سموم الديكتاتورية أو الطغيان.. أي الأسدية/ نبيل سليمان

15 أبريل 2025
في الإهاب السوري، تسّمت الديكتاتورية كما تسمّى الطغيان باسم آخر هو: الأسدية. وإذا كان ذلك قد ابتدأ عام 1970، فقد أسرعت الأسدية لتصبح أحط أنواع الديكتاتورية، وأحط أنواع الطغيان.
في الثامن من كانون الأول/ ديسمبر 2024 سقط الأسد الابن، وبسقوطه سقط الأسد الأب، ولكن هل يعني ذلك تلقائيًا سقوط الأسدية؟
بعد شهر من زلزال 8/ 12/ 2024 جمعتني في دبي سهرة مع الأصدقاء: المفكر أحمد برقاوي، والمخرج وليد القوتلي، في منزل الشاعر حسين درويش. وبالطبع، كان الشأن السوري مدار القول. ومن هذا القول إن الأسدية قد سقطت، وهذا ما أختلف معه. وكنت قد جهرت باختلاف مثله في سهرة سابقة مع حشد من الأصدقاء في اللاذقية، احتفالًا بعودة ياسين الحاج صالح المعارض النبيل بعد دهر اللجوء إلى ألمانيا.
إذا كانت الأسدية هي الأسد المخلوع الهارب، أو الفرقة الرابعة، أو سجن صيدنايا، أو الفساد الذي ما مثله فساد، أو البراميل المتفجرة… إلى آخر هذه السلسلة التي يعرفها القاصي والداني في سورية وغير سورية؛ أقول: إذا كانت تلك هي الأسدية، فقد أُسقطت ــ وهذا هو التعبير الأدق، وليس سقطت ــ في زلزال 8/ 12/ 2024. أما إذا كانت الأسدية فوق كل ذلك، مما ستلي أمثلة له، فما زالت الأسدية تترنّح، وتنفث سمومها، وقائمة في إهاب من بعد إهاب، وإلى يوم عسى أن يكون قريبًا.
في 6/ 2/ 2025، كتبت سميرة المسالمة في “ضفة ثالثة” أن (رقابة) تطوعية (أون لاين) يمكن تسميتها تشبيحية تضع الكتّاب أمام ثنائية (إما مع السلطة)، أو (الصمت). وتتساءل سميرة مسالمة عما إذا لم يكن هؤلاء المتطوعون مثل الجيش الإلكتروني الأسدي، وماذا تكون إلا الأسدية، هجماتهم المنظمة ضد المثقفين النقديين لجعلهم ينزوون، مقابل الترويج للمثقفين الشعبويين الذين يتمسحون بالسلطة السائدة أيًا تكن، وحيث التطبيل للسلطة هو معيار الوطنية؟
قبل ذلك، في 11/ 2/ 2025، كتبت عبير نصر في “العربي الجديد” تحت عنوان “هذه الشعارات في سورية”، فتحدثت عن مخرجات مملكة الأسد البائدة، وأهمها سياسة التمجيد. وعددت من التمجيد الجديد (بالروح بالدم نفديك يا جولاني)، و(جولاني للأبد غصبًا عنك يا أسد).. وسوى ذلك مما لاقاه الأمن العام بمصادرة أعلام تحمل شعارات تمجيدية، وبتحذير البائعين والأكشاك من المتاجرة بالأعلام والصور. وقد تحدثت عبير نصر أيضًا عن (الكهنوتية الثقافية الأسدية) في مقالتها “الجاهلية الأسدية والأنبياء الذين لم يوح لهم”. وفي ملحق سورية الجديدة في 25/ 3/ 2025 أضافت رباب هلال القول بـ (الفوبيا الأسدية). ولعل الأهم هنا هو ما (شرّش) من الأسدية في الناس، وهو ما تلمّسه سومر شحادة في ما كتب في “العربي الجديد” في 13/ 1/ 2025: “يستطيع السوريون القول إنهم أسقطوا حافظ الأسد، لكن القطع مع تركته الذليلة المذلة مشوار طويل يحتاج إلى شجاعة قد لا تقلّ عن شجاعة إسقاطه”.
ليست الأسدية فقط نهجًا سياسيًا، او مؤسسات أمنية، أو إدارة فاسدة.. بل هي أيضًا خراب وتهتك وأذية في الأعماق كما في اللغة والسلوك مما ينادي “سيكولوجية الإنسان المقهور”: ترحموا على مصطفى حجازي (1936 ــ 2024)، الذي أنعم علينا منذ عام 2001 بكتابه: “التخلف الاجتماعي: مدخل إلى سيكولوجية الإنسان المقهور”، ثم ثنّى النعمة عام 2005 بكتابه “الإنسان المهدور”. وليت جحافل الشاشات من محللين وخبراء وفطاحل الثورة والوطنية والاستراتيجية أن يتذكروا هذين الكتابين، وبخاصة من الكتاب الثاني، أن ديمومة الاستبداد والعصبيات تتناسب طردًا مع استفحال ثلاثية الهدر للفكر والوعي والطاقات، وكل ذلك من الأسدية (ومن الديكتاتورية ومن الطغيان)، سواء أكانت حاكمة، أم مخلوعة، وجهيرة أم معششة.
ربما كان أول الجلجلة بكلمه (الأسدية) عندما أطلقت عام 2011 فرقة (أبطال موسكو الأقوياء) سخريتها الجارحة كنِصال، أو نُصُول، أو أنصُل السكاكين، فغنّت بلسان الشبيحة: “بدّنا نعبّي الزنزانات/ وبدّنا نملّي المعتقلات/ وبدّنا نفضّي الروسيات/ كرمال الأمة الأسدية”.
من السخرية ما ينطوي على جدٍّ أكبر وأفصح، كما هي (الأسدية) في هذه الأغنية. ولكن من (الأسدية) في الجد ما يسمّم النصل مفردًا، أو في الجموع الثلاثة المذكورة آنفًا. ومن ذلك ما جرى الردّ به على من قالوا بالطائفة الأسدية العابرة للطوائف، وإذا بمن يهدر بنصرٍ من الله وفتح مبين يعدّ هذا القول تهربًا من الاسم الصريح للطائفة العلوية كعلّة، هي السبب لكل علّة، وليس الأسدية.
ممن بكّر الى القول بـ(الأسدية) ميشيل كيلو، وذلك في مقالته “الطائفة المظلومة في سورية”، والمنشوره في “العربي الجديد” (1/ 7/ 2016)، حيث ذكر (ضباط الأسدية) و(السلطة الأسدية)، و(النظام الأسدي). وقد تحدث ميشيل كيلو عن “طائفة جديدة تخلقت في ظل الطائفة السائدة، ضمّت عددًا لا يُستهان به من غير العلويين، وشكلت بالتحالف والتعاون مع قياداتها مكونًا جامعًا اختلط فيه المذهبي بالطبقي، السياسي بالعسكري، العلوي بالسني، المسيحي بالدرزي، والعربي بالكردي”. إنها الطائفة الأسدية العابرة للطوائف.
ومهما يكن، فلعل البرء الاجتماعي والنفسي والفكري والسياسي و.. هو في صياغة وإعمال الأسئلة. وبالنسبة إلي تتدافر الأسئلة فأدعها تبدأ وتتشكل كما تشاء، ومن أحدثها ما ساهرني يوم احتفالية تشكيل الحكومة السورية في 29/ 3/ 2025 التي رآها بعضهم منافسة لحفل تنصيب ترامب.
استمرت الاحتفالية السورية قرابة الساعتين، قدم فيها كل وزير ملخّص بيانه الوزاري. ــ لماذا لم تتوفر لمؤتمر الحوار الوطني مثل هذه البحبوحة من الوقت، ومثل هذه الشفافية؟ ــ وربما كان وزير التعليم العالي مروان الحلبي يحذّر عندما ختم كلمته بقوله إن تدخّل السياسة والحزب والأمن في التعليم هو ما أفسد جزءًا كبيرًا منه، ويُسجّل توزيره حسنةً في حساب من وزّروه. لكن المفاجأة كانت بوزير الثقافة الذي جعلني بيانه الوزاري/ كلمته أتساءل: هل الثقافة السورية المنشودة بعد الأسدية هي ــ كما قال ــ ثقافة عمل الخير والإحسان؟ هل وزارة الثقافة جمعية خيرية؟ وسرعان ما تفتقت الأسئلة: هل سيتابع الوزير الجديد ــ مثلًا ــ ما أرساه أنطون مقدسي فيما ستنشره وزارة الثقافة تأليفًا وترجمة؟ هل ستعود زاهية مجلات “الحياة السينمائية”، و”الحياة المسرحية”، و”الحياة التشكيلية”، ومجلة “جسور”؟ ماذا ستفعل الوزارة بصدد محو الأمية التي تضاعفت تحت وطأة التهجير والنزوح واللجوء؟ هل ستعود إلى ألقها مشاركة كتب الوزارة في معارض الكتب العربية؟ ماذا ينتظر جوائز سامي الدروبي، وحنا مينة، وغيرهما من جوائز وزارة الثقافة؟ وماذا ينتظر المتاحف في عهد الوزير الشاعر والإعلامي محمد ياسين صالح؟ هل يمكن أن يكون لوزارة الثقافة من دور غير الفرجة، لو تواصل تحطيم التماثيل والمنحوتات كما حطمت من قبل تماثيل تدمر، وتمثال أبي العلاء المعري في معرة النعمان، وتمثال هارون الرشيد في الرقة، وكما حطمت تماثيل حافظ الأسد فجر الثورة، وفي أثنائها، في درعا وحماة وإدلب ودير الزور والرستن والطبقة والرقة والسويداء.. وكذلك بعد زلزال 8/ 12/ 2024 ما وقع لتمثال عدنان المالكي في دمشق، وقبله في حلب لتمثال أبي فراس الحمداني، بدعوى ترميمه، ثم إعادته… وأخيرًا، وليس آخرًا: هل ستغلق دار الأوبرا، أو معهد السينما، أو معهد المسرح، أو المؤسسة العامة للسينما؟
كان الأوْلى بكلمة الوزير، أي ملخص بيانه الوزاري، أن يرسل إشارات وامضة لبعض أو أهم أو كل ما تصطخب به هذه الأسئلة بدلًا من الخطابية التي لم تكن هذه المرة بمثل ألق وسحر خطابيته وفصاحته اللتين وفرتا له الفوز بمسابقة (فصيح العرب) في قطر عام 2016، أو اللتين تبدتا في برنامج الوزير “تأملات” على قناة الجزيرة.
قد يعاجل السؤال (المغرض) الوزارة الجديدة عن احتكار فصيل واحد أو قائد ــ على وزن حزب واحد أو قائد ــ للوزارات السيادية، ولغيرها، بما يربو على ثلث الوزارة، وكذلك السؤال عن نفي المحاصصة وإبدالها بالمشاركة: المشاركة بين من ومن؟ بين المكونات الطائفية من وزير علوي من وزراء الأسدية إلى وزيرة مسيحية، إلى وزير درزي، وأخيرًا، أو أولًا، إلى وزير كردي. أما المغرض فهو لا يسأل هذه المرة، بل يهمهم معجبًا بالمشاركة التي تلتف على المحاصصة، ثم يهمهم قلقًا من استبطان المشاركة للطائفية وللإثنية. وبصدد الدمج العجائبي بين وزارات التموين والتجارة والصناعة، ينادي المغرض العجيبة اللبنانية بإسناد وزارتي الثقافة والزراعة إلى وزير واحد هو عباس مرتضى.
بالعودة إلى وزيرنا الشاعر الذي صفّق له كرنفال الحكومة الجديدة حين بدأ بيانه الوزاري بالشعر فقال: “لقد صمنا عن الأفراح دهرًا/ وأفطرنا على طبق الكرامة/ فسجّلْ يا زمان النصر سجّلْ/ دمشق لنا إلى يوم القيامة”. ولعل التصفيق الحار، حتى من الصف الأول من علية القوم، دفع الشاعر إلى أن يشرح أن دمشق تعني سورية. ولعله تنبّه إلى ما يمكن أن يفسر المغرضون شعره وشرحه كاستيلاءً فئوي أبدي على سورية، فاستدرك بأنه يعني المكونات جميعًا. تصفيق ثانية وثالثة.
وما دام الشعر بالشعر يذكر، وما دامت فرقة (أبطال موسكو الأقوياء) قد أطلقت السخرية، تحضرني هنا الأبيات التي عارض بها المعارض السوري النبيل العريق فاروق مردم بك أبياتًا للبحتري عام 1986 في ذكرى الحركة التصحيحية التي جاءت بالأسدية. وكان البحتري قد تغنّى بدمشق وبداريا ونهر بردى، فقال: “العيش في ليل داريا إذا بردا/ والراح تمزجها بالماء من بردى/ أما دمشق فقد أبدت محاسنها/ وقد وفى كل مطريها بما وعدا”. وقال فاروق مردم بك: “أما دمشق فقد أخفت محاسنها/ منذ استباح حماها البعث واستشرى/ وثمّ في الشام أفّاكون ديدنهم/ أن يحسنوا للطغاة الطبل والزمرا/ قبائل البعث أنواع منوعة/ وكل واحدة (…) من الأخرى”.
في وسع المرء أن يبدي ويعيد فيما هي عليه الأسدية، فلا ينتهي. وعلى أهمية ذلك، يبقى الأهم هو أن نتقرى ما يسري من سمومها، وقد يطول ويصعب البرء من هذه السموم، وفي ذلك فلنمعن النظر ولنعمل الكتابة والحوار، كما كان لغيرنا في سقوط وإسقاط الديكتاتورية والطغيان.
في عام 2018، وفي كتابي “طغيانياذا: حفريات في التاريخ الثقافي للاستبداد”، ناديت قولة محمد الماغوط: “الطغاة كالأرقام القياسية، لابد أن تتحطم في يوم من الأيام”، وعقّبت على ذلك بالسؤال: “ولكن هل يتحطم الطغاة ويبقى الطغيان؟”. ولئن كان ذلك قبل سبع سنوات، فالسؤال، بعد إسقاط الأسد، يسوطنا كي نبدع ما هو أمضى فأمضى من أجل إسقاط الأسدية.
ضفة ثالثة