بعد عرض كل طرف لمصالحه الأمنية”. تصريحات الرئيس الأميركي كانت مفتاح الحوار التركي – الإسرائيلي حول سوريا، حتى ولو قال إن أردوغان هو من يملك المفتاح في دمشق.

هناك ما يكفي من الأسباب التي تستدعي إبقاء العلاقات التركية – الإسرائيلية فوق صفيح ساخن. وهناك قناعة تركية – إسرائيلية أن تفعيل “آلية عمل مشتركة” بين البلدين لن تكفي لتحول دون وقوع الصدام المباشر بينهما في سوريا. لكن هناك من يردّد أيضًا أنها ليست وساطة باكو وقرار الدخول على خط التهدئة بين الشريكين التركي والإسرائيلي هي التي دفعت الأمور نحو التهدئة، بل هي رغبة ترامب، الذي استدعى بنيامين نتنياهو على عجل لإبلاغه بضرورة أن يكون منطقيًّا وواقعيًّا في طروحاته السورية حيال الجانب التركي، خلال لقاءات العاصمة الأذربيجانية.

احتمال أن تضحي واشنطن بحليفيها التركي والإسرائيلي في سوريا لصالح أي لاعب إقليمي ليس على جدول أعمال اليوم.

ترامب هو الذي دخل على الخط مجددًا لضبط الإيقاع، والحؤول دون انفلات الأمور، والتذكير بضرورة الأخذ بما يقوله الحليف الأكبر، وهو في طريقه لمفاوضة طهران على الملف النووي، وحيث لا يريدها أن تستقوي بالخلافات التركية – الإسرائيلية.

لمن انحاز ترامب في سوريا؟ المسألة لا تحتاج إلى كثير من الجهد للعثور على إجابة.

اشتعل التنافس التركي – الإسرائيلي في سوريا بعد الثامن من كانون الأول المنصرم مع سقوط نظام بشار الأسد. تل أبيب قلقة من تنامي النفوذ التركي، وترامب يراهن على “علاقته الرائعة بالرئيس رجب طيب أردوغان” لنزع فتيل التوتر بين البلدين. تصريحات ترامب حرّكت المبادرة الأذربيجانية، لكنها لم تفتح الطريق أمام حوار تركي – إسرائيلي بوساطة أميركية بعد.

سوريا على رأس أولويات ترامب في المنطقة لأن خيارات إسرائيل وتركيا متباعدة وتتطلب ذلك، وحيث يردّد الوزير هاكان فيدان بعد لقائه بنظيره الأميركي روبيو: “إن سلوك إسرائيل هذا لا يستهدف سوريا فحسب، بل يزعزع استقرار المنطقة بأسرها”.

لا يريد نتنياهو أن يستيقظ على كابوس انسحاب أميركي من سوريا لصالح أنقرة.

لكن الخيار العسكري بالنسبة لأنقرة وتل أبيب في سوريا يعني حتمًا فشلًا أميركيًّا سيكون له ارتداداته السلبية على مصالح واشنطن في الإقليم ككل.

سيقرأ الرئيس ترامب جيدًا نتائج اجتماعات منتدى أنطاليا للدبلوماسية، وما صدر عنه من مواقف علنية باتجاه تل أبيب وسياستها الفلسطينية، وتمسكها بحرب الإبادة ضد قطاع غزة. لكنه يعرف تمامًا أن ما قيل يعني واشنطن، الحليف والداعم الأول لنتنياهو، لمواصلة ما يقوم به ضد الشعب الفلسطيني.

رسائل أنطاليا كانت عربية وإسلامية وغربية، بدعم روسي وصيني أيضًا. هي اليوم تركز على الملف الفلسطيني، لكن لا شيء يمنع أن تنتقل الأمور إلى الملف السوري غدًا أو بعد غد، بسبب مواقف إسرائيل وتمسكها بإشعال المنطقة من هناك هذه المرة.

لا يملك الماعز الجبلي، الذي يتنقل في عالم من الصخور الحادة والمرتفعات الشاهقة، أجنحة. لكنه يملك ما هو أهم: الرشاقة، والمرونة، والقدرة على القفز بدقة، مستندًا إلى قوة ساقيه الخلفيتين، ومعتمدًا على فهمٍ عميق لطبيعة الأرض التي يتحرك فوقها. تغيير قواعد اللعبة والمعادلات لا يحتاج فقط إلى الطاقة والشجاعة، بل إلى معرفة مكان وضع القدم، وإدراك اللحظة المناسبة للتحرّك.

——————————–

أين وصلت العلاقات التركية الإسرائيلية بعد الاحتكاك في سوريا؟/ إبراهيم العلبي

رسائل قصف إسرائيل لمطار التيفور السوري

15/4/2025

تشهد العلاقات التركية الإسرائيلية مرحلة من التوتر والقطيعة على خلفية الحرب على غزة، في حين تصاعدت حدة التوترات في الأيام الأخيرة على خلفية الوضع الجديد في سوريا، والذي ترى فيه إسرائيل فرصة لتدمير القدرات العسكرية السورية، بينما تسعى تركيا لدعم السوريين في بناء جيش جديد مزود بالإمكانيات والمعدات التي يحتاجها.

ووصلت العلاقات بين تركيا وإسرائيل لأخطر وأسوأ منعطفاتها أمنيا وعسكريا بعد سقوط نظام الرئيس المخلوع بشار الأسد، حيث شنت حملة من مئات الغارات الجوية عقب سيطرة إدارة العمليات العسكرية على دمشق.

وأدت الغارات الإسرائيلية لتدمير معدات وثكنات عسكرية للجيش السوري، كما قامت قوات الاحتلال الإسرائيلي في الجولان السوري المحتل بالتوغل داخل المنطقة العازلة، وتوسعت التوغلات لاحقا لبعض البلدات خارج المنطقة العازلة، الأمر الذي لقي إدانة شديدة من الجانب التركي.

وخلال الأشهر القليلة الماضية، دخلت أنقرة في محادثات معمقة مع دمشق حول إنشاء قواعد عسكرية تركية في مناطق مختلفة على الأراضي السورية، بهدف تعزيز التعاون الدفاعي وتدريب الجيش السوري الجديد بعد إعادة هيكلته، وتزويده بالمعدات والأسلحة التي يحتاجها.

وأعلنت إسرائيل رفضها لهذه التوجهات بدعوى أنها تشكل خطرا مستقبليا على أمنها، متهمة حكومة دمشق بأنها “إرهابية” وبأنها لا تثق بها، رغم التطمينات العديدة التي صدرت عنها وتمسكها باتفاقية فصل القوات لعام 1974.

احتمال الصدام في سوريا

وفي إطار حملة لاستهداف المواقع العسكرية السورية، أعلنت إسرائيل في 25 مارس/آذار الماضي قصف قاعدة تيفور قرب تدمر بمحافظة حمص التي سبق أن استهدفتها القوات الإسرائيلية في الأسبوع نفسه، ومطار حماة العسكري، وهما من بين قواعد عسكرية سبق أن تفقدها خبراء أتراك بهدف نشر قوات فيها بناء على اتفاق من المتوقع إبرامه قريبا بين دمشق وأنقرة.

وبحسب تقارير للصحافة العبرية، سبق هذا التصعيد نقاشات داخل الحكومة الأمنية الإسرائيلية بشأن سبل التصدي للنفوذ التركي المتزايد في سوريا، الذي تعتبره تل أبيب أنه يحل محل النفوذ الإيراني الذي ساد في عهد النظام السوري السابق، مع فارق يتمثل في أن إسرائيل قد لا تكون قادرة على استهداف القوات التركية، لكونها جزءا من حلف شمال الأطلسي (الناتو).

وفي تعليقه على الاعتداءات الإسرائيلية الأخيرة داخل الأراضي السورية، أكد وزير الجيش الإسرائيلي يسرائيل كاتس أنها “رسالة واضحة وتحذير للمستقبل”، محذرا الرئيس السوري أحمد الشرع من دفع ثمن باهظ “إذا سمحتَ للقوات المعادية بدخول سوريا وتهديد مصالح الأمن الإسرائيلي” في إشارة ضمنية إلى تركيا.

أما وزير الخارجية الإسرائيلي غدعون ساعر، فكان أكثر صراحة في تعليقه على الموقف، فرغم تأكيده أن بلاده لا تسعى لمواجهة معها، فقد عبر عن “قلق إسرائيل من الدور السلبي” الذي تلعبه تركيا في سوريا ولبنان ومناطق أخرى. وأضاف أثناء مؤتمر صحفي في باريس “يبذلون قصارى جهدهم لجعل سوريا محمية تركية. من الواضح أن هذه هي نيتهم”.

ويرى المحلل العسكري الإسرائيلي، رون بن يشاي، في تحليل عسكري له بصحيفة يديعوت أحرونوت، أن تركيا تنشر قواتها في 8 دول بينها سوريا وشمال العراق في إطار طموحاتها للسيطرة على خطوط الطاقة والغاز شرق البحر المتوسط، ولعرقلة مشاريع إسرائيلية مصرية في هذا المجال.

وقال إن طموحات تركيا الاقتصادية للسيطرة لا تقف فقط عند حقول الغاز في البحر الأبيض المتوسط، ولكنها تسعى أيضا لمنع دول البحر المتوسط من تجارة الغاز ونقله مع أوروبا، ولذلك فهي تسعى لمنع بناء خط أنابيب غاز تحت الماء يفترض أن ينقل الغاز من مصر وإسرائيل وقبرص إلى أوروبا، وهو ما يشكل عاملا رئيسيا في الاحتكاك بين إسرائيل وتركيا، حسب قوله.

نزع فتيل التوتر

برزت العلاقات التركية الأميركية، لا سيما العلاقة المميزة التي تجمع الرئيسين التركي رجب طيب أردوغان ونظيره الأميركي دونالد ترامب، كعامل مساعد في تخفيف التوتر بين أنقرة وتل أبيب، وإمكانية التوصل إلى تسوية تمنع الصدام.

وقد عبر الجانب التركي بعد الهجمات الإسرائيلية عن عدم رغبته بحدوث مواجهة مع إسرائيل في سوريا، وفي الوقت ذاته هاجم السلوك العدواني الإسرائيلي في سوريا.

وقال بيان للخارجية التركية إن حكومة إسرائيل “العنصرية والأصولية” بطموحاتها التوسعية أصبحت أكبر تهديد للأمن الإقليمي، مضيفة أن الهجمات الإسرائيلية في سوريا -دون أي استفزاز من الأخيرة- تعد “غير معقولة”، وتشير إلى سياسة تقوم على إشعال الصراعات.

وبالتزامن مع زيارة رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو إلى واشنطن في السابع من أبريل/نيسان الجاري، التقى خلالها ترامب، الذي طالبه بحل مشاكله مع أردوغان، كشفت تقارير عن البدء بمحادثات بين تركيا وإسرائيل في أذربيجان بهدف التوصل إلى آلية لمنع الصدام في سوريا، على غرار تلك التي كانت تربط إسرائيل وروسيا في عهد النظام السابق.

ودعا الرئيس الأميركي نتنياهو -خلال لقائهما في البيت الأبيض- إلى التحلي بـ”العقلانية” في التعامل مع أردوغان، مبرزا علاقته الجيدة مع الرئيس التركي، واستعداده للتوسط لحل المشاكل بينهما.

من جانبه، قال رئيس الوزراء الإسرائيلي إنه لا يريد أن تستخدم سوريا من أي جهة، بما في ذلك تركيا، لشن هجمات على إسرائيل، معتبرا أن علاقات أنقرة المميزة مع واشنطن قد تساعد في تجنب الأزمة، حسب تعبيره.

وأفادت صحيفة تايمز أوف إسرائيل، نقلا عن مسؤول إسرائيلي رفيع، بأنهم أبلغوا أنقرة بشكل لا لبس فيه بأن أي تغييرات في انتشار القوات الأجنبية في سوريا وخصوصا إقامة قواعد تركية في تدمر “يُعد خطا أحمر”.

من جهته، أعلن وزير الخارجية التركي هاكان فيدان أن بلاده تجري محادثات على المستوى الفني مع إسرائيل لخفض التوترات بشأن سوريا، وأضاف “ليس لدينا أي نية لمحاربة أي أحد في سوريا، بما في ذلك إسرائيل”.

وتضاف التوترات المرتبطة بسوريا إلى تلك المرتبطة بالحرب الإسرائيلية على غزة، حيث ربطت تركيا التراجع عن قطع علاقاتها التجارية وتخفيض علاقاتها الدبلوماسية مع إسرائيل بوقف الحرب المستمرة على غزة، وهو ما أكده وزير الخارجية التركي بالقول إن المحادثات الفنية بشأن منع الصدام في سوريا لن تؤدي إلى تطبيع العلاقات.

ما بعد الاحتكاك

رغم أن أجواء التهدئة بين تركيا وإسرائيل تجسدت بعقد محادثات بين الجانبين في أذربيجان، فإن الجولة الأولى التي عقدت قبل أيام لم تفض إلى أي تفاهم حول نقاط الخلاف، بحسب هيئة البث العبرية، وهو ما يشير إلى تعقيد الموقف بالإضافة إلى التعنت الإسرائيلي في وضع خطوط حمر -كتلك المتعلقة بنشر قوات تركيا في مطار تيفور قرب تدمر- يصعب فرضها على أنقرة دون صدام.

واتسمت جولة المحادثات بالتوتر حتى من حيث الشكل، فقد اضطرت الطائرة التي أقلت الوفد الإسرائيلي إلى أذربيجان إلى الاستدارة حول تركيا والامتناع عن العبور في أجوائها بعد رفض السلطات التركية منحها الإذن بذلك.

ورغم إبداء الطرفين رغبة بالتوصل إلى آلية تنسيق لمنع الصدام بينهما، فإن السياق العام للمحادثات ومطالب كل منهما تجعل هذا الأمر صعبا وإن كان مسنودا بوساطة من ترامب الذي يتمتع بعلاقة جيدة بكل من أردوغان ونتنياهو.

فبينما ينظر على نطاق واسع لتصريحات الرئيس الأميركي خلال استقباله نتنياهو على أنها تمهد الأجواء لتسوية بين أنقرة وتل أبيب، فإن درجة أهمية الملف السوري بالنسبة للإدارة الأميركية الحالية التي تقع في أدنى سلم اهتماماتها قد تجعل أي ضغوط باتجاه التسوية فاقدة للزخم.

ويقول الباحث المختص في الشؤون الأميركية، حسين الديك، إن إدارة ترامب أوكلت الملف السوري إلى حلفائها الدوليين والإقليميين، كالاتحاد الأوروبي إلى جانب تركيا العضو في حلف “الناتو”، والدول العربية وفي مقدمتها السعودية وقطر.

ولا يتوقف الخلاف التركي الإسرائيلي في سوريا عند تقاسم حدود النفوذ، بل يشمل مستقبل سوريا التي تريدها إسرائيل هشة وممزقة بين دويلات وكانتونات حكم ذاتي، بينما ترى تركيا أن ترسيخ الاستقرار في هذا البلد يمكن أن يكون مفتاحا للاستقرار في عموم المنطقة ويفتح فرصا وآفاقا جديدة للتعاون الإقليمي.

ويرى الخبير بالشأن الإسرائيلي، مهند مصطفى، أن إسرائيل تعتقد أنها السبب في إسقاط نظام بشار الأسد عبر ضرباتها ضد المحور الإيراني، لذا تسعى لفرض هيمنتها على مستقبل سوريا، كما تشمل الأهداف الحقيقية -وفق مصطفى- منع الوجود التركي في سوريا، إذ ترى أنقرة منافسا إقليميا.

من جهته، يرى أستاذ العلاقات الدولية في جامعة الدفاع الوطني التركية، محمد أوزكان، أن تركيا ترى في استقرار سوريا مصلحة أساسية لها، وأن الهجمات الإسرائيلية تعرقل جهود أنقرة لتحقيق هذا الاستقرار.

وينتظر الجانبان جولة أخرى أو أكثر من المحادثات في أذربيجان، وبينما تشير تصريحات فيدان إلى أن أنقرة تريدها أن تقتصر على التوصل لآلية لمنع الصدام، فإن المحادثات قد تصل قريبا إلى مفترق طرق، إما مناقشة تسوية أوسع بين الجانبين، أو فشلها في إقرار حد أدنى من التنسيق.

المصدر : الجزيرة

—————————–

تركيا في الشرق الأوسط الجديد: لاعب أم صانع قواعد؟/ فارس الخطّاب

14/4/2025

تولي تركيا أهمية مركزية لمنطقة الشرق الأوسط باعتبارها العمق الإستراتيجي لأمنها القومي العسكري والاقتصادي، وسعت أنقرة خلال عقود مضت عبر بوابات الطرق الدبلوماسية المرنة والأدوات الاقتصادية، ثم الخيارات العسكرية، لضمان مصالحها الحيوية الجيوسياسية في المنطقة، وخاصةً مع الدول المحاددة لها؛ حيث تعاملت مع هذه الدول كحقيقة جغرافية وتاريخية وعسكرية تربطها بها على امتداد قرون عديدة، وزاد من ظهور الدور التركي المؤثر وتصاعده خلال العقود الثلاثة الأخيرة، تراجع قدرات دول عربية مهمة كالعراق، وسوريا.

علاقات تركيا مع دول الشرق الأوسط جمعت بين السعي لإحلال السلام من خلال مساهمتها في تخفيف حدة المشاكل بينها وبين هذه الدول بغض النظر عن قربها أو بعدها عن حدودها، وفي ذات الوقت طرح نفسها كشريك استثماري يمكن الوثوق بقدراته بما يجعل من بوابة مشاريع التنمية الاقتصادية في دول الشرق الأوسط وبخاصة الإقليمية منها، مفتاح النجاح في تمكينها من الولوج إلى دوله كقوة مركزية اقتصادية هائلة.

ومثلما نجحت في إيجاد دور مهم لها في تطوير التنمية الاقتصادية، نجحت أيضًا في مطاردة أعدائها أو مواجهتهم عسكريًا، كما هو الحال مع حزب العمال الكردستاني المحظور، وأيضًا خلال أزمتها مع اليونان التي وصلت إلى حدود المواجهة العسكرية؛ بسبب تنازُع البلدين حول جزر في بحر إيجه في العامين: 1987، و1996، بما أظهر قدراتها العسكرية وجرأة قيادتها على اتخاذ القرارات الضامنة لسيادتها ومصالحها.

اقتصاديًا وبحسابات منهجية دقيقة سعت أنقرة إلى تقليص حدّة التحسس الإستراتيجي بينها وبين دول الجوار العربي، التي رأت في التوجه التركي محاولة “لعَثْمنة” المنطقة عبر بوابات الاقتصاد، فنجحت في إنشاء مجالس تعاون اقتصادية إستراتيجية مع العراق، سوريا، الأردن ولبنان، كما حقّقت نجاحًا لافتًا في علاقاتها مع دول مجلس التعاون الخليجي، التي شهدت تطورًا متسارعًا وصل إلى حدود إنشاء منتدى تركي- خليجي عربي، بات اليوم أحد مظاهر التوافق الإستراتيجي في مجالات الاستثمار متعدد التخصصات الصناعية، الزراعية، السياحية والعسكرية.

وسلطت المتغيرات الجذرية في الشأن السوري، الضوء على الدور التركي بشقَّيه؛ المعلن وغير المعلن، في التحضير لعوامل نجاح الفصائل المسلحة المعارضة في السيطرة وبشكل سريع ولافت على دمشق والمحافظات والمدن السورية، وأيضًا في تهيئة الأرضية السياسية لقبول هذه المتغيرات من قبل دول إقليمية وعالمية، باستثناء إيران التي تمثل -وفق رؤى هذه الفصائل ومن ورائها تركيا- الداعم الأساس لنظام الأسد طيلة أكثر من 13 سنة.

ما حدث في سوريا أبرز بشكل كبير وخطير الدور التركي المتوقّع في الشرق الأوسط الجديد، وهو أمرٌ حظي، وما زال، باهتمام كبير من قبل مراكز صنع القرار ومؤسسات الدراسات الإستراتيجية الأميركية والغربية، كما شكّل خارطة طريق جديدة لعلاقات أنقرة مع منظومة دول الخليج العربي، وفي مقدمتها المملكة العربية السعودية، ودولة الإمارات العربية المتحدة، ودولة قطر، ولعدة أسباب أهمها المتغيرات الإيجابية الحاصلة في سوريا وبدعم تركي مثل تطورًا نوعيًا كبيرًا في تغيير الواقع الجيوسياسي في المنطقة والذي تمثّل بإنهاء الدور الإيراني في سوريا، بما يعنيه من انحسار مشروعها الإستراتيجي في المنطقة.

تركيا الناجحة في تعاملها مع القوى الدولية كالولايات المتحدة، وروسيا، ومعظم دول الاتحاد الأوروبي، سعت لتعزيز نفوذها في المنطقة من خلال سياسة خارجية نشطة، تعتمد على مزيج من الدبلوماسية والقوّة العسكرية، والأخيرة كانت لمعالجة واحدة من معضلات الأمن القومي التركي التي تمثّل الجماعات الكردية في شمال العراق وسوريا مثل وحدات حماية الشعب (YPG)، وحزب العمال الكردستاني (PKK).

وتقف قضية الجماعات الكردية المسلحة المعارضة للدولة التركية والتي تصنفها كجماعات إرهابية، كأحد العوامل الرئيسية الدافعة للتحرك التركي بثقله المشهود في حسم الأمور لصالح الفصائل السورية المسلحة.

الجماعات الكردية المعارضة لتركيا التي حصلت خلال السنوات الأخيرة على دعم سياسي أميركي – إسرائيلي تمثل بالاعتراف والدعم اللوجيستي لقوات سوريا الديمقراطية (قسَد)، هذه القوات مثلت في فترة ما بعد الأسد (عقدة) الوفاق الوطني السوري.

لكن تركيا التي كانت ترفض أي صيغة تمنح الأكراد دورًا موسعًا في سوريا، باتت تدرك أن تجاهل القضية الكردية لم يعد خيارًا عمليًا، خصوصًا بعد نجاحها في إقناع زعيم حزب العمال، الكردي المسجون في تركيا عبدالله أوجلان بتوجيه رسالة حثّ فيها مقاتلي حزبه على التخلي عن السلاح وحظر نشاطه العسكري؛ لذلك شجّعت أنقرةُ دمشقَ على منح الأكراد حقوقًا متساوية مع بقية مكونات الشعب السوري، في خطوة تعكس توازنًا جديدًا في تعاملها مع هذا الملف، وكان ثمرة ذلك التوجّه التركي توقيع الرئيس السوري أحمد الشرع، وقائد قوات سوريا الديمقراطية مظلوم عبدي اتفاقًا يقضي “بدمج” كافة المؤسّسات المدنية والعسكرية التابعة للإدارة الذاتية الكردية والحقول النفطية والمنافذ الحدودية في إطار الدولة السورية، وتحت نظام المواطنة المتساوية.

لقد عززت مجريات الأمور من دور تركيا في الشرق الأوسط الجديد، فالقوتان الكبيرتان في سوريا الأسد إيران وروسيا، تعاملتا مع الدخول التركي المحكم لسوريا بشيء من الواقعية بغية الحفاظ على نفوذهما هناك بعد أن تستقرّ الأوضاع، وتتوضح صورة الموقف المضطرب في ذلك البلد.

ومع انحسار المشروع الإيراني وتصاعد العمليات العسكرية الإسرائيلية في غزة والضفة، ولبنان، وسوريا، وربما إيران، تبقى تركيا الضامن الوحيد لدول المنطقة التي يمكن الركون إليها للتعامل مع واشنطن وتل أبيب لإيقاف هستيريا العدوان الإسرائيلي، والضغط باتجاه الانسحاب من الأراضي العربية التي احتلتها إسرائيل خلال عملياتها الدموية والتدميرية ضد هذه الدول.

إسرائيل تراقب النفوذ التركي في سوريا بحذر شديد، حيث تقدر أهمية العلاقة مع تركيا وضرورة التعامل معها، بخصوصية لتجنب المشاكل الجدية معها؛ فآخر ما تخشاه تل أبيب أن تحادد تركيا عبر بوابة سوريا، كما تولي موضوع الشراكة الإستراتيجية بين دمشق وأنقرة والتي تشكّل قضية إنشاء قواعد دفاع جوي تركية عاجلة وسط البلاد لحماية الأجواء السورية جانبًا كبيرًا من المتابعة.

وهذا يفسّر قيام إسرائيل خلال الفترة التي أعقبت نجاح الثورة السورية بشنّ عمليات عسكرية عديدة داخل الأراضي السورية، كما قضمت مناطق أخرى تشكل مواقع إستراتيجية عسكرية مهمة داخل الأراضي السورية. إضافة إلى سعيها لإثارة ما يزعزع الاستقرار والأمن داخل سوريا لمشاغلة تركيا عبرها تحسبًا لأي تطورات جيوسياسية خلال السنوات المقبلة .

العراق الذي شهد أدوارًا متعددة للمليشيات الموالية لإيران، والتي تعتبر تركيا ندًا عقائديًا لها، تحرك رسميًا لكسب ودّ أنقرة لأسباب عديدة، منها ما يتعلق بإطلاق الحصص المائية لنهرَي دجلة والفرات، وأخرى لكبح جماح المليشيات الكردية التركية في شمال العراق، وفسح المجال الجوي والأرضيّ والاستخباراتي لتركيا لملاحقتها، مع منحها التراخيص لإقامة معسكرات لقواتها في مناطق حيوية بمحافظات دهوك ونينوى كمنطلقات لأعمال عسكرية دائمة.

ومع كل ذلك فإنّ الحكومة العراقية تعلن إدانتها بعضَ العمليات العسكرية التركية داخل العمق العراقي في كردستان العراق. وأيضًا توسّع العمليات العسكرية في المنطقة، وزيادة الحضور العسكري والاستخباراتي في كل الشمال العراقي، لكن بذات الوقت لا تمتلك هذه الحكومة الكثير من أوراق الضغط على أنقرة لثنيها عن ذلك، خصوصًا مع تصاعد موازين التبادل التجاري بين البلدين والتي قدّرت بـ(20) مليار دولار، والمشروع الاقتصادي الإستراتيجي الكبير المتمثّل بـ(طريق التنمية) لربط ميناء الفاو العراقي بالحدود التركية بسكك حديد وطرق برية بقيمة 17 مليار دولار.

إيران، التي كانت حتى يوم سيطرة الفصائل المسلحة السورية على دمشق، تمثل القوة الرئيسية لنظام الأسد بما تعنيه (القوة) من معانٍ أمنية واستخباراتية واجتماعية وعقائدية، لكن، وخلال أيام معدودة وبشكل دراماتيكي انهارت هذه (القوة) لتحل محلها تركيا، وبشكل أكثر إحكامًا وتحكمًا بمجريات الأمور، وبات الدور التركي من حيث الوزن والتأثير في المشهد السوري والإقليمي، هو الأبرز والأكثر تنظيمًا.

 وتتميز أنقرة عن طهران بقدرتها على الحوار الإيجابي في الساحة الدولية والإقليمية والمحلية من خلال قدراتها الاقتصادية والعسكرية المؤثرة في المنطقة دون الولوج في مشاريع مذهبية طائفية ميزت الحراك الإيراني.

كما أن الولايات المتحدة ترحب- خصوصًا بوجود الرئيس الأميركي دونالد ترامب في فترته الرئاسية الثانية- بسوريا المتوافقة مع تركيا، بما يعني تحجيم دور إيران في هذا البلد. سياسات ترامب المعلنة تجاه طهران والإستراتيجية التي ستتبعها إيران في مواجهة هذه السياسات ستعني الكثير في تمكين تركيا من الولوج بقوة إلى الشرق الأوسط الجديد، لأن أية عمليات عسكرية ستوجَّه نحو إيران ستعني تفرّد أنقرة بمشهد الشرق الأوسط المقبل.

لقد حرصت تركيا على طمأنة دول الخليج العربي بموضوع ملء الفراغ في سوريا بعد سقوط بشار الأسد لضمان مصالح جميع الدول، ووقفت المملكة العربية السعودية في مقدمة المؤيدين لهذا التغيير، وكذلك بقية دول مجلس التعاون الخليجي التي رأت ضرورة دعم السلطات الجديدة دوليًا، والحفاظ على وحدة وسلامة أراضي سوريا، ومنع الجماعات المتطرفة من نشر الفوضى فيها وفي المنطقة.

 ونجحت تركيا إلى حد كبير في تحقيق التعاون مع الرياض لتنسيق رؤية مشتركة لمستقبل سوريا ومنع أي خلاف أو تنافس قد يؤدي إلى توترات بين البلدين، هذا التنسيق يعني فيما يعنيه كسب الاهتمام الدولي لرفع العقوبات المفروضة على سوريا الأسد والتعامل من النظام الجديد بإيجابية ودعم إعادة إعمار البلاد، وتقديم المساعدات الإنسانية والاقتصادية للشعب السوري، وهو موقف ما كان ليكون قبل أقل من عقد من الزمن، لكن نجاعة السياسة الخارجية التركية الفاعلة آتت تأثيرها في المشهد التركي- الخليجي بوضوح.

منذ أكثر من عقدين من الزمن والعالم يسمع ترديد دول كبرى ومؤسسات بحثية عديدة، مصطلح “الشرق الأوسط الجديد”، وقد كانت هذه التلميحات أو الإعلانات بصيغها المختلفة تأتي من قادة تحرّكوا فعلًا تجاه الشرق الأوسط؛ بهدف تغييره مثل الرئيس الأميركي السابق جورج دبليو بوش ووزراء خارجيته ودفاعه، بالإضافة إلى إفادات وتهديدات قادة إسرائيليين، ومحللين سياسيين، ومراكز دراسات المستقبلات.

وقد ظن الكثيرون عام 2003 أن إيران ستكون لاعبًا أساسيًا في مراكز قوى هذا الشرق الجديد بحسب القدرات التي منحتها لها ظروف سقوط نظام صدام حسين، واحتلال العراق، والتسهيلات الأميركية لانسياحها في هذا البلد، وسوريا، ولبنان وسواها.

لكن إيران لم تحسن التعامل مع هذا المتغير، وسعت إلى تأسيس مشروعها الشرق أوسطي المرتكز على مفهوم “تصدير الثورة”، بما تسبّب في زعزعة الأمن الإقليمي، وظهور التيارات الجهادية الإرهابية التي جعلت الشرق الأوسط منطقة غير آمنة ومصدرًا للإرهاب.

لهذا السبب، ومع تطلّعها النووي غير المرغوب به دوليًا وإقليميًا، فإن الدور التركي بإسلامه “العلماني”وتحالفاته الإستراتيجية مع حلف شمال الأطلسي، وعلاقاته الوثيقة مع المنظومة الغربية والشرقية، وأيضًا محيطه العربي، وتميزه اقتصاديًا كأحد أهم الاقتصادات الفاعلة عالميًا وإقليميًا، يبقى هو الخيار الأمثل لشرق أوسط جديد تعاد به موازنات المنطقة، وتتحدد فيه آمال وتطلعات دوله بما يسمح بظهور مناطق اقتصادية هائلة تجعل طريق السلام والاستقرار والأمن غاية جميع دوله.

الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.

كاتب سياسي

الجزيرة

——————————-

5 تحديات صعبة أمام حكومة الشرع في سوريا/ عبد الرحمن الحاج

14/4/2025

أدّى وزراء الحكومة الانتقالية السورية القسَم في قصر الشعب بدمشق في 29 مارس/ آذار الفائت، بعد مضي نحو أربعة أشهر من إسقاط نظام الأسد، وأظهرت السير الذاتية تمتّع معظم الوزراء بخبرات وكفاءات مناسبة للحقائب التي كلّفوا بها، ويحمل إعلان الحكومة الانتقالية التكنوقراطية دلالات سياسية مهمة، فهي تعكس من جهة استقرار السلطة المركزية في دمشق، ومن جهة أخرى، تعكس التنوع السوري الديني والقومي والسياسي إلى حد كبير، وإن لم يكن مثاليًا.

والأهم أنها تعكس التوجهات العامة للرئيس أحمد الشرع في الاستجابة لمتطلبات المرحلة القادمة والتحديات التي تواجهها البلاد، والرئيس نفسه على وجه الخصوص.

وفي 7 أبريل/ نيسان الجاري عقدت الحكومة أوّل اجتماع لها، الذي حدد فيه الرئيس الخطوط العامة لعمل الحكومة، متمثلة في: التعافي الاقتصادي، وإصلاح مؤسسات الدولة، وإعادة الإعمار والسلم الأهلي، وهي ملفات تشير بوضوح إلى أن سوريا على مفترق طرق وعرة، وسيكون للمسار الذي تسلكه الحكومة من خلالها أثر بالغ على استقرار سوريا، وشكل نظام الحكم في المرحلة الدائمة بعد خمس سنوات، أي ما ستكون عليه سوريا الجديدة.

الصياغة المجملة للملفات في اجتماع الحكومة هي تحديات داخلية، إلا أن ثمة تحديات إستراتيجية خارجية للدولة السورية، لم يتم الإفصاح عنها في التقرير الرسمي عن الاجتماع، لكن يمكن إدراكها بيسر.

ويمكن القول إن الحكومة الانتقالية أمام مجموعة من التحديات، يمكن تلخيصها في خمسة تحديات رئيسية:

التهديد الإسرائيلي

في اليوم التالي لسقوط نظام الأسد، ودخول المعارضة دمشق، أي 9 ديسمبر/ كانون الأول، أصدر وزير الدفاع الإسرائيلي يسرائيل كاتس أمرًا بعمليات عسكرية شاملة في سوريا تستهدف ضمان ألا يشكل انتصار المعارضة تهديدًا لأمنها، وأن يتم إضعاف القدرات العسكرية للدولة السورية إلى أقصى الحدود، بحيث تعجز عن بناء جيش جديد، يمكن أن يشكل تهديدًا مستقبليًا وإستراتيجيًا، واستغلال الفرصة التي قد لا تتكرر لفرض وقائع جديدة والتمدد في الأراضي السورية؛ بهدف السيطرة على المنطقة العازلة، والسيطرة على المناطق الإستراتيجية مثل قمة جبل الشيخ.

كما قصفت إسرائيل منظومات الأسلحة الثقيلة الإستراتيجية في جميع أنحاء سوريا، بما في ذلك شبكات الدفاع الجوي وأنظمة الصواريخ، ومنشآت الدفاع الساحلية، وبدأت عمليات برية في عمق الأراضي السورية على الفور.

مع الوقت تبلورت أهداف سياسية إستراتيجية إسرائيلية، أيضًا متمثلة في إضعاف الحكومة المركزية، وجعلها غير قادرة على بناء دولة موحدة وقوية قدر الإمكان، دون أن يؤدي إلى انهيارها، عبر دعم الأقليات، وإقامة اتصال مع مجتمعاتها وقادتها لإقامة حكم ذاتي، وأيضًا في الضغط على تركيا وإعاقة نفوذها في سوريا وتموضعها العسكري الذي يشكل التهديد الأكبر للأهداف الإسرائيلية.

رغم الاستفزازات المتعددة والمتعمدة عمل الشرع على ضبط النفس حتى في التصريحات، ولجأ إلى القنوات الرسمية عبر الدول العربية للجم الاندفاعة الإسرائيلية، وخلال الأشهر الأربعة التي سبقت تشكيل الحكومة الانتقالية لم تنجح إسرائيل في تحقيق تفدم كبير في أهدافها السياسية، لكنها لعبت دورًا مؤثرًا في الحيلولة دون استقرار الجنوب، وتعزيز الخلاف بين السويداء، والسلطة المركزية بدمشق.

تسعى تركيا لإقامة قواعد عسكرية كبيرة في سوريا تحقق من خلالها عدة أهداف: منع عودة تنظيم الدولة، وضمان منع أي عودة للمليشيات الإيرانية، وضمان تنفيذ اتفاق قوات سوريا الديمقراطية مع السلطة المركزية في دمشق، وإنهاء الإدارة الذاتية، والحد من التهديد الإسرائيلي.

ويعتبر مطار ألتياس العسكري في نقطة T4 الإستراتيجي في وسط سوريا مثاليًا – والذي يبعد نحو 220 كيلومترًا عن مرتفعات الجولان، و250 كيلومترًا عن الحدود التركية، و175 كيلومترًا عن الحدود العراقية جنوب سوريا، ويمثل زاوية المثلث الذي كان ينشط فيه تنظيم الدولة- لوجود قاعدة جوية للجيش التركي هناك، أو نشر بطاريات صواريخ أرض- جو، ما سيضطر إسرائيل إلى إنشاء آلية لمنع التصادم مع القوات التركية في سوريا، وهو أمر يحد من حريتها في التصرف في سوريا، وهو ما لا يريده نتنياهو.

ولأن سياسات نتنياهو تجاه النفوذ التركي في سوريا لم تحظَ بدعم أميركي، فقد اضطر إلى التفاوض مع تركيا بوساطة أميركية لمنع التصادم على الأراضي السورية، ما يعني أن الوجود التركي العسكري في سوريا سيزداد، وسيضعف الاندفاعة الإسرائيلية العسكرية ويحد من قدرتها على فرض وقائع مستدامة على الأرض، وتركيا تشكل ضامنًا إقليميًا لاستقرار سوريا، ومنع عودة الخطر الإيراني، وعودة الإرهاب وتنظيم الدولة، وهي مصالح إستراتيجية للأمن القومي التركي والإقليمي، وفي الوقت نفسه للأمن القومي الأميركي فضلًًا عن الأوروبي.

تتمتّع دمشق بقدر كبير من الاستقلالية، خلافًا للتقديرات الشائعة، وهذا ما يمنحها قدرة على تحديد خياراتها، وعلى الرغم من الدور التركي الأساسي في مواجهة التهديدات الإسرائيلية في سوريا، فإن السلطات في دمشق يتعين عليها التصرّف عبر القنوات الدبلوماسية، والاستناد إلى حلفائها العرب والغربيين في لجم الاندفاعة الإسرائيلية والتصعيد من جهة، وإيجاد آليات محلية تضعف التدخلات الإسرائيلية الميدانية.

ففي الوقت الذي تتجنب فيه القوات الحكومية التي لا تزال في طور التشكل الانجرار إلى صدام مباشر مع القوات الإسرائيلية؛ لحرمان إسرائيل من استخدام فائض القوة، وفرض وقائع جديدة، فإن هذا التحدي يتطلب إستراتيجية طويلة الأمد تعتمد على تعزيز قدرة السكان في الجنوب على المقاومة المسلحة.

وقد ظهرت بوادر هذه المقاومة الشعبية في 3 أبريل/ نيسان الجاري في بلدة كويا جنوب درعا ضد التوغل الإسرائيلي، واستثمار تصاعد الغضب الشعبي، ومع الوقت ستصبح المقاومة منظمة من تلقاء نفسها، وهو أمر لا ترغب به إسرائيل على الأرجح، التي لا تريد تكرار تجربتها في لبنان.

قد يكون الهدف الإسرائيلي من العمليات العسكرية والوقائع التي فرضتها هو تقوية شروطها في اتفاقية سلام مع سوريا قد تكون في المستقبل، للحفاظ على الجولان، وعلى قواعد عسكرية متقدمة، وفي مقدمتها التلال الإستراتيجية وقمة جبل الشيخ.

في حين كانت مفاوضات السلام في الماضي جميعها تدور حول حدود الانسحاب الإسرائيلي من الجولان إلى بحيرة طبريا، لكنّ اتفاقًا محتملًا مثل هذا في المستقبل ليس من مشاغل دمشق في الوقت الراهن، الأولوية هي لوضع حد للتهديد الإسرائيلي.

نزع السلاح وبناء الجيش

بسقوط النظام انهار جيش الأسد، واختفى تمامًا، ترك المجندون أسلحتهم وهرب الضباط الذين قادوا العمليات، إما إلى قراهم في الساحل، أو خارج الحدود. وقوات عمليات ردع العدوان شُكلت من أكثر من 80 فصيلًا من قوات المعارضة المختلفة، والتي تختلف أيديولوجيًا مع هيئة تحرير الشام، ولكن معركة ردع العدوان وحدتها.

شكلت هذه الفصائل بطبيعة الحال ضمانًا لعدم وجود فراغ بعد انهيار الجيش، وسهلت مشاركتها في العمليات التفاهم لإدماجها في الجيش الجديد الذي يسعى الشرع أن يكون جيشًا احترافيًا يلغي التجنيد الإجباري، ويمنع تكرار الماضي، ويمكنه من تشكيل حماية حقيقية للدولة، وهو توجّه يلقى تأييدًا شعبيًا كبيرًا.

لكن المشكلة أن إعادة بناء جيش احترافي تتطلب وقتًا، وحيث إنه يجب عدم تكرار الماضي، فإن إعادة إدماج الضباط السابقين في الجيش أضحت مستبعدة تمامًا، ولكن ثمة حاجة إلى كفاءات وخبرات جديدة لبناء الجيش، ليست متوفرة في الخبرات السورية، لذلك تمَّ تأخير إدماج المنشقين الذين لعبوا دورًا في فترات سابقة في الجيش الجديد.

وإضافة إلى ذلك يتطلب بناء الجيش وقتًا طويلًا نسبيًا، وأظهرت أحداث مارس/ آذار المؤسفة في الساحل عقب حركة التمرد التي قام بها فلول من النظام السابق مدى حاجة الجيش إلى التسريع في إدماج عناصر الفصائل في الجيش، وتدريبها وفق أسس جديدة تضمن انضباطها وتحركها وفق قواعد محددة، وأيضًا مدى الحاجة إلى نزع السلاح من السكان والسيطرة على السلاح المتبقي في أيدي الفلول، فقد أدّت سنوات الحرب الطويلة إلى انتشار السلاح بين السكان على نطاق واسع.

لإنجاز ذلك على نحو يضمن مستقبلًا مستقرًا في سوريا، تحتاج الحكومة الانتقالية للاستعانة بخبرات من الدول الحليفة، وبشكل خاص الدول الأوروبية، وتركيا، ودول الخليج، وكندا، سواء في التدريب أو في بناء الجيش وقدراته العسكرية، وفي كل الأحوال ستلعب تركيا الدور الرئيس في كل ذلك.

بناء جيش وطني يتطلب وجود قانون ينظّم عمله، وهو ما لم يصدر حتى الآن نظرًا لعدم تشكيل مجلس تشريعي مخوّل بذلك. ويُفترض أن يعكس هذا الجيش التنوّع السكاني في البلاد بشكل عادل، مع سنّ مواد قانونية تضمن حياديته واستقلاله عن التجاذبات السياسية الداخلية، ومنع تكرار التجارب السابقة التي تسببت في عسكرة السياسة أو تسييس المؤسسة العسكرية. وتدور في الأوساط السياسية والمدنية نقاشات حول طبيعة العقيدة العسكرية التي يفترض أن يحملها الجيش الجديد، ومدى توافقها مع مفاهيم الدولة الوطنية الحديثة وأدوار الجيوش المحترفة.

إعادة الإعمار والتعافي الاقتصادي

خزينة فارغة وبلد مدمّر، نصف مدنه الكبرى تمت تسويتها بالأرض، والبنية التحتية متهالكة أو مدمرة تمامًا، الكهرباء والطاقة في وضع سيئ للغاية، نحو 90% من السكان تحت خط الفقر، وأكثر من مليون ونصف المليون في المخيمات بدون مأوى، وفوق كل ذلك عقوبات اقتصادية شديدة ومرهقة على البنك المركزي، وعلى قطاعات مختلفة تمنع وصول الأموال والمساعدات إلى الحكومة في دمشق.

وعلى الرغم من وجود رغبة كبيرة عربية وأوروبية لتقديم المساعدات، فإن العقوبات الأميركية، وبشكل خاص قانون قيصر، تعيق كل ذلك، وفشلت جميع المساعي حتى الآن في دفع الإدارة الأميركية في رفع العقوبات وفك الحظر عن “السويفت كود” للبنك المركزي.

وبالرغم من أن المحاولات مستمرة، فإنه لا تلوح في الأفق مؤشرات على رفع هذه العقوبات، فإدارة ترامب تتبنى على ما يبدو تطلعات إسرائيل في إبقاء الدولة السورية الجديدة ضعيفة، وغير قادرة على إعادة بناء قدراتها، وبشكل خاص العسكرية، لكنها في الوقت نفسها لا تريد أن يؤدي ذلك إلى عدم استقرار الدولة، لأن ذلك يشكل خطرًا على الشرق الأوسط برمته والأمن العالمي.

ومع ذلك، فإن استمرار العقوبات على المدى الطويل قد يُفضي إلى تداعيات غير مقصودة، من بينها دفع دمشق إلى تبني سياسات لا تنسجم مع التوجهات الأميركية في المنطقة. وقد يسهم هذا المسار في تعزيز حالة عدم الاستقرار الإقليمي، وخلق مناخ قد تستغله بعض القوى أو التنظيمات المتطرفة للظهور مجددًا.

تعي الحكومة الانتقالية في دمشق مخاطر أن تبقى العقوبات مستمرة، ومع يبدو أن لا خيار لها سوى بناء إستراتيجية تكيف مع العقوبات وبناء الدولة على أساس أنها مستمرة، خصوصًا أنها في محيط إقليمي متحمس لها ومستعد لاحتضانها، ويسعى لنجاحها لمصلحة أمن واستقرار المنطقة، ويعزز ذلك حرص الإدارة المتكرر والحقيقي بالإعلان عن أن سوريا بلد يريد السلام، ولا يريد أن يكون مصدر إزعاج وتصدير للأزمات في المنطقة والعالم.

الأمن والاستقرار

رافق انهيار الجيش، انهيار واختفاء أجهزة الأمن، وبالنظر للدور الذي لعبته الأجهزة الأمنية في المجازر الوحشية، وعمليات القمع والإخفاء القسري للسكان فقد كان ثمة إجماع بضرورة إعادة بناء الأجهزة الأمنية، وتشكيل جهاز أمن يضمن الأمن ويمنع تكرار الماضي.

وعلى هذا الأساس تم حل جهاز الأمن الداخلي (الشرطة) أيضًا، وتم الاعتماد على جهاز الأمن العام الذي شُكل في إدلب كنواة لإعادة بناء جهاز الأمن الوطني وملء الفراغ الأمني الذي شكله انهيار النظام.

بيدَ أنه وبالنظر إلى أن تعداد جهاز الأمن العام لا يكفي للانتشار على مساحات شاسعة، فهو لم يكن مهيأً للعمل خارج محافظتي إدلب وحلب، فقد فتح باب الانتساب بشروط تضمن عدم عودة النظام من جديد، وقام بتخريج دفعات كبيرة من المنتسبين لقوات الأمن العام عبر دورات إعداد وتدريب سريعة، ظهرت عيوبها سريعًا في ضعف سيطرتها وفرض النظام بشكل حاسم، وفشلها في بعض الأحيان، ثمة توجه بتعزيز دور المجتمعات المحلية في الأمن بتعيين عناصر الأمن والشرطة من أبناء كل منطقة في منطقتهم، وهذا التوجه قد يخفف من ضغوط الإدارة الحكومية إلا أنه قد يقلل من قدرة عناصر الأمن على فرضه.

وعلى الرغم أيضًا من عدم وجود قانون حتى الآن لتشكيل قوات الأمن التي تم حلها في بيان النصر في 30 ديسمبر/ كانون الأول مع الجيش السابق، فإن الفراغ الأمني لا يتيح مجالًا لانتظار صدور قانون.

ويحظى الأمن العام بقبول شعبي واسع ما يمكّن المشرعين في المرحلة المقبلة من إقرار بنية هيكلية قريبة ومنسجمة مع ما تم إنجازه حتى الآن، ولكن قد يثير أي قانون يتعلق ببناء الأمن العام نقاشًا عامًا فيما يتعلق بدور المجتمعات المحلية في هيكليته.

ولأن الأمن مرتبط ارتباطًا وثيقًا بالاقتصاد فإن بسط الأمن واستعادته في عموم البلاد، يساعد على التعافي وتقليل الخدمات الأساسية، ويشجع على الاستثمار، وتقليل التحديات أمامه، وهو مرتبط ارتباطًا وثيقًا بتحقيق الاستقرار، وتخفيف نزعات التمرد والمطالب في الحكم الذاتي في الساحل والسويداء، ومحاولات إضعاف الحكم المركزي، وذلك كله يجعل موضوع فرض النظام العام أولوية.

يرتبط تحقيق الأمن بالعدالة الانتقالية بشكل جوهري، وتجاهلها لتحقيق الانتقال السياسي سيؤدي على المدى الطويل إلى منع الاستقرار، وسيكون مصدرًا لتوليد موجات عنف محتملة، ولا يمكن التنبؤ بها، فثمة أكثر من مليون قتيل ضحايا للمجازر، وعمليات القتل الجماعي خلال 14 عامًا في الصراع مع الأسد، بالإضافة إلى مئات الآلاف من المغيبين قسريًا، ونحو ثلاثة ملايين معوق، إن تركة بهذا الحجم تستوجب تشكيل هيئة متخصصة بالعدالة الانتقالية على النحو الذي نص عليه الإعلان الدستوري، غير أن تنفيذ محاكمات يتطلب تحقيق الأمن أولًا، وهذا قد يستغرق بعض الوقت، لكن ذلك يجب ألا يجعل الموضوع محل نزاع.

بناء مؤسسات الحكم

الهدف النهائي للحكومة الانتقالية هو تحقيق الانتقال السياسي، ما يعني أنّ عليها أن تعيد بناء مؤسسات الحكم، وكتابة دستور جديد دائم، وتهيئة الظروف، وتحضير البنية التحتية لإجراء انتخابات عامة في نهاية المرحلة الانتقالية التي تمتدّ لخمس سنوات.

ويتطلب ذلك منها، نظريًا، تشجيعًا على المشاركة الواسعة في الحياة السياسية، وسنّ قانون للأحزاب، لكن من الناحية العملية، فإن ظروف عدم الاستقرار قد تدفع الحكومة للحذر من النشاط الحزبي لفترة تبعد الحكومة عن التجاذبات السياسية، لكنها تحافظ على الحريات العامة والأنشطة السياسية. والموازنة بين إبقاء الحريات السياسية محمية وبين الحد من الأنشطة الحزبية دقيقة للغاية.

استعان الشرع بإدارة سياسية كانت شكلت في إدلب قبل سنوات، وتولت الخطاب السياسي أثناء عملية ردع العدوان، وتم توسيعها خلال الأشهر الأخيرة، ومدها إلى معظم المحافظات تقريبًا.

وفي 27 مارس/ آذار أصدر وزير الخارجية قرارًا مثيرًا للجدل يحمل رقم (53) ينص على تشكيل “أمانة عامة للشؤون السياسية”، مهمتها “الإشراف على إدارة الأنشطة والفعاليات السياسية” داخل سوريا، “وتنظيمها”، و”توظيف أصول” حزب البعث والجبهة الوطنية التقدمية وما يتبع لهما من لجان لصالحها.

مصدر الجدل يكمن في السيطرة على المجال العام، وفهم الأمر على أنه تشكيل لحزب السلطة وتكرار دور حزب البعث، ولا توجد آلية يحتكم إليها لإبطال القرار الذي يفترض أنه ليس من صلاحيات الوزير المختص بالسياسات الخارجية، وهذا ما يوضّح تحديًا جديدًا في بناء مؤسسات الدولة، فالدولة السورية لديها بيروقراطية قديمة، وأنظمة وتشريعات يجب تجاوزها حتى لا يعاد إنتاج النظام، وإنشاء أنظمة بيروقراطية حديثة تجبر مثل هذا الخلل، وتعزز النزاهة والشفافية.

بيدَ أن المشكلة الرئيسية التي تواجهها الحكومة، هي أنه على الرغم من أن معظم الوزراء يمتلكون خبرات قوية في مجالهم، فإنهم لا يمتلكون خبرات في العمل الحكومي.

تحديات أخرى

لا تنحصر تحديات الحكومة الانتقالية الجديدة في التحديات المذكورة أعلاه، فثمّة الكثير من التحديات الأخرى التي تواجهها، لكنّها أقلّ أهمية، ويمكنها التغلّب عليها، مثل العلاقات مع روسيا، والتمثيل الدبلوماسي، والحفاظ على علاقة متوازنة مع المجتمع الدولي، وترسيخ صورة سوريا كعامل استقرار في المنطقة، وجذب السوريين في المهجر للمساهمة في بناء الدولة، والشراكة مع المجتمع المدني الذي سيلعب دور الوسيط مع التمويل الدولي لإعادة الإعمار، وخلق بيئة استثمارية جاذبة، وتطوير أنظمة التعليم بما يلائم تطلعات البلاد للتنمية، وغيرها.

تعتمد قدرة الحكومة على تجاوز هذه التحديات، على أمرَين:

    الأول: بقاء رصيد الشرع الشعبي مرتفعًا بما يجبر عثرات الحكومة ويساعد على مواجهة التحديات الأمنية، ومحاولات التمرّد، وتقسيم البلاد.

    والثاني: الاستفادة من الشعور العام باستعادة الدولة ورغبة الجميع في المساهمة في بنائها، ويتطلب ذلك العمل على إشراك المجتمع بمختلف مكوناته في بناء الدولة، ومنع حدوث أي قطيعة بين مؤسسات الدولة والمجتمع.

الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.

أكاديمي وباحث متخصص في الحركات الإسلامية

الجزيرة

——————————-

شروط “غير مجحفة” وطمأنة إسرائيل أولوية/ حسن إبراهيم | هاني كرزي | عمر علاء الدين

 واشنطن- دمشق.. انفتاح محتمل

تحديث 15 نيسان 2025

لم تعد الشروط الأمريكية المطلوب تنفيذها من الإدارة السورية الجديدة حبيسة القنوات الدبلوماسية، فالمعلَنة منها والمسربة تدور في فلك أربعة مطالب، يصفها محللون سياسيون بأنها “غير مجحفة”، وهي تدمير أي مخازن متبقية من الأسلحة الكيماوية، والتعاون في مكافحة الإرهاب، وإبعاد المقاتلين الأجانب من مناصب حكومية عليا، وتعيين ضابط اتصال للمساعدة في الجهود الأمريكية للعثور على الصحفي الأمريكي المفقود في سوريا أوستن تايس.

هذه الشروط مقابل تخفيف واشنطن بعض العقوبات المفروضة على سوريا، لكنها تمهد لانفتاح العلاقات بين واشنطن ودمشق، وتؤسس لطي صفحة سوداء وشائكة بدأت منذ فرضت الولايات المتحدة أولى عقوباتها على سوريا، في كانون الأول 1979، عندما أدرجتها على قائمة الدول الراعية للإرهاب.

في المقابل، تبدو ملامح التزام ببعض الشروط من قبل الحكومة السورية الجديدة وعلى رأسها أحمد الشرع، منذ سقوط نظام بشار الأسد في 8 من كانون الأول 2024، مع إبداء المرونة والاستعداد للعمل على بعضها الآخر، بينما تبقى التحديات أمام شرط المقاتلين الأجانب وتكثيف جهود البحث عن الصحفي تايس، مع حذر بتبادل الخطوات مع واشنطن التي لا تزال مترددة ومتحفظة في التعامل مع دمشق.

الأمر ليس بهذه السهولة، وفق دبلوماسيين وسياسيين وخبراء، فالمشهد السوري معقد ومتشابك خاصة مع وجود قوات إقليمية ودولية تتقاطع وتتعارض مصالحها في البلد، لا سيما ملف إسرائيل ذات العلاقة المتينة مع أمريكا، والتي توغلت قواتها في الجنوب السوري، وخلقت ملامح مواجهة مع تركيا على الأراضي السورية.

في هذا الملف، تسلط عنب بلدي الضوء على الموقف الأمريكي تجاه سوريا ما بعد الأسد، والشروط والمطالب التي وضعتها، وتناقش مع دبلوماسيين وخبراء إمكانية تنفيذها، ومدى تأسيسها لمسار انفتاح بين الطرفين، وتأثير إسرائيل في هذا الموقف ومآلات العلاقة معها، ومستقبل العلاقة بين دمشق وواشنطن.

خطوات أمريكية بطيئة نحو دمشق

بدت الخطوات الأمريكية بطيئة تجاه سوريا، فمن حيث التوقيت تزامن سقوط النظام السوري مع تولي دونالد ترامب سدة الحكم في واشنطن، كما أبدى الأخير عدم الاهتمام بما يحصل في سوريا، إذ قال في أول تعليق له قبل هروب الأسد بيوم، إن الولايات المتحدة يجب ألا تتدخل في الصراع في سوريا، مضيفًا، “يبدو أن المعارضة السورية تتحرك بشكل كبير للإطاحة بالأسد”.

وذكر ترامب أن سوريا في حالة من الفوضى، “لكنها ليست صديقتنا ويجب ألا يكون للولايات المتحدة أي علاقة بها. هذه ليست معركتنا.. دعها تستمر.. لا تتدخلوا!”.

عقب ساعات على إعلان هروب الأسد من سوريا، أكدت الولايات المتحدة الأمريكية دعمها الكامل لعملية انتقال سياسي بقيادة وملكية سورية، ونشرت وزارة خارجيتها عدة بنود على عملية الانتقال والحكومة السورية الجديدة أن تلتزم بها وهي:

    حكم موثوق وشامل وغير طائفي يفي بالمعايير الدولية للشفافية والمساءلة، ويتفق مع مبادئ قرار “2254”، واحترام حقوق الأقليات بشكل كامل.

    تسهيل تدفق المساعدات الإنسانية إلى كل المحتاجين.

    منع استخدام سوريا كـ”قاعدة للإرهاب أو تشكيل تهديد لجيرانها”.

    ضمان تأمين أي مخزونات من الأسلحة الكيماوية أو البيولوجية وتدميرها بشكل آمن.

في 20 من كانون الأول 2024، كانت أول محادثات رسمية أمريكا وأحمد الشرع، وأول زيارة لدبلوماسيين أمريكيين إلى دمشق منذ عام 2012، وبعد اللقاء بساعات، أوقفت الولايات الأمريكية رصد مكافأة مالية قيمتها 10 ملايين دولار أمريكي لمن يدلي بمعلومات حول أحمد الشرع.

في 6 من كانون الثاني الماضي، أصدرت وزارة الخزانة الأمريكية الترخيص رقم “24” الذي يشمل إعفاءات تهدف لتسهيل إدخال المساعدات الإنسانية إلى سوريا، وضمان عدم إعاقة العقوبات للخدمات الأساسية، بما في ذلك توفير الكهرباء والطاقة والمياه والصرف الصحي، لمدة ستة أشهر، مع مراقبة ما يحصل على الأراضي السورية.

وفي 15 من كانون الثاني، اتخذت الولايات المتحدة إجراءات إضافية لتخفيف العقوبات، فيما يتعلق بالأمر التنفيذي “رقم 13894” الصادر في 14 من تشرين الأول 2019، حول “حظر الممتلكات وتعليق دخول بعض الأشخاص الذين يساهمون بالوضع في سوريا”.

    أبرز الخطوات بعد سقوط الأسد

        بسطت فصائل سورية سيطرتها على دمشق بعد السيطرة على مدن أخرى، وأنهت 53 عامًا من حكم عائلة الأسد.

        أعلنت الإدارة السورية أحمد الشرع رئيسًا للبلاد بالمرحلة الانتقالية، وإلغاء العمل بالدستور، وحل الفصائل المسلحة والأجهزة الأمنية ومجلس الشعب وحزب “البعث”.

        تشكيل لجنة تقصي الحقائق ولجنة لتعزيز السلم الأهلي بعد مواجهات دامية في الساحل السوري.

        توقيع اتفاق بين أحمد الشرع، وقائد “قوات سوريا الديمقراطية” (قسد)، مظلوم عبدي، نص على دمج “قسد” في مؤسسات الدولة السورية، وضمان حقوق جميع السوريين في التمثيل والمشاركة في العملية السياسية.

        توقيع إعلان دستوري يحدد المرحلة الانتقالية في البلاد بمدة خمس سنوات.

        تشكيل حكومة جديدة حلت مكان حكومة تصريف الأعمال، وضمت 23 وزيرًا.

    اعتبرت واشنطن تشكيل الحكومة السورية الجديدة “خطوة إيجابية” وشاملة من أجل سوريا شاملة وممثلة، مع التشديد على عدم تخفيف العقوبات قبل تحقيق تقدم في مجموعة أولويات، وهي نفس الشروط المطروحة يضاف إليها منع إيران ووكلائها من استغلال الأراضي السورية، وضمان أمن وحريات الأقليات الدينية والعرقية في سوريا.

جدل تأشيرات أعضاء البعثة السورية

في نيسان الحالي، خفّضت السلطات الأمريكية تأشيرات أعضاء البعثة السورية من “جي 1” المخصصة للدبلوماسيين المعتمدين لدى الأمم المتحدة إلى “جي 3” الممنوحة لمواطنين أجانب يمثلون في الأمم المتحدة حكومة لا تعترف بها الولايات المتحدة، في خطوة فتحت الباب أمام الجدل حول الهدف منها، ومدى ارتباطها بموقف أمريكا من سوريا، أو حملها لرسائل سياسية.

وقال متحدث باسم وزارة الخارجية الأمريكية، إن الولايات المتحدة قدمت توجيهات إلى البعثة السورية لدى الأمم المتحدة بشأن تعديل وضع تأشيرات أعضاء بعثتها في نيويورك، مضيفًا أن الإجراء اتخذ بقرار إداري بناء على سياسة الاعتراف الأمريكية الحالية، مشيرًا إلى أن الولايات المتحدة لا تعترف في الوقت الحالي بأي كيان كحكومة لسوريا.

وأوضح المتحدث أنه لم يطرأ أي تغيير على امتيازات أو حصانات الأعضاء المعتمدين في البعثة السورية الدائمة لدى الأمم المتحدة.

مصدر مسؤول في وزارة الخارجية السورية، أوضح أن الإجراء هو تقني وإداري بحت، يرتبط بالبعثة السابقة، ولا يعكس أي تغيير في الموقف من الحكومة السورية الجديدة، وقال إن وزارة الخارجية على تواصل مستمر مع الجهات المعنية لمعالجة هذه المسألة وتوضيح السياق الكامل لها، بما يضمن عدم حدوث أي التباس في المواقف السياسية أو القانونية ذات الصلة.

وفي هذا السياق، أكد المتحدث باسم منظمة الأمم المتحدة، ستيفان دوجاريك، أن وضع سوريا في الأمم المتحدة لم يتغير جراء قرار تغيير تأشيرات أعضاء البعثة السورية، وأن سوريا لا تزال عضوًا بالمنظمة.

وذكر دوجاريك أن مسألة العضوية تخضع لأحكام ميثاق الأمم المتحدة، لافتًا إلى أن قرار الدولة المضيفة بتغيير تأشيرات أعضاء البعثة لا يؤثر على وضع سوريا في المنظمة، كما لا يؤثر على مشاركة أعضاء البعثة الدائمين في أعمال الأمم المتحدة.

السياسي السوري المقيم في واشنطن محمد علاء غانم، قال لعنب بلدي، إن الحكومة الأمريكية لا تعترف بالإدارة السورية الجديدة منذ سقوط نظام الأسد، في 8 من كانون الأول 2024، مضيفًا أن تخفيض التأشيرات جاء تماشيًا مع اللوائح الناظمة لإصدارها.

ويرى غانم أن الأمر ليس “عقابًا” على أي شيء وغير مرتبط بأي حدث سياسي جرى مؤخرًا، مشيرًا إلى محاولات اصطياد بالماء العكر، لكن التوضيحات الرسمية حاضرة سواء من الخارجية الأمريكية أو السورية أو الأمم المتحدة.

لا ينفي غانم إمكانية وجود رسائل سياسية من هذه الخطوة، لكنه يؤكد أن ما حدث هو إجراء إداري نابع عن موقف سياسي ليس بجديد.

الإعلامي والسياسي السوري- الأمريكي أيمن عبد النور، قال لعنب بلدي، إن عدم اعتراف أمريكا بالحكومة السورية الحالية، ناجم عن طابع قانوني وليس سياسيًا، فالقانون يقول إن هذه الحكومة امتداد لـ”هيئة تحرير الشام” المصنفة “إرهابية”، وبالتالي لا يمكن الاعتراف بأي جسم تابع لها.

شروط ليست مجحفة.. لكنها قاسية

تعددت الرسائل التي تلقتها الإدارة السورية الجديدة بهذه الشروط، بدءًا بما قاله رئيس لجنة العلاقات الخارجية بمجلس الشيوخ الأمريكي، جيم ريش، مرورًا بما نقلته وكالة “رويترز” عن تسليم مساعدة وزير الخارجية الأمريكي، ناتاشا فرانشيسكي، قائمة شروط لتخفيف العقوبات، لوزير الخارجية السوري، أسعد الشيباني، على هامش مؤتمر “بروكسل”، وصولًا إلى ما قالته المتحدثة باسم الخارجية الأمريكية، تامي بروس، في 1 من نيسان الحالي.

بما يتعلق بشرط تدمير مخازن الأسلحة الكيماوية، قال وزير الخارجية السوري، أسعد الشيباني، في 5 من آذار الماضي، إن بلاده ملتزمة بالتعاون مع منظمة حظر الأسلحة الكيماوية لتدمير بقايا برنامج الأسلحة الكيماوية لنظام الأسد.

وشدد الشيباني على أن التزامات سوريا في هذه المرحلة التاريخية هي تدمير بقايا برنامج الأسلحة الكيماوية الذي تم تطويره في عهد نظام الأسد، ووضع حد لهذا الإرث المؤلم، وتحقيق العدالة للضحايا، وضمان الامتثال للقانون الدولي بشكل قوي، كما شاركت سوريا، في آذار، للمرة الأولى في تاريخها، باجتماع المجلس التنفيذي لمنظمة حظر الأسلحة الكيماوية في لاهاي.

بالنسبة لشرط مكافحة “الإرهاب”، فهناك خصومة وعداء وقتال تاريخي بين تنظيم “الدولة الإسلامية” والفصائل وأبرزها “هيئة تحرير الشام”، كما كشف مسؤولون أمريكيون أن الولايات المتحدة شاركت معلومات استخباراتية مع الإدارة السورية الجديدة، أدت إلى إحباط مخطط لتنظيم “الدولة” لتفجير مقام السيدة زينب.

وفي 9 من آذار الماضي، اتفقت سوريا مع الأردن والعراق وتركيا ولبنان على إدانة الإرهاب بكل أشكاله، والتعاون في مكافحته عسكريًا وأمنيًا وفكريًا، وإطلاق مركز عمليات مشترك للتنسيق والتعاون في مكافحة تنظيم “الدولة الإسلامية”، ودعم الجهود ومنابر العمل الإقليمية والدولية القائمة، للقضاء على التنظيم وما يمثله من خطر على أمن سوريا والمنطقة والعالم، والتعامل مع سجون عناصره.

الباحث ومدير وحدة المعلومات في مركز “جسور للدراسات”، وائل علوان، يرى أن الشروط الأمريكية في هذا التوقيت التي تحتاج فيها سوريا لرفع العقوبات بشكل أسرع، هي شروط قاسية لكنها ليست مجحفة، وأن ما تطلبه الولايات المتحدة هو جزء من أهداف الشعب السوري وما تسعى الحكومة السورية لتحقيقه.

وتتسم السياسة الأمريكية الحالية تجاه سوريا بالحذر والتجريبية، وفق الدبلوماسي السوري السابق بشار الحاج علي، إذ لم تعترف الولايات المتحدة بعد بشكل كامل بالحكومة السورية الجديدة، رغم تغيّر المعطيات على الأرض.

وقال الحاج علي لعنب بلدي، إن الأشهر الماضية شهدت تحركات سورية في ملفات حساسة مثل الأسلحة الكيماوية، وتقليص النفوذ الإيراني، والانخراط في جهود مكافحة الإرهاب، غير أن الولايات المتحدة، ورغم ترحيبها الحذر ببعض هذه الخطوات، ربطت الانفتاح السياسي بالمعالجة الجدية لملفي الصحفي الأمريكي أوستن تايس، والمقاتلين الأجانب.

ويرى الدبلوماسي السوري أن هذين الملفين في الظاهر لا يبدوان بنفس الثقل الاستراتيجي للملفات الإقليمية الكبرى، إلا أنهما يحملان رمزية سياسية وأخلاقية عالية في الوعي الأمريكي الرسمي والعام، فأوستن تايس، الضابط السابق في سلاح البحرية والمفقود منذ عام 2012، تحوّل إلى رمز لمعركة طويلة تخوضها واشنطن من أجل مواطنيها المفقودين، وترتبط قضيته بحسابات داخلية يصعب تجاهلها في أي مفاوضات.

المقاتلون الأجانب.. ملف قابل للاحتواء

يعد ملف المقاتلين الأجانب من القضايا التي لا تزال شائكة في سوريا، إذ تحدث أحمد الشرع أن منح الجنسية للمقاتلين الأجانب ليس مستحيلًا، ويمكن دمجهم في المجتمع السوري، إذا كانوا يحملون نفس أيديولوجيا وقيم السوريين، وجرى منح بعضهم رتبًا عسكرية، وذهبت ست وظائف عسكرية على الأقل في وزارة الدفاع السورية لأجانب، من أصل 50 أُعلن عنها.

الدبلوماسي بشار الحاج علي يرى أن ملف المقاتلين الأجانب متجذّر في الذاكرة الأمنية الأمريكية، التي لا تزال تتعامل بحذر مع أي مؤشر على إعادة إنتاج ظواهر العبور الجهادي عبر الحدود السورية.

ورجّح الباحث وجود احتمالية كبيرة بأن تتجاوب الإدارة السورية الجديدة مع هذا الملف، خاصة مع تزايد الضغوط الدولية عليه، مع التأكيد أن التعاطي مع ملف المقاتلين الأجانب في إطار شراكة معلوماتية، يعكس التزام دمشق بمحاربة التهديدات العابرة للحدود، لا سيما في المناطق التي لا تزال تشهد نشاطًا لعناصر متطرفة غير سورية.

الباحث وائل علوان، فرّق بين “النص” و”روح النص”، فالأول هو “المقاتلون الأجانب”، أما الثاني فهو “الجهاديون الأجانب”، لافتًا إلى أن الحكومة الجديدة بناء على تجربتها السابقة في إدلب لديها خبرة كافية لإدارة ملف الجهاديين الأجانب عبر من جزءًا من الاستقرار بدل جعلهم جزءًا من المخاطر والتحديات.

وقسم الباحث المقاتلين الأجانب إلى قسمين، الأول مجموعة من الجهاديين الذين يلتحقون بالتنظيمات الجهادية والتنظيمات المتطرفة، وهؤلاء الذين يشكلون قلقًا، يمكن أن يعادوا إلى بلادهم أو ينقلوا إلى مكان آخر، أو العمل على ضبط سلوكهم.

القسم الثاني هم الأجانب خارج معادلة التنظيمات الجهادية والفكر الراديكالي، وهم ليسوا مشكلة، فجميع الدول تعتمد على نخب وأجانب فيها طيف واسع ومتنوع من الجنسيات، وفق علوان.

ماذا عن أوستن تايس؟

بالنسبة لقضية الصحفي الأمريكي المفقود أوستن تايس، التقى أحمد الشرع مع والدة الصحفي، في 19 من كانون الثاني الماضي، وقالت إن “الإدارة السورية الجديدة تعرف ما نمر به وهي تحاول تصحيح الأمور بالنسبة لأشخاص مثلنا”.

يرى الباحث وائل علوان أن قضية تايس فرصة أمام الحكومة وليست تحديًا، معتبرًا أن الحكومة لديها قدرة وفرص للبحث عن معلومات مؤكدة حول الصحفي الأمريكي وغيره، عبر التحقيقات مع فلول النظام وتتبع المعلومات التي يمكن أن تفضي إلى تعاون أمني كبير بين الحكومة السورية والأمريكية.

الدبلوماسي بشار الحاج علي، يقترح على الإدارة السورية فتح تحقيق مستقل وشفاف مع إشراك طرف ثالث دولي حول مصير أوستن تايس، يفضي إلى تقديم رواية دقيقة، سواء أثبت وجوده على قيد الحياة أو لا، مع الاحترام الكامل للمعايير القانونية والإنسانية.

ولفت الحاج علي إلى ضرورة صدور إعلان رسمي بأن دمشق لا تحتجز حاليًا أي مواطن أمريكي، مع فتح قناة تواصل أمنية سواء مباشرة أو غير مباشرة عبر وسيط لتأكيد الجدية في التعامل مع واشنطن على قاعدة المصالح المتبادلة.

إسرائيل عامل مؤثر.. ضوء أخضر أمريكي للتصعيد

برزت إسرائيل كطرف مؤثر في مسار العلاقات بين أمريكا وسوريا، خاصة مع شن إسرائيل حملة قصف مكثفة ضد مواقع عسكرية سورية وتدميرها منذ الإطاحة بالأسد، وتوغلت في الجنوب السوري، وبرز توتر تركي- إسرائيلي إثر الحديث عن انتشار تركي متوقع في قواعد عسكرية داخل سوريا.

إسرائيل التي تواصل إطلاق تصريحات عدائية تجاه السلطات الجديدة في سوريا، تمارس ضغوطًا على الولايات المتحدة لإبقاء سوريا “ضعيفة ولامركزية”، إذ أبلغ مسؤولون إسرائيليون واشنطن أن “الحكام الإسلاميين الجدد” في سوريا الذين تدعمهم أنقرة يشكلون تهديدًا لحدود إسرائيل، وفق ما نقلته وكالة “رويترز” عن مصادر مطلعة.

الخبير الاستراتيجي والباحث غير المقيم في معهد “ستيمسون” بواشنطن عامر السبايلة، قال لعنب بلدي، لا شك أن إسرائيل حصلت على ضوء أخضر أمريكي للتصعيد في سوريا، منذ زيارة رئيس الوزراء الإسرائيلي، بنيامين نتنياهو، للبيت الأبيض وتزويده بالسلاح الأمريكي، لافتًا إلى ملاحظة أن الولايات المتحدة هي التي تبادر لتهديد إيران، وبدأت باستهداف أدواتها المتمثلة بالحوثي في اليمن، وضرب أي تهديد ضد حليفتها إسرائيل.

وقالت الخبيرة السياسية المتخصصة في شؤون الشرق الأوسط إيفا كولوريوتيس، لعنب بلدي، إن تحركات إسرائيل في سوريا تخضع لتوافق أمريكي- إسرائيلي تجاه سوريا.

وأضافت كولوريوتيس أنه رغم الدعم الأمريكي لإسرائيل في سوريا من حيث “حماية أمنها”، تبقى السياسة الأمريكية منفصلة عن السياسة الإسرائيلية في سوريا، وتجلى ذلك في دعم واشنطن للاتفاق بين “قسد” والإدارة السورية الجديدة، وهو أمر لم ترغب فيه إسرائيل.

بدوره، قال الإعلامي والسياسي السوري- الأمريكي أيمن عبد النور، لعنب بلدي، إن سوريا ليس لها وزن كبير ضمن أولويات الإدارة الأمريكية، لذلك فإن واشنطن لن تعمل من أجل وقف طموحات أي من الدول المجاورة لسوريا سواء إسرائيل أو تركيا أو الدول العربية، طالما أن ذلك لا يؤثر على الأمن القومي الأمريكي.

في السياق ذاته، قال الناشط السياسي السوري في أمريكا محمد علاء غانم، لعنب بلدي، إنه لا يبدو أن هناك أي حركة جدية أمريكية لكبح جماح تنامي النفوذ الإسرائيلي في سوريا، بل على العكس، قال سيباستيان غوركا، رئيس قسم مكافحة الإرهاب في البيت الأبيض مؤخرًا، إن أمريكا ممتنة لإسرائيل لدورها في إنهاء النفوذ الإيراني في سوريا.

هل تدفع أمريكا نحو سلام بين دمشق وتل أبيب؟

في 25 من شباط الماضي، قال مبعوث الرئيس الأمريكي إلى الشرق الأوسط، ستيف ويتكوف، إن سوريا يمكن أن تلحق بقطار التطبيع مع إسرائيل خلال الفترة المقبلة، معتقدًا وجود إمكانية لانضمام سوريا ولبنان إلى اتفاقيات “أبراهام” للسلام والتطبيع مع إسرائيل.

اتفاقيات “أبراهام” سلسلة من اتفاقيات التطبيع بين إسرائيل والدول العربية التي توسط فيها ترامب خلال ولايته الأولى، والتي أسفرت عن تطبيع كل من الإمارات والبحرين والسودان والمغرب مع إسرائيل برعاية أمريكية.

وفي 16 من كانون الثاني الماضي، قالت مساعدة وزير الخارجية الأمريكي لشؤون الشرق الأدنى، باربرا ليف، إن من المتوقع التوصل إلى اتفاق سلام بين إسرائيل وسوريا خلال السنوات المقبلة.

الإدارة الجديدة في سوريا لم تبدِ موقفها بشأن التطبيع مع إسرائيل، لكنها أكدت رغبتها في ألا تمثل سوريا تهديدًا لدول الجوار، كما قال الشرع، إنه لا ينوي خوض صراع مسلح مع إسرائيل، معتبرًا أنها ليست المعركة التي سيخوضها.

ويرى محمد علاء غانم، أن سوريا ليست مهمة بالنسبة لواشنطن، ولكن بما أن الرئيس الأمريكي دونالد ترامب، هو مهندس “الاتفاقات الإبراهيمية”، فبالتالي لو رشحت دوائر السلطة في أمريكا سوريا لتكون هدفًا جديدًا للانضمام لقطار التطبيع مع إسرائيل، فإن ذلك سيستدعي الاهتمام من ترامب بالقضية السورية.

وأضاف غانم أن المبعوث الأمريكي إلى الشرق الأوسط، ستيف ويتكوف، تحدث بشكل إيجابي عن الرئيس أحمد الشرع، وقال إن شخصيته وأفكاره ربما تغيرت عن الماضي، وبنفس الوقت قام ويتكوف بترشيح سوريا ولبنان كدولتين قد تنضمان أو تعقدان اتفاقيات سلام مع إسرائيل، ولكن هذا لا يعني أن ترامب كشخص مكترث بإنجاز اتفاق السلام الآن، ولكن ربما لاحقًا يضغط في سبيل إنجازه.

من جهته، قال أيمن عبد النور، إن أمريكا تضع عبر مبعوثها للشرق الأوسط ستيف ويتكوف ونائبته مورغان أورتاغوس، خطة لإنجاز عملية التطبيع بين دمشق وتل أبيب، حيث تعتقد واشنطن أن توقيع مثل هذا الاتفاق سيزيد بشكل كبير عدد الدول العربية التي ستنضم لاتفاقيات “أبراهام”.

وأضاف عبد النور أن توقيع إسرائيل اتفاق سلام مع الحكومة السورية الحالية التي تعبّر عن المسلمين السنة المحافظين، يجعل الاتفاق أقوى مما لو تم توقيعه مع النظام السابق الذي هو علوي أقلوي، لكن إسرائيل لا تريد التوقيع مع الحكومة الحالية، لأنها ترى أن حكومة الشرع لا تمثل السوريين.

مساعٍ لحل التوتر التركي- الإسرائيلي في سوريا

بعد بروز ملامح تصعيد إسرائيلي- تركي في سوريا، تتجه الأمور نحو “الحلحلة” والاتفاق، عقب تصريحات من الطرفين، وتعهد من الرئيس الأمريكي، دونالد ترامب، بحل التوتر بينهما في سوريا، وذلك خلال لقائه مع رئيس الوزراء الإسرائيلي، بنيامين نتنياهو، في البيت الأبيض.

يرى أيمن عبد النور أن الرئيس ترامب اخترع مدرسة تقوم على مبدأ الحديث عن نقاط معينة تثير زوبعة، من أجل أن تكون هناك اقتراحات مبتكرة جديدة تفتح أفاقًا جديدة للعمل، وبالتالي ليس كل ما يقوله ترامب يكون مقتنعًا به أو أنه سيقوم بتنفيذه، بل يقوله من أجل إثارة المياه الراكدة السابقة لطرح حلول جديدة، وهذا ما فعله عند حديثه عن حل التوتر التركي- الإسرائيلي.

وأضاف عبد النور أن ترامب لديه مصلحة في تخفيف العداء التركي- الإسرائيلي، ويمكن أن يسهم بحل الخلاف عن طريق لقاءات مع مسؤولي أنقرة وتل أبيب، وتقريب وجهات النظر بينهما، لكنه لن يبذل جهدًا كبيرًا بشأن إنجاز ذلك.

محمد علاء غانم، قال لعنب بلدي، إن الرئيس ترامب لديه علاقة جيدة جدًا مع الرئيس التركي، رجب طيب أردوغان، وهذا الأمر أيضًا أكده مبعوثه الخاص للشرق الأوسط، ستيف ويتكوف، الذي قال إن ترامب وأردوغان أجريا محادثة “رائعة”، وإن “أشياء إيجابية قادمة”، فلذلك الرئيس ترامب عرض أن يلعب دور الوسيط ما بين إسرائيل وتركيا في سوريا من أجل منع الاصطدام وحل الخلاف بينهما.

وقالت نائبة المبعوث الأمريكي إلى الشرق الأوسط، مورغان أورتاغوس، إن الولايات المتحدة “اتخذت بعض الخطوات البطيئة، وتقيم الوضع بصبر في صياغة سياستها تجاه سوريا”.

وأوضحت أورتاغوس أن الولايات المتحدة “كانت واضحة حيال توقعاتها من إدارة أحمد الشرع”، مضيفة أن “للولايات المتحدة مصلحة واضحة في ضمان عدم عودة إيران إلى سوريا، وفي ضمان عدم قدرة تنظيم (الدولة) على إعادة تشكيل نفسه وتهديد أمريكا أو أوروبا أو أي جهة أخرى في الشرق الأوسط”.

وذكرت المسؤولة الأمريكية أن “لدينا مصلحة هناك، لدينا صديقان عزيزان، لدينا حليفتنا في (الناتو) تركيا، ولدينا حليفتنا الأخرى، إسرائيل، وبالطبع، لدينا شراكتنا الوثيقة مع المملكة العربية السعودية، جميع هذه الدول، بما في ذلك لبنان، لديها مصلحة كبيرة لرؤية نتيجة في سوريا”.

هل يتغير الموقف الأمريكي من سوريا؟

يرى أيمن عبد النور أن الحل الوحيد للاعتراف الأمريكي بالحكومة الحالية مستقبلًا، أن يكون هذا الجسم مستقلًا وقويًا وشريكًا في السلطة وليس تابعًا لـ”هيئة تحرير الشام”، عندها ستعترف به الولايات المتحدة، لذا يجب أن يتم تغيير التقييم والوضع القانوني قبل أن يتم تغيير التقييم السياسي من قبل واشنطن.

وأضاف عبد النور أنه في حال أصبح هناك حوار وطني أوسع تنتج عنه صلاحيات أكبر للوزراء، أو اختيار وزراء لا يكون بينهم أشخاص مصنفون على قائمة “الإرهاب” أو قائمة العقوبات الأمريكية للوزراء أو لهم ممارسات سلبية سابقة، حينها تتغير الطبيعة القانونية للحكومة الجديدة، وبالتالي يتم تغيير الواقع والقرار السياسي والاعتراف بها من قبل أمريكا.

ويرى مدير قسم تحليل الدراسات في مركز “حرمون للدراسات المعاصرة”، سمير العبد الله، أن واشنطن تراقب سلوك الإدارة السورية الجديدة، وتهدف من خلال سياستها تجاه دمشق لضمان عدم تحول سوريا إلى تهديد لإسرائيل، ومعالجة ملف “قسد” عبر حلول سلمية وتفاوضية، بالإضافة إلى ضمان حماية الأقليات.

وفي حال التزمت الإدارة السورية بهذه الشروط، فمن المرجح أن تُبادر واشنطن إلى تخفيف العقوبات تدريجيًا، وفتح قنوات تواصل جديدة، بما يفضي إلى إعادة تشكيل العلاقات بين الطرفين، لكن ذلك يظل مرهونًا بقدرة الإدارة السورية على التحول من عقلية الجماعات الجهادية إلى عقلية إدارة دولة.

ويعتقد الباحث وائل علوان بإمكانية حدوث تعاون أمريكي- سوري يكون إطاره المبدئي أمنيًا ثم قد يتطور في وقت لاحق إلى أطر أخرى، أما العقوبات والعلاقة السياسية فستبقى ورقة ضغط بيد الإدارة الأمريكية لفترة ليست قليلة لضمان الاستجابة الكاملة من الحكومة السورية الجديدة.

ويرى الدبلوماسي السابق بشار الحاج علي، أنه في حال أرادت الإدارة السورية الجديدة تحويل مقاربتها إلى مسار حوار حقيقي فعلًا، لا بد لها من التعامل مع ملفي “المقاتلين الأجانب وأوستن تايس” كاختبار حتمي لحسن النيات، لا كعبء يمكن تأجيله أو المناورة به.

وقال الحاج علي، إن الإفصاح عن حسن النيات في الشروط، وخاصة في هذين الملفين، لم يعد خيارًا سياسيًا، بل صار شرطًا ضروريًا لأي نقاش مستقبلي مع واشنطن، وربما يجد صانع القرار في دمشق، في هذه اللحظة الدقيقة، فرصة نادرة لتحويل ملف شائك إلى ورقة اعتماد، ومقدمة لتثبيت موقع جديد على الخريطة الدولية.

ويبقى مستقبل العلاقة شائكًا ورهن مسار طويل قائم على الاستجابة والمرونة، فالولايات الأمريكية كانت وما زالت لاعبًا مهمًا ومؤثرًا في سوريا، خاصة خلال الـ14 عامًا الماضية، حيث أسهمت بتغيير معالم السيطرة، سواء عبر دعمها فصائل بالأسلحة وتخليها عنها لاحقًا، أو عبر وجود عسكري، أو توافق مصالحها مع قوى ثانية، أو منح الضوء الأخضر لعمليات وضربات لجهات أخرى، أو امتلاك عصا العقوبات.

عنب بلدي

——————————

لقاء رفيع المستوى حول سوريا: التوسع الإسرائيلي أكبر تهديد لدمشق/ عبد الحميد صيام

من بين الفعاليات التي جذبت كثيراً من الحضور في منتدى أنطاليا الرابع للدبلوماسية ندوة جمعت كلاً من نائب وزير الخارجية التركي نوح يلماز، ومبعوث الأمين العام الخاص لسوريا، غير بيدرسون، وأستاذ دراسات التنمية المستدامة بجامعة كولومبيا ومستشار الأمم المتحدة للتنمية المستدامة، جيفري ساكس، ونائب المدير التنفيذي لبرنامج الأغذية العالمي، كارل سكاو. وأدار الندوة الصحافي وضاح خنفر، الرئيس السابق لقناة “الجزيرة” الإخبارية ورئيس منتدى الشرق بإسطنبول.

وقال خنفر في افتتاحية مقتضبة للندوة: “من الناحية الإستراتيجية، تعدّ سوريا مركزاً جيوسياسياً. إنها جزء من كل صراع شهدته المنطقة، وجزء من كل حل أيضاً”، مؤكداً أن استقرار سوريا يُمكن أن يُنعش الأمل في الشرق الأوسط الأوسع. وذكر أنه زار دمشق مؤخراً وأحس بشعور من التفاؤل لدى المواطنين السوريين قائلاً: “لقد رأيتُ الأمل الجديد الذي انبثق بين أبناء الشعب السوري”.

وقد طرح خنفر السؤال الأول على نائب وزير الخارجية التركي يلماز حول رؤيته لكيفية إعادة الاستقرار لسوريا، وخاصة أن هناك دوراً لدولة أذربيجان بدأ يوم الأربعاء لاستكشاف الموقف الإسرائيلي حول الوضع في سوريا.

وبدأ نائب الوزير التركي حديثه حول خلوّ مجموعة المتحدثين من أي تمثيل سوري قائلاً إن وزير الخارجية السوري، أسعد الشيباني، كان يجب أن يكون من بين المتحدثين، إلا أنه اعتذر بسبب اضطرار الوفد السوري العودة إلى دمشق.

وأشار السيد يلماز في بداية حديثه إلى استطلاع الرأي الذي نشرته مجلة الإيكونومست، والتي وصلت إلى نتائج تشير إلى أن 70 في المئة من الشعب السوري متفائلون، و80 في المئة يشعرون بأن لديهم الآن حرية أوسع مما كان عليه الوضع أيام بشار الأسد، وأن 80 في المئة لديهم ثقة بأحمد الشرع، وثلثي الذين شملهم الاستطلاع قالوا إن الظروف الاقتصادية تحسنت رغم الصعوبات.

تناول يلماز التقارير الأخيرة عن “محادثات تفادي الاحتكاكات” التركية الإسرائيلية في أذربيجان بشأن المجال الجوي السوري، موضحاً أنها كانت تقنية بحتة، وليست دبلوماسية. وأوضح قائلاً: “الأمر يتعلق بآلية تفادي الاحتكاك، فعندما تستخدم مجالاً جوياً، عليك التواصل مع الجهات الفاعلة الأخرى التي تستخدمه بنشاط”. ومع ذلك، شكك خنفر في التداعيات السياسية لاستمرار الضربات الإسرائيلية في سوريا. وقال: “بمواصلتها، يعني ذلك نزع الشرعية عن الواقع الحالي ووضع سوريا تحت ضغط شديد”.

وأقر يلماز بهذه المسألة، واصفاً العمليات الإسرائيلية بأنها “أحد أكبر المخاطر التي تقوض الشرعية السياسية” للحكومة السورية الجديدة. وحذر قائلاً: “يُمثل التوسع الإسرائيلي أكبر تهديد في الوقت الحالي”، مشيراً إلى إمكانية استغلال الفوضى على الأرض لتبرير استمرار وجود إسرائيل في سوريا”.

بيدرسون: نريد لسوريا أن تنجح

تحول الحوار بعد ذلك مع المبعوث الخاص للأمين العام لسوريا غير بيدرسون، الذي حث الحكومة الانتقالية على الصبر والمساءلة في ظلّ سعي سوريا إلى انتقال هشّ في ظلّ الرئيس الشرع. وقال إن التطورات في سوريا جاءت مفاجئة للجميع، لكن على الفور اجتمع المجتمع الدولي في مدينة العقبة بالأردن، بمشاركة دول غربية وعربية، لكن غاب عن المؤتمر كل من روسيا والصين وإيران.

وشدد بيدرسون على أهمية الحوكمة الشاملة. وقال: “إذا أوفى الشرع بوعوده؛ هيكل حوكمة شامل، والحفاظ على مؤسسات الدولة، فإن المجتمع الدولي سيفي بالوعود”، مستشهداً ببعض التحسينات التي حدثت مثل الإعلان الدستوري الجديد، وإنشاء هيكل حكومي شامل. وقال إن معضلة العقوبات تؤدي إلى تحطيم الأمل والانتعاش الاقتصادي. وأضاف: “أتفق مع جميع المتحدثين على أن العقوبات الدولية لا تزال تُشكّل عائقاً حاسماً أمام إعادة إعمار سوريا. وعلق خنفر قائلاً: “بصراحة العقوبات تقتل الناس”، مذكراً كيف أن السوريين العاديين، الذين كانوا يعتمدون سابقاً على التجارة غير الرسمية، أصبحوا الآن غير قادرين على الحصول على الإمدادات الأساسية.

وأكد بيدرسون هذا القلق قائلاً: “بدون رفع العقوبات، تتجه البلاد نحو كارثة. الوضع الاقتصادي والإنساني يزداد سوءاً، وواشنطن مترددة… لم تتخذ قرارها بعد”. وأشار بيدرسون إلى أن المساعدات الإنسانية يُفترض أن تكون معفاة من العقوبات، وحث تركيا والاتحاد الأوروبي والدول العربية على الضغط على الولايات المتحدة للسماح. وقال: “لا يمكننا تحمّل فشل هذا. نحن بحاجة إلى نجاح سوريا”.

ساكس: اللوم كلّه على الولايات المتحدة

أما الباحث والأستاذ بجامعة كولومبيا جيفري ساكس، فقد وجّه نقداً لاذعاً للسياسات الأمريكية والإسرائيلية في الشرق الأوسط، مؤكداً أن كلا البلدين يواصلان استغلال الحرب في سوريا. وقال: “لن ننعم بالسلام في هذه المنطقة إلا إذا كانت لدينا دبلوماسية عامة قائمة على دبلوماسية حقيقية، لا على عمليات وكالة المخابرات المركزية”. وأكد أن المخابرات الأمريكية اتخذت قراراً بإسقاط بشار الأسد بناءً على تعليمات من الموساد الإسرائيلي.

وأكد ساكس أن الولايات المتحدة وإسرائيل انتهجتا إستراتيجية طويلة الأمد لإعادة تشكيل الشرق الأوسط من خلال التدخلات العسكرية وحروب تغيير الأنظمة. وشدد على أن “الحرب السورية ليست سوى واحدة من ست حروب روّجت لها إسرائيل، بما في ذلك في لبنان والعراق وسوريا وليبيا والصومال والسودان”.

وأكد أن هذه الحروب “حروب اختيارية”، وليست حروب ضرورة، وأدان دور القوى الإمبريالية في تحديد مصير المنطقة.

وقال ساكس: “لقد قُسّم هذا الإقليم على مدى مئة عام، أولاً على يد الإمبراطورية البريطانية، ثم على يد الإمبراطورية الأمريكية”، مضيفاً أن “إسرائيل لا تستطيع أبداً خوض هذه الحروب بمفردها. إنها حروب أمريكية… لا تستطيع إسرائيل القتال ولو ليوم واحد دون دعم الولايات المتحدة”.

وقدّم ساكس حلاً بسيطاً لوقف الحروب في الشرق الأوسط. وقال: “كل ما هو مطلوب، في رأيي، هو أن تُغيّر الولايات المتحدة حق النقض (الفيتو) ضدّ انضمام فلسطين إلى الأمم المتحدة كدولة العضو رقم 194… وستتوقف الحروب في جميع أنحاء المنطقة. وإلى أن يتوقف ذلك، لن ننعم بالسلام”.

وفي فترة السؤال والجواب القصيرة، وجهت “القدس العربي” سؤالاً للباحث جيفري ساكس حول ما قال إن كل ما جرى في سوريا من صنع الولايات المتحدة وإسرائيل: “فهل الملايين التي خرجت إلى الشوارع في أيام الثورة الأولى ينادون بالتغيير السلمي ويغنون “سلمية سلمية”، لا قيمة لهم؟ وهل ما جرى من قمع وقتل للمتظاهرين السلميين كان بإيعاز من المخابرات الأمريكية والإسرائيلية؟ ألا ترى يا سيد ساكس أن المؤامرة لم تكن الربيع العربي، بل كانت على الربيع العربي كي يأتي طاقمٌ من الحكام أكثر شراسة وقمعاً وانسجاماً مع الغرب فيترحم الناس على أيام القذافي ومبارك وغيرهم؟”، فقال: “أنا لا أبحث عن دور الشعب السوري، بل أبحث عن دور الولايات المتحدة وإسرائيل. لا تقل لي إن 600 ألف قتلوا بسبب الاحتجاجات. هذه حرب. والحرب مكلفة تحتاج إلى الأموال والسلاح. أنا أتحدث عن المؤامرة، وأعرف أن هناك عملية قادتها المخابرات الأمريكية، فهذه منطقة منذ 100 سنة تخضع للتدخلات البريطانية، والفرنسية، ثم الأمريكية منذ اتفاقية فرساي. ولن تتوقف هذه التدخلات إلا بخروج الولايات المتحدة من المنطقة. فلا يظنن أحد أن هذه التدخلات ستتوقف”. وقال متابعاً: “أنا أعرف ما تقوم به بلادي في هذه المنطقة. لا يوجد في هذا العالم ما يسمى بالمجتمع الدولي. وهناك مصالح. والولايات المتحدة هي التي أفشلت خطة كوفي عنان للسلام في سوريا عام 2012. وقد سمعت ذلك من كوفي عنان نفسه”.

القدس العربي

—————————–

====================

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى