سقوط بشار الأسد، الرئيس الفار والمخلوعنقد ومقالات

هل لأدب السجون من وظيفة سوى البوح؟/ حسن يوسف فخور

15 ابريل 2025

 لم يقرأ صديقي العشريني أكثر من الغلاف قبل أن تلتف القبضة الأمنية حول خصره النحيل، وتصادر حريته. “القوقعة… يوميات متلصص” لمصطفى خليفة من الروايات السورية المحرّمة التي غيّبت العديد من السوريين في أقبية المعتقلات، فما هو دور أدب السجون حتى تستنفر أجهزة استخبارات الأنظمة القمعية لأجله؟

عادةً ما يعرّف أدب السجون بأنه نوعٌ أدبي يحاكي مرحلة الاعتقال وآثارها النفسية على الإنسان، لكن الروائي والطبيب راتب شعبو يميّزه بنوعين يحملان عناصر جيدة لبناء الوعي: “إنساني يتناول السجن بوصفه تجربةً إنسانية، لا يختلف كثيراً عن الأدب عموماً إلا من حيث الموضوع”، وآخرٌ “سياسي يهدف إلى التحريض المباشر ضد السلطة”، ويرفض صاحب رواية “ماذا وراء هذه الجدران” استخدام تعبير “ناشط ثوري” لاعتقاده بأنه “يخضع للتشويه”، ويراه “ستاراً للنشاط المحافظ والمدافع عن القمع والسلطات وليس عن المحكومين”، ويؤمن شعبو بأهمية أن يكون الناشط “نقدياً”، فالأدب باعتقاده “ينمي النقد عند القارئ، لكنه لا يكفي، فلا بد لأي ثوري من الوعي بالتاريخ وبالفكر الحديث”.

من الطبيعي أن يسهم أدب السجون في “تنشيط وعي قارئه، لا سيّما صاحب الحس أو الفكر الثوري” لأنه ووفق قراءة الأديب عبد الله نفّاخ “بتعرية الواقع وكشف الحقيقة ورصد آلام المعذبين يصنع دافعاً كبيراً عند قارئه لتفعيل دوره الإنساني أولاً والثوري ثانياً”، ويستشهد صاحب رواية “على ضفة العدم” بالتنظيمات اليسارية التي كانت “تسارع إلى تشجيع المنضمّين إليها على قراءة رواية “الأم” لمكسيم غوركي، فهي وإن لم تصنّف ضمن أدب السجون، فإنّها من وجهة نظره كقاص “بما فيها من عذاب ومعاناة انتهت بوفاة الأم المناضلة أو اعتقالها محفزةٌ لقارئيها ولا سيما أصحاب الاتجاه الحركي الثوري”، ويشترط نفّاخ نجاح دور الأدب بالعلاقة المتبادلة بين الأدب والمتلقي؛ إذ “لا يمكن أن يحرّك أدبٌ ثوري عالٍ قارئاً سطحياً أو بليد المشاعر والفكر، كما لا يمكن لأدب بعيد عن الثورية كالأدب الكلاسيكي الصوفي مثلاً، أن يهيج ثورياً القارئ مهما حمل في نفسه من مشاعر أو مبادئ ثورية”، ويؤكّد قدرة الأدب وحده على بناء القادة الثوريين وصنع المعجزات، مدللاً بالثورة البلشفية التي لم تكن لتقوم في روسيا “لو لم تغذِّ أرواح أبناء تلك البلاد أعمال كتّاب عظام سلطوا الضوء على المعاني الإنسانية والمعاناة من حولهم كتشيخوف وتولستوي”.

تعتقد القاصة سلوى زكزك أنّ أدب السجون “لا يستطيع تأسيس قادة ثوريين، لكنه يسهم بذلك من خلال حكاياته، فالناس تنظر إلى السجناء كأبطالٍ وتتعامل معهم برومانسيةٍ عالية، فيأخذ بعضهم صفات كبيرة قد تصل للتقديس عند الناس؛ تبعاً للاعتقاد الشعبي بأنّ السجن للرجال أصحاب القضايا الكبيرة، خاصةً السجن السياسي، وبالتالي تضفي عليهم هالةً كبيرة، ومن خلال قراءة أدب السجون تدرك أن هذه النماذج تشحنك، فتصبح تتعامل معهم على أنهم أبطال كونهم تحملوا قسوة السجون”، وبالرغم من أنّ السجن “عالمٌ من الضغط والتوتر”، لكن صاحبة المجموعة القصصية “ما تبقى من حياة” تنظر إليه من زاوية أخرى، فتراه “مواجهةً مع الذات، فالسجناء يواجهون ذواتهم، ومن الممكن أن يكتبوا ويخرجوا أفضل ما لديهم، يؤلفون كتب، أو يقولون أقوالاً تصبح حكماً، سرديتهم الشخصية، خبرتهم أقوالهم والمحصلة الكتابية والمعرفية التي يقولونها مهمةٌ جداً”، وبالرغم من إيمانها بأهمية الأدب وتأثيره. تؤكد “ناطورة حكايا السوريين” بأنّ “الأدب وحده لا يكفي لإيصال القضايا، ولا لبناء قادة ثوريين، فالأدب قراءةٌ شخصيةٌ يخلق حماساً شخصياً، ويؤثر كثيراً على وعي الأفراد، فيسهم بتشكيل وعي ثوري، وصقل جوانب من الشخصيات الثورية، لكنه لا يكفي أبداً، فنحن لا نملك فضاءاتٍ لقراءة الأدب بشكل جماعي”.

يرى القاص والسيناريست السوري ممدوح حمادة أنّ أدب السجون “يشكّل مادةً تحريضيةً بامتياز، تساهم بشكل كبير في تثبيت قناعات الناشط الثوري كما يقدم في طياته تجارب غنيةً ومادةً وثائقيةً عن الحياة داخل السجون تشكل عناصر ملهمةً لهذا الناشط”، ويختصر الحديث بالقول “لا يختلف اثنان بأنّ لهذا النوع من الأدب دورٌ كبيرٌ في تشكّل الوعي الثوري عموماً فما بالك لدى النشطاء”، ولا يعتقد حمادة أنّ “أدب السجون أو أي نوع من الأدب يكفي وحده لإشعال القضايا وبناء القادة الثوريين”، مؤكداً “ضرورة توافر العوامل الذاتية والموضوعية التي يشكل فيها الأدب جزءاً من الصورة وعاملاً مهماً من هذه العوامل. ويقول “للأدب وظائف كثيرة في هذا المجال، مثل: التحريض، وتعرية السلطة، والتوثيق، ونشر الوعي، وهذا أمرٌ في غاية الأهمية، لكنه لا يكفي بمفرده لإنتاج قادة ثوريين”، فهناك تفاصيل أخرى كثيرة إلى جانب الأدب يجب أن تتوفر لكي يتم ذلك برؤيته مثل: “الوعي السياسي، ومعرفة الواقع بعمق، والقدرة على التحليل والاستنتاج التي يصل إليها الفرد عبر التجربة والخبرة العملية”.

يغرّد الباحث علي إسبر خارج السرب، ويناقش المصطلح معتقداً أنَّه “يحتاج إلى تحديد، ولا يمكن ذلك إلا على أساس فهم نشأته التَّاريخيّة، إذ تُركِّز الدّراسات الغربيّة عن أدب السجون على أنَّ ظهور الشكل الأول لهذا النّوع من الأدب كان مع الفيلسوف الروماني بوثيوس الذي كان من فلاسفة الأفلاطونيّة الحديثة، فقد قام في العام 524 م من داخل سجنه وقبل إعدامه بتأليف كتاب أسماه “عزاء الفلسفة”، ويرجع ذلك إلى القبض عليه بناءً على أمر من ملك الجرمانيين الشرقيين ثيودوريك، للاشتباه في حياكته مؤامرة مع الإمبراطور البيزنطي الشرقيّ. جاء الكتاب بصيغة أدبيّة رائعة على هيئة حوار بين المؤلِّف والفلسفة التي تجسّدت معه في سجنه من أجل تعزيته وتعليمه. ولا نجد في تاريخ الثقافة الأوروبيَّة عملاً أدبيّاً يناظر عمل بوثيوس إلى مرحلة الحرب العالميَّة الثانيّة، حيث بدأ فعلًا ظهور تيار حقيقيّ يمثل أدب السجون، فمثلًا تناول القاصّ الألمانيّ فولفغانغ بورشرت مرحلة سجنه في عهد النازية بتهمة تقويض الرُّوح المعنوية العسكريّة في عديد من القصص القصيرة وفي قصته “زهرة الكلب” التي كتبها بين عامي 1946 و1947، كما نجد في مقابل الأدب الناجم عن القمع في السجون النَّازيّة أدبًا آخر ظهر بسبب القمع في السجون السوفياتية في الحقبة الستالينيَّة، فمثلاً صوَّر الكاتب الروسي ألكسندر سولجينتسين تجاربه في معسكرات العمل السوفييتية من عام 1945 إلى عام 1953 في قصة “يوم واحد في حياة إيفان دينيسوفيتش”، ثم توالت ظاهرة أدب السجون وانتقلت إلى الثقافة العربيّة، ونجد في هذا الاتِّجاه تجارب رائعة أصيلة في الأدب الفلسطينيّ الذي كُتب في سجون الاحتلال الإسرائيليّ”.

يثير أستاذ الفلسفة في كلية الآداب بجامعة دمشق الانتباه إلى أمر يعتقد وجوبه، “أن نميّز بين سجين يتحوَّل إلى كاتب وهذا هو المهم، وبين من يكتب عن السجن وهو لم يذق مرارة التجربة، وهذا معيار عالميّ في التمييز”. ويوضح أنَّ “أدب السجن في التَّراث العربيّ يفوق من حيث عمقه وكشوفه وعوالمه أدب السجون في التراث الغربيّ، ويمكن أن نحصل على هذا النوع من الأدب من كتب التَّواريخ والسِّير والأعلام أو التراجم في التراث العربيّ، أهمها ما خصص له عبود الشالجيّ الجزء الثالث من “موسوعة العذاب” لعرض أدبيات السجون في التراث العربيّ”. أمَّا بالنسبة إلى إسهام أدب السجون في تكوين الوعي الاجتماعيّ والسياسيّ للنُّشطاء الثوريين، يرى مؤلف كتاب “التحليل الأنطولوجي للعدم”، أنّه أمر “يتوقف على عمق هذا الأدب أهمها “دفاتر السجن”، للإيطالي أنطونيو غرامشي. ولا شك في أنَّ هذا النوع من الكتابة يُحدْث تأثيراً كبيراً في القرَّاء من ذوي الاتجاهات الإيديولوجيّة القريبة من اتجاه غرامشيّ أو في غيرهم من تتوفر فيهم القابليَّة للتأثُّر، أما إذا كان نوع الأدب المكتوب في السجن قائماً على سرد انطباعات ذاتيّة أو معاناة شخصيَّة فلا أُرجِّح أن يكون ذا تأثير، هذا، ورغم أنَّ ما كتبه غرامشيّ لا يتصل بوصف سجنه ومعاناته فيه على نحو مباشر، إلا أنَّ عمقه الحقيقيّ منبثق من تجربته في السجن”.

لا يؤمن علي إسبر بأنّ الأدب وحده قادرٌ على تكوين الوعي، إذ يراه “في هذا المقام محدوداً كمّاً وكيفاً، أي متصلاً بشخص أو مجموعة أشخاص يطالعون أدب السجون، وهذا الأدب نفسه متصل برؤى كاتبيه ومواقفهم الإيديولوجيّة، ولذلك لا يمكن الركون إلى تجارب فرديّة لتعميمها لتصلح معايير عامَّة للنَّاس، إذ لا يمكن تأسيس وعي مشترك إلا بوساطة عمليّة تربويّة كبرى، وإذا تركنا أدب السجون جانباً لنتحدث عن الدعوة الفكريّة إلى تغيير العالم بوساطة الثورة نجد مثلاً عنها ليس بعيداً، حركة 1968 فقد كان لكتابات هربرت ماركوز تأثير كبير في الحركة الطلابية في أوروبا والخارج، إذ كانت هذه الحركة تقوم على هدم القناعات الإيديولوجية، واليقينيات العلمية، والواجبات المدنية والفضائل، لكن لم يُقيّض لها النجاح، وكان هربرت ماركوز نفسه صاحب هذه الدعوة يعمل كمستشار للاستخبارات الأميركيّة، وقام بإعداد تحليلات للتكوين النفسي والأيديولوجي للجماعة النَّازيّة، من هنا أنا لا أوافق على فكرة القائد الثوريّ أو المنظِّر الثوريّ، بل يجب أن نبحث عن الشَّعب الثوريّ والوصول إلى هذه البغية لا يكون إلا بوجود شعب متجانس ومتِّحد بأطيافه كلِّها لصناعة مستقبله”.

لسنا الوحيدين

على امتداد العالم وعلى امتداد التاريخ كان أدب السجن وسيلة من وسائل المقاومة، ففي النهاية، حين يكتب إنسان عن تجربة سجنه، مهما كانت درجة الألم والقسوة التي فيه، فهو يقول: ما زال فيَّ نبض حياة، ما زال هناك أمل، هذه صرخة ضد اليأس.

كتب هنري شاريير روايته الأيقونية “الفراشة” حين كان في سجن جزيرة الشيطان، وكتب أنطونيو غرامشي “رسائل من السجن” والتي لم يكن مركزها آلام السجن، بل تضمّنت رؤاه وأفكاره السياسية والفلسفية وتصوره لمستقبل بلده ومستقبل العالم، وحين كتب جورج جاكسون “رسائل من زنزانة الموت” لم يكن يريد الحديث عن جدران الزنزانة، بل عن العنصرية في المجتمع الأميركي.

فيكتور هيغو في “أدب السجون” كتب عن تجربة لم يعشها، ولكنه كتب عن الظلم في المجتمع الفرنسي، من خلال حكايات السجن.

التجربة الخاصة التي علينا تذكّرها بإجلال في هذا السياق هي تجربة المعلم الكبير ديستويفسكي، والذي سجن عشر سنوات في أقسى سجون العالم في سيبيريا، وخلالها كتب “ذكريات في بيت الموتى” وهي تجربته في السجن، ويعدها النقاد من أهم الأعمال التي قدّمت نظرة عميقة للنفس البشرية، عند مواجهتها لهذه التجربة النادرة. كما كان كتاب “رسائل من السجن” دليلاً لأفكار ديستويفسكي وتأملاته في الحياة والموت والأمل، وهي الرسائل التي أرسلها لأخيه ميخائيل أثناء السجن.

الكتاب الأعظم الذي كتب بهديٍ من التجربة هو “الجريمة والعقاب” الرغم من أن هذه الرواية لم تُكتب بالكامل في السجن، إلا أن تجربته في السجن أثرت بشكل كبير على موضوعاتها وشخصياتها.

العربي الجديد

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى