أبحاثالإعلان الدستوري لسوريا 2025سقوط بشار الأسد، الرئيس الفار والمخلوع

كل هذا الحضور لدستور 1950 في منعطفات سورية/ محمد أمين

15 ابريل 2025

لم يغب الدستور الذي وضعه السوريون في عام 1950، عن أفقهم السياسي منذ انطلاق ثورتهم في ربيع عام 2011، وانتهت بانتصار مدوٍّ في 8 ديسمبر 2025، فهو، وفق قانونيين وسياسيين سوريين كثيرين، أفضل دستور في تاريخ البلاد، ما يؤهله للحضور في كل منعطف تاريخي تمر به، ولعل المنعطف الحالي المتمثل بسقوط النظام وفتح البلاد صفحة جديدة مع ذاتها، يعد المرحلة الأهم لمناقشة هذا الدستور.

حضر الدستور الذي أقرّه السوريون عام 1950 بقوة في المشهد السياسي في بلدهم، بعد أسقاط نظام الأسد في 8 ديسمبر/ كانون الأول من العام الفائت، حيث جرت مداولات في المنتديات العامة والخاصة بين النخب السورية، فالبلاد كانت بمسيس الحاجة إلى إطار قانوني يحكم المرحلة الانتقالية في ظل رفض عارم لدستور وضعه بشّار الأسد في عام 2012، مفصّلاً على مقاسه، حيث منحه سلطات مطلقة في حكم البلاد. وتنبع أهمية دستور 1950 وتميّزه من أنه الأول في تاريخ سورية الذي كتبته جمعية تأسيسية منتخبة بعد حوارات مكثفة، شارك فيها عدد من رجالات الاستقلال المشهود لهم بالكفاءة والوطنية، وكبار رجال القانون في ذلك العام البعيد. ورغم أن قائد الانقلاب الثالث في تاريخ سورية، أديب الشيشكلي، عطّل هذا الدستور بعد عام من إقراره، فإنه كان الضامن لمرحلتين انتقاليتين مرّت بهما سورية الأولى في 1954، عندما غادر الشيشكلي البلاد عقب انقلاب عليه، والثانية في 1961 بعد انفراط عقد الوحدة السورية المصرية. وبعد مرور 74 عاماً على كتابته حضر هذا الدستور مجدّداً في العام الحالي (2025)، إذ استوحت اللجنة التي شُكّلت بعد إسقاط نظام الأسد لوضع إعلان دستوري ناظم للمرحلة الانتقالية من روحه لكتابة مواد هذا الإعلان الذي دخل حيّز التنفيذ منتصف الشهر الماضي (مارس/ آذار).

وبدأت رحلة السوريين مع الدستور قبل أكثر من قرن مع ظهور بلادهم بحدودها الجغرافية والسياسية الحالية في 1920 الذي شهد كتابة أول دستور، سرعان ما انتهى العمل به بسبب دخول الفرنسيين الى البلاد محتلين واضعين حداً لنظام ملكي لم يدم سوى عدة أشهر بشكل دستوري. وفي عام 1928 كتبت الكتلة الوطنية التي فازت بأغلب مقاعد مجلس تأسيسي منتخب، دستوراً وسّع صلاحيات المجلس النيابي، إلا أنه تعرّض للتعديل من الفرنسيين في عام 1930. وبعد الاستقلال عن فرنسا في 1946، وجد الوطنيون السوريون أن البلاد بحاجة لدستور يضاهي أرقى الدساتير التي كان معمولاً بها في ذلك الزمان في العالم، فبدأ النقاش حول مسوّدة دستور في خريف 1949، إلى أن جرى إقراره في العام التالي. وبقيت البلاد من دون دستور دائم إلى 1974، حيث وضع نظام حافظ الأسد دستوراً، عزّز من سلطاته، وفرض هيمنته المطلقة على البلاد، وكرّس في مادته الثامنة حزب البعث قائداً للدولة والمجتمع، ما عطّل الحياة السياسية في البلاد بشكل كامل حتى ربيع 2011. ولا يزال مشهد تغيير سريع ومرتجل لإحدى مواد هذا الدستور مما كان يسمّى “مجلس الشعب” في منتصف عام 2000 للسماح لبشّار الأسد الذي لم يكن تجاوز الـ34 من عمره، حاضراً في الذاكرة السورية، فالعبث في الدستور آنذاك، وعدم احترام ما نصّ عليه، كان الدليل الأبرز على أن النظام كان يعتبره جزءاً من ديكور سياسي لا أكثر ولا أقل. حاول بشّار الأسد الالتفاف على الثورة التي خرجت ضد نظامه في عام 2011 من خلال كتابة دستور جديد، حذف منه المادة الثامنة التي كانت في دستور أبيه، في مناورة سياسية لم يخف عن السوريين الهدف الأبرز لها، لذا استمرّوا في طريقهم نحو تحرير البلاد من نظام مستبد لم يكن يكترث أصلا بالدستور الذي وضعه، حيث لم ينفّذ أياً من مواده الأساسية. 

إذن، عرفت سورية في تاريخها خمسة دساتير، واحد منها فقط كتبته لجنة منتخبة، وهو دستور 1950 الذي اعتبره أحمد القربي، وهو باحث سياسي كان عضواً في لجنة كتابة الإعلان الدستوري، “أفضل الدساتير في التاريخ السوري”. وقال لـ”سورية الجديدة” إن ذلك الدستور “لم يكن من أفضل دساتير العالم العربي بمعايير ذاك الزمان فحسب، بل من أفضل دساتير العالم في حينه”. وأضاف “كل الدساتير السابقة بما فيها دستور عام 1920 لم تكتبها جهة منتخبة ذات بعد تمثيلي واسع”. وبيّن القربي أن دستور عام 1950 “راعى حقوق الانسان، وركّز على التوازن بين السلطات، ومثّل كل أطياف الشعب السوري السياسية من إسلاميين وعلمانيين وليبراليين، وكان حصيلة توافق سياسي ومجتمعي بين عدة تيارات، ما أعطاه قيمة مضافة. لقد اجتمعت فيه الشرعية الشعبية والحرفة القانونية. ولذلك دائماً ما ترجع النخب السورية إليه عند كل استحقاق دستوري”.

وقال الباحث السياسي، رضوان زيادة، لـ”سورية الجديدة” إن دستور عام 1950 يعد من الدساتير الأكثر قبولاً لدى الشارع السوري لجهتي الشكل والمضمون. من حيث الشكل، وضعته جمعية تأسيسية منتخبة من الهيئات الناخبة يوم 5 نوفمبر: تشرين الثاني عام 1950 في اقتراع شاركت فيه المرأة السورية لأول مرة، وشكلت الجمعية لجنة لصياغة الدستور، تمثلت فيها مختلف القوى السياسية وغير السياسية في سورية. وبيّن أن اللجنة اطلعت على 15 دستوراً أوروبياً وآسيوياً، قبل كتابة المسودة التي خضعت للنقاش في الجمعية قبل إقرار الدستور بصيغته النهائية، مؤلفاً من 166 مادة، بعدما طويت 11 مادة. كما أن ذلك الدستور “حافظ على الطبيعة البرلمانية لنظام الحكم، وقلّص صلاحيات رئيس الجمهورية، وسحب حق نقض القوانين والمراسيم منه، وأمهله عشرة أيام فقط للتوقيع عليها”. وحافظ رئيس الجمهورية في ذلك الدستور على اختصاصه بالتصديق على المعاهدات الدولية، وتعيين البعثات الدبلوماسية في الخارج، وقبول البعثات الأجنبية، ومنح العفو الخاص، وتمثيل الدولة، ودعوة مجلس الوزراء للانعقاد برئاسته. كما بيّن زيادة أن دستور عام 1950 “رفع من درجة صلاحيات البرلمان، ومنعه من التنازل عن صلاحياته التشريعية للحكومة ولو مؤقتاً”، و”عزّز من سلطاته تجاه الحكومة، فألزمها بالاستقالة في بداية كل دور تشريعي، وعزّز أيضاً من سلطة القضاء باستحداث المحكمة الدستورية العليا”. وأشار زيادة إلى أن “مواد الحقوق العامة في دستور 1950 بلغت 28 مادة تتناول الحرّيات العامة، ومنها حصانة المنازل، وحرية الرأي والصحافة والاجتماع والتظاهر، والمحاكمة العادلة”. ومنع دستور عام 1950، كما أوضح زيادة، الاعتقال التعسفي، والتوقيف من دون محاكمة فترة طويلة، فضلاً عن أنه “حفظ حق الملكية، والمشاركة في الحياة الاقتصادية، وتأطير الملكية العامة للدولة، وحماية حقوق الفلاحين والعمال على وجه الخصوص، وجعل العمل حقاً لكل مواطن وجب تأمينه، إضافة إلى رعاية المواطنين المرضى والعجزة والمعوقين”. و”تناولت تلك المواد حقوق الطوائف الدينية باتباع شرائعها من جهة، وفي التعليم من جهة ثانية. ونص الدستور على كون التعليم حقاً لكل مواطن، إلزامياً ومجانياً، وأوجب على الدولة إلغاء الأمية خلال عشر سنوات”، وفق زيادة.

ومن المفترض أن يتخلل المرحلة الانتقالية التي دخلتها سورية أخيراً، والمتوقع أن تستمر نحو خمس سنوات، كتابة دستور دائم للبلاد، يُعرض على الاستفتاء العام، بعد إجراء إحصاء شامل لسكان البلاد.

وحول إمكانية الاستفادة من دستور عام 1950 في الدستور الذي ينتظره السوريون، قال محمد خالد الشاكر، أستاذ القانون الدولي، زميل كلية ساكرامنتو للسياسة المقارنة وأنظمة الحكم/ الولايات المتحدة، لـ”سورية الجديدة” إن من غير الممكن الاستناد بشكل كامل إلى دستور 1959 “بسبب فكرة محورية في بناء الدساتير مؤدّاها الارتباط البنيوي بين نوع النظام السياسي (برلماني أو رئاسي أو شبه رئاسي…) وآلية توزيع الصلاحيات والاختصاصات بين السلطات الدستورية الثلاثة التشريعية والتنفيذية والقضائية، التي تخضع لنوع النظام السياسي”.  وأوضح أن “دستور 1950 ينصّ على نظام برلماني، بانتخاب رئيس البلاد بشكل غير مباشر من البرلمان، على خلاف النظام الرئاسي المزمع والأنسب تطبيقه في الدستور السوري المقبل، والذي ينتخب فيه الرئيس من الشعب بشكل مباشر، وبالتالي تباين الصلاحيات والاختصاصات واختلافهما لكل سلطة على حدة”. وبيّن أن “من أهم محاسن دستور 1950 أنه جاء من رحم جمعية تأسيسية اتسق عملها مع نوع النظام السياسي كنظام برلماني، فأعطت صلاحيات واسعة للسلطة التشريعية، وبالتالي تقليص صلاحيات واختصاصات مؤسّسة الرئاسة (السلطة التنفيذية)”. وأوضح أنه “يمكن الاستفادة من دستور 1950 فهو دستور عصري تضمّن الآليات الكفيلة لفصل السلطات في إطار النظام البرلماني”، مضيفاً أنه ذكر كلمة الديمقراطية والسيادة الشعبية في الفصل الأول، ووضع آليات محكمة لضمان حقوق الأفراد وحرياتهم العامة، وبالتالي، يمكن القياس عليه في إطار المعايير العصرية لكتابة الدساتير. وتابع: يمكن الاستفادة من دستور 1950 عند التأسيس لدستور سوري عصري في إطار النظام الرئاسي المتوقّع اعتماده في سورية، فذلك الدستور كان واضحاً في تطبيق المبادئ العامة للدساتير، وفي مقدّمتها فصل السلطات في إطار النظام البرلماني، الذي سيختلف في التطبيق في النظام الرئاسي، من دون الإخلال بمبدأ التوازن بين السلطات، بما يضمن العدالة وسيادة القانون. وبيّن أن “دستور 1950 أكد استقلالية القضاء، وبالتالي ربط فكرة استقلالية القضاء بقوانين السلطة التشريعية، وفي ذلك تأكيدٌ على مبدأ السيادة الشعبية، وعزّز ذلك صلاحيات مجلس النواب في رفض مشاريع القوانين الصادرة عن الرئيس”. وأوضح الشاكر في معرض شرحه، أن دستور 1950 “عزّز فكرة المحاسبة بانتخاب سبعة من أعضاء المحكمة العليا المنوط بها الرقابة على دستورية القوانين من مجلس النواب”. مضيفاً: يمكن للدستور السوري القادم أن يستفيد من ذلك في إطار النظام الرئاسي كآليات دستورية. وفي المقابل، بيّن الشاكر مثالب دستور عام 1950، بقوله “إنه لم يأخذ بالظروف الموضوعية للمجتمع السوري، وهو ما أدى إلى هزات عنيفة عصفت بالدولة، وفي مقدمتها الانقلابات المتتالية بعد صدوره”. ورأى أن النظام الرئاسي “قد يكون الأنسب في الدستور السوري القادم لضمان وحدة البلاد”. وقال إن “دستور 1950 لم يستنسخ تجارب برلمانية جاهزة”. ودعا إلى تجاوز ما ورد في الإعلان الدستوري الذي أقرّ أخيراً في الدستور الدائم لجهة استنساخ النظام السياسي الأميركي، فقد طاولته انتقاداتٌ كثيرة، بسبب تبنّيه نظاماً فريداً من نوعه في العالم.

العربي الجديد

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى