الأحداث التي جرت في الساحل السوريسقوط بشار الأسد، الرئيس الفار والمخلوعسياسة

عن الأحداث التي جرت في الساحل السوري أسبابها، تداعياتها ومقالات وتحليلات تناولت الحدث تحديث 15 نيسان 2025

لمتابعة مكونات الملف اتبع الرابط التالي

الأحداث التي جرت في الساحل السوري

———————————-

التطمينات المخيفة: المجزرة كألف حالة فردية/ عبد الحميد يوسف

ما قبل أحداث آذار في الساحل السوري وما بعدها

14-04-2025

        يقف العلويون في سوريا بعد مجازر آذار (مارس) الماضي أمام سؤال وجودي تطرحه الأفعال والأقوال معاً: هل نحن جميعاً أعداء الحكم الجديد في سوريا؟ الإجابة التي يحددها الأداء والنهج السائد حتى اللحظة هي نعم، وهذا الجواب هو عنوانٌ لمرحلة مستمرة، من الضروري لفهمها والتعليق عليها أن نبدأ في رصد مسار الأحداث منذ لحظة سقوط النظام السابق. لكن لحظة سقوط الأسد نفسها تحتاج بدورها إلى إلقاء الضوء على مرحلة مهمة بالنسبة للسوريين عموماً، وبالنسبة لمناصري النظام السابق خصوصاً، وهي السنوات الخمس الأخيرة من حكم الأسد.

        تلك الفترة مهمة جداً لفهم سبب تقبّل سقوط النظام من جانب عموم العلويين في الساحل السوري، بما في ذلك الذين كانوا مؤيدين جداً للأسد في سنوات سابقة، واستبشارهم خيراً بالخطوات الإيجابية الأولى والتطمينات التي أُطلقت، والتي أَصبحت يوماً بعد يوم مخيفةً إذ لم يظهر أي شي مبشّر معها على الأرض، بل كانت المؤشرات المتتالية تدلّ على مقتلة قادمة أو احتمال نشوب حرب أهلية انتقامية. لم تحدث الحرب الانتقامية عند سقوط النظام، ولكن مع مرور كل أسبوع كانت تصرفات السلطة الجديدة وفصائلها «تسوق» الخوف إلى مظاهر الطمأنينة.

        أحاول في هذا المقال إيضاح السياق العام المؤدي إلى المجازر وقراءة نتائجه، وقراءة أفعال السلطة الجديدة لا أقوالها، ومقاومة النزعة التي تهدف إلى فصل الحوادث عن بعضها بعضاً. وطبعاً هذه الأفعال ليست محصورة بالساحل ولا بالعلويين، لكن السياق الراهن يقطع الطريق حتى أمام المكونات الأخرى للتعاون على بناء دولة للجميع، هذا إن وجدت النية والهدف أصلاً.

        ما قبل السقوط

        بعد أن استعاد النظام سيطرته على كثير من المناطق التي كانت قد خرجت عن سيطرته، وذلك بعد تدخل إيراني والميليشيات التابعة لها، والتدخل الروسي ـ غطاءً جوياً ونقاط تمركز ـ منذ 2015، وبعد تهجير أهالي الغوطة إلى إدلب ثم المعارك والتهجير من حوران ضمن اتفاقات برعاية روسية في العام 2018، لم يَعُد على «الأراضي المفيدة» للنظام أي جبهة مفتوحة سوى إدلب (التي دخلت جبهاتُها أيضاً منذ 2020 في استقرار متقطع برعاية روسية تركية)، باستثناء اشتباكات ومواجهات محدودة هنا وهناك على جبهات أخرى.

        اتجه النظام أثناء هذه الفترة إلى سوق الكبتاغون، وإلى الجباية من السوريين القاطنين في مناطق سيطرته، جباية دون رحمة يدفع ثمنها الأهالي عن طريق «تشليح» التجار على الحواجز، وخاصة رسوم حواجز الفرقة الرابعة التابعة لماهر الأسد، الأمر الذي كان التجار يعوضونه عبر رفع أسعار المنتجات. وكذلك عن طريق ما شاعت تسميته «المكتب السري» في القصر الجمهوري، الذي عُرِفَ بتشليح وحتى اعتقال التجار والصناعيين، عن طريق فرع الخطيب ذائع الصيت، ليفتدوا أنفسهم بمبلغ يتم تحديده «من القصر».

        في تلك الفترة، وخاصة منذ نهاية 2019 وبدء انهيار الليرة السورية بقفزات كبيرة، أخذ النظام يعتمد على الجباية بقوانين أو بدونها لتأمين تكاليف بقائه من رواتب وتكاليف تسيير المؤسسات وغيرها، كما عمل على التلاعب بسعر صرف الدولار والهيمنة على الأسواق عبر أركان السلطة ومحاسيبها، بينما كانت ترتفع قيمة السلع دون زيادات مُقابِلة في أجور العمال والموظفين ليكونو قادرين على شرائها، إضافة إلى سياسات سطو أخرى عبر حوالات المغتربين لإعالة ذويهم وبدل الخدمة العسكرية ودوريات التموين التي باتت أشبه بعصابات تشليح متنقلة وغير ذلك، مُحافظاً بهذا على استعباد اقتصادي للناس جميعاً في مناطقه، متذرِّعاً دائماً بالعقوبات الغربية لتبرير التدهور المعيشي.

        لستُ هنا في وارد الشرح الدقيق لتفاصيل تلك المرحلة، فقد كُتب كثيراً عنها وعن أساليب النظام أثناءها. لكن التفصيل الذي لم يُلقَ عليه الضوء كثيراً في ذلك الوقت هو نتائج هذه المرحلة على أنصار النظام من علويين وغيرهم، وانعتاقهم من الولاء له يوماً بعد يوم بسبب الوضوح الذي صارحهم به علناً، وهو ضرورة دفع الجميع له لضمان استمراره.

        وبالتأكيد لا يمكن إنكار التأييد الواسع لنظام الأسد بين العلويين في سنوات الثورة والحرب، لكننا لا نستطيع بالمقابل أن نُجملهم في سلة واحدة كي لا يكون النظام قد انتصر علينا مرتين، إذ نعيد تأكيد روايته بأنفسنا اليوم، فمن المعروف أنه كان على وشك السقوط في 2014 لولا تدخل الجيش الروسي والمليشيات الإيرانية، وفي ذلك الوقت كان عدد الفارين من الخدمة العسكرية في طرطوس مثلاً قد وصلَ إلى 15000 حسب موظف في شعبة التجنيد، وهو عدد غير قليل بالنسبة لمدينة صغيرة. وقد أصبح العدد أكبر في سنوات لاحقة، وهو لم يصل إلى ما وصل إليه لولا وجود بيئة حاضنة لفكرة التخلي عن النظام، فكل المتخلفين عن اللحاق بـالخدمتين الإلزامية والاحتياطية التزموا بيوتهم وحصلوا على دعم عائلاتهم.

        ولا يعني هذا أن هؤلاء كلهم أصبحوا معارضين أو داعمين للثورة على النظام، لكنهم كانوا يرفضون الموت المجاني من أجل الفساد وبقاء بشار وأولاده وأولاد حاشيته في بيوتهم بينما «نحن نقاتل لحمايتهم» كما كان يردد كثيرون.

        التطمينات المخيفة

        هكذا وصلنا إلى لحظة تخلي معظم مؤيدي النظام عنه، بحيث لم يبقَ من داعميه إلّا المرتزقة، ولهذا تم استقبال تطمينات السلطة من قبل أغلبية العلويين بارتياح، ولهذا أيضاً كانت الخيبة اللاحقة بالغة القسوة.

        للحديث عن شريط أحداث الساحل السوري وأحواله، منذ فرار بشار الأسد في 8 كانون الأول (ديسمبر) إلى مجازر آذار (مارس)، يمكن تقسيم تلك الفترة إلى مرحلتين بناءً على أحداث مفصلية، وقد يكون من المناسب أن نبدأ من أكثر حدث أثار ضجة خلال الشهر الأول بعد سقوط نظام الأسد، أي من خطاب الشيخ صالح منصور في قرية عين الشرقية، الذي هدد فيه بالمطالبة بحماية دولية للعلويين إذا استمرت الانتهاكات، وذلك لأنه جاء حصيلة 34 يوماً من التصرفات المتقلبة والأحداث المتتالية.

        في 12 كانون الأول (يناير) 2025، وأمام حضور جماهيري حاشد في قرية عين الشرقية التابعة لمنطقة جبلة في ريف اللاذقية الجنوبي، ألقى الشيخ منصور خطابه ذاك في تشييع جثمان الشاب الصيدلاني قصي حمزة عبود، الذي وُجِد مقتولاً في مزرعته في قرية قرفيص، والذي جاء مقتله بعد يومين من مقتل ثلاثة فلاحين من عائلة واحدة (أب وابنه الطفل وابن اخته) على يد عناصر أجنبية تابعة للفصائل، وذلك بينما كانوا يعملون في أرضهم في بلدة عين الشرقية التابعة لمنطقة جبلة.

        جمع ذاك الخطابُ كل التجاوزات التي تم ارتكابها خلال شهر، مع مفاعيلها والدروس المأخوذة من نتائجها منذ لحظة «اذهبوا فأنتم الطلقاء» التي رافقت سقوط النظام، والتي كانت العتبة الأولى للإحساس بأن عمليات الانتقام لن تحدث بالطريقة التي كان يخشاها الناس، أو بالطريقة التي ربّاهم حافظ الأسد ونظامه على أنها ستحدث حال سقوطه، عندما تم إقناع عموم العلويين أنّ أمنهم مرتبط ببقائه على كرسي الحكم.

        اعتبرَ كثيرٌ من العلويين في الساحل أن هناك تطمينات كافية بالنسبة لهم، وذلك مع وصول المحررين إلى دمشق وسقوط النظام دون حدوث مجازر بحق العلويين في حمص ودمشق، وخاصة بعد هروب عدد غير قليل من علويي حمص باتجاه الساحل بعد تحرير مدينة حماة من قبضة النظام، وعودتهم بعد أيام إلى بيوتهم هناك لعدم حدوث أعمال انتقامية، وكذلك تصريح الفصائل لكل الموالين والمحسوبين على النظام أنهم بأمان، وأن تسوية أوضاعهم ستتم بسرعة شريطة تسليم السلاح، وتسليم المتورطين بدم الشعب السوري من عناصر الأمن والشبيحة.

        المهم هنا هو توضيح أسباب و ظهور المخاوف والرغبات، أو ربما الحلول العقيمة، التي عبّرَ عنها خطاب الشيخ منصور، وتوضيح السياق الذي أوصله إلى التهديد بطلب حماية من الحكومة الفرنسية. لقد بُني الخطاب على مطالب خلقتها تجاوزات أمنية واقتصادية، أشعلت الخوف في قلوب أهالي المنطقة وكسرت الثقة التي كانت قد بُنيت نتيجة تعامل الأمن العام التابع للسلطة الجديدة مع الأحداث والمناطق برويّة وتفهّم. لم يكن الوضع تحت السيطرة بقدر ما كانت السلطة الجديدة تحاول أن تظهره، وخاصة بعد ظهور فصائل لا تتبع على الأرض لجهاز الأمن العام، ما حالَ دون قطف ثمار نهج «اذهبوا فأنتم الطلقاء».

        جاءت مطالب الحماية الدولية تلك نتيجة تجاوزات على مدى شهر كامل، عززها غياب مخافر الشرطة والأمن عن مفاصل المناطق الريفية في الساحل، ما تركها مفتوحة أمام اللصوص والفصائل غير المنضبطة. وقد يكونون فعلاً مجرّد مجموعات صغيرة لا فصائل كاملة في ذلك الوقت، كما وصف بعض الذين تواصلنا معهم من تلك المناطق، لكن الانتهاكات والجرائم كانت تحدث في الوقت الذي لا يستطيع الأهالي فيه حمل السلاح، وذلك بعد إبلاغ الإدارة العسكرية جميع السكان بتسليم سلاحهم، والتقدم لتسوية أوضاع العسكريين والأمنيين السابقين في إطار ضرورة «احتكار الدولة للعنف». لكن احتكار الدولة للعنف يُلزمها بالمقابل بحماية السكان، وهو ما كان غائباً.

        لعلّ الحادثة الأكبر قبل خطاب الشيخ صالح منصور كانت في قرية خربة المعزة في ريف طرطوس في 25 كانون الأول (ديسمبر) 2024، فقد كان ذاك الاشتباك الكبير الأول بين فلول نظام الأسد وقوات الأمن العام، الذين دخلوا القرية بحثاً عن محمد كنجو حسن، أحد القضاة العسكريين المسؤولين عن ملف الإعدامات بحق المعتقلين في سجن صيدنايا. حدثت مشادات بين عناصر الهيئة وشقيق اللواء كنجو، وأثناء خروج دوريات الأمن العام وقعوا في كمين من قبل جماعة مسلحة تابعة لكنجو قُتل بنتيجته 6 عناصر وأُحرِقَت إحدى سيارات الأمن العام، الأمر الذي رد عليه الأمن العام باستدعاء تعزيزات وتنفيذ عملية أمنية في المنطقة تسببت بقتلى وجرحى ومعتقلين. رافق الحدث انتشار فيديو قديم لإحراق مقام الإمام أبي عبد الله الخصيبي، وهو مقام مهم للطائفة علوية في حلب، ما أدى إلى خروج مظاهرات في طرطوس والمناطق الأخرى، كانت محدودة لكنها ضُخِّمَت وتزامنت مع خبر الكمين في قرية خربة المعزة.

        تلتها حوادث قتل في منطقة شاطئ الأحلام، في القسم الجنوبي لكورنيش طرطوس، على يد فصيل متشدد تابع للهيئة أراد الاستحواذ على المنطقة، لكن بنتيجة تكرار الحوادث هناك واعتراض الناس لدى المحافظ، تم إخراجهم من المنطقة مؤقتاً (عادوا إليها لاحقاً بعد مجازر آذار).

        تزامنَ ذلك مع فصل موظفين وعاملين في قطاعات حكومية عديدة وخاصة في القطاع الصحي في طرطوس (إجازات بأجر كان واضحاً أنها مقدمة للفصل)، ومع إغلاق مراكز طبية من أرياف الساحل، (تناولت موضوع مديرية الصحة في طرطوس في مقال مفصّل في 17 شباط الماضي). الجدير بالذكر أن كل من تحدثتُ إليهم لإعداد المقال حينها تم فصلهم بشكل فعلي في الأول من آذار.

        ترافقت الحوادث الأمنية والظروف الاقتصادية القاسية مع تزايد السرقات، ومع اعتقال عناصر سابقين من الجيش الأسدي أثناء حملات التمشيط أو على الحواجز، بالإضافة إلى توارد أخبار عن حوادث انتقامية وانتهاكات شبه يومية بحق العلويين في مدينة حمص، بالإضافة إلى حوادث ضد العلويين في ريفي حمص وحماة ومضايقات وأعمال سطو وتهجير وقتل، والمصير المجهول للعناصر الذين فروا إلى العراق يوم سقوط النظام، ثم سلموا أنفسهم للسلطة الجديدة بالاتفاق مع الحكومة العراقية، وكان أغلبهم من الساحل. طالب الأهالي أكثر من مرة في بياناتهم وبيانات المشايخ بالإفراج عنهم، أو معرفة مصيرهم على الأقل.

        ازدادت تلك الأحداث يوماً بعد يوم حتى تُوِّجَت بمطالب الشيخ صالح منصور أثناء التشييع، إذ طالب الأمنَ العام بحماية الناس والإفراج عن العساكر وصرف الرواتب، وهدَّدَ بعريضة يوقّع عليها مشايخ العلويين في تركيا وجبل محسن في لبنان و«مرصد حقوق الإنسان» كما قال (دون أن يكون واضحاً ما هو المرصد الذي يقصده تماماً)، وتقديمها إلى الأمم المتحدة وطلب الحماية من الحكومة الفرنسية، مؤكداً في آخر خطابه أن اليد ممدودة للدولة الجديدة شريطة صون حقوق العلويين وحمايتهم.

        قد تبدو تلك الأحداث متفرقة، لكنها كانت تراكمية أعطت الانطباع لكثيرين بأنها ممنهجة. وقد ضجَّ السوريون على إثر طلب الحماية من فرنسا في كل أنحاء سوريا، ونزلت دورية للأمن العام في اليوم نفسه إلى القرية وقامت بإطلاق النار ليلاً في الهواء، في عمل لا هدفَ منه سوى الترهيب. لتقوم مجموعة من فلول النظام في المنطقة، على رأسهم بسام حسام الدين قائد مجموعة أسود الجبل التابعة للفرقة 25 بقيادة سهيل الحسن الملقب بالنمر، بنصب كمين لدورية الأمن العام في اليوم التالي نهاراً، ونتج عن الاشتباك مقتل عنصرين وأسر سبعة عناصر، ظهروا في فيديو مُصوَّر نشره بسام حسام الدين، طالب فيه بخروج القوات من قرية عين الشرقية وإلا فإنه سيقتل الأسرى، كما طالبَ العلويين في الجبال بالانتفاضة و«الجهاد نحو إقامة إدارة ذاتية بلا غرباء» حسب قوله.

        أرسلت الإدارة العسكرية قوات مدعومة بأسلحة ثقيلة وطائرات مروحية إلى المنطقة، تم بعدها تحرير الأسرى بسرعة، فيما قتلَ بسام حسام الدين نفسه بقنبلتين. تؤكد كل المصادر والأهالي أن الشيخ صالح منصور نفسه، وبغض النظر عمّن يكون وعن أهدافه، كان له الدور الأكبر في إنهاء العملية، وفي عودة الأسرى سالمين بعد أن فشل بسام حسام الدين في الحصول على مساندة أهالي القرية. جاء ذلك تأكيداً على أن بسام يمثل نفسه فقط ولا يمثل أهل القرية، فـ«المطلوب للمحاكمة بسبب جرائمه السابقة لا طريق له للنجاة سوى إقحام الجميع في حرب طائفية يختبئ وراءها» حسب تعبير كثيرين ممّن تحدثتُ إليهم من أبناء المنطقة. بالمقابل، لم تُعاقِب السلطةُ القريةَ كلها بسبب تصرف بسام حسام الدين، وهو ما ستفعل نقيضه مراراً في المرحلة التالية.

        بدأت المرحلة الثانية بأحداث فاحل ومريمين وجبورين، وكان بداية لظهور الممارسات التي كانت التطمينات تحاول إخفاءها، وهي الممارسات الانتقامية الجماعية، التي حتى لو كانت على يد فصيل صغير، إلا أنها تبقى جماعية ولم يَعُد يمكن وصفها بالفردية. في 23 كانون الثاني (يناير) الماضي دخلت مجموعات مسلحة تابعة للسلطة الجديدة إلى تلك القرى من ريف حمص الغربي، وارتكبت انتهاكات واسعة من نهب وإذلال واعتقالات عشوائية، بلغت ذروتها في إعدام 15 شخصاً ميدانياً في قرية فاحل. لا تنفصل المرحلة الأولى عن الثانية فعلياً، بل هو سياق يومي متصاعد نحاول توضيحه عبر وضع نقاط علّام فيه. كانت مجزرة فاحل نقطة تحوّل في المسار، وبالنتيجة فإن الرهانات كانت لصالح المُحرِّضين من كلا الطرفين: بقايا الشبكات الأمنية والعسكرية من النظام البائد التي راهنت على أن الإبادة قادمة لا محالة مُعتمدة على تاريخ فصائل السلطة الإجرامي، وبالمقابل أولئك الذين يحرّضون على العلويين معتبرين أنهم جميعاً يكمنون للسلطة الجديدة ويجب محاسبتهم. انتصر هذان الرأيان، وأصبح لدينا سلطة جديدة تقتل من لا يشبهونها وتروّعهم ما استطاعت.

        لم تتوقف السلوكيات الانتقامية الواضحة والتجاوزات اليومية والجماعية منذ اقتحامات وجرائم ريف حمص الغربي، والأسوأ أن اعتراف السلطة ببعضها لم يؤدِ إلى توقّفها، وصولاً إلى حادثة عين شمس في ريف مصياف التابعة لمحافظة حماة في 27 شباط (فبراير)، عندما تم قتل وإذلال واعتقال عشرات الأشخاص في القرية بذريعة «ملاحقة الفلول»، إلى حادثة الدعتور في اللاذقية في 4 آذار قبل يومين من هجمات «الفلول» والمجازر التي أعقبتها منذ 6 آذار، والتي جاءت رداً على هجوم تعرّض له عناصر الأمن العام، وكان سلوك الانتقام الجماعي فيها واضحاً.

        سارت هذه التجاوزات في خط بياني صاعد واضح، يعبر عن طريقة واحدة للتعامل مع العلويين، عبر وضعهم في خانة مواطنين من الدرجة العاشرة، تسهل تصفيتهم دون سؤال ويمكن إذلالهم واعتقالهم وانتهاك حقوقهم ببساطة، ويمكن محاسبتهم بشكل جماعي وعشوائي على أي فعل يصدر من أي واحد منهم ضد السلطة الجديدة أو قواتها. بات شعور الاستباحة عاماً في أوساط العلويين، ولم تعد التطمينات اللفظية إلّا عبارات مخيفة تزجّ بهم عراة أمام مسلحين لا يمكن محاسبتهم على أفعالهم.

        ما الذي تعنيه المجزرة وما بعدها إذن؟

        لا نستطيع نزع الحوادث عن سياقها إذن، وخاصة أن المطالبات بالقبض على المطلوبين من مجرمي النظام الأسدي من قبل أهالي الساحل كانت قد ارتفعت كثيراً، وبالذات بعد حادثة عين الشرقية، فهؤلاء المطلوبون من بقايا النظام السابق لا خيار أمامهم سوى القتال وجمع الناس من حولهم، بحيث بدا بالنسبة لكثيرين أن ترك الأمن العام لهم ما هو إلا طعم لدخول المناطق واقتحامها. وقد طُرِحَت أكثر من مرة فكرة إعلان قوائم بالمطلوبين في كل منطقة لوضع مهلة وخطة يجبرون بها على الهروب أو تسليم أنفسهم بعد محاصرتهم، لأنهم بالنسبة لأهالي القرية قنبلة موقوتة تنذر بالكارثة.

        نقلت هذه التجاوزات والجرائم والسياسات الثقة بالسلطة الجديدة وتطميناتها إلى الهاوية، وصار يقيناً عند بعض مقاتلي النظام السابق الفارين أنهم على حق في ضرورة القتال ضد الإدارة الجديدة. قادنا كل هذا السياق إلى مجازر الساحل من 7 حتى 11 آذار (مارس) ردّاً على تمرد بعض مجموعات النظام السابق في 6 آذار، والتي أثبتت إثباتاً كلياً ونهائياً أن السلطة تُضمر الانتقام من العلويين بشكل كامل.

        جاء خطاب أحمد الشرع الذي يعترف بوقوع تجاوزات مساء الجمعة 7 آذار، ولم تتوقف المجازر الإبادية لمدة ثلاثة أيام بعده، ليكون هذا دليلاً على ضوء أخضر بما حدث، وعلى أن الانضباط النسبي الذي حاولت قوات السلطة الجديدة إظهاره حتى أواخر شباط لم يكن إلّا جزءاً من مرحلة تعويم سياسي. لماذا لم يتم التعامل بالطريقة المنضبطة نفسها مع الكمائن القذرة التي نفذها فلول النظام في 6 آذار؟ فالمجزرة لم تكن معركة ضد فلول النظام بل بدأت بعد نهاية المعركة، وكانت حرباً ضد مدنيين وبلسان القتلة الذين صوروا أفعالهم بأنفسهم لأيام دون خوف من سلطة أو قانون. هذه العلانية بدورها جاءت دليلاً على الضوء الأخضر، تماماً كما أن تصفية الذكور جميعاً في بعض القرى، كما جرى في قرية المختارية في ريف اللاذقية، جاءت دليلاً على النهج الإبادي.

        لم يتوقف هذا السياق حتى اليوم، ونستطيع أن نتكلم أننا في المرحلة الثالثة الآن، مرحلة التصفية اليومية التي تشمل أعمال قتل وخطف وترهيب متفرقة شبه يومية، أو مرحلة الخروج للصيد كما أسماها أحد أهالي طرطوس، وهو من المعارضين المعروفين للنظام الأسدي، لكنه «علوي» أي تنطبق عليه المواصفات الكاملة للطريدة؛ يقول: «أخرج لجلب حاجيات المنزل تماماً مثل أي طريدة، وقد لا أعود اذا تعثّر بي صيّاد في هذه الغابة الوحشية».

        يعيش العلويين اليوم تحت وطأة الخوف والرعب والشعور بالاستباحة (يتفاوت حجم هذا الشعور بين منطقة وأخرى ووقت وآخر)، فقد يطرق بابهم وفي أي وقت فصيل ما، أو مجموعة مسلحة، أو أمن عام دون لباس أمن عام، ويقتحم عليهم منازلهم أو طريقهم أو يخطفهم ويقتلهم دون القدرة على الدفاع عن النفس. لا شك أن من يعتبرون أن هذا مجرّد تهويل، أو يعتبرون أن المجازر التي وقعت كانت قدراً وأنها انتهت الآن، يعرفون معنى أن يدخل مقاتلان تابعان لوزارة الدفاع إلى بيت في قرية ويقتلوا مُضيفهم ومختار القرية وعائلته في أول أيام عيد الفطر، قبل أن يمرّ شهرٌ على المجزرة، في حادثة قرية حرف بنمرة في ريف بانياس؛ هل يستطيع الأهالي بعد هذه الحادثة تصديق مسرحية الشرطي الجيد (الأمن العام) والشرطي السيء (الفصائل)؟ هل يستطيعون إقناع أنفسهم أن دخول الأمن العام سيحميهم، بعد اعترافه بوجود فصائل «غير منضبطة» للمرة الألف، وتركها تجوب الساحل في الوقت نفسه.

        من يعرف الساحل والمنطقة يعرف جيداً صعوبة الخروج و«التصيد» قتلاً أو خطفاً على يد شخص لا يتبع للفصائل، وفضلاً عن ذلك قد يؤخذ أي شاب على الحاجز أو من بيته ويوجد لاحقاً مقتولاً. هناك حوادث متكررة شبيهة بالحادثة التي فجّرت أحداث آذار، حين أرادت قوة من الأمن العام اعتقال شخص من بيت عانا بسبب وشاية، وقد اعترض بعض أهالي القرية على الاعتقال كي لا يجدوه لاحقاً مرمياً في الأحراش كما حصل في حوادث أخرى. وطبعاً لا يعني هذا إنكار وجود الفلول وهجماتهم، لكن السياق يضع مسؤولية  ما جرى ويجري على عاتق من يريد من مجموعة من البشر أن تتعامل معه كدولة، وهو لا يريد أن يتعامل معهم كمواطنين.

        السياق الحالي في الساحل وأرياف حمص وحماة كما تقول شهادات أغلب من تحدثتُ إليهم من علويين في مناطق متعددة: «نعيش يومنا بقلق وحذر، وخوف بشأن قدرتنا على تحصيل يومياتنا للعيش، مع أخبار شبه يومية عن اختفاء أشخاص في طريقهم إلى أعمالهم أو مدارسهم أو لجلب حاجياتهم. وحين تغيب الشمس نتحول إلى العيش في عالم آخر مثير للذعر، لا نستطيع مدَّ رؤوسنا لمعرفة مصدر الأصوات من انفجارات قنابل وإطلاق رصاص يحدث بشكل متكرر في مناطق عديدة، وحتى على صفحات التواصل لا أحد يعرف مصدر إطلاق الرصاص والأصوات، لأنه لا أحد منا يستطيع الخروج ليعرف السبب. كما أن أكثر المؤسسات الرئيسية حتى هذا اليوم لم تفتح أبوابها للمواطنين بشكل فعلي؛ اقتصاد مشلول، أعمال متوقفة، لجنة تحقيق لم تعلن شيئاً حتى الآن، بينما لم يتوقف القتل والترهيب حتى الآن أيضاً».

        أغلب من سألناهم عن رأيهم في تمديد عمل لجنة التحقيق في المجازر لم يعطوا أي أهمية للأمر، فالنتيجة بالنسبة لهم واضحة ومحسومة سلفاً، تقولها الأفعال المستمرة ما بعد المجزرة، ويقولها عدم محاسبة أحد على الصعيد الفردي كحد أدنى. هم يحتاجون أن يصدقوا أن الفرصة ما زالت مُتاحة لإرساء الأمان وحمايتهم وحماية أولادهم، لكن أفعال السلطة تقول العكس حتى اللحظة.

        سألتُ عدة أشخاص من العلويين في مناطق لم تشهد حوادث عموماً عن أسباب خوفهم ويأسهم الآن، على عكس آمالهم في الشهر الأول؟ الجميع أكدوا أن كل ما يجري حولهم يَعدُهم بمقتلة قادمة وأن الدور على المناطق الأخرى قادم، وأن أخبار الحوادث اليومية والشعور بالاستباحة توحي بذلك. وحادثة تهديد عشيرة أبو الحارث قسطون لمناطق في جرد الدريكيش خير مثال، فقد تم خطف القيادي الأمني على يد أشخاص من المنطقة، وأفراد عشيرته يعرفون الخاطفين بالاسم كما يقولون، لكنهم يقولون علناً دون أي رادع إنهم سينتقمون من أبناء المنطقة بشكل جماعي إذا لم يظهر أبو الحارث حياً؛ «هل الشخص من عندهم يساوي ألفاً من عندنا؟ هذا مثال تدعمه أمثلة يومية أخرى تقول إن علينا انتظار دورنا في المجزرة، هل يريدون القول إن لا أمان لنا، وإنه ليس هناك من ينوي حمايتنا» يقول أحد أبناء المنطقة.

        نحن الآن إذن أمام دفع واضح للناس إلى المقتلة واليأس، ما يُذكِّر بالنظام الأسدي حينما استباح حياة الناس في المناطق الثائرة عليه، وأوصلهم إلى أوضاع دفعتهم لقبول أي سلاح لحماية أنفسهم وحماية عوائلهم. هل تدفع السلطة الحالية الناس في الساحل إلى هذا السياق كما تفعل أي سلطة تريد أن تثبت أنها تحارب إرهابيين؟ ليس هناك توقعات ممكنة بشأن مسار الأمور، ولكن العلويين في سوريا لم يعودوا ذاتهم الذين كانوا في الشهر الأول بعد سقوط الأسد: يتلقون التطمينات دون أن يتوقعوا الفردوس بالتأكيد، لكنهم كانوا يصدقون أن الخلاص في خطوات قادمة، خطوات تعاملهم كمواطنين لا كطرائد للانتقام الطائفي والسياسي. نحن اليوم أمام مسار من إعادة إنتاج السلطة السابقة أو تدويرها، ما سيؤدي إلى انتهاء فرص للسوريين في تحقيق مصلحتهم المشتركة في العيش الآمن على الأقل قبل التفكير بالتكافل. أول خطوة هي المحاسبة تحت سقف القانون للجميع دون تمييز، قبل أن تُبتر أقدام السوريين جميعاً على الطريق نحو بناء كرامة متساوية يُبنى عليها مشروع وطنٍ ما، وطنٍ بلا دماء على الأقل.

موقع الجمهورية

——————————–

هل تسهم بعض النخب السورية في إنتاج وتكريس الطائفية؟/ حسن النيفي

2025.04.15

لم تتمكّن النخب السورية – بمختلف انتماءاتها – من تجسيد حالة نوعية أو مفصلاً فارقاً في سياق المواجهة بين الشعب السوري ونظام الأسد منذ عام 2011 وحتى الثامن من شهر كانون الأول الماضي، ويعزو بعضهم هذه العطالة في الدور النخبوي إلى انزياح الثورة في وقت مبكر إلى العسكرة، وتحييد الحراك السلمي والمجتمعي موازاة مع سيطرة الحالة العسكرية والفصائلية.

في حين يتحدث آخرون عن دور التدخّل الدولي، بل التحكّم الخارجي بمفاصل القضية السورية وتحوُّل أطراف الصراع المحلّيين إلى كيانات وظيفية ينحصر دورها في الامتثال لرعاتها الخارجيين وما تقتضيه مصالحهم، الأمر الذي دفع بكثير من المثقفين والناشطين السوريين إلى الانزواء خلف الأحداث والاكتفاء بمراقبة المشهد أو الانشغال بتحليل ما يجري وربما التفكير أو الانشغال بما يمكن أن تكون عليه سوريا فيما بعد العهد الأسدي.

النخب ومرحلة ما بعد التحرير

جسّد سقوط الأسد حافزاً لكثير من النخب السورية للعودة بحماس إلى التعاطي مع قضايا الشأن العام سواءٌ من داخل البلاد أو من خارجها، وقد جسّدت مظاهر الندوات والمحاضرات والحوارات المعقودة داخل المدن السورية حالةً من الغبطة باعتبارها نشاطاً مجتمعياً حرّاً لا تقيّده سطوة الحاكم ولا توجهه مؤسسات السلطة، وهذا هو المدخل الصحيح لإيجاد حراك ثقافي يؤسس للاعتراف بالتغاير ومشروعية الاختلاف بالرأي، إلّا أن هذا النزوع النخبوي نحو المصارحة في بسط المسائل والمضيّ في مقاربات أكثر شفافية حيال مرحلة ما بعد الأسد سرعان ما اصطدم بشرخ مباغت تمثّل في الأحداث الدامية التي وقعت في مدن الساحل السوري في السادس من شهر آذار الماضي.

الشيء المهم الذي كشفته أحداث الساحل – شأنها كشأن أي حدث مفصلي – هي أنها عصفت بكثير من الأقنعة الفكرية والأيديولوجية لأصحابها، وأسفرت عن الوجه الحقيقي الكامن خلف القناع، وهذا الأمر قلّما يحدث إلّا في أعقاب حوادث ذات حساسية متجذّرة في البنى الذهنية والنفسية للأفراد، إذ غالباً ما تخفي الانتماءات الكونية الكبرى – الفكرية والسياسية – بشعاراتها ومجمل تجلياتها التعبيرية، انتماءات أخرى خلفها – دينية – طائفية – عرقية – وقد نجد في التاريخ الحديث تجليات عديدة لهذه الظاهرة في أوساط النخب الثقافية والسياسية سواء في الحرب اللبنانية أو في حرب الخليج الأولى والثانية، وقد حملت الثورة السورية في بداياتها جانباً من هذه الظاهرة، ولكنّ الجانب الأكثر وضوحاً بدا أكثر صراحةً في التعبير عن نفسه في ما بعد السادس من آذار، وذلك من خلال انشطار الخطاب النخبوي السوري إلى صنفين، يسعى كلٌّ منهما إلى تحصين سرديته بجملة من الوقائع والتصورات التي تستلهم التجييش والاستثارة العاطفية وغلبة الصوت المرتفع أكثر ممّا تستلهم الحقائق والدقة في النقل والرواية، وخاصة أن الميدان الأرحب لاشتباك هذين الشطرين من الخطاب هو وسائل التواصل الاجتماعي التي توفّر مناخاً خصباً لهذا اللون من الاشتباكات.

في النكوص نحو المظلوميات

1 – يختزل الصنف الأول ما جرى في الساحل السوري في أنه محاولة انقلابية على نظام الحكم، وبالتالي فإن جميع ردّات الفعل المنبثقة من فصائل تابعة لوزارة الدفاع إنما هي في سياق الرد على ما قامت به فلول النظام من اعتداءات، في مسعى واضح للتنكّر لأي تجاوزات من جانب

الفصائل العسكرية على أرواح المدنيين وممتلكاتهم بدوافع طائفية، سواء من خلال عمليات التصفية الجسدية أو الإذلال أو السلب والاغتصاب، وهو وإن اضطر إلى الاعتراف بما وقع بالفعل، فإنه سرعان ما يواجه ذلك بمظلومية سابقة للعرب السنة، متذرّعاً بما مارسه نظام الأسد من إبادة طوال عقود من الزمن، وكأن مظلوميته التي كان هو في موقع الضحية منها، تجيز له أن يتحوّل إلى دور الجلّاد، وبالتالي هو لا يفكر خارج منطق الانتقام، ليس ممن ظلمه أو تسبب في مظلوميته، بل من مواطنين أبرياء، وهو بسلوكه هذا لا يجافي منطق العدالة فحسب، بل أي عرف إنساني أو أخلاقي آخر، فضلاً عن تجرّد هذا المنطق من أي قيمة ثورية ذات صلة بالمسألة الوطنية.

2 – أمّا أصحاب الصنف الثاني من الخطاب النخبوي فحاولوا الاشتغال بحرفية تحريضية على النصف الثاني من الوقائع فحسب، فحذفوا الجزء الأول من المشهد ( المحاولة العسكرية التي استهدفت عناصر الأمن العام ونكّلت بهم) كما أنكروا صلتها بأي طرف إقليمي خارجي، في حين أن داعميها الإقليميين لم ينكروا ذلك( وكالة مهر الإيرانية على سبيل المثال لا الحصر)، فضلاً عن اعتراف قادتها ومموليها على شاشات التلفزة. كما حاولوا اختزال المشهد على أنه قتل لمجرد القتل فحسب، يمارسه العرب السنة ضدّ العلويين، في مسعى واضح لاستدرار العطف الدولي وتأليب الرأي العام على الحكومة السورية، ولإثبات ذلك غالباً ما لجأ هؤلاء إلى حشد أكبر قدر من الوقائع والروايات المُجتزأة من سياقها، بأسلوب يقترب من سرد مشهد روائي يتداخل فيه الخيال مع الواقع، وربما كان بعضها غير صحيح، وهذا ما جعل بعضاً من هؤلاء يتنكّر أو يحذف في اليوم الثاني ما كان قد ادّعاه أو أثبته في اليوم الأول، ومضى هذا الخطاب في نبرته التحريضية مدّعياً أنه لا يجوز لوم الضحية أو إسكاتها عن الصراخ، في حين أن تزييف الوقائع واستثمارها هو الانتهاك الحقيقي لصوت الضحية ومصادرة لحقها في الإفصاح عن وجعها الحقيقي وليس المُستعار. وقد بلغت نزعة الاستعلاء لدى هذا الضرب من الخطاب إلى اعتبار جميع السوريين ممّن لا يتماهون معه بأنهم عديمو الضمير، أي لا يكفي من وجهة نظر هؤلاء، أن تدين الجريمة وترفضها، بل عليك أن تنخرط في جوقة التحريض التي يقودها ذلك المثقف النخبوي الذي لا تستبطن نخبويته أكثر من ( مختار طائفي)، كما يتوجب عليك مشاطرته الجهد في التبشير بنهاية الحكم الجديد في البلاد، وحينها فقط، يمكن أن تحظى بصكّ نظافة الضمير والانتماء إلى الإنسانية.

ما هو لافتٌ لدى أصحاب الموقفين معاً هو أن كليهما، ومن خلال خطابه المجافي للحقائق الموضوعية، يسهم في إفراغ مظلوميته التي يتحصّن بها من بعدها الإنساني والأخلاقي معاً، ولئن كانت مظلومية العرب السنة تتجسّد بما مارسه بحقهم نظام الأسد من إبادة واستئصال طوال عقود من الزمن، فإن هذه المظلومية تفقد اعتبارها الإنساني إن تحوّلت إلى سلوك انتقامي يصبح من خلاله مَنْ كان ضحيّةً في الأمس، جلّاداً هذا اليوم. وكذلك إذا اعتقد أصحاب الشطر الثاني من الخطاب أن التأسيس لمظلومية علوية ربما يفضي إلى طمس معالم المظلومية الأولى أو تقويضها، فهذا ضرب من الوهم أيضاً، ذلك أن أهالي الضحايا لم ينتهوا حتى هذه اللحظات من البحث عن رفات أبنائهم، سواء في صحراء تدمر أو في سجن صيدنايا أو أماكن الإبادة الأخرى.

وما هو لافتٌ لدى الطرفين أيضاً، هو أن الحكومة الرسمية للبلاد لم تتنكّر لما حدث في الساحل، ولعل إقدام رئيس الجمهورية على تشكيل لجنة للتحقيق وتقصّي ما حدث هو الدليل الأوضح على الإقرار بها، وهذا أمر في غاية الأهمية، فلمَ الاستمرار في اتهام الحكومة بنكران ما حدث؟ ثم لماذا ارتفعت نبرة التشكيك في عمل اللجنة التي تشكلت بهذا الخصوص قبل أن تعلن عن أي نتيجة؟

ربما يبدو من نافل الكلام أن نكوص النخب السورية إلى صراع المظلوميات إنما يجسّد تكريس العجز عن إنتاج خطاب وطني يتّسم أولاً بمزيد من المسؤولية الوطنية و الأخلاقية، ويتّسم ثانياً بقدرته على المقاربة الموضوعية والإحاطة الشاملة وغير المجتزأة لقضايا البلاد بعيداً عن مؤثرات الرواسب الأيديولوجية والانتماءات ما دون الوطنية. وأخيراً يمكن التأكيد على أن (الوباء الطائفي) في جزء كبير منه، هو مُنتَجٌ نخبوي، أكثر مما هو ظاهرة متجذّرة في المجتمع السوري.

تلفزيون سوريا

——————————

====================

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى