منوعات

متاحف الغابات/ بلال خبيز

13 أبريل 2025

تنتشر على قنوات التواصل الاجتماعي فيديوهات طويلة تصور أشخاصًا وهم في خضم عملية بناء كوخ أو بيت في غابة مهجورة، بمواد من البيئة المحيطة بالكوخ، وأدوات يُصنع معظمها من جذوع الشجر أو النباتات.

عمال مهرة بطبيعة الحال، لكن الأمر لا يقتصر على مهاراتهم الحرفية، بل هم أيضًا قادرون على التعايش مع ظروف عيش بدائية. لذلك يقررون العيش في المشروع الذي يعملون على إنجازه كيفما أمكن. والمشاهد يراقب كل يوم تحسّن ظروف عيشهم تلك. فبعد أيام من العمل سيصبح بإمكان هذا العامل المتطوع أن يضع فراشه الرقيق على سرير من أعواد القصب، ولا يلبث بعد أيام أخرى أن يصنع مدفأة من التراب والأحجار العذراء، ويقيم وليمة شواء لنفسه على مدخل الكوخ.

ما أن ينجز العمل ويصبح العامل راضيًا عنه، أو تتوقف قدرته على تحويل ما هو طبيعي وبري إلى مألوف ومصنوع في المحيط الذي يبني فيه كوخه، حتى يحمل حقيبته على ظهره ويغادر المنطقة نحو مكان سكناه الأصلي، المتحضر، بحثًا عن مشروع بناء جديد.

متعة المشاهد وهو يراقب سير العمل في بناء الكوخ، وتحويله من لا مكان إلى مكان يمكن العيش فيه، تكمن في علاقتنا بالتقدم الصناعي والعلمي والتقني: نحن لا نستطيع العيش في أماكن غير معدة لعيشنا. قد نصمد بضعة أيام في العراء، لكننا بتنا كائنات غير قادرة على التعايش مع الطبيعة الأم. قد نستطيع أن نتفهم قدرة كائن بشري على أن يعيش من دون كهرباء وماء. لكننا لن نجرؤ على تخيل عيشه من دون مأوى مأمون ومعتنى جيدًا بمخارجه ومداخله، وما يمكنه دخوله والخروج منه. وأيضًا، نحن لا نستطيع أن نتخيل كائنًا قادرًا على الصمود من خلال تناول الأعشاب والأثمار وتقطيع اللحوم النيئة ومضغها. هكذا يلجأ كثيرون من هؤلاء إلى المباشرة بزراعة بعض النباتات القابلة للأكل والمعالجة ما إن يستقر بهم المقام في الغابة.

مع ذلك ثمة مفارقة تطل برأسها من خلف هذا النشاط المبدع. ما الذي يدفع هؤلاء إلى بناء بيوت ومساكن وأكواخ في هذه المجاهل وهجرانها بعد الانتهاء من بنائها؟ وكيف يمكننا أن نفهم هذا الجهد الذي يبدو بلا طائل؟ ولماذا يموّل المشاهدون مثل هذه النشاطات؟

الإجابة على السؤال الأخير قد تكون الأبسط. المشاهدون يمولون ما يسمن وما لا يسمن. يمولون الفيديوهات التي تضعهم في موقع الحكم والسلطان، والتي تنتشر عن طريق الخداع أو الإثارة. ويمولون الفيديوهات التي تخبرهم أن حكوماتهم على وشك السقوط، وأن أقرانهم من المواطنين الذين يشاركونهم في المدينة والمحافظة والوطن يموتون بالجملة في حرب تشنها عليهم دولة معادية.

مثلما يمولون الفيديوهات التي تدعي أنها تعلمهم الطبخ، أو تلك التي يقوم فيها بعض الأشخاص بتذوق أطعمة من مطاعم مجهولة في مدن غريبة، ووصف طعمها للمشاهدين. وهو وصف يقتصر غالبًا على همهمة المتلذذ بالطعم أو تكشيرة المنزعج منه. والحال ليس مستغربًا، بل يمكن القول إن تمويل فيديوهات هؤلاء المهرة يبدو منطقيًا وواجبًا.

أما محاولة الإجابة عن جدوى هذا النشاط ودوافعه فتبدو مهمة شائكة بعض الشيء. لهذا أجرؤ على اقتراح إجابة مما أعرفه.

أرجح أن هذه الفيديوهات المنتشرة على وسائل التواصل هي فنون اليوم. لأنها في الواقع تحمل كل صفات الفنون وخصائصها. الفن عمل لا يستقيم من دون مهارة، أكان الفنان مغنيًا أم شاعرًا أم رسامًا. هؤلاء ينحتون مسكنًا لا يوازي مساكننا التي نعيش فيها من حيث تجهيزاته، مثلما يفترض ألا توازي لوحة الموناليزا المرأة التي أوحت بصورتها. اللوحة حبر وزيت وقماش، والمرأة لحم ودم وعظام، وذكريات ومعاناة. وتحمل في ثيابها التي ترتديها كل خصائص اللوحة المذكورة. لكن وظيفة الموناليزا اللوحة كانت في الأصل على ما أرجح، الإيحاء بحال من أحوال البشر ومحاولة التذكير بها. وهذا ما تفعله بالتحديد تلك الأكواخ المبنية في الغابات. تلك الأبواب البدائية المصنوعة من حواضر الغابة، تكون أجمل كلما اقتربت في دقتها وصلابتها ومرونة حركة الفتح والإقفال من الأبواب التي تصنعها شركات كبرى. وهذه المواقد البدائية تكون أجمل وأمتع حين تراعي كل متطلبات الأمان التي توفرها شركات التدفئة والتهوية التي تصنع مواقدنا في بيوتنا الحديثة. في الخلاصة يمكن القول إن هذه الأكواخ مساكن، لكن المساكن الحقيقية هي تلك التي نسكنها في مدننا التي تنعم بشبكات كهرباء وماء مستقرة. أما تلك الموجودة في الغابات فليست أكثر من صور غير مكتملة عن بيوتنا.

أما لماذا يبذل هؤلاء الناس هذا الجهد ويتركونه مهجورًا في العراء؟ فهذا أيضًا يختص بالفنون أيضًا. ألم يتساءل كارل ماركس، من دون أن يحير جوابًا، عن السبب الذي يدفع أيًّا كان لدفع مبالغ مالية لشخص يغني؟ ما السلعة التي ينتجها؟ ما هو دوره في عجلة الإنتاج؟ مع ذلك يحدث أن المغنين في أرجاء العالم يتقاضون مبالغ مالية تفوق قدراتنا على التخيل لأنهم يقومون بالوظيفة التي لا طائل منها. إنهم فنانون. وظيفتهم أن يصنعوا ما لا يمكن استهلاكه. وأعمالهم تحفظ في المتاحف. هذه أبنية يمكن أن يأوي كل بناء منها آلاف المشردين، لكنها عوضًا عن ذلك تأوي لوحات وتسورها بزجاج عازل وتوظف أشخاصًا لحمايتها وحراستها وصيانتها من كل ما قد يتلفها.

مع مثل هذه الأعمال التي تزخر بها وسائط التواصل الاجتماعي، يمكن القول إن هذه الوسائط أتمت بناء أركان مجتمعها المتكامل: ها هي تعمل في السياسة وصناعتها، وفي الإعلام ووظيفته، وفي التدريس والتعليم والإمتاع والإثارة وفي الفنون أيضًا. والعالم على الأرجح سيجد نفسه قريبًا محاطًا بعدد لا يحصى من الأنصاب المجهولة الوظيفة في الغابات والشوارع والساحات العامة، والتي لو قيض لكائن من خارج هذا العالم أن يراقبها ويفكر في أسباب بنائها لما استطاع أن يفك لغز إصرار البشر على بذل هذه الجهود إلا باختبار الفنون.

ضفة ثالثة

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى