“بوب ديلان”.. سحر المغني الوحيد المتوج بجائزة نوبل للأدب/ أحمد الخطيب

حينما نتحدث عن موسيقى “الفولك” أو الشعر الغنائي، يتردد تلقائيا الاسم الأكثر شيوعا وإعجازا على مستوى الأغنية الغربية، ألا وهو الشاعر الموسيقي الفذ “بوب ديلان”، الموسيقي الوحيد الحاصل على جائزة “نوبل” في الأدب.
والحقيقة أن حصره في فئة “المطرب/ الموسيقي” يحبسه في قالب فني معين، والحق أنه يتجاوز التصنيف ويرفضه، سواء داخل الموسيقى، أو في حياته عموما. هذا ما جعل أغنيته الشهيرة “في مهب الريح” (Blowin’ in the Wind) أغنيةً يتردد صداها في المظاهرات، كأنها رمز احتجاجي يصيغ أسئلة كثيرة حول السلام والحرب.
وُلد “بوب ديلان” في 24 مايو/ أيار 1941 في دولوث بولاية مينيسوتا الأمريكية، وحمل اسم “روبرت ألين زيمرمان”، وقد نشأ في عائلة متدينة من الطبقة المتوسطة، وأظهر اهتماما مبكرا بالموسيقى، متأثرا بموسيقى “البلوز” و”الكانتري” و”الروك آند رول”، وكوّن فرقته الموسيقية الأولى في الثانوية، وشارك بها في عروض محلية، ثم التحق بجامعة مينيسوتا في مينيابوليس، لكنه ترك الدراسة للتركيز على مسيرته الموسيقية.
“هدف الأغاني التأثير في النفس لا أن يكون لها معنى”
لمع نجم “بوب ديلان” في الستينيات حين راجت موسيقى الفولك/ الشعبية رواجا هائلا، ولكنه لم يسترح على أريكة أي من الأجناس الموسيقية المتعارف عليها، بل حاول بطريقة لا شعورية تطوير كل أنواع الموسيقى التي أداها، ليترك بصمة حقيقية لا تُمحى في عالم الموسيقى الشعبية والروك.
مغني الفولك الشهير “بوب ديلان” يحمل غيتاره
يحمل “ديلان” فلسفة فنية داخل موسيقاه وأغانيه، فلسفة شاعرية تتعلق بالعاطفة أكثر من المعنى، وهو ما يحاول دائما الترويج له في المقابلات والتصريحات النادرة التي يقولها.
وفي عام 2016، مُنح جائزة “نوبل” للأدب، فكان أول موسيقي ينالها، وفي كلمته التي ألقاها بمناسبة الجائزة، قال إن الأغنية بوصفها منتجا إبداعيا ليست تحمل معنى مفهوما أو ثقيلا بالضرورة، بل المهم أن تحمل العاطفة الكافية للتأثير في النفس البشرية، فإنما “هدف الأغاني التأثير في النفس، لا أن يكون لها معنى”.
ومع أنه شاعر غنائي ذو فصاحة لا يمكن إغفالها، فإنه يرمي في النهاية إلى الإحساس لا المعنى، ويؤسس فلسفته على الجزء الشاعري الهش في الجانب الإنساني، ويضعه فوق كل اعتبارات المعنى والتفسير المحدد للكلمات، وبذلك يفرد مساحة ذاتية للتلقي تعتمد على التجربة الشخصية أكثر.
“سوزي روتولو” حبيبة “ديلان” الأولى ومن أكثر المؤثرين على شِعره وأغانيه
ولن ندخل في الإشكال المعتاد، حول مدى استحقاق “ديلان” للجائزة، وهي أرفع الأوسمة في عالم الأدب، ذلك لأن قيمة “ديلان” الأدبية لا ترتكز كليا على الفرادة اللغوية، فهو يخرج عن الإطار اللغوي المُطلق، فهو أديب موسيقي، ولغوي رنّان، لذلك لا يمكن تقييمه بمعزل عن أسلوبه الغنائي أو صوته، لأن مكامن إبداعه لا تقتصر على الكلمة، بل طريقة إيصالها أيضا.
لذلك فقد ابتكر مفهوما أوسع للشعر، ألا وهو مزجه بين الكلمات العميقة والألحان المبتكرة، الذي جعله أكثر من مجرد مغنّ، فأصبح أيقونة ورمزا للتغيير في ذلك العصر.
أغنية تحية من الجيل الجديد لملهمه
في عام 1961، انتقل “ديلان” إلى نيويورك، وغايته لقاء مُلهمه القابع يومئذ في المستشفى “وودي غاثري”، وهو مغن ومؤلف أغاني وملحن شعبي أمريكي، يحوي إرثه مئات الأغاني السياسية والتقليدية، وأغاني الأطفال، والبوب الشعبي، والأعمال الارتجالية.
تلك المرحلة الانتقالية في حياته، وتحديدا زيارة “وودي غاثري”، هي النقطة التي ينطلق منها فيلم “مجهول تماما” (A Complete Unknown) للمخرج “جيمس مانغولد” (2024)، في سعيه لأفلمة سنوات “ديلان” الأولى، حين كان شابا مجهولا يتلمس خطواته الأولى في عالم الغناء الاحترافي، ويجسده الممثل “تيموثي شالاميه” بالخفة والقتامة المطلوبتين.

في استهلالية الفيلم، يخطو “ديلان” نحو المجهول، ولا يهتدي إلا بأقصوصة ورقية من إحدى الجرائد، تحتوي اسم المستشفى الذي يحتجز “وودي غاثري” (الممثل سكوت مكنيري)، فينطلق نحوه ويقابل عنده مغني “الفولك” الشهير “بيت سيغر” (الممثل إدوارد نورتون)، وكان يزوره بعد جلسة قضائية مثيرة للسخرية، حوكم فيها “غاثري” على إحدى أغانيه، وهي “هذي الأرض أرضك” (This Land Is Your Land)، وقد وقف “سيغر” بدلا عنه يرتّل الأغنية أمام القاضي.
يلتقي الثلاثة في غرفة المستشفى التي يقتسمها “وودي” مع مريض آخر، ويغني “ديلان” لكليهما، فيدهشان بموهبة هذا الفتى الشاب، ثم يأخذه “سيغر” إلى منزله ليقضي الليلة.
يغني “ديلان” أغنية إجلال تحية لملهمه “غاثري” المحتضر، ومن تلك اللحظة يتسلل إلينا شعور قوي أن العالم يتغير، ليس فقط على مستوى الموسيقى، بل الأحداث العالمية التي تطبع تلك الحقبة.
فالتهديدات النووية والحرب الباردة وغيرها من الأشياء جعلت الستينيات عقدا استثنائيا على عدة مستويات، فهي سنوات التمرد الحقيقي، والتحية التي ألقاها “ديلان” على “غاثري” هي أشبه بأغنية تبشيرية لعالم جديد، ليس أفضل من سابقيه بالضرورة، بل ربما هو أسوأ، لكن تلك الأغنية هي شاهد على احتضار جيل وانطلاق آخر.
ومع أن بداية “ديلان” كانت تتبع موسيقى الفولك، فإنه حوّل موسيقاه بدرجات مختلفة، عندما حاول التحرر من نمط النغمة المعتادة، فـ”بوب” -مع كونه رمزا مضادا متمردا- لم يصنع أغانيه لغرض سياسي أو لأي غرض كان، فالفولك عنده إنما هو أغان تصمد أمام الزمن.
وذلك ما حدث عند إطلاقه ألبومه الثاني “الانطلاق بحرية” (The Freewheeling)، وهو من أهم ألبومات القرن، وفيه واحدة من أفضل أغاني الستينيات؛ ألا وهي “عصف الرياح” (Blowin’ in the Wind) التي أصبحت بعد ذلك رمزا للمعارضة ونداء للسلام.
تيه الحب في حياة المغني المجهول
بدا “بوب ديلان” في تلك الحقبة غريبا في الغرفة، مع كثرة صداقاته وعلاقاته، فوجهه المتجهم ووجهته المجهولة موسيقيا أو اجتماعيا تجعله متفردا بغرابته، وردود أفعاله الاستثنائية هي ما تجعله مثيرا للاهتمام، لأنها صادقة وأصيلة.
فحين هرع العالم كله للهروب من المدينة بسبب التهديدات النووية، فضّل “ديلان” أن يغني في إحدى الحانات مع غيتاره أغنية كلماتها مضادة للحرب، ولكنه في قرارة نفسه كان مستسلما لما سيحدث، إذا كان ذلك اليوم الأخير فليكن كذلك.
ألبوم “الانطلاق بحرية”
تلك الدرجة المثيرة للسخرية من عدم المبالاة هي مفتاح الشخصية لدى المخرج، وبسببها انجذبت إليه “جوان بيز”، وولدت علاقة ستمتد سنوات بعدها، وهي علاقة شائكة وغير مفهومة حتى على المستوى الموسيقي، أشبه بحياة “ديلان” ذاتها.
فقد كان يومئذ على علاقة بـ”سيلفي روسو” (الممثلة إيل فينينغ)، وهي تعد شخصية خيالية، لكنها تحل محل شخصية حقيقية ملهمة في حياة “ديلان”، هي “سوزي روتولو” حبيبته الأولى، وهي من أكثر المؤثرين على شِعره وأغانيه.
والحقيقة أن “سيلفي” و”بيز” حاولتا بكل الطرق سبر أغوار الشاب النحيف، ولكنه دائما ما فضّل البقاء مجهولا، حتى في موسيقاه ينفلت من التعريفات ويستكشف النوعيات، ويراوغ كل المحاولات ليحتفظ بشيء لنفسه، يستبقي داخله شعلة تؤمّن له القدرة على الكتابة، لا يمنحها لأحد، حتى أقرب النساء إلى قلبه، وهذا ما جعل “سيلفي” تختار الابتعاد عنه، فمع أنه يبادلها الحب، فإنها لم تستطع أن تمنح نفسها للمجهول إلى الأبد، فهي لا تعرف حتى اسمه الحقيقي.
أضف إلى ذلك أنه رجل لا يمنح نفسه كليا لأي أحد، بل كان حريصا دائما على أن يبقي جزءا لنفسه، وكان حذرا جدا في التعامل مع هذا الجزء، لأنه جزء إبداعي يضمن له الاستمرار في حياته الفنية التي استحوذت عليه كليا، ولم تبقَ للنساء إلا حصة بسيطة لا تضمن الاكتفاء.
وعلى الجهة الأخرى، فعلاقته مع “بيز” كانت مسوّرة بالفكر من ناحيتها والإبداع الصرف من جهته، فهو يقدر الفن لذاته، ويثمّن الشعور، فيخبرها دائما أن كلماتها الرقيقة لن تحدث الفارق المرجو منها.
الرجل المختبئ خلف النظارة السوداء
في أحد المشاهد يشتري “ديلان” صفارة من بائع على الطريق، فيسأله البائع: هل لديك أطفال؟ فيقول: لدي آلاف منهم.
تلك العبارة هي مفتاح فهم الشخصية في تلك المرحلة، فهو يحاول أن يفصل ذاته عن ذائقة الجمهور، بأن يأخذ مسافة كافية، ليستطيع خلق المنتجات التي يرغب في إبداعها، ولكنه يظهر في الفيلم أشبه بالمُطارد.
يختفي خلف النظارة السوداء، ولكنه مكشوف للجميع، وهذا يمنعه من خوض تجارب حقيقية، ويحرمه من العيش الطبيعي.
“ديلان” صاحب النظارة السوداء
في أحد المشاهد يدخل “ديلان” حانة، يقيم فيها بعض الأصدقاء حفلا صغيرا ويعزفون الموسيقى، وبينما يستمع للموسيقى تتعرف عليه إحدى الفتيات، وتحاول خلع نظارته، فيبعدها بيده، فيأتي حبيبها ويلقمه لكمة يصدم على أثرها، كأنه لم يحسها في وجهه فقط، بل في كيانه كله.
فهو الرجل المجدد الذي لا يرضى بشيء واحد، بل يبحث عن كل شيء، بيد أنه يريد أن يبقى مجهولا، أن يتلمس الجميع فنه ويتركوا روحه وجسده، ولكن النظارة وحدها لا تكفي لإخفائه. وهو القائل: لا أحد حر، حتى الطيور مقيدة بالسماء.
ومن تلك اللحظة بدأت الأمور تتغير في الفيلم، لأن “ديلان” قرر تغيير مساره الموسيقي، وأن يمزج موسيقاه بالآلات الإلكترونية، ويبدع شيئا مختلفا.
رصاصات الغيتار.. ميلاد موسيقي جديد على المسرح
اختار المخرج “جيمس مانغولد” منهجية سردية وتقنية حكائية تعكس دواخل “ديلان” المتمرد، فبنية الحكاية التقليدية لا تتوافق مع رواية المخرج “جيمس مانغولد” المضطربة؛ التي تعتمد في نواتها على الشخصية أكثر من الوقائع التاريخية، وتضعها فوق كل شيء آخر.
قرر “مانغولد” أن يلتزم بمدة زمنية معينة من حياة “ديلان”، وهي الستينيات الصاخبة، ليصنع فيلما يتقدم إلى الأمام دائما، سواء على المستوى السردي أو الزمني، من غير استعانة بالعودة إلى الوراء أو الاعتماد على لقطات أرشيفية.
فالمدة الزمنية القصيرة -السنوات الخمس الأولى من حياته الموسيقية في نيويورك- حدّت من تأثير القفزات الزمانية على السرد، لأن الأزمنة غير متباعدة والأشكال لا تكاد تتغير، وهو ما منح التحولات في الموسيقى فرصة لتصدر المشهد، ليكوّن نموذجا يركز على الصعود المستمر، لا يلتفت إلى الماضي بل عيناه مثبتتان نحو القادم، ثم ينهي فيلمه بتسلسل مشهدي ثوري، ليس على السلطة ولا حتى الجمهور، بل على نفسه هو.
المخرج “جيمس مانغولد” مع الممثل “توميثي شالاميت” الذي لعب دور “بوب ديلان”
فـ”ديلان” الذي بدأ الفيلم في بداية الستينات، أصبح رجلا آخر، بل بالأحرى مغنيا مختلفا تماما، يتحدى كل القوالب التي جاهد ليحجز مكانا داخلها في السنوات السابقة، ولكنه كالطائر يحب التحليق للأعلى بلا قفص ولا حبال ولا عيون تتربص به.
فها هو ذا يغني أغاني جديدة بأسلوب جديد، تغلب عليه الآلات الكهربائية، أسلوب أكثر سرعة وقوة، وأشد صخبا من الغناء الشعبي. ويتجرأ على الجمهور الذي كان مترقبا أغاني معينة بأسلوبه المعتاد، لا سيما مع وجوده في أحد أهم مهرجانات الفولك الغنائية، بيد أنه يقرر تصويب غيتاره الكهربائي في وجه الجمهور، ليطلق رصاصاته المنغّمة، ويحطم كل توقعاتهم، ويعرّضهم لشكل جديد من الموسيقى.
لم يعبأ بهم هل أحبوه أم لا، بل أراد أن يُعلِم الجميع أن مغنيا جديدا وُلد اليوم على المسرح، ثم توجه بعدها إلى حجرة “وودي غاثري” في المشفى، وانتهى الفيلم في نفس المكان الذي بدأ فيه، ولكنه يدخل اليوم على “غاثري” بوصفه “بوب ديلان” المُغني الجوال، ذا الروح الغجرية، ويمنح آلته الموسيقية ليتحرر نهائيا من سطوة أساطين الفولك، فهو الآن أكثر وعيا بفكرة الفخاخ المنصوبة بغير قصد، فخاخ أن تصبح مثلنا، و”ديلان” أكثر فنان تثمينا لحريته الفنية.
في عام 1965، أصدر ألبوم “إعادة النظر في الطريق 61” (Highway 61 Revisted)، وهو من أهم الألبومات في تاريخ الموسيقى، ويُعد نقطة تحول كبرى في مسيرة “ديلان”، وفي تطور موسيقى الروك عموما.
تميز الألبوم بكونه الأول الذي استخدم فيه “ديلان” الآلات الكهربائية، بدلا من الاعتماد على أسلوب الفولك التقليدي. وفي عام 1966، أصيب في حادث دراجة نارية، أجبره على وقف الجولات الموسيقية، وأدى إلى مدة من العزلة، ركز فيها على الكتابة والتسجيل.
الجزيرة