منوعات

التكيّة السليمانية في دمشق التي ظُلمت بهذا الاسم/ محمد م. الأرناؤوط

13 أبريل 2025

أحسن الكاتب أوس يعقوب بإلقاء الضوء على التكية السليمانية في دمشق باعتبارها “من أبرز المعالم الأثرية التاريخية لدمشق وأهمّ الآثار العثمانية بالمدينة” في مقالته “التكية السليمانية تعود للدمشقيين بعد بزوغ فجر الحرية” (ضفة ثالثة، 30/3/2025). وعلى الرغم من العنوان الذي أوضح مكانة هذه المنشأة التاريخية بالنسبة إلى جيلين من الدمشقيين على الأقل، الذين كانوا يزورونها باعتبارها “المتحف الحربي” (1957-1974) أو باعتبارها “سوق المهن اليدوية” (1974-2023)، إلا أن المقال يتداخل فيه ما هو صوفي (الخانقاه) مع ما هو ديني/ ثقافي/ اجتماعي المتمثل بالإسهام العثماني الجديد (الكُليّة أو العِمارة) في الحضارة الإسلامية الذي ظهر في بلاد الشام بشكل واضح في القرن الأول للحكم العثماني، والذي اشتهر باسم “التكية” وهو ليس كذلك.

من الخانقاه إلى الكُليّة أو العِمارة

في مقالة الكاتب أوس يعقوب يظهر العنوان الجانبي “التكايا: النسخة المزدهرة من الطرق الصوفية” الذي يعود فيه إلى المُنشأة الأم (الخانقاه) التي برزت خلال العهد الزنكي- الأيوبي في بلاد الشام ومصر، ومن ذلك ما أنشأه صلاح الدين الأيوبي في القاهرة (الخانقاه الصلاحية) في القاهرة عام 1173م، على حين اختلط الأمر في العهد المملوكي (1250-1517) بين الخانقاه والرباط والزاوية والمدرسة.

وفي الواقع إن ما ميّز الدولة العثمانية في القرن الأول لها، الذي امتدت فيه إلى بلاد البلقان التي انتقلت إليها عاصمة الدولة في 1371م، هو بروز الإسهام العثماني الجديد المتمثل في المجمّع العمراني الجديد (الكُليّة أو العِمارة) الذي يضم ما هو ديني وثقافي واجتماعي. وهكذا فقد أصبحت المنشأة الجديدة تضم جامعًا ومدرسة وقسمًا للضيافة يضمّ مخبزًا وقاعة للطعام تقدّم وجبات يومية لأساتذة وطلاب المدرسة والعابرين الذين خُصّص لهم قسم للمبيت. وقد انتقلت هذه المنشأة الجديدة التي انتشرت شمالًا إلى بلغراد وسراييفو واشتهرت باسم “العِمارة” imaret باللغات البلقانية، ثم انتشرت في بلاد الشام خلال القرن الأول للحكم العثماني.

ولكن هذه المنشأة الجديدة كان لها دور أكبر في دمشق، التي أصبحت في القرن الأول للحكم العثماني مركزًا لانطلاقة قافلة الحج الشامي، بعد أن أصبحت تجمع الحجاج القادمين من آسيا الوسطى والأناضول ودول البلقان لينطلقوا في قافلة كبيرة، كما أصبحت موردًا مهمًا لازدهار دمشق الاقتصادي بسبب تجمع آلاف الحجاج فيها في الذهاب والإياب. وقد ارتبط هذا التطور العمراني الجديد بسلطانين (سليم الأول وسليمان القانوني) وواليين (أحمد باشا وسنان باشا).

وكان السلطان سليم الأول (1512-1520) بعد انتصاره في معركة مرج دابق وصل إلى دمشق في نهاية أيلول/ سبتمبر 1516 وصلّى في الجامع الأموي يوم الجمعة 4/10/1516 حيث أطلق عليه شيخ دمشق ابن الفرفور لقب “حامي الحرمين” ليضفي بذلك شأنًا عثمانيًا أكبر على الحج. وبعد عودته منتصرًا من مصر في 27/9/1517 زار قبر الشيخ محي الدين بن عربي في سفح قاسيون شمال دمشق وأمر ببناء جامع هناك، وبقي في دمشق حتى انتهى بناء هذا الجامع بسرعة كبيرة وصلّى فيه يوم الاثنين 5/2/1518. وبالاستناد إلى المؤرخ الدمشقي المعاصر للأحداث ابن طولون (توفي 1546م) فقد أمر السلطان سليم في 1/2/1518 ببناء “عِمارة” غير مألوفة مقابل الجامع كانت تحتوي على مطبخ ومخبز وقاعتين للطعام واحدة للرجال وواحدة للنساء، يقدّم كل يوم 400 وجبة للمحتاجين والعابرين.

وقد انتهى بناء هذه المنشأة الجديدة في 2019، وقد أطلق المؤرخ المعاصر ابن طولون اسم “التكية” في كتابة “القلائد الجوهرية في تاريخ الصالحية” الذي حقّقه محمد دهران ونشره في 1980. وقد ارتبط هذا الاسم الجديد الذي أطلقه ابن طولون في ذهن الدمشقيين بالمكان الذي يقدم الوجبات المجانية حتى شاع مع المثل الشعبي “فاتح بيته تكيّة”.

من “خانقاه” أحمد باشا إلى “تكيّة” السليمانية

حظيت دمشق في منتصف القرن السادس عشر بتعيين الشاعر العثماني أحمد شمسي باشا واليًا عليها خلال 1550-1554، والذي بنى أول مجمع عمراني داخل دمشق على النمط العثماني الجديد (جامع ومدرسة وقاعة طعام للوجبات المجانية). وقد نقل أحمد شمسي باشا بذلك التطور العمراني الجديد إلى داخل دمشق، وبالتحديد مقابل السور الجنوبي لقلعة دمشق في الشارع المسمى لاحقًا “سوق الحميدية”، وهو ما سيتابعه الوالي سنان باشا ليدفع دمشق باتجاه الجنوب لتكون منطلقًا لقافلة الحج الشامي.

والفارق هنا مع السلطان سليم الأول أن الوالي أحمد شمسي باشا قد بنى لتغطية نفقات هذه “الكُليّة” سوقًا (لا تزال موجودة باسم “سوق الأروام” التي تحرّفت إلى “سوق الأروان”) وخانًا (خان الجوخية) في “سوق الخياطين” المجاور. ولكن إذا كان ابن طولون قد أطلق اسم “التكيّة” على المنشأة التي بناها السلطان سليم الأول فإنّ المؤرخ الدمشقي المعاصر البوريني (توفي عام 1615) قد أطلق على هذه المنشأة اسم “الخانقاه” وتابعه في ذلك المؤرخ الدمشقي اللاحق ابن كنان (توفي عام 1740)، بينما أعاد محمد كرد علي تسمية هذه المنشأة العمرانية الجديدة باسم “التكيّة” في كتابه “خطط الشام” الذي صدر عام 1925.

وفي السنة التي انتهى بناء هذه المنشأة العثمانية الأولى من نوعها في دمشق (1544) بدأ المعمار سنان ببناء “الكُلية السليمانية” (كما تسمى في العثمانية) بأمر من السلطان سليمان القانوني خارج دمشق في جوار نهر بردى، التي اشتملت أولًا على جامع وعِمارة تقدّم الوجبات المجانية وأُضيفت لها لاحقًا المدرسة ليكتمل بذلك ما نراه إلى اليوم. ويلاحظ هنا أن هذه التكيّة صُمّمت وبنيت في الجهة الغربية خارج دمشق مع ساحة مجاورة لها لنصب الخيم لكي تكون محطة للذاهبين أو العائدين من الحج بالإضافة إلى الغرف الكثيرة المخصّصة للعابرين على مدار العام. إلا أن دمشق امتدت لاحقًا نحو الغرب في نهاية الحكم العثماني لتصل إلى التكيّة وتتجاوزها. أما بعد نهاية الحكم العثماني فقد اُستخدمت هذه المنشأة لأغراض شتى كما بيّن الكاتب أوس يعقوب إلى أن استقلت سورية في عام 1946 ورحّب الرئيس شكري القوتلي بقدوم المعارضين الألبانيين للحكم الشيوعي في بلادهم فنزلت أعداد منهم في “التكيّة السليمانية” خلال 1947-1950 كما تبيّن لنا العديد من الصور التي تكشف عن وجود مدني وعسكري مختلف، حيث أن بعضهم شارك في حرب فلسطين 1948.

جنوب دمشق: نقطة الافتراق إلى القدس ومكة

مع تزايد عدد القادمين إلى دمشق للحج اهتم الوالي العثماني الجديد سنان باشا (1586-1587) بأمر قافلة الحج الشامي فأسّس في جوار قرية القطيفة التي تقع على طريق الحج الشامي (40 كم إلى الشمال من دمشق) مجمّعًا عمرانيًا ضمّ جامعًا وحمامًا وعِمارة تقدم الوجبات المجانية للعابرين وسوقًا، وهو ما أدى إلى أن تتحول القطيفة إلى بلدة ثم مدينة.

أما في دمشق فقد بنى مجمّعًا عمرانيًا في جنوبها (مجمّع السنانية) يضم جامعًا وحمامًا ومدرسة وسوقًا، حيث أصبح الطريق إلى الحج يفترق من هناك: إلى القدس لمن يفضّل زيارتها قبل الحج أو إلى مكة مباشرة. فمن يرغب إلى القدس يذهب غربًا إلى داريا وبعدها جنوبًا إلى فلسطين، أما من يرغب إلى مكة فيذهب جنوبًا عبر الميدان إلى الحجاز مباشرة.

ونظرًا إلى هذا الافتراق بين الطريقين فقد اهتم سنان باشا بتعزيز الطريق الجديد إلى القدس وبنى مجمّعًا عمرانيًا قرب سعسع على نمط القطيفة (40 كم جنوب غرب دمشق) اشتمل على جامع وحمام وسوق وعِمارة تقدّم الوجبات المجانية للعابرين، وهو ما أدى إلى أن يتحول ذلك إلى نواة لبلدة ثم مدينة. ونظرًا لأن الوالي السابق لالا مصطفى باشا (1563-1567) بنى مجمعًا مشابهًا في القنيطرة، فقد قام سنان باشا لتعزيز الحركة في هذا الطريق إلى القدس ببناء مجمّع عمراني مشابه في شمال فلسطين (عين التجار قرب جبل طابور)، حيث يفترق هنا إلى طريقين: إلى القدس جنوبًا وإلى عكا غربًا. وقد بنى سنان باشا في عيون التجار مجمعًا عمرانيًا يشتمل على جامع وحمام وسوق وعِمارة تقدم الوجبات المجانية للعابرين بالإضافة إلى طاحونة و”بيت للقهوة” كان يُستخدم الدخل منها لتغطية تكاليف الخدمات المقدمة، وبذلك تكشف الوقفية المؤسسة لذلك عن واحدة من أقدم المقاهي في فلسطين. ولكن هذا المجمع العمراني لم يصمد طويلًا أمام هجمات البدو في المنطقة ولم يتحول كغيره إلى نواة بلدة بل إنه تحول إلى “خربة”.

ومع تقديري لما نشره الكاتب أوس يعقوب عن “التكيّة السليمانية” يبقى من المفيد أن تذكر هنا أنه خلال “سنوات العسل” بين سورية وتركيا (2005-2011) تبرعت تركيا بمبلغ 20 مليون دولار لترميم “التكيّة السليمانية”، وجاء رئيس الوزراء رجب طيب أردوغان في زيارة رسمية إلى سورية تضمنت زيارة خاصة بصحبة بشار الأسد إلى “التكيّة السليمانية” في 23/12/2009 بعد ترميمها وافتتاح معرض عن إنجازات معمار سنان في أرجاء الدولة العثمانية.

* مؤرخ سوري مقيم في الولايات المتحدة.

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى