أبحاثالإعلان الدستوري لسوريا 2025سقوط بشار الأسد، الرئيس الفار والمخلوعسياسةمن ذاكرة صفحات سورية

ملف يتناول “العدالة الانتقالية” المفهوم، المنطلبات، الشروط المادية، تجارب الشعوب، وعن شروط تطبيقها في سوريا. إعداد موقعنا “صفحات سورية”

تحديث 17 نيسان 2025

لبناء سوريا الجديدة.. الشبكة السورية تدعو لتأسيس هيئة عدالة انتقالية مستقلة

2025.04.17

أصدرت الشبكة السورية لحقوق الإنسان تقريراً مفصلاً يستعرض رؤيتها لتحقيق العدالة الانتقالية في سوريا، وذلك في ضوء التغير السياسي الجذري الذي شهدته البلاد عقب سقوط نظام الأسد في 8 كانون الأول/ ديسمبر 2024.

وأوضح التقرير أن المرحلة الانتقالية الراهنة تشكل منعطفاً تاريخياً يقتضي الانتقال نحو مرحلة جديدة تعالج الإرث الثقيل من الانتهاكات الجسيمة لحقوق الإنسان، وترسخ مبادئ العدالة والسلام الأهلي. وفي هذا السياق، تُعد العدالة الانتقالية المنهج الأمثل لتحقيق تعافٍ شامل من آثار النزاع، وبناء أسس راسخة لدولة تقوم على سيادة القانون، واحترام حقوق الإنسان، وتعزيز المصالحة الوطنية، بما يضمن استقراراً دائماً.

وأشار التقرير إلى أن الشبكة السورية لحقوق الإنسان عملت على توثيق الانتهاكات بشكل يومي ومنهجي منذ عام 2011 وحتى الآن، وقامت بإنشاء قاعدة بيانات شاملة تحتوي على ملايين الوقائع، وأصدرت أكثر من 1800 تقرير وبيان غطَّت كافة مراحل النزاع. وقد وثَّقت هذه التقارير أبرز الخسائر البشرية والمادية التي خلفت آثاراً عميقة على المجتمع والدولة السورية خلال 14 عاماً، بما في ذلك القتل خارج نطاق القانون، والإخفاء القسري، والوفيات من جراء التعذيب، واستخدام الأسلحة المُدمِّرة، والتشريد القسري.

وأكد التقرير أن الخطوة الأولى لتحقيق العدالة الانتقالية تتمثل في تشكيل هيئة وطنية متخصصة، تتمتع بالكفاءة والنزاهة والخبرة، وتضم شخصيات مستقلة تمثل مختلف أطياف المجتمع السوري. وشدد التقرير على أهمية الملكية الوطنية والمشاركة المجتمعية، مؤكداً أن العدالة الانتقالية هي الركيزة الأساسية لعملية الانتقال السياسي.

إنشاء هيئة العدالة الانتقالية

الإطار القانوني لتشكيل هيئة وطنية للعدالة الانتقالية:

● يقوم المجلس التشريعي، الذي سيُشكَّل عقب الإعلان الدستوري، بإعداد قانون تأسيسي يُحدِّد مسار العدالة الانتقالية.

● يستند القانون التأسيسي إلى التشريعات الوطنية ذات الصلة ويتوافق مع المعايير الدولية لحقوق الإنسان، مما يعزز مصداقية الهيئة ويكسبها شرعية وطنية ودولية.

● يتضمن القانون عدة فصول تنظِّم هيكلية الهيئة، واختصاصاتها، وآليات عملها، ومعايير اختيار أعضائها، وأساليب تعاونها مع المؤسسات القضائية والرسمية، وآليات تقديم التقارير، وتحقيق مبادئ الشفافية والمساءلة.

تتوزع الفصول الرئيسة التي يجب أن يشملها القانون على النحو التالي:

الفصل الأول: التعريفات والمبادئ العامة

الفصل الثاني: هيكلية الهيئة الوطنية للعدالة الانتقالية

الفصل الثالث: آليات العدالة الانتقالية

الفصل الرابع: الإطار القانوني والتنظيمي لإصلاح المؤسسات

وأشار التقرير إلى أن فصول القانون التأسيسي قد تخضع للتعديل والتطوير وفق المتغيرات والظروف المستجدة في المشهد السوري.

وأكد التقرير على أهمية استقلالية الهيئة الوطنية للعدالة الانتقالية استقلالاً كاملاً عن السلطة التنفيذية، مع ضرورة عملها في ظل نظام قضائي مستقل ومحايد، وذلك على النحو التالي:

● ينص القانون على استقلال الهيئة عن وزارة العدل، باعتبارها جزءاً من السلطة التنفيذية.

● تعمل الهيئة في إطار النظام القضائي السوري، الذي يُفترض أن يكون مستقلاً تماماً عن السلطة التنفيذية.

● تتولى الهيئة مهام الكشف عن الحقيقة، وتوثيق الانتهاكات، وتعويض الضحايا، وتسهم مع السلطة القضائية في تشكيل محكمة خاصة لمحاسبة مرتكبي جرائم الحرب والجرائم الجسيمة، بحيث تكون هذه المحكمة جزءاً من النظام القضائي الوطني.

● يُعد استقلال القضاء شرطاً أساسياً لتحقيق العدالة الانتقالية، ويجب تضمين ضمانات دستورية واضحة تؤكد استقلال القضاء عن السلطة التنفيذية.

● تكون المحكمة الدستورية ومجلس القضاء الأعلى على رأس النظام القضائي، الذي يتولى بدوره إنشاء المحكمة الخاصة بقضايا العدالة الانتقالية، وصياغة القانون الجنائي الذي يختص بمحاكمة جرائم الحرب والجرائم ضد الإنسانية.

أركان العدالة الانتقالية في سوريا

يقول فضل عبد الغني مدير الشبكة السورية لحقوق الإنسان: “لضمان نجاح عملية العدالة الانتقالية في سوريا، من الضروري أن تعمل جميع آليات العدالة الانتقالية، بما في ذلك المساءلة الجنائية، وكشف الحقيقة وتقصي الحقائق، وجبر الضرر والتعويض، والإصلاحات المؤسسية، بصورة متوازية ومتكاملة تحت إدارة موحدة ضمن إطار هيئة العدالة الانتقالية. يتيح هذا النهج الشامل معالجة جميع أوجه الانتهاكات بشكل منسق، مما يعزز فعاليتها واستجابتها لاحتياجات الضحايا والمجتمع السوري ككل”.

وفي ضوء ذلك، حدّد التقرير أربعة أركان أساسية لتحقيق العدالة الانتقالية في سوريا، وهي:

● المحاسبة الجنائية

● كشف الحقيقة والمصالحة

● جبر الضرر والتعويض وتخليد الذكرى

● إصلاح المؤسسات (القضاء، والأمن، والجيش)

أ. المحاسبة الجنائية

على مدار 14 عاماً، قامت الشبكة السورية لحقوق الإنسان بالتوثيق اليومي الدقيق لانتهاكات نظام الأسد المخلوع، وأنشأت قاعدة بيانات شاملة تضم ملايين الوقائع الموثقة لمختلف أطراف النزاع. كما حددت الشبكة هوية الأفراد المتورطين في هذه الانتهاكات، وتمكنت من جمع قائمة موسعة تضم أسماء نحو 16,200 متورط، بينهم:

    6,724 فرداً من القوات الرسمية، التي تشمل الجيش وأجهزة الأمن.

    9,476 فرداً من القوات الرديفة، التي تضم ميليشيات ومجموعات مساندة قاتلت إلى جانب القوات الرسمية.

ونظراً للتحديات الكبيرة التي تواجه جهود المساءلة والمحاسبة، أكَّد التقرير على ضرورة التركيز على محاسبة القيادات العليا من الصفين الأول والثاني في الجيش وأجهزة الأمن التابعة للنظام السابق، والذين تورطوا بشكل مباشر في ارتكاب الانتهاكات الجسيمة لحقوق الإنسان خلال الفترة الممتدة من آذار/مارس 2011 وحتى كانون الأول/ديسمبر 2024.

الإطار القانوني للمحاسبة الجنائية

شدد التقرير على أهمية وضع إطار قانوني واضح ومحدد للمحاسبة الجنائية، يتضمن:

● تشكيل هيئة العدالة الانتقالية لجاناً قانونية مختصة تضم خبراء محليين ودوليين لوضع هذا الإطار القانوني.

● قيام هذه اللجان بمهمة مراجعة وإصلاح القوانين المحلية الحالية، وخاصة تلك التي وُضعت لحماية النظام وأركانه أو التي تتعارض مع المعايير الدولية لحقوق الإنسان.

● صياغة قوانين وتشريعات جديدة تتوافق مع المعايير الدولية لحقوق الإنسان، وتتكامل مع مبادئ وأحكام القانون الدولي.

● التأكيد على ضرورة الانضمام إلى المحكمة الجنائية الدولية أو قبول اختصاصها بشكل واضح في الإطار القانوني.

تقصي الحقائق

لضمان فعالية المحاسبة الجنائية، أشار التقرير إلى أهمية الاعتماد على لجان تقصي الحقائق التي تؤدي دوراً محورياً في جمع الأدلة الجنائية والوثائق اللازمة وتقديمها إلى المحاكم المختصة بقضايا العدالة الانتقالية، مع التركيز على استرداد الأدلة والوثائق المخزنة في المؤسسات الأمنية والعسكرية والمدنية، مثل:

● الفروع الأمنية ومراكز الاحتجاز والسجون

● دوائر السجل المدني

● المستشفيات العسكرية والمدنية

● المحاكم والدوائر القضائية

● المنشآت والمؤسسات المسؤولة عن سجلات الملكية والعقارات

● مراكز رعاية الأيتام

إنشاء محاكم مختلطة متخصصة في جرائم الحرب والجرائم ضد الإنسانية (محاكم وطنية بدعم من الخبرات الدولية)

أوضح التقرير أن المحاكم المختلطة تمثل خياراً عملياً وفعالاً في الحالة السورية، بالنظر إلى التحديات التي يعاني منها النظام القضائي الوطني، كضعف الموارد وإرث الفساد المترسخ من العهد السابق. وتقدم هذه المحاكم نموذجاً يجمع بين العناصر الوطنية والدولية في تشكيلها وفي أطرها القانونية والتنظيمية، مما يضمن الحفاظ على سيادة الدولة والملكية الوطنية لعملية المحاسبة، مع التزام كامل بالمعايير الدولية لحقوق الإنسان.

وأكد التقرير أيضاً أهمية الاستفادة من الآليات الدولية المتاحة لمحاكمة مجرمي الحرب الذين فرّوا خارج البلاد، بما في ذلك استخدام مبدأ الولاية القضائية العالمية، وتفعيل الاتفاقيات الثنائية والإقليمية لتسليم المطلوبين إلى الجهات القضائية المختصة.

ب. الحقيقة والمصالحة

أكّد التقرير أهمية إنشاء لجان متخصصة لكشف الحقيقة، تتولى مهام توثيق الانتهاكات وتحديد مرتكبيها ودعم جهود العدالة والمساءلة، بهدف ترسيخ أسس المصالحة الوطنية. ويتم ذلك عبر:

● اعتماد منهج يركز على الضحايا عبر توثيق شهاداتهم ورواياتهم، بما يسهم في صياغة ذاكرة وطنية مشتركة حول الانتهاكات.

● جمع شهادات المتورطين بالانتهاكات بهدف فهم البنية التنظيمية لهذه الجرائم، والكشف عن تفاصيل وآليات تنفيذها.

● تحديد مصير المفقودين كخطوة جوهرية في عملية كشف الحقيقة، وإعادة الكرامة للضحايا والتخفيف من معاناة ذويهم.

دور لجان الحقيقة في تحقيق المصالحة

وفقاً للتقرير، تؤدي لجان الحقيقة دوراً محورياً في تحقيق مستوى من العدالة المحلية من خلال معالجة المظالم وتسهيل المصالحة من دون الاعتماد الكامل على النظام القضائي الرسمي. يتم ذلك عبر تشكيل مجالس عُرفية ولجان مصالحة في مختلف المحافظات السورية، تضم وجهاء المجتمع من شخصيات قيادية، ووجهاء عشائريين، ورجال دين، مع الاستفادة من تجارب المجتمع السوري التي طوّرت على مدى السنوات الماضية آليات الصلح العشائري، والتي تشمل حلولاً تقوم على الصفح، أو التسامح بموجب اتفاقيات تراضٍ، أو دفع الدية، أو الاعترافات العلنية كبديل للعقوبات التقليدية.

ت. جبر الضرر والتعويض وتخليد الذكرى

أكد التقرير على أهمية إعداد وتنفيذ برامج شاملة لجبر الضرر والتعويض، تتضمن تقديم الدعم المادي والمعنوي للضحايا، وضمان إعادة إدماجهم بشكل فعّال في المجتمع، وذلك من خلال لجان متخصصة تتولى المهام التالية:

● تحديد الفئات التي يشملها برنامج التعويض.

● تحديد طبيعة الأضرار التي يمكن التعويض عنها، سواء كانت اقتصادية أو جسدية أو نفسية.

● تصميم هيكل متكامل للتعويضات يشمل التعويضات الفردية، والتعويضات الموجهة للمجتمعات المتضررة، والتعويضات المقدمة على شكل خدمات، إضافة إلى جبر الضرر المعنوي.

● وضع آلية واضحة لتوزيع التعويضات مع تحديد إطار زمني مُلزم لإنجاز هذه العملية.

التعويض المادي

أشار التقرير إلى أن التعويض المادي لا يقتصر على المنح المالية المباشرة فقط، بل يمكن أن يشمل أيضاً منح الضحايا خدمات تفضيلية في مجالات الصحة والتعليم وغيرها، وإعادة حقوق الملكية وتمويل مشاريع الإسكان وتأهيل البنية التحتية، ودعم التأهيل الاقتصادي الفردي والجماعي، إضافةً إلى إنشاء برامج لتعويض خسائر الدخل.

جبر الضرر المعنوي وتخليد الذكرى

سلّط التقرير الضوء على أهمية تقديم مختلف أشكال الدعم المعنوي للضحايا، بما في ذلك برامج إعادة التأهيل النفسي والاجتماعي، والدعم القانوني. ومن الممكن تقديم تعويضات رمزية كاعتراف علني بالتضحيات التي قدّمها الضحايا، وتقديم الاعتذارات العلنية من قِبل مرتكبي الجرائم.

وأوضح التقرير أن طرق تخليد ذكرى الضحايا تشمل إقامة النصب التذكارية، وتخصيص أيام وطنية لإحياء الذكرى، وإنشاء المتاحف والمراكز الأرشيفية التي توثّق الانتهاكات، وإطلاق أسماء الضحايا على الأماكن العامة، وإدماج إرث الثورة والانتهاكات في مناهج التعليم الوطنية، إلى جانب الاعتراف الرسمي بالتضحيات التي قدمها الشعب السوري، وتقديم الاعتذارات العلنية من الأطراف المسؤولة.

ث. إصلاح المؤسسات

أكد التقرير أنَّ إصلاح مؤسسات الدولة كافة يُعد ضرورةً ملحَّة نظراً لما شهدته من فساد وتدهور خلال عهد النظام السابق، لكنه شدَّد على منح الأولوية في المرحلة الانتقالية للمؤسسات القضائية والأمنية والعسكرية، كونها الأكثر تورطاً في الانتهاكات الجسيمة التي استهدفت الشعب السوري خلال سنوات النزاع.

    إصلاح المؤسسة القضائية

اعتبر التقرير أنَّ إصلاح القضاء يمثل أولويةً أساسية في المرحلة الانتقالية، بهدف تعزيز آليات المساءلة، والحد من الإفلات من العقاب، وترسيخ الاستقرار السياسي والاجتماعي.

وقد قدّم التقرير خريطة طريق تفصيلية لإصلاح المؤسسة القضائية، من أبرز محاورها:

● إعادة هيكلة مجلس القضاء الأعلى والقوانين الناظمة لاستقلال القضاء.

● إلغاء المحاكم الاستثنائية ودمجها في إطار القضاء العادي.

● تعزيز الشفافية في آليات تعيين وترقية القضاة، وتحسين ظروفهم المعيشية.

كذلك، أبرز التقرير الدور المهم الذي يمكن أن يلعبه المجتمع المدني والجهات الدولية في دعم عملية الإصلاح القضائي، من خلال تقديم الدعم الفني والقانوني، وتنفيذ برامج التدريب المتخصصة، وتفعيل دور النقابات المستقلة وجمعيات القضاة، والاستعانة بخبرات قانونية دولية متخصصة.

    إصلاح القطاع الأمني

وضع التقرير إطاراً متكاملاً للإصلاح الأمني في سوريا المستقبل، يرتكز على المحاور التالية:

● إعادة هيكلة الأجهزة الأمنية وتحديد مهامها وصلاحياتها بشكل واضح.

● إصلاح العقيدة الأمنية بما يضمن حماية المواطنين واحترام حقوق الإنسان.

● تطوير نظام واضح للتجنيد والتوظيف ضمن الأجهزة الأمنية.

● تعزيز مبادئ الشفافية وآليات المساءلة والرقابة الداخلية.

ولفت التقرير إلى وجود تحديات كبيرة في عملية إصلاح القطاع الأمني، أهمها:

● المقاومة السياسية والطائفية الناتجة عن صعوبة تفكيك الولاءات المتجذرة داخل الأجهزة الأمنية.

● المقاومة الداخلية التي يبديها بعض أفراد الأجهزة الأمنية خوفاً من فقدان نفوذهم أو امتيازاتهم.

● القيود الاقتصادية المرتبطة بصعوبة توفير الموارد المالية اللازمة لتحسين ظروف العاملين في القطاع الأمني من دون التأثير سلباً على القطاعات الحيوية الأخرى، كالتعليم والصحة.

    إصلاح المؤسسة العسكرية

أشار التقرير إلى أنَّ عملية إصلاح المؤسسة العسكرية السورية في مرحلة ما بعد سقوط الأسد وتفكك الجيش السابق، هي عملية طويلة ومعقدة، لكنها تظل ضرورةً حتمية لاستعادة الاستقرار وبناء دولة قوية ومتماسكة، واستعادة الثقة بين المواطنين والقوات المسلحة.

تتطلب هذه العملية إجراءات أساسية تشمل:

● نزع سلاح المجموعات المسلحة كافة.

● تفكيك الهياكل العسكرية الموازية ودمج جميع الفصائل ضمن جيش وطني موحد.

● إعادة هيكلة المؤسسة العسكرية على نحو يضمن عدم تكرار الانتهاكات السابقة.

خطوات إصلاح المؤسسة العسكرية

وفقاً للتقرير، يتطلب إصلاح المؤسسة العسكرية اعتماد خطة شاملة تتضمن المحاور التالية:

● توفير إطار سياسي وقانوني من خلال سن التشريعات الضرورية لعملية الدمج والمساءلة، بما يتوافق مع القانون الدولي.

● إحصاء وتقييم الفصائل المسلحة.

● تسريح العناصر غير المؤهلة وإعادة إدماجهم في الحياة المدنية.

● إعادة توزيع القوى البشرية بشكل متوازن.

● توفير برامج التدريب وإعادة التأهيل.

● إنشاء هيكل تنظيمي جديد يعكس التنوع المجتمعي ويعزز الهوية الوطنية.

● توفير التسليح والتجهيز اللازم للجيش وفق معايير واضحة.

● إنشاء هيئة مدنية مستقلة للإشراف والمحاسبة ومراقبة عملية الإصلاح وضمان الشفافية، إضافة إلى تشكيل محاكم عسكرية متخصصة لمحاسبة الأفراد المتورطين في الانتهاكات.

خاتمة: نحو مستقبل سوري قائم على العدالة والكرامة

خلص التقرير إلى أنَّ هذه الرؤية التي تقدّمها الشبكة السورية لحقوق الإنسان تمثّل خريطة طريق نحو بناء سوريا الجديدة، وأنَّ الالتزام بمسار العدالة الانتقالية يُعد ضرورة وطنية لضمان عدم تكرار مأساة الماضي، وتحقيق الاستقرار الدائم الذي يطمح إليه السوريون بعد عقود من الاستبداد والنزاع المدمر.

وشدَّد التقرير على أن نجاح هذه الرؤية يتطلب التزاماً جماعياً من جميع الأطراف المعنية، بما في ذلك الضحايا والناجون، مؤسسات الدولة، منظمات المجتمع المدني، والمجتمع الدولي. فليس بمقدور أي طرف بمفرده أن يحقق العدالة الانتقالية، كما أنه لا يمكن لأي ركن من أركانها الأربعة (المحاسبة الجنائية، كشف الحقيقة، التعويض وجبر الضرر، وإصلاح المؤسسات) أن يحقق الفعالية المنشودة بمعزل عن بقية الأركان.

وأكد التقرير أخيراً على أن العدالة الانتقالية ليست نهاية الطريق، بل هي بداية مسار طويل نحو التعافي الوطني الشامل وإعادة بناء سوريا التي يستحقها كل السوريين؛ سوريا الحرية والكرامة، دولة القانون والعدالة.

———————————–

مهام العدالة الانتقالية وشروطها المادية في سوريا/ عبد الحي سيد

العدالة لكل السوريين قبل أن ينفد الوقت  

15-04-2025

        بعد أن سقط الأبد، وتحرر البلد من طغيان الأسد، لا يوجد أي وقت يمكن إضاعته اليوم في سورية لإحلال عدالة انتقالية لكل السوريين. ففي اللحظة التي بدأ فيها البلد بالكاد يخرج من فترة طغت عليها أكثر من خمسين سنة من الاستبداد، تأتي الأحداث المأساوية التي شهدتها جبال الساحل في مطلع آذار (مارس) 2025 لتُذكّر بقسوة، وبشكل لا لبس فيه، إلى أي مدى يمكن لخطابات الكراهية أن تعيد، في غضون أيام معدودة فقط، إنتاج فظائع جماعية بحق المدنيين، في وقت لم يبدأ فيه السوريون بعد حتى أولى خطوات الترميم والشفاء بالعدالة.

        في السادس من آذار (مارس) 2025 شنَّ عناصر سابقون في قوات بشار الأسد هجوماً مُنسَّقاً استهدف عدداً من الحواجز والمواقع، وأسفر عن خسائر كبيرة في صفوف قوى الأمن التابعة للسلطات الجديدة. شارك في هذا الهجوم أفراد من الفرقة الرابعة في جيش النظام السابق وتشكيلات أخرى، جميعها متّهمة بارتكاب انتهاكات جسيمة بحق المدنيين طيلة عقدين من حكم الأسد. وفي ردّ فعل سريع على هذا الهجوم، أطلقت السلطات الجديدة عملية مضادة شاركت فيها جميع التشكيلات الأمنية والعسكرية التابعة لها، بما في ذلك ألوية اشتهرت سابقاً بتجاوزاتها وافتقارها للانضباط.

        في هذا المناخ المشحون بالتوتر، تم إعلان نفير عام واندلعت موجات تحريض واسعة استهدفت قرى الساحل السوري، سواء عبر بعض المنابر الدينية أو من خلال وسائل التواصل الاجتماعي. ولم تمضِ سوى ساعات قليلة حتى أسفر هذا التحريض عن مجازر طالت أسراً بأكملها في قرى ذات غالبية علوية، حيث وقعت إعدامات جماعية مروعة. وقد تفاوتت تقديرات عدد الضحايا، بحسب ما جاء في مذكرة موجزة صادرة عن منظمة العفو الدولية بتاريخ 3 نيسان (أبريل) 2025. وإزاء فداحة المأساة، أعلنت السلطات السورية الجديدة في 9 آذار (مارس) عن تشكيل لجنة وطنية مستقلة للتحقيق، وكلَّفتها بإعداد تقرير مفصل خلال شهر واحد من تاريخ إنشائها. وبتاريخ 10 نيسان (أبريل) 2025 تم تمديد عملها بقرار رئاسي لمدة ثلاثة أشهر أخرى غير قابلة للتمديد. وقد باشرت اللجنة الوطنية المستقلة مهامها على الفور، وبدأت بالتنسيق مع لجنة التحقيق التابعة للأمم المتحدة المعنية بسورية، التي كان مجلس حقوق الإنسان قد أنشأها عام 2011. ومع ذلك، واصلت منظمات حقوق الإنسان الإبلاغ عن انتهاكات يومية تُرتكب بحق المدنيين في قرى الساحل، في ظل أجواء يسودها الخوف والرعب، وبعد أن جرى تسريح عشرات الآلاف من الموظفين الحكوميين في تلك المناطق من وظائفهم.

        إن سرعة تحوّل خطاب الكراهية إلى جريمة جماعية ضد المدنيين تُعيد إلى الأذهان بشكل مأساوي التحريضات التي سبقت أو رافقت مجازر حماة عام 1982، والحولة عام 2012، والبيضا ورأس النبع (بانياس) عام 2013، وحي التضامن، فضلاً عن مئات المجازر الأخرى التي ارتكبتها قوات الأسد خلال الحرب.

        لذلك، يصعب فصل هذه الأحداث عن حقيقة أنّ سورية كانت، طيلة عقود، أرضاً للإفلات من العقاب، حتى بات هذا الإفلات سمة تكوينية لهويات قاتلة وشرعيات سياسية، ما أفرز شعوراً عميقاً بالمظلومية المتبادلة بين مختلف الأطراف.

        حين يغيب القانون عن واقع اجتماعي، تترسّخ المظلومية. والمظلومية هنا تتغذى من خوف جماعي من الآخر، وشعور مستمر بالاستهداف كضحية، ورغبة دائمة في الانتقام باعتباره شكلاً من أشكال ردِّ الاعتبار.

        لطالما غذّى نظام الأسد في نفوس المواطنين العلويين شعوراً بالتهديد والخوف من الآخر. كان تاريخ الجبال الساحلية الاجتماعي والاقتصادي معقداً ومؤلماً، كما هو حال تاريخ العديد من المناطق السورية. لم تُتِح السلطات السورية للسوريين فرصة معرفة تاريخهم بحلوه ومره أو الحديث عنه في الجامعات أو المدارس بشكل هادئ على مدى عقود، بل اعتُبِرَ أي حديث فيه من التابوهات.

        ثم جاء توحّش نظام الأسد، الذي بلغ ذروته خلال السنوات الأربع عشرة الماضية، مستهدفاً الإنسان والعمران على حدّ سواء، ما زادَ من مشاعر الغضب واليأس، وأجّجَ شعوراً عميقاً بالمظلومية لدى فئة عريضة من السوريين باتت تُعرِّف نفسها اليوم بأنها «أهل السنة والجماعة» – لا بوصفها وسطاً اجتماعياً واسعاً يكتنفه الإسلام الوسطي والمتسامح، بل كجماعة يلفُّها الشعور بالغبن وتسكنها رغبة في الاقتصاص. ومع تَعمُّق هذا الوعي وتَقدُّمه إلى واجهة الخطاب العام، بات من الممكن القول إن المظلوميات المتنازعة – المتغذّية من الألم والتهميش وسرديات الخوف – أصبحت المحرّك الخفي لتاريخ سوريا الحديث، تدفعه في مسارات متشابكة ومفتوحة على احتمالات قاتمة.

        في ظل شعور المظلومية، لا تُرى الانتهاكات المرتكبة بحق «الآخر» بوصفها جرائم تستحق الإدانة، بل يغدو الانتقام مقبولاً، ومُبرَّراً أخلاقياً أحياناً، على أنه وسيلة للخلاص أو استرداد للحق. وهكذا تدور عجلة العنف في حلقة قاتلة، تتغذى على المظلومية وتكرّس الإفلات من العقاب، في دورة يبدو أنه لا نهاية لها. في هذا السياق، يبرز سؤال بالغ الإلحاح: أيُّ عدالة يمكن أن تضع حداً لهذه الحلقة المفرغة؟ وأيُّ عدالة قادرة على كسر هذا المنطق المسموم الذي يبرّر الجريمة باسم المظلومية؟

        نعلم أن العدالة، في أحد أوجهها، تتجلى في بُعدها الرسمي والعقابي، من خلال محاكمات تُجرَى بحق من ارتكبوا جرائم حرب، أو جرائم ضد الإنسانية، أو جرائم إبادة جماعية، أو فساداً ممنهجاً ونهباً للمال العام. لكن جوهر العدالة الحقيقي لا يتوقف عند العقاب، بل يتجاوزه نحو ما هو أعمق وأبقى: إنها عملية اجتماعية تهدف إلى كشف الحقيقة، لا للثأر بل للشفاء، وإلى إتاحة الفرصة للسوريين كي يضمّدوا جراحهم، ويعيدوا ترميم وطنهم الممزق قبل أن يتفكك نهائياً. فالعدالة المنشودة ليست عدالة المُغالبة والتمكين لطائفة منصورة، بل عدالة تُمكِّنُ السوريين جميعاً، بمختلف انتماءاتهم، من تجاوز مظلومياتهم المتخيلة والموروثة، ومن سرد حكايات آلامهم، واستعادة روابط الأُخوّة التي مزّقتها سنوات العنف والكراهية.

        عدالة بثلاث مهام أساسية

        في ضوء هذا التصور الموسَّع للعدالة، أطرحُ ثلاث مهام جوهرية تبدو لي ضرورية لسورية اليوم:

        أولاً، لا يمكن للعدالة أن تكون أحادية الجانب. فلا عدالة حقيقية إن كانت «عدالة المنتصر». لكننا نرى اليوم أن السلطات الجديدة تسعى لتكريس شرعية لها من خلال «انتصار الثورة»، وتسعى لمحاولة مُماهاة السلطة مع تمكين مظلوميةٍ على حساب أخرى. في هذا السياق، نُظِّمَ «مؤتمر النصر» في 29 كانون الثاني (يناير) 2025، الذي شكّل بدوره اللحظة التأسيسية للدولة الجديدة التي ينبثق منها كل شيء.

        وهناك من يذهب إلى حدّ اقتراح حصر العدالة الانتقالية في «محاكم ثورية». إلا أن ذلك لن يفي بما يتطلع إليه كل السوريين، لا سيما وأنه، في الحقيقة، لا وجود لمنتصر فعلي. لقد سقطت وحشية الأسد، لكنها تركت مجتمعاً مدمّراً بأكمله. وهنا تبرز الوظيفة الاجتماعية للعدالة: فلا يمكن الحديث عن منتصرين في حين أن المجتمع السوري بأسره هو الضحية.

        هل يمكن تَصوُّر عدالة للجميع؟ عدالة تُميّز بوضوح بين من ارتكب الجرائم ومن لم يرتكبها، دون النظر إلى انتماءاتهم، سواء كانوا من صفوف المنتصرين أم المنهزمين؟

        يكمن الشرط السياسي لقيام عدالة كهذه في بناء نظام دستوري لا يستند إلى شرعية ثورية مُفترَضة ولا إلى تركيز السلطة بيد زعيم كاريزمي – كما توحي بذلك الصيغة الحالية للإعلان الدستوري الذي صدر بتاريخ 13 آذار 2025 – بل إلى شرعية انتخابية ديمقراطية تعددية. وحدها مشروعية الانتخابات يمكن أن تضمن مجالاً عاماً لكل السوريين تُحترَم فيه الحريات الأساسية، وتُصان فيه حقوق المواطنة، ويُمكِّنُ من قيام عدالة مُنصِفة تشمل كل السوريين.

        في هذا السياق، يتمثّلُ الامتحان الحقيقي للعدالة في مدى قدرة السلطات الجديدة على ملاحقة جميع الجرائم دون استثناء، بالتوازي مع محاسبة مجرمي النظام السابق. وتكتسب نتائج لجنة التحقيق في مجازر آذار 2025 أهمية حاسمة على هذا الصعيد. فإن أفضت أعمال اللجنة إلى محاكمات فعلية تطال كلّ من تورّطَ في انتهاكات ضد المدنيين، بغضّ النظر عن هويتهم أو انتمائهم، فإن ذلك سيشكّل إعلاناً صريحاً بإمكانية تحقيق عدالة غير منحازة في سورية، قادرة على احتضان الحقيقة كاملة، بما يشمل الجرائم المرتكبة من قِبل كافة أطراف الصراع، سواء من جانب نظام الأسد، أو الجماعات التي كانت معارضة في السابق وأصبحت اليوم جزءاً من السلطة الجديدة.

        وتبرز في هذا السياق مسؤولية كبيرة على عاتق لجنة التحقيق، وتحديداً في رفضها لتكرار الرواية التي تتداولها بعض وسائل الإعلام، والتي تُصوِّرُ ما جرى في الساحل على أنه مجرد ردود فعل غير منضبطة على الاستهداف الذي تعرّضت له قوات الأمن العام، أو تحاول إظهار نوع من المساواة أو حتى المبالغة في ما لحق بتلك القوات. فهذه الانتهاكات، وإن كانت خطيرة وقد أودت بحياة العشرات من الأبرياء المُكلَّفين بحفظ الأمن العام، لا يمكن أن تُبرَّر أو تُقابَل بانتهاك مماثل ضد المدنيين. المسألة ليست في موازنة ضحية بأخرى، بل في التشديد على مبدأ حُرمة دم المدني الأعزل، وعدم جواز المساس به تحت أي ظرف. فلا مساواة، وفق أحكام القانون الدولي الإنساني، بين مدني لا يحمل سلاحاً وعنصر مسلح يشارك في القتال. ومن هنا، تترتّب على اللجنة مسؤولية جليلة في أن تؤكّد، من خلال نتائج تحقيقها، على حماية المدنيين في كل الأحوال، التزاماً بالقواعد الأساسية للقانون الدولي الإنساني.

        وقد نصَّ الإعلان الدستوري في مادته 48 على إدراج العدالة الانتقالية ضمن القيم الدستورية الحاكمة. من هنا، فإن أعمال لجنة التحقيق المستقلة في مجازر الجبال الساحلية تمثّل مختبراً حقيقياً، واختباراً مفصلياً لطبيعة العدالة التي نص عليها هذا الإعلان الدستوري، ولما إذا كانت البلاد تتجه حقاً نحو قطيعة مع منطق الإفلات من العقاب، أم أنها ستُعيد إنتاجه بثوب جديد.

        ثانياً، يجب أن تتيح العدالة فهم الجريمة المُرتَكبة من قبل مؤسسة الدولة وكذلك تَجذُّر الجريمة في المجتمع. وهذا بدوره يتضمن بُعدين رئيسيين:

        يشمل البُعد الأول الجريمةَ المُرتكَبة من قبل مؤسسة الدولة السورية نفسها – حيث ينبغي فهم الكيفية التي حوّلَ بها توحّش نظام الأسد جهاز الدولة إلى أداة قمع وعنف ممنهج ضد المجتمع على مدى أكثر من خمسين عاماً. تُحاكِم العدالة الجنائية الأفراد، لكنها لا تُخضِع المؤسسة ذاتها للمحاسبة. من الضروري أن يفهم السوريون كيف ولماذا تحول جهاز الدولة، الذي بدا ذات يوم محكوماً بقواعد دستورية، إلى آلة عمياء للعنف. لا يعني ذلك أن كل العاملين في بيروقراطية الدولة كانوا متواطئين؛ فكثير منهم مارس مقاومة صامتة بدافع من قناعاتهم الشخصية. لكن يجب تسليط الضوء على التحولات العميقة في بنية الدولة التي جعلت منها أداة عنف محض ضد الأفراد.

        وفي هذا السياق، تبرز أهمية الدعوى المرفوعة حالياً أمام محكمة العدل الدولية من قبل هولندا وكندا ضد الدولة السورية بتهمة انتهاك اتفاقية مناهضة التعذيب من قبل نظام الأسد البائد. لا تستهدف هذه الدعوى أفراداً بل الدولة السورية كمؤسسة، وقد تؤدي إلى إدانة رسمية لمنظومة الدولة برمتها وفق أحكام المسؤولية الدولية في القانون الدولي، وهي التي سمحت بالتبرير الرسمي والتغطية وتسهيل ارتكاب جرائم التعذيب على نطاق واسع ومنهجي وعلى مدى عقود ضد السوريين. وإذا صدر حكم يُقرّ بمسؤولية الدولة، فسيُتيح للسوريين إدراك الكيفية التي تحوّلت بها الدولة إلى أداة إجرام مؤسسي، وسيُمهّد الطريق أمام بناء ضمانات حقيقية تحول دون تكرار هذا النمط المدمر في المستقبل.

        أما البُعد الثاني فيتعلّق بتلك الشروط الاجتماعية والثقافية التي سمحت بتجذُّر الجريمة في المجتمع، سواء على مستوى الفكر أو السلوك. ينبغي أن يمتلك السوريون الشجاعة للنظر إلى أنفسهم في المرآة، وأن يواجهوا الخطابات والممارسات التي شكلت وعيهم خلال العقود الخمسة الماضية، والتي بُنيت على مظلومية مُتخيَّلة وتحوّلت إلى مبرّر لتجريم الآخر، والتحريض عليه، بل والاحتفال بموته وإقصائه. هذه الخطابات لم تقتصر على النخب أو المؤسسات الرسمية، بل سرت في كل الأوساط: في الإعلام، ووسائل التواصل الاجتماعي، والمدارس، وحتى في أماكن العبادة. لقد شاركنا جميعاً بدرجات متفاوتة في صناعة خزيٍ جماعي لا يمكن تجاوزه دون مواجهته بصدق. علينا أن نسأل أنفسنا بصراحة: لماذا ما تزال رواسب المظلومية تسكن وعينا؟ ولماذا نستلهم منها حتى اليوم نزعات الانتقام، ومشاعر الحقد، وتبريرات الإقصاء؟ إن العدالة التي لا تنبش هذا الخلل العميق، ولا تفتح المجال لمساءلة الذات المجتمعية، ستبقى ناقصة، وعاجزة عن إرساء مصالحة حقيقية أو تأسيس مستقبل مختلف.

        ثالثاً، ينبغي للعدالة أن تقترب، ما أمكن، من تجربة الضحايا، لا بوصفهم أرقاماً في سجلّات المحاكم، بل باعتبارهم شهوداً أحياء على انهيار الوطن في أجسادهم وأرواحهم. فالضحايا لا يحملون في ذاكرتهم آثار العنف فقط، بل يختزنون في أجسادهم الصدمة الكبرى لانهيار المعنى، وانكسار الحماية، واهتزاز الشعور بالانتماء على مدى أكثر من خمسين عاماً. يكاد لا يوجد سوري واحد لم تُصِبه المحنة، مهما كانت طائفته أو منطقته. صحيح أن الأحكام القضائية قد تُرضي مقتضيات العدالة الرسمية وتُعيد شيئاً من النظام العام، لكنها تبقى عاجزة، وحدها، عن تضميد الجراح، أو عن التخفيف من مشاعر الغبن والسخط والمرارة التي تسكن قلوب الضحايا وتطبع تفاصيل حياتهم اليومية.

        يبقى السؤال مفتوحاً: كيف يمكن في سورية أن نؤسِّسَ لعدالة تُرمّم الأرواح وتُعيد لُحمة ما انكسر في النفس الجماعية؟ عدالة لا تهدف إلى تثبيت الضحايا في موقع الضحية، بل إلى مرافقتهم في عبور المحنة، ومساعدتهم على استيعاب كيف انهار الوطن بكامله فوق رؤوسهم وبيوتهم وأحلامهم. عدالة تحفظ الذاكرة، لا لتأجيج الماضي، بل لمنع تكراره. عدالة تُنطِقُ الجراح، لا لتثبيتها، بل لتجاوزها بكرامة وصدق. عدالة تُمكِّنُ السوريين، أخيراً، من القول بكل يقين: لن يحدث هذا مرة أخرى.

        الشروط المادية لتحقيق العدالة

        لكي تكون هذه العدالة بمفهومها الواسع الاجتماعي ممكنة، لا بد من اتخاذ تدابير ملموسة دون تأخير.

        أولاً، يُعدُّ حفظ أرشيف النظام أولوية لا تحتمل التأجيل، لما تحمله وثائقه من قيمة استثنائية في توثيق مسار طويل من القمع والانتهاك. فهذه الوثائق – من قوائم المعتقلين، وتقارير التحقيق، إلى الأوامر الصادرة عن الأجهزة الأمنية – لا تقتصر أهميتها على مرحلة ما بعد عام 2011، بل تمتد جذورها إلى أكثر من خمسة عقود من حكم تأسَّسَ على الرقابة الممنهجة للأفراد، وعلى العنف المُنظَّم بحق المجتمع بأسره.

        واليوم، ومع تَشتُّت هذا الأرشيف، ومحاولات بعض المنظمات غير الحكومية الاستفراد بأجزائه أو احتكاره، تتزايد الحاجة الملحّة إلى إطلاق عملية مركزية، شفافة، ومؤسساتية، تضمن حفظ هذه الوثائق بشكل آمن، وتكفل الوصول المفتوح إليها أمام الباحثين، والمؤرخين، والهيئات القضائية على حد سواء. ينبغي أن تتحول هذه الوثائق إلى نواة حقيقية لذاكرة وطنية مشتركة، لا بهدف الثأر أو الانتقام، بل في خدمة العدالة، وحق الضحايا في الحقيقة، وواجب المجتمع في الفهم والتوثيق.

        ثانياً، تُعَدّ استعادة الفضاء العام ركيزة أساسية في بناء عدالة حقيقية ومجتمع متماسك. فقد حرص نظام الأسد، على مدى عقود، على تدمير كل المساحات التي كان السوريون يجتمعون فيها للحوار، والتنظيم، والعمل الجماعي. لم تسلم أي ساحة من التدمير المادي أو الرمزي، لا تلك التي احتضنت الهتافات الأولى من أجل الحرية والكرامة والوحدة، ولا تلك التي شكّلت يوماً نواة لحياة مدنية نشطة. فقد سعى النظام إلى خنق المجال العام، وتحويله إلى فراغ خاضع للرقابة والخوف.

        لكن منذ سقوط النظام، بدأ المواطنون، بعفوية وإصرار، في إحياء هذه الفضاءات، تعبيراً عن توقهم العميق إلى حياة عامة حرّة، وتعدّدية، وديمقراطية. من هنا، لا بد من دعم هذا الحراك الطبيعي نحو استعادة الساحات العامة، والنقابات المهنية المستقلة، ومنتديات الحوار، لتعود إلى لعب دورها كحاضنات لثقافة المواطنة، ومختبرات للتعدُّد والاختلاف، وضمانات حية لعدم انزلاق العدالة إلى منطق الأحادية أو الانتقائية.

        إن الفضاء العام ليس مجرد مكان، بل هو شرط وجودي لأي مشروع عدالة شامل. من دونه، لن يكون هناك مصالحة. ومن دونه، ستظلُّ العدالة الشاملة مجرد خطاب أجوف، لا يسنده واقع حي ودينامية مجتمعية فاعلة.

        ثالثاً، يعاني الجهاز القضائي السوري من إنهاك عميق ومتراكم، نتيجة عقود من غياب الاستقلالية، وهيمنة السلطة التنفيذية، واستشراء الفساد والمحسوبية. وعلى الرغم من وجود قلّةٍ من القضاة الذين حافظوا على نزاهتهم وسط هذا الواقع، فإن جهودهم الفردية، مهما كانت مخلصة، تظل غير كافية لمواجهة حجم التحديات المطروحة على العدالة في المرحلة الانتقالية. فالنظام القضائي، كما هو اليوم، يفتقر إلى البنية المؤسساتية والأدوات القانونية الضرورية لملاحقة مرتكبي جرائم الحرب والجرائم ضد الإنسانية على نحو فعّال وعادل.

        ومع أن هذا النقص قد يدفع البعض إلى المطالبة بتدويل شامل لمسار المحاسبة، إلا أنني لا أتبنى هذا التوجّه. بل على العكس، فإن الوظيفة الاجتماعية للعدالة – بما تعنيه من ترميم للثقة العامة، وفتحٍ لمساحات النقاش والمصالحة – لا يمكن أن تُحقق إلا إذا جرت المحاكمات داخل سورية نفسها، وضمن نظام قضائي مستقل بحق يستعيد مشروعية دولة القانون. ومن هنا، تبرز الحاجة المُلحّة إلى دعم تقني دولي مباشر وفوري، يشمل تدريب القضاة والمحققين، وتوفير الخبرات، وإطلاق إصلاح جذري للمنظومة القضائية. وفي هذا المجال، يتحمّل المجتمع الدولي مسؤولية أساسية، ليس فقط في التمويل، بل في تقديم الدعم المؤسسي والفني طويل الأمد.

        وفي هذا الاتجاه، يُعَدُّ التصديق على نظام روما الأساسي للمحكمة الجنائية الدولية خطوة لا بد منها. على سورية أن تصادق عليه، وأن تُرفِقَ هذا التصديق بإعلان خاص يوسّع اختصاص المحكمة الزمني ليشمل الجرائم المرتكبة قبل دخول النظام الأساسي حيّز النفاذ على أراضيها. فولاية المحكمة قائمة على مبدأ التكامل، أي أنها لا تتدخل إلا عندما تعجز الدولة عن القيام بواجبها، أو تمتنع عنه عمداً. وبالتالي، فإن التصديق على نظام روما لا يُقصي القضاء الوطني، بل يعزّز مكانته، ويوفّر له سنداً دولياً ومعنوياً.

        ورغم أن الأولوية يجب أن تُمنَح للمحاكمات الوطنية، فإن التصديق على نظام روما سيرسل إشارة واضحة بأن أية سلطة سورية مستقبلية ستُحاسَب على أفعالها، ولن تتمكن من التحصّن خلف جدران الإفلات من العقاب. كما سيفتح هذا التصديق المجال أمام المحكمة الجنائية الدولية للنظر في الجرائم المرتكبة من جميع الأطراف، دون تمييز أو استثناء.

        وقد شهدت الفترة الأخيرة مؤشرات مشجّعة في هذا المسار، إذ قام المدعي العام للمحكمة الجنائية الدولية بزيارة إلى سورية، التقى خلالها بالسلطات الجديدة، في حين أجرى وزير الخارجية السوري زيارة بروتوكولية مقابلة إلى لاهاي. ويُؤمَلُ ألّا تبقى هذه اللقاءات محض مناسبات رمزية، بل أن تمهّد الطريق أمام التزام سياسي وقانوني واضح، يُترجم إلى تصديق فعلي على نظام روما، بوصفه مدخلاً لا غنى عنه لإرساء عدالة ذات صدقية ومفعول دائم.

        أخيراً، تبقى قضية المختفين قسرياً من بين أكثر الملفات إيلاماً وتعقيداً في مسار العدالة الانتقالية في سورية. فهذه الجريمة لا تطمس الأجساد فحسب، بل تمزق حياة الأسر، وتعلّقها في حالة انتظار لا نهاية لها. ومن أجل مقاربة هذه المأساة بما تستحقه من جدّية ومسؤولية، لا بد من الحفاظ على المقابر الجماعية المنتشرة في مختلف المناطق السورية، باعتبارها أدلة مادية لا تُقدّر بثمن، والشروع في جمع وتحليل عينات الحمض النووي، وحفظ الأرشيف المتعلق بحالات الإخفاء، وإنشاء قواعد بيانات موثوقة تُدار بشفافية وبما يضمن كرامة الضحايا وحقوق ذويهم.

        لكن الجهد التقني لا يكفي وحده. فلكي تتجلى الحقيقة ويُعترَف بالوجع، يجب أن تُدرَج جريمة الإخفاء القسري في التشريع السوري، وأن يُعترَف بها قانونياً على أنها جريمة جسيمة لا تسقط بالتقادم، ولا يمكن التهاون معها. الاعتراف القانوني شرط لا غنى عنه لكسر الصمت الرسمي، ولفتح المجال أمام الملاحقات، وأيضاَ أمام الاعتراف الرمزي بما تعرّضَ له عشرات الآلاف من السوريين.

        وهنا، كما في ملفات أخرى، يبقى دعم آليات الأمم المتحدة أساسياً، سواء من حيث الخبرات أو المرافقة الفنية، أو من حيث بناء ثقة الضحايا وذويهم في مسار يستحق أن يُسمّى عدالة.

        الخاتمة

        في بلد مزّقته المجازر، وأثقل كاهله تاريخ طويل من الظلم والإفلات من العقاب، لا يجوز أن تُختزَلَ العدالة في مجرد العقاب. العدالة في سورية اليوم مدعوة إلى ما هو أعمق: إلى الإصلاح، إلى سرد الحقيقة، إلى إعادة المعنى لما جرى، وإلى بناء ضمانات حقيقية لئلا يتكرر ما حدث. قد تكون هذه اللحظة، رغم كل جراحها، الفرصة الأخيرة لإعادة ترميم مجتمع متصدّع، ولمساعدة السوريين على الالتقاء مجددًا، لا كمظلوميات متقابلة، بل كمواطنين متساوين يتشاركون وطنًا ومستقبلًا.

        العدالة الانتقالية ليست مجرد ملف قانوني أو إجراء فني يُدار في دهاليز القضاء، بل هي حاجة سياسية ومجتمعية عميقة، تقع في صميم مشروع إعادة بناء الدولة على أسس جديدة من الحق والمساءلة. إنها الأداة التي يمكن أن تحوّل الذاكرة من عبء ثقيل يشلّ الحاضر إلى طاقة حيّة تدفع نحو الكرامة والمصالحة.

        لكن هذه العدالة لن تولد من تلقاء نفسها. إنها تتطلّب إرادة سياسية لا تتهرّب من المواجهة، وعملاً مؤسسياً دؤوباً، وفضاءً عاماً حيّاً يُدرك أن مستقبلاً مختلفاً لا يُصنَع بالكراهية أو بالإنكار. لا عدالة ممكنة ما لم نتجاوز المظلوميات القاتلة، ومنطق الانتقام، والقراءات الأحادية للتاريخ. فلا يمكن اختزال المعاناة في سردية واحدة، ولا تحميل جماعة بأكملها مسؤولية ما ارتكبه أفراد منها. إذ متى كانت وازرةٌ تَزِرُ وِزرَ أخرى؟

        لسنا مطالبين باختراع عدالة مثالية، ولا بإعادة ابتكار ما ثبتت جدواه. يكفينا أن نَصوغَ عدالة واقعية، تستلهم من تجارب شعوب أخرى عبرت المحنة، وتنبع في الوقت نفسه من خصوصية التجربة السورية. عدالة تُنصف من دون أن تُذِلّ، تعيد للضحايا صوتهم من دون أن تُبقيهم أسرى الماضي، تقول الحقيقة من دون أن تُشعِلَ نيران الحقد، وتُوفّق بين الإنصاف والمصالحة، وبين المحاسبة والصفح.

        سورية لا يمكن أن تُبنى على عدالة شكلية تُجمِّلُ الواجهة وتُخفي الشقوق العميقة. إنها تحتاج إلى عدالة جامعة، تستعيد من خلالها قدرتها على رؤية ذاتها بكل أطيافها، بكل تناقضاتها، بكل معاناتها. ما دامت لم تُصغِ إلى كل صوت، ولم تعترف بكل وجع، ولم تضمن لكل من بقي حيّاً حقه في حياة عادلة، فستظل سجينة ماضيها، تدور في حلقاته المفرغة.

        وحدها العدالة، إذا جاءت كاملة في بُعدها الأخلاقي والحقوقي، قادرة على فتح الطريق نحو سلام مستدام – لا سلام الصمت والنسيان، بل سلام يستند إلى القانون، ويحتضن الذاكرة، ويُبنى على الاعتراف المتبادل، والعيش المشترك.

        قبل أن ينفد الوقت…

        * * * * *

        يُنشر هذا النص بتصرف بالتزامن مع نشره بالفرنسية في مجلة كونترتان الفرنسية، العدد 65 (نيسان 2025).

موقع الجمهورية

إعداد موقعنا “صفحات سورية”

———————————————————-

العدالة الانتقالية، تحديات ومسارات نحو بناء مستقبل جديد/ سامر بكور

مع سقوط نظام الأسد، تلوح في الأفق مهمّة أساسية أمام سورية للتعامل مع إرث طويل من القمع وانتهاكات حقوق الإنسان. ومع ذلك، فإن مسار العدالة الانتقالية لا يُعدّ مجرد إجراء قانوني أو إداري، بل هو عملية تحويلية تهدف إلى إعادة بناء الثقة في المؤسسات، وإرساء أسس عقد اجتماعي جديد. غير أن هذه العملية ليست سلسلة، كما قد يتصوّر البعض، إذ تواجه هذا المسار تحدّيات جمّة، على الصعيدين العملي والسياسي. فعلى المستوى العملي، تشكّل الأعداد الكبيرة من المتورطين في الانتهاكات السابقة تحدّيًا هائلًا قد يتجاوز قدرة أي نظام قضائي، وإن كان ذا كفاءة عالية، على التعامل معه. وفي العديد من الحالات، تجد الأنظمة الجديدة نفسها عاجزة عن مواجهة هذا العبء، حيث تضطر إلى إعادة بناء مؤسساتها السياسية والقضائية من الصفر، وهو ما يعوق جهود معالجة الماضي. أما على المستوى السياسي، فإن العدالة الانتقالية تحمل في طياتها تحديات شائكة، فمحاكمة المتورّطين في العنف السياسي والعسكري، أو تحميل الدولة مسؤولية الانتهاكات من خلال الاعتراف أو التعويضات، قد تثير الجدل وتزعزع استقرار النظام السياسي الوليد. وهذا التوتر بين تحقيق العدالة وضمان الاستقرار يجعل عملية الانتقال السياسي أكثر تعقيدًا.

العدالة الانتقالية ليست مفهومًا جديدًا، فقد برزت بشكل لافت بعد الحرب العالمية الثانية، ولا سيما في محاكمات نورمبرغ التي استهدفت كبار مجرمي الحرب النازيين[1]. وعلى الرغم من ذلك، لم تتحول العدالة الانتقالية إلى مجال دراسات مقارنة إلا مع الموجة الثالثة من التحولات الديمقراطية في أمريكا اللاتينية وأوروبا الشرقية، حيث واجه القادة هناك معضلة التعامل مع إرث العنف السياسي المنهجي الذي خلفته الأنظمة السابقة. إن العدالة الانتقالية هي النجاح في تحقيق انتقال سياسي واقتصادي، لكنها تتطلب تحوّلًا يتماشى مع القيم والمبادئ الديمقراطية، ويحترم الحقوق، ويقلّل من العنف وعدم الاستقرار. ولتحقيق ذلك، يجب أن يحظى المسؤولون السابقون الذين شاركوا في سفح الدم السوري بمحاكمات عادلة، وفي الوقت نفسه، ينبغي أن يحترم أنصار النظام الجديد مبادئ العدالة دون استغلال المرحلة لتحقيق مكاسب شخصية.

في المراحل التي تعقب الحروب، تتعايش أهداف متضاربة بين السعي لتحقيق العدالة للانتهاكات السابقة وتعزيز الاستقرار وبناء مؤسسات قوية وفعالة[2]. ويعكس هذا التوتر صعوبة الموازنة بين هذه الأولويات التي تُعدّ جميعها ضرورية، ولكنها غالبًا ما تكون متعارضة في التنفيذ. وعلى كل حال، تمثل العدالة الانتقالية فرصة لمعالجة الماضي، وفرصة لرسم مستقبل جديد لسورية. وعلى الرغم مما تواجهه من تحديات، تبقى هذه العملية السبيل الأمثل لتحقيق المصالحة الوطنية، وإعادة بناء مجتمع ممزق بفعل عقود من الصراع والانقسامات.

سقط الأسد ونظامه، ولكن مفهوم تطبيق العدالة الانتقالية في سورية يظلّ يمثّل تحديًا كبيرًا، نظرًا للتعقيد الذي يميز الحرب في سورية، من حيث تعدد أطراف الصراع، وتنوع مجتمعاته، والتدخلات الخارجية، وتغيرات الظروف السياسية والاجتماعية. لكن يمكن تطبيق بعض الأهداف الرئيسية للعدالة الانتقالية، إذا تمّت مراعاتها بعناية وبشكل يتلاءم مع الواقع المعقد الذي يعيشه السوريون. وفي ما يلي تحليل لكيفية تطبيق هذه الأهداف.

أولًا: المساءلة في العدالة الانتقالية: تحديات وآفاق التطبيق

وهي موضع تساؤل وفيها إشارات استفهام عدة، حيث تهدف إلى محاسبة مرتكبي الجرائم الجسيمة والانتهاكات، وعلى رأسهم -في الحالة السورية- رأس النظام السابق بشار الأسد وأعوانه. إن الطابع الواسع النطاق والمنهجي للعنف السياسي يؤدي إلى نشوء توتر بين العدالة الإجرائية والعدالة الموضوعية، إذ إن هناك تعارضًا بين الرغبة في تمييز الذات عن النظام السابق، والرغبة في معاقبة ذلك النظام بأقصى ما يستحقّه من شدة. وتركز العدالة الإجرائية على عدالة العمليات المستخدمة لحلّ النزاعات وتنفيذ القوانين، مع التأكيد على الحياد والشفافية. فهي تضمن أن يتمتع الأفراد بفرصة متساوية لعرض قضاياهم وسماع أصواتهم، بغض النظر عن النتيجة[3]. في المقابل، تُعنى العدالة الموضوعية بفحص عدالة ومصداقية النتائج نفسها، وتقييم النتائج النهائية من حيث تماشيها مع مبادئ الإنصاف والحقوق والقيم المجتمعية. وبينما تعطي العدالة الإجرائية الأولوية لكيفية اتخاذ القرارات، تركز العدالة الموضوعية على ما يتم تحقيقه، لضمان أن تكون محتويات القوانين أو السياسات وآثارها عادلة. إن التفاعل بين هذين المفهومين أمرٌ بالغ الأهمية، حيث يمكن أن تؤدي عملية عادلة إجرائيًا إلى نتائج غير عادلة، إذا كان الإطار الموضوعي الذي تعمل ضمنه معيبًا، مما يبرز الحاجة إلى تحقيق التوازن بين الاثنين لتحقيق العدالة الشاملة[4]. تسلّط قضية زين العابدين بن علي الضوء على التفاعل الحيوي بين العدالة الإجرائية والعدالة الموضوعية. من الناحية الإجرائية، أجرت تونس محاكمات ضد بن علي غيابيًا، متبعة البروتوكولات القانونية المعتمدة لمحاكمته، بتهم الفساد وانتهاكات حقوق الإنسان. ومع ذلك، كانت هذه المحاكمات محدودة بطبيعتها، حيث إن غياب المتهم انتهاك لمبدأ المشاركة العادلة، وهو أحد أسس العدالة الإجرائية. هذا النقص في الإنصاف الإجرائي أضعف شرعية وفعالية العملية القضائية.

من منظور العدالة الموضوعية، نلاحظ أن المحاكمات تهدف إلى معالجة شكاوى الضحايا، ومحاسبة (بن عليّ) على عقود من الحكم الاستبدادي، إلا أنها فشلت في تحقيق نتائج ملموسة، إذ إن فشل تسليمه إلى العدالة وتنفيذ الأحكام يعني أن العدالة لم تتحقق بشكل موضوعي، حيث ظل الضحايا حتى الآن بدون تعويض ويخشى أن يُغلق الملف. تسلّط هذه القضية الضوء على أن غياب الإنصاف الإجرائي (مثل محاكمة حقيقية مع وجود المتهم) يمكن أن يجعل العدالة الموضوعية فارغة، وأن ضعف الأطر الموضوعية (مثل عدم التعاون الدولي في تسليمه) يمكن أن يقوض الجهود الإجرائية. يظهر التفاعل بين البعدين أنه لتحقيق العدالة الشاملة، يجب أن تتوافر العمليات العادلة والنتائج القابلة للتنفيذ.[5]

وتستند المساءلة في العدالة الانتقالية إلى مجموعة من الأسس النظرية التي تهدف إلى تحقيق العدالة والإنصاف للضحايا، ومحاسبة المسؤولين عن الانتهاكات الجسيمة لحقوق الإنسان. وتشمل هذه الأسس النظرية الجوانب، الأخلاقية، القانونية، السياسية والاجتماعية التي تعزز المساءلة وتعالج تداعيات الانتهاكات. الأساس الأخلاقي مثلًا يقوم على ضرورة محاسبة مرتكبي الانتهاكات كجزءٍ من الالتزام الأخلاقي تجاه الضحايا والمجتمع[6]. ويعدّ الفشل في محاسبة مرتكبي الجرائم خيانةً لمبادئ العدالة، ويشجع على تكرار الانتهاكات. ويؤكد الأساس القانوني أولوية القانون كوسيلة لضمان المساءلة ومنع الفوضى. فالقانون الدولي لحقوق الإنسان، مثلًا، يستند إلى معاهدات واتفاقيات دولية، مثل: الإعلان العالمي لحقوق الإنسان، والاتفاقية الدولية لمناهضة التعذيب. ويتفق القانون الجنائي الدولي مع الجانب القانوي الدولي الذي يُعتبر أداة رئيسية في محاكمة مرتكبي الجرائم الجسيمة مثل الإبادة الجماعية وجرائم الحرب، وأن الجرائم الجسيمة لا تسقط بالتقادم، مما يسمح بمحاسبة مرتكبيها في أي وقت[7]. في ما يتعلق بالأساس السياسي، فهذا يتطلب إعادة بناء الثقة في المؤسسات، ومنها مساءلة المسؤولين، وهو الأمر الذي من شأنه منع عودة الاستبداد، حيث إن المحاسبة تضمن عدم تكرار الانتهاكات، من خلال إضعاف النخب التي كانت مسؤولة عن القمع. في الجانب الاجتماعي، هذا من شأنه تحقيق المصالحة التي تساعد في إزالة الأحقاد وتعزيز التعايش السلمي بين الأطراف المتنازعة[8].

في سياق العدالة الانتقالية، يتطلب هذا التوازن تحقيق العدالة عبر تطبيق العقوبات المناسبة على الجرائم المرتكبة من جهة، واحترام الحقوق الأساسية في المحاكمات العادلة من جهة أخرى[9]. على غرار المحكمة الجنائية الدولية، قد تكون المحاكمات المحلية في سورية أداةً مهمة لضمان عدم الإفلات من العقاب. على عكس العدالة التصالحية التي تسعى إلى التسامح والمصالحة، تركز العدالة التصحيحية على ضرورة تصحيح الأضرار التي تسبب فيها النظام أو أطراف الصراع، وهي بدورها تركّز في أعمالها على العدالة الجنائية في السياقات التي تشهد انتهاكات حقوق الإنسان، بحيث تكون العدالة موجهة نحو تصحيح الأضرار وتعويض الضحايا[10]، ولكن في الحالة السورية لم تكن هناك أضرار، بل كانت هناك جرائم مدنية وجرائم حرب ارتُكبت بحق المدنيين والعسكر، لذا فإن هذه العدالة التصالحية لن يكون لها نصيب في الحالة السورية.

المساءلة في العدالة الانتقالية يجب أن تُفرض على  جميع الأفراد، بغضّ النظر عن مناصبهم السياسية أو العسكرية، ويجب أن يخضعوا للقانون على قدم المساواة. ويشمل هذا ملاحقة المسؤولين عن الجرائم ضد الإنسانية، مثل الاعتقال التعسفي والتعذيب والقتل الجماعي. وبناءً على هذا المبدأ، قد تُعدّ المحاكم المحلية ساحةً لمحاسبة القادة العسكريين والسياسيين الذين ارتكبوا انتهاكات جسيمة بحق السوريين. وهنا تأتي أهمية التوازن بين ضمان العدالة الفعالة من خلال المحاكمات المحلية، وتوفير إطار دولي للمحاسبة، ولذا يتطلب تطبيق المساءلة في سورية موازنة معقدة، بين المصلحة الوطنية والمصلحة الدولية، إذ إن المحاسبة تتطلب في كثير من الأحيان الشجاعة السياسية والموارد القانونية، وهو ما تفتقر إليه الفصائل المعارضة حاليًا. إلا أنه في الوقت ذاته، يمكن أن يكون للمجتمع المدني السوري، بدعم من منظمات حقوق الإنسان الدولية، دورٌ رئيسي في الدفع نحو هذه المساءلة.

سورية لم تنضم إلى المحكمة الجنائية الدولية، التي تُعنى بمحاكمة المسؤولين عن ارتكاب جرائم الحرب وجرائم ضد الإنسانية، ما يعني أنه لا يمكن للمحكمة الجنائية الدولية محاكمة المجرمين السوريين إلا إذا كانت هناك إحالة من قبل مجلس الأمن الدولي[11] . أما عن المحاسبة الجماعية، فيمكن أن تكون هناك محاسبة جماعية تشمل محاكمة المنظمات أو الأجهزة الأمنية، أو محاسبة الأفراد الذين تولوا المسؤولية المباشرة عن هذه الجرائم [12]. ومع ذلك، يجب أن يترافق هذا مع ضمانات قانونية تحفظ حقوق جميع الأطراف، من خلال محاكمات عادلة وشفافة بعيدة عن مبدأ التشفي الشخصي. الحالة السورية معقدة، ولا بد من أن تكون هناك مبادرات دولية للضغط من أجل المساءلة، مثل دعوات الأمم المتحدة وأعضاء مجلس الأمن لتشكيل محاكم دولية، لمحاسبة رأس النظام السابق والمسؤولين عن تلك الجرائم.

ولأنّ المعارضة المسلّحة ما زالت في طور التكوين المؤسساتي والبناء، فمن الممكن اعتماد مبدأ “فقدان الذاكرة المؤقت القصير الأمد”، وفي هذه الحالة، تتخذ السلطة الناشئة قرارًا بتأجيلٍ قصير الأمد لمقاضاة مرتكبي انتهاكات حقوق الإنسان، من دون محوه من الذاكرة. وإن وصف هذا النموذج بأنه “نموذج فقدان الذاكرة” لا يعني أنه لن يكون هناك العديد من الأفراد الذين سيستمرون في تذكر الماضي بكل تفاصيله المؤلمة، وفي الإصرار على ارتكاب جرائم كبرى، إنما يعني هذا تأجيل المحاسبة إلى وقتٍ يصبح فيه النظام الجديد متماسكًا ومستقرًا نوعًا ما، ومن ثم يمكن أن تقوم الدولة بالخطوة الثانية، وتبدأ إجراءات التحضير لمحاكمات على المستوى المحلي والدولي.

 يمكننا أن نطلق على شكل ثانٍ من أشكال العدالة الانتقالية، من حيث طيف المصالحة والقصاص، نموذج “العقوبة الانتقائية”. وفي هذه الحالة، تخضع الشخصيات السياسية الرئيسية من النظام السابق، فضلًا عن الأعضاء البارزين في قوات الأمن الذين ثبت تورطهم في التعذيب وسلوك مماثل، للإجراءات القانونية الرسمية والعقوبات التي تتضمن فقدان الحقوق المدنية أو السياسية (مثل تولي المناصب الحكومية) والسجن، وفي الحالات الأكثر تطرفًا، تصل العقوبات حتى الإعدام. وقد برزت إثيوبيا كمثال خاص على هذا النهج في العمل؛ ففي أعقاب الإطاحة بنظام منجيستو في عام 1991، وجهت الحكومة الجديدة الاتهامات إلى أكثر من ثلاثة آلاف شخص من أعضاء ذلك النظام، بارتكاب أعمال إجرامية، وأقامت ما وصف أحيانًا بـ “محاكمات نورمبرج لأفريقيا”، وإن تباطأت الإجراءات القضائية اللاحقة إلى حد كبير.

إن محاكمة شخصية بارزة تقدّم العديد من الفوائد للمجتمع الانتقالي، منها إضفاء الطابع الفردي على الذنب، وتسليط الضوء على المؤامرات التي استخدمها هؤلاء القادة لغرس الكراهية العرقية والطائفية، ولإخفاء الأدلة على فظائعهم، ولا سيما في المجتمعات التي تعاني انقسامات عرقية أو طائفية قوية، وقد برز هذا جليًّا في سورية. من خلال محاسبة الشخصيات البارزة سابقًا، تعمل المحاكمات أيضًا على تعزيز الانطباع بسيادة القانون والمساواة أمام القانون، ووفقًا لذلك فإن المحاكمات مطلوبة لغرس فكرة في الضمير الجماعي، مفادها أن أي قطاع من السكان لا يقف فوق القانون، وأنه لا يجوز بأي حال من الأحوال معاملة أي إنسان باعتباره كائنًا حقيرًا أو وسيلة لتحقيق هدف ما، وعندما تتم محاكمة المسؤولين السابقين، فإن قوة القانون الجديد الذي تم تشكيله أثناء العدالة الانتقالية تُختبر. ومن ثم، فإن المحاكمات تسهل عملية المصالحة، من خلال إبعاد الجناة عن السلطة وتوفير شعور بالحماية، فضلًا عن تحسين التصور العام للقانون والمساواة في ظله. وفي حين أن هذا ينطبق على محاكمة أي مسؤول، فإن تأثيراته تتضاعف مع محاكمة رجل قوي، لأن الرجل القوي يُنظر إليه باعتباره الشخصية الأكثر قوة ومسؤولية في النظام السابق. ووفقًا لذلك فإنّ المحاكمات التي تشمل رؤساء الدول تميل إلى أن تكون حالات اختبارية رفيعة المستوى، وتثير أكبر عدد من القضايا القانونية والسياسية الصعبة. وعلى الرغم من أن محاكمة الزعماء الأقوياء تمثّل تحديًا، فإن محاكمة كبار المسؤولين تمثل أيضًا إنجازًا أعظم للحكومة الجديدة والقانون الجديد. وعلى هذا، فإن محاكمة الزعماء الأقوياء قد تظهر قوة النظام القانوني الجديد المحسّن والحكومة الخالية من النظام السابق، مما يسمح للجمهور باستعادة الثقة والمصالحة مع الدولة.

ويمكن للمحاكمات والسعي إلى تحقيق العدالة أن يعززا الثقة والمشاركة في المؤسسات الوطنية، ويترتب على ذلك آثار إيجابية على المصالحة. وتعمل آليات العدالة الانتقالية كمحفزات للمشاركة الشعبية . التدابير الانتقالية تعزز الأداء الديمقراطي من خلال زيادة المساءلة والشفافية أو المشاركة بين المؤسسات الديمقراطية ومعها، وبالتالي تعزيزها وشرعنتها. وتشجع المؤسسات الجديدة، مثل لجان الحقيقة والمحاكم، الحوارَ بين الحكومة والمواطنين، وتعزز زيادة المشاركة الشعبية المؤسسات الديمقراطية الجديدة والقائمة. ومع تفاعل السكان بشكل أكبر مع المؤسسات الحكومية واستجابة تلك المؤسسات، فإن المؤسسات الديمقراطية تشير إلى مستوًى معين من الاستجابة والمساءلة، مما يؤدي إلى مزيد من الثقة المدنية. والثقة المدنية هي المفتاح في المجتمع الانتقالي الذي يقبل حكومته الجديدة. وبالتالي، فإن الآليات الانتقالية -مثل المحاكمات- يمكن أن يكون لها تأثير إيجابي في المؤسسات الديمقراطية، مما يسهل بدوره المصالحة. مثال واضح على هذه الديناميكية يمكن رؤيته في لجنة الحقيقة والمصالحة في جنوب أفريقيا، التي أُنشئت بعد انتهاء نظام الفصل العنصري، حيث سهّلت اللجنة الحوار بين الحكومة والمواطنين، ووفّرت منصة للضحايا لمشاركة تجاربهم في انتهاكات حقوق الإنسان، وعرضت على الجناة فرصة للحصول على العفو مقابل تقديم الحقيقة. ساعدت هذه العملية في تعزيز الثقة المدنية في الحكومة الديمقراطية الجديدة. وقد أسهمت جهود اللجنة في تطوير مؤسسات ديمقراطية أكثر استجابةً وقابلةً للمساءلة، مما لعب دورًا حيويًا في المصالحة في جنوب أفريقيا بعد انتهاء الفصل العنصري.[13]

 إن أحد المخاوف المتعلقة بالمحاكمات هو أنها تفتح مجالًا واسعًا للتحرك القانوني . وكما كانت الحال في الأرجنتين، فمن الصعب رسم خط فاصل بين الأفراد الذين دبّروا انتهاكات حقوق الإنسان وأولئك الذين اتبعوا الأوامر من أعلى، الأمر الذي خلق ارتباكًا قانونيًا واجتماعيًا. إن توزيع اللوم يصبح أكثر تحديًا أثناء التحول الديمقراطي الفوضوي، حيث يحتفظ بعض القادة السابقين بنفوذهم. وهذا يؤدي إلى إن محاكمة زعيم واحد تحلّ بعض هذه التعقيدات. فالشخصيات التي عملت كوجه عام للحكومة سوف تكون متورطة بوضوح في الانتهاكات السابقة. ومن ثم، فإن محاكمة شخصية قوية تحسم المناقشات حول المسؤولية في وضع الملاحقة القضائية في أعلى الهرم السياسي.

من الناحية النفسية، نجد أن محاكمة شخصية واحدة ألحقت الأذى بعددٍ أكبر من الناس سيكون لها تأثير أكبر من محاكمة مسؤولين متعددين من رتبة أدنى. وسوف يكون من السهل التعرف على شخصية الرجل “القوي” من قبل الجمهور، باعتباره الشخص الذي أساء إلى أكبر عدد من الناس، وربما حتى إلى غالبية المجتمع، ومن ثم ستنتج محاكمته أكبر تأثير إيجابي.

ثمة سيناريو واقعي سيدور حول ضرورة البدء بالمحاكمة سريعًا لمحاسبة المسؤولين، وفي الوقت نفسه، حول الحفاظ على استقرار الوضع في سورية. النقاشات تنصبّ على إنشاء محاكم محلية بدعم دولي، مع ضمان عدم تسييس المحاكمات وتحقيق العدالة لجميع ضحايا الحرب. تتعقد القضايا حين يُطرح سؤال: هل تتم محاكمة جميع المتورطين في الانتهاكات أم يقتصر الأمر على المسؤولين السياسيين والعسكريين البارزين؟ هل تُعطى الأولوية للمصالحة الوطنية أم للعدالة الجنائية الصارمة؟ في النهاية، يتفق المجتمعون على خطوة أولية: تشكيل لجنة محايدة للمصالحة والعدالة التي ستجمع بين ممثلي المجتمع المدني، والمحاكم الدولية، والجهات الفاعلة المحلية، في محاولةٍ لإيجاد نوع من التوازن بين العدالة الانتقالية والمصالحة الوطنية، آملين أن تنجح هذه الخطوة في خلق بيئة قانونية تسمح بتحقيق العدالة، وفي الوقت نفسه، تساهم في ترسيخ دولة القانون التي يسعى إليها السوريون.

المصالحة وجبر الضرر في العدالة الانتقالية بسورية: التحديات والفرص

المبدأ الثاني في العدالة الانتقالية الذي تجب مراعاته يكمن في المصالحة وجبر الضرر. يجب أن تعي قوى المعارضة التي تستلم زمام الأمر في سورية المستقبل أنه حين تقود النخب عملية الانتقال، تكون العدالة الانتقالية محدودة. وحيث تدخل النخبة والمعارضة في صفقة، تكون العدالة الانتقالية معتدلة. وحيث تقود المعارضة أو دولة أجنبية عملية الانتقال، تكون العدالة الانتقالية “مهمة”. باختصار، تزداد العدالة الانتقالية مع انخفاض نفوذ النخب. أحد التفسيرات المحتملة لهذا النمط هو أنه عندما تقود النخب عملية الانتقال، فإنها تحاول حماية نفسها من العقوبات التي تلي عملية الانتقال، وعندما تتفاوض بشأن عملية الانتقال، فإنها تحاول انتزاع التنازلات من المعارضة[14].

إن المشكلة التي تنشأ عادة بعد تغيير النظام هي كيفية توفير الموارد اللازمة للنظام الجديد. وإن الملاحقات القضائية قد تمهّد الطريق أمام أتباع النظام الجديد، سواء أكانوا من المتأخرين في الوصول أو من الأعضاء السابقين في المعارضة، لتولي المناصب التي يشغلها على نحو ظاهر أفراد أو موظفون من النظام القديم. وسوف يستاء عامة الناس في النظام الجديد من حكم الحكام القدامى الذين يحملون ألقابًا جديدة. ولكن كلّما كان النظام القديم راسخًا أكثر، ومدة بقائه أطول؛ زادت احتمالات احتكار موظفيه للخبرة الإدارية والفنية. والواقع أن المعارضين أو الثوّار السابقين، الذين حُرموا من التعليم الفني، كثيرًا ما يكونون من بين أولئك الذين يسعون إلى إثبات أن النظام القديم حرمهم من الفرص المهنية[15]. وقد كان القضاء في النظام النازي قد بلغ الحد الذي دفع المحتلين إلى إغلاق جميع المحاكم الألمانية لمدة عشر سنوات، وإعادة تأسيس النظام القضائي، بحيث يتولى جيل جديد من القضاة مهامهم في غضون ذلك. وبطبيعة الحال، كان هذا الاقتراح بمثابة فشل لاحق في نزع النازية عن القضاء، بمعنى التعويض أو الإعادة عن الانتهاكات أو إعادة الحقوق إلى أصحابها. وكثيرًا ما كان القضاة يشعرون بالغضب الشديد عندما يجدون أن القضاة هم القضاة الذين سمحوا بالتجاوزات في النظام الأصلي. وتختلف شدة مشكلة التوظيف باختلاف ترسيخ النظام القديم والظروف التي أعقبت ذلك. ففي أحد الأطراف، توجد حالات يستطيع فيها عدد كبير من غير المتعاونين (ربما بسبب فرض التدخل العسكري مؤقتًا) استئناف مناصبهم بسرعة، وإعادة المؤسسات القائمة سابقًا. ففي بلجيكا وهولندا، على سبيل المثال، استعادت الحكومات في المنفى السلطة بسرعة.

إذن، الحذر كلّ الحذر عند المصالحة، وعند التعامل مع رجال سلطان النظام القديم، فالمصالحة  ضمن إطار العدالة الانتقاليةلا تقتصر على التوصل إلى “اتفاق” بين الأطراف المتصارعة، بل تشمل أيضًا عملية إعادة بناء الثقة بين المؤسسات والشعب. وهذا يعني أن سورية تحتاج إلى إصلاحات على مستوى الحكم المحلي، مثل إنشاء منصات تفاعلية، حيث يمكن للمواطنين من مختلف الخلفيات التعبير عن مخاوفهم وآمالهم في المستقبل. هذه العملية يجب أن تكون شاملة لجميع الأطراف حتى تساهم في بناء مجتمع موحد، بعيدًا عن الانقسامات الموروثة من الصراع[16]. أما المصالحة المجتمعية، فهي تتطلب التفاعل بين الجماعات المختلفة التي تأثرت بالصراع في سورية، حيث توجد مجتمعات متعددة الأعراق والطوائف، تشمل العرب السنّة، الأكراد، العلويين، الدروز، وغيرهم. ولتحقيق المصالحة المجتمعية، ينبغي أن تكون هناك آليات تهدف إلى تعزيز الحوار بين هذه الجماعات.

أما جبر الضرر، فيركز على الاعتراف بالضحايا وتعويضهم، بهدف إعادة الكرامة لهم، والتأكيد على مسؤولية الدولة عن الأضرار التي لحقت بهم. في الخريطة السورية، يكتسب جبر الضرر أهمية خاصة، إذ شهدت البلاد على مدى سنوات الحرب مئات الآلاف من الانتهاكات الجسيمة لحقوق الإنسان، مثل القتل الجماعي، والاعتقالات التعسفية، والتعذيب (في سجن صيدنايا وغيره) والتدمير والتهجير القسري. ضمن مفهوم العدالة التصحيحية، أي نظام قانوني يجب أن يعترف بضرر الضحية، ويكفل تعويضًا يساهم في استعادة توازن العدالة.[17] وتمثل عملية جبر الضرر تحديًا كبيرًا، بسبب حجم الانتهاكات والخراب الذي خلفه انتهاك النظام. وتبرز أيضًا مسألة التعويضات المعنوية والاعتراف بالضحايا في العدالة الانتقالية وهي تعدّ جزءًا أساسيًا من عملية جبر الضرر. في السياق السوري، بعد انتهاء النظام العسكري للأسد، يجب تشكيل لجنة للحقيقة للتوثيق الرسمي للانتهاكات التي حدثت. وهناك حاجة ماسة إلى تعزيز التضامن المجتمعي، من خلال توفير الدعم النفسي والاجتماعي للضحايا، من خلال برامج إعادة التأهيل الاجتماعي والنفسي. فالضحايا الذين عانوا الاعتقالات التعسفية أو التعذيب يحتاجون إلى الدعم النفسي، فضلًا عن التعويضات المالية. وقد تكون هذه البرامج جزءًا من جهود أوسع لبناء الثقة بين الضحايا والمجتمع، كما حدث في البوسنة والهرسك بعد انتهاء حربها الأهلية. وكذلك في كمبوديا، حيث تم إنشاء محكمة خاصة للنظر في جرائم النظام “الخمير الحمر” بعد أن تسببت سياساتهم القمعية في مقتل ما لا يقل عن 1.5 مليون [18]. وما زال السوريون في المرحلة الأولية من انهيار وسقوط نظام بشار الأسد، وهناك تحديات كثيرة تواجه جبر الضرر، ومنها الافتقار للآليات القانونية المستقلة والمحايدة، والهيمنة السياسية والانقسام السياسي والميداني في سورية، وإن تطبيق جبر الضرر قد يواجه تحديات من خلال الأطراف المختلفة التي تحاول استغلال العملية لصالحها.

عملية المصالحة وجبر الضرر في سورية تتطلب نهجًا شاملًا يشمل جميع الأطراف السياسية والاجتماعية. ويجب خلق منصات تفاعلية على المستوى المحلي، تسمح للمواطنين من مختلف الفئات المجتمعية بالتعبير عن آرائهم وآمالهم، حيث يُعزز ذلك مصداقية العمليات السياسية، ويساهم في استعادة الثقة بين الحكومة والشعب. ويجب أن تتبنى العملية الانتقالية آليات تدعم الحوار الوطني، مثل إنشاء مجالس محلية تمثل جميع الأطياف الاجتماعية والعرقية، تسهم في تقليل الانقسامات وبناء الثقة. ويجب إعادة تأهيل الضحايا، عبر برامج إعادة التأهيل النفسي والاجتماعي للضحايا، التي تعدّ جزءًا أساسيًا من عملية المصالحة المجتمعية، إذ إن بناء المجتمع يتطلب تعافي الأفراد أولًا. ويمكن للمنظمات الدولية أن تساعد في إنشاء آليات قضائية مستقلة تضمَن المحاسبة على الجرائم المرتكبة، كما حدث في كمبوديا والبوسنة والهرسك. وإنّ دعم المجتمع المدني وتعزيز دور المجتمع المدني السوري في مراقبة عملية جبر الضرر وإعادة بناء المؤسسات يُساعد في ضمان شفافية الإجراءات.

البحث عن الحقيقة وإصلاح المؤسسات المدنية والعسكرية وبناء مستقبل مستدام

المبدأ الثالث الأساسي للعدالة الانتقالية يتمثل بالبحث عن الحقيقة، وهو يتمثل في توثيق الانتهاكات الجسيمة لحقوق الإنسان وكشف تفاصيلها. ويشكّل الحق في معرفة الحقيقة جزءًا من حقوق الإنسان الأساسية التي تتيح للأفراد فهم الظروف التي مرّوا بها، والتعرّف على الجناة والمجرمين. ويعكس هذا البحث الرغبة في كشف حقيقة الانتهاكات التي تعرّض لها الشعب السوري من قِبل النظام، وأطراف أخرى، سواء كانت ميليشيات أو جماعات مسلحة أخرى. وهنا يبرز ما قام به المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، عندما وثّق للثورة السورية عبر منصة الذاكرة السورية، التي احتفظت بشهادات وملفات مرئية وأدلة، للمساعدة في إنشاء سجل موثق للانتهاكات. هذا النوع من الأرشيفات لا يقتصر فقط على توثيق الأحداث، بل يمكن أن يساعد في بناء الذاكرة الجماعية التي ستشكل الأساس للمصالحة. ومن خلال هذه المنصّة، كانت هناك شهادات الضحايا والمجتمعات المحلية التي تعتبر مصدرًا حيويًا لفهم الانتهاكات التي حدثت. وكان للشبكة السورية لحقوق الإنسان باعٌ في هذا المجال، حيث لعبت دورًا رئيسيًا في جمع الأدلة والشهادات.

يمثل إصلاح المؤسسات المبدأ الرابع من مبادئ العدالة الانتقالية، وهو عملية حيوية تهدف إلى إعادة هيكلة المؤسسات الحكومية والاجتماعية التي تورّطت في الانتهاكات الجسيمة لحقوق الإنسان أو رعتها. ويركز هذا الإصلاح على قطاعات حيوية، تشمل القضاء، والأمن، والتعليم، والصحة، وغيرها من المؤسسات التي تحتاج إلى تغييرات جذرية، لضمان عدم تكرار الانتهاكات في المستقبل. في السياق السوري، يعتبر إصلاح المؤسسات ضرورة ملحّة لإعادة بناء الثقة بين الدولة والمجتمع، ولا سيما بعدما تعرضت له منذ أكثر من ثلاثة عشر عامًا من الصراع الذي دمّر البنية التحتية للدولة وأضعف المؤسسات الحكومية بشكل كبير.

ومن الناحية النظرية، يرتكز مفهوم إصلاح المؤسسات على مبادئ الحوكمة الرشيدة التي تضمن احترام حقوق الإنسان وتعزيز العدالة والمساواة بين المواطنين. وفقًا لنظرية الحوكمة الانتقالية (Transitional Governance Theory)، فإن إصلاح المؤسسات هو أداة لضمان شرعية الدولة بعد الصراع وتحقيق الاستقرار المستدام. وهذه النظرية تدعو إلى دمج المعايير الدولية لحقوق الإنسان في عمليات الإصلاح المؤسسي، ومنها ضمان المساءلة، والشفافية، والكفاءة في تقديم الخدمات العامة[19]. في سورية، يشكّل إصلاح الأجهزة الأمنية والقضائية أولوية قصوى، حيث كانت هذه المؤسسات أدوات رئيسية في دعم القمع والاستبداد. وتشير نظرية “التحول الديمقراطي” إلى أنّ إعادة هيكلة هذه الأجهزة يجب أن تتضمن تغييرات مؤسسية وهيكلية، مثل إزالة العناصر المتورطة في الانتهاكات، وتطبيق سياسات فعالة لدمج فئات مجتمعية متنوعة، وضمان استقلالية القضاء.[20] وإضافة إلى ذلك، يُبرز نموذج إعادة بناء السلام الإيجابي (Positive Peacebuilding) أهمية إصلاح القطاعات الاجتماعية، مثل التعليم والصحة، لضمان معالجة الجذور الاقتصادية والاجتماعية للصراع. ويتطلب هذا النموذج الاستثمار في تحسين الظروف المعيشية وتعزيز التنمية الاجتماعية كجزء من عملية الإصلاح الشاملة.

في الحالة السورية، يعني تحقيق هذا الهدف إجراء إصلاحات عميقة في مؤسسات الدولة التي كانت خاضعة للسلطة الاستبدادية، مثل الأجهزة الأمنية والاستخباراتية. يجب أن تتضمن هذه الإصلاحات آليات لضمان الرقابة المدنية وتطبيق قوانين صارمة تحول دون استخدام هذه المؤسسات كأدوات لقمع الشعب. بهذا، يصبح إصلاح المؤسسات ليس مجرد إجراء فني، بل يكون جزءًا من عملية بناء دولة جديدة تقوم على احترام حقوق الإنسان وسيادة القانون[21]. وتعدّ نظرية “التغيير المؤسسي” في العدالة الانتقالية من الأدوات الرئيسية لفهم كيفية بناء مؤسسات جديدة قادرة على تجاوز إرث الأنظمة الاستبدادية. تؤكد هذه النظرية أن أي عملية تغيير حقيقية لا يمكن أن تقتصر على الهيكل التنظيمي فقط، بل يجب أن تمتد إلى تغيير الثقافة المؤسسية التي تتسم غالبًا بالعقابية والسلطوية في ظلّ الأنظمة القمعية. [22]في الحالة السورية، يظهر هذا بوضوح في المؤسسات الأمنية والعسكرية التي استخدمت العنف كوسيلة للسيطرة،[23] مما يستدعي إصلاحًا جذريًا يركّز على إعادة هيكلة هذه المؤسسات لتخضع لرقابة مدنية صارمة. هذا الإصلاح يجب أن يشمل إزالة العناصر المتورّطة في الانتهاكات وتعزيز ثقافة الخدمة العامة القائمة على احترام حقوق الإنسان[24].

من جانب آخر، الجيش أيضًا يتطلّب إعادة صياغة شاملة لدوره. وفقًا لنظرية إعادة دمج القوات المسلحة، فإن دمج الفصائل العسكرية المختلفة ضمن هيكل الدولة الجديد هو ضرورة لضمان عدم تحولّها إلى جهات مؤثرة خارجة عن سيطرة الحكومة. لا يمكن تحقيق هذا إلا من خلال إنشاء وزارة دفاع جديدة، تتولى الإشراف على الجيش، وتعمل ضمن هيكلية مدنية شفافة وديمقراطية. من جهته، القضاء السوري كان أداة رئيسية في يد النظام لتعزيز سلطته وقمع المعارضين، مما أفقده نزاهته واستقلاله. تشير نظرية سيادة القانون إلى أن الإصلاح القضائي في سورية يجب أن يركز على بناء مؤسسات قانونية مستقلة قادرة على تعزيز العدالة والمساءلة. وهذا يتطلب تدريب القضاة وفقًا للمعايير الدولية، وتفعيل محاكم متخصصة لمحاكمة مرتكبي ي الانتهاكات، وإعادة هيكلة المحاكم العسكرية لتصبح خاضعة للإشراف المدني. وإضافة إلى ذلك، يمكن لتطبيق العدالة الإصلاحية أن يلعب دورًا مهمًا في إعادة بناء الثقة، بين الدولة والمجتمع، من خلال ضمان محاكمات عادلة وتقديم تعويضات للضحايا.

قطاع التعليم والإعلام يُعدّ من بين أكثر القطاعات التي تأثرت بالتوجهات الأيديولوجية للنظام السوري، إذ كان التعليم أداة لتوجيه الأجيال الناشئة نحو الولاء للنظام، وكان الإعلام الرسمي منصة للرقابة على الرأي العام. تتطلب عملية الإصلاح إعادة بناء نظام تعليمي يعزز التفكير النقدي، مع تحديث المناهج الدراسية لتتناسب مع المعايير العالمية لحقوق الإنسان. ويجب تحويل النظام التعليمي إلى أداة لتعزيز التفكير النقدي وحقوق الإنسان، مع تحديث المناهج لتشمل قيم المواطنة وحقوق الإنسان. في المقابل، يحتاج الإعلام إلى أن يتحوّل إلى منصة شفافة، تعكس التعددية السورية وتدعم حرية التعبير والمساءلة المجتمعية. ويجب أن يترافق الإصلاح المؤسسي مع مصالحة مجتمعية حقيقية، حيث يتم تشجيع الحوار بين المكونات المختلفة للمجتمع السوري. القطاع الصحي في سورية يمثل تحديًا كبيرًا بعد الحرب التي دمّرت البنية التحتية الصحية. يحتاج هذا القطاع إلى إصلاح شامل يعيد بناء المستشفيات والمراكز الصحية، مع توفير الدعم الطبي والنفسي للناجين من العنف. وفقًا لنظرية الإنصاف الصحي، يجب أن يضمن النظام الصحي الجديد تقديم خدمات متساوية لجميع المواطنين، مع التركيز على المناطق التي عانت تهميشًا كبيرًا خلال الصراع.

. ويجب أن يتم الإصلاح الاقتصادي على أساس العدالة الاجتماعية لضمان توفير فرص عمل للنازحين والضحايا، إضافة إلى استعادة النشاط الاقتصادي في المناطق المتضررة. ويعتمد ذلك على إشراك القطاع الخاص المحلي والمنظمات الإنسانية في عمليات إعادة الإعمار. ولتجنب تركّز السلطة في يد الحكومة المركزية، يجب تعزيز دور السلطات المحلية في تنفيذ الإصلاحات وتنفيذ مشاريع التنمية. هذا يمكن أن يساعد في تقليل التوترات بين الحكومة والمجتمعات المحلية.

على الرغم من أهمية هذه الإصلاحات، تواجه عملية التغيير المؤسسي في سورية تحديات جمة، أبرزها التهديدات من الفصائل المسلحة والجماعات ذات النفوذ العسكري، إضافة إلى الفساد المنتشر في مؤسسات الدولة. تشير الأدبيات المتعلقة ببناء السلام المستدام إلى أن التغلب على هذه التحديات يتطلب ضمانات دولية ودعمًا سياسيًا قويًا. محاربة الفساد تعتبر جزءًا أساسيًا من هذه العملية، حيث إن تعزيز الشفافية والمساءلة يُعدّ مفتاحًا لتحقيق إصلاحات مستدامة. وإصلاح المؤسسات في سورية ليس مجرد عملية تقنية لإعادة بناء الدولة، بل هو مشروع شامل يهدف إلى إعادة صياغة العلاقة بين الدولة والمجتمع على أسس جديدة من العدالة والمساواة واحترام حقوق الإنسان. هذه العملية تمثّل فرصة حقيقية لفتح صفحة جديدة من التعايش والسلام المستدام، مع ضمان عدم تكرار الأخطاء الكارثية التي أوصلت البلاد إلى هذا الوضع.

ختامًا، تمثّل العدالة الانتقالية في سورية حجر الزاوية في عملية بناء دولة ما بعد الأسد. وعلى الرغم من التعقيدات الهائلة التي تواجهها، فإنها تبقى السبيل الأمثل لتحقيق المصالحة الوطنية وإعادة بناء الثقة بين مكونات المجتمع السوري. إن محاسبة المسؤولين عن الجرائم والانتهاكات هي واجبٌ أخلاقي أولًا، وهي ضرورة سياسية وقانونية لبناء مستقبل قائم على احترام حقوق الإنسان وسيادة القانون. في ظل الظروف الحالية، يتطلب تحقيق العدالة الانتقالية تبنّي نهج متوازن يجمع بين المساءلة، والتعويض، والمصالحة. ويظل الأمل موجودًا في أن تكون هذه المرحلة بداية جديدة لسورية المستقبل، سورية المواطنة، حيث تُبنى مؤسسات قوية وعادلة تستجيب لتطلعات الشعب السوري في الحريّة والكرامة والمساواة، وتُطوى صفحة مظلمة من تاريخ البلاد بوعي ومسؤولية نحو مستقبل أفضل.

[1] Karatnycky, A., et al. (Eds.). (2001). Nations in transit 2001 (p. 26, tbl.B).

[2] Pfiffner, J. P. (2010). US blunders in Iraq: De-Baathification and disbanding the army. Intelligence and National Security, 25(1), 76–85. https://doi.org/10.1080/02684527.2010.493962

[3] Rawls, J. (1971). A Theory of Justice. Harvard University Press.

[4] Tyler, T. R. (2006). Why People Obey the Law. Princeton University Press.

[5] Allal, A., & Geisser, V. (2012). The Rise and Fall of Ben Ali: Politics and Power in Tunisia. CERI Series, Hurst Publishers.

[6] Arbour, L. (2009). The Responsibility to Protect: A Critical International Law Perspective. Human Rights Quarterly, 31(1), 120-135.

[7] Kritz, N. J. (1995). The United Nations and Transitional Justice: A Review of Efforts to Deal with Human Rights Violations. Journal of International Affairs, 48(2), 191-210.

[8] Rombouts, H. (2012). Transitional Justice and Accountability. Cambridge University Press.

[9] Roth, K. (2019). Transitional justice: An introduction. Human Rights Watch. https://www.hrw.org/report/2019/xx/xx/transitional-justice

[10] Nussbaum, M. (2011). Creating capabilities: The human development approach. Belknap Press of Harvard University Press.

[11] Roth, K. (2019). Transitional justice: An introduction.

[12] Nussbaum, M. (2011). Creating capabilities: The human development approach. Belknap Press of Harvard University Press.

[13] Hayner, P. B. (2011). Unspeakable Truths: Transitional Justice and the Challenge of Truth Commissions. Routledge.

[14] Nussbaum, M. (2011). Creating capabilities: The human development approach. Belknap Press of Harvard University Press.

[15] Ibide.

[16] Elster, J. (2004). Closing the books: Transitional justice in historical perspective. Cambridge University Press.

[17] Karp, L., & Tyler, R. M. (2014). And restorative justice for all: Redemption, forgiveness, and reintegration in organizations. International Journal of Offender Therapy and Comparative Criminology, 58(7), 825–841. https://doi.org/10.1177/0305735613510914

[18] Eisenbruch, M. (2009). The Extraordinary Chambers in the Courts of Cambodia: A new mechanism for transitional justice. Journal of International Criminal Justice, 7(3), 599–610. https://doi.org/10.1093/jicj/mqp032

[19] Barnett, M., & Zürcher, C. (2009). The Peacebuilder’s Contract: How External Statebuilding Reinforces Weak Statehood. In Roland Paris & Timothy D. Sisk (Eds.), The Dilemmas of Statebuilding: Confronting the Contradictions of Postwar Peace Operations. Routledge.

[20] Galtung, J. (1996). Peace by Peaceful Means: Peace and Conflict, Development and Civilization. Sage Publications. (Focuses on the Positive Peacebuilding model.)

[21] Celermajer, D., Churcher, M., Gatens, M., & Hush, A. (2021). Institutional transformations: Imagination, embodiment, and affect. Constellations, 28(1), 24–37.

[22] Carothers, T. (2002). The End of the Transition Paradigm. Journal of Democracy, 13(1), 5-21. (Addresses the complexities of democratic transition.)

[23] Bakkour, Samer. The End of the Middle East Peace Process: The Failure of American Diplomacy. New York and London: Routledge, 2022.

[24] Baczko, A., Dorronsoro, G., & Quesnay, A. (2018). Civil War in Syria: Mobilization and Competing Social Orders. Cambridge University Press. (Explores institutional dysfunction in Syria and priorities for reform.)

تحميل الموضوع

مركز حرمون

إعداد موقعنا “صفحات سورية”

—————————-

العدالة الانتقالية وأهمية إنضاج المقاربة السورية/ أحمد قربي و نورس العبد الله

تسعى السلسلة الحالية لتناول مختلف جوانب مفهوم العدالة الانتقالية ذات الصلة بالأسس النظرية والتجارب التطبيقية والعملية معاً، وتحليل الدروس المستقاة من محاولات الدول والمجتمعات التي كان لديها إرث من الانتهاكات، وهو ما يسمح من حيث النتيجة بتقديم رؤية عامة وشاملة وغير مُجزَّأة لإنتاج أكبر قدر من التوافق الوطني السوري حول المقاربة الخاصة بالعدالة الانتقالية في سوريا، وتجنُّب حالة التشتت في مسارات جزئية ومتناقضة قد تفرغ العملية من أهدافها وغاياتها الرئيسة.

تنطلق هذه السلسلة من رؤية أساسية تجاه العدالة الانتقالية تتمثّل فيما يلي: توافق أكبر قدر ممكن من المكونات السورية حول مضمون العدالة الانتقالية ربما هو العامل الرئيس الذي يفترض التركيز عليه لتصميم مقاربة خاصة بها، إلى جانب عوامل أخرى مثل: الشمولية؛ بما تعنيه من السعي للوقوف على كامل الإرث من انتهاكات الماضي وإغلاقها بما لا يسمح بتكرارها، والاعتراف بضحايا تجاوزات الماضي على أنّهم أصحاب حقوق، ووضع آليات لمحاسبة المجرمين والمتورطين في جرائم جسيمة بحق السوريين، ومنعهم من تولّي المسؤوليات العامة والانخراط في المشهد السياسي مجدداً، وتعزيز الثقة بين الأفراد في المجتمع الواحد، وثقة الأفراد في مؤسسات الدولة المستقبلية، وتدعيم احترام حقوق الإنسان وتعزيز سيادة القانون.

تبرز أهمية هذه السلسلة بارتباطها بجوهر القضية السورية وتطلعات السوريين لمستقبلٍ يحمل في طياته ما يحقق العدالة وسيادة القانون، ولأنها تسهم في تنشيط الحوارات العامة وعرض وجهات النظر حول كل ما يمت لهذه العملية الحساسة والدقيقة، إذ إن نجاح سوريا في العبور نحو دولة جديدة يتطلّب مزيجاً من الحكمة والشجاعة، عبر تطبيق عملية العدالة الانتقالية بشكل يستجيب للتحديات المحتملة، وحتى تكون هذه العملية قوية لابد لها من الاستناد إلى أسس واضحة.

تنطلق هذه السلسة من هذه الورقة التمهيدية التي تُركّز على أسس ومفاهيم العدالة الانتقالية والأسئلة التأصيلية في الحالة السورية، ومن ثم تُركّز تباعاً على دراسة وتحليل التجارب الدولية كالأرجنتين وتشيلي وجنوب إفريقيا، والتجارب العربية كالمغرب وتونس وليبيا، كما تتناول الآليات التطبيقية والسبل المقترحة في سوريا عملياً لكل من المحاكم الجنائية وهيئات الحقيقة، وأخيراً تتناول السلسة قضيتين داعمتين للمسار ككل، وهما: أدوار المجتمع المدني السوري في إطلاق مسار العدالة الانتقالية ودعمه، وقضية استرداد الأموال المسلوبة من النظام البائد عبر تحليل التجارب السابقة والبحث في أفضل السبل المتاحة لإطلاق عمليات الاسترداد التي تساعد بدورها -حال نجاحها-  نسبياً في دعم عمليات جبر الضرر.

مقدمة:

بعد هروب المجرم بشار الأسد يوم 8/12/2024، وجد الشعب السوري نفسه في مواجهة مباشرة مع إرث ثقيل من جرائم متراكمة ارتكبها النظام البائد منذ انقلاب آذار 1963 مروراً بانقلاب 1970 ووصول عائلة الأسد إلى السلطة وانتهاء بالثورة السورية التي انطلقت عام 2011، حيث تعرَّض الشعب السوري على مدى هذه السنوات لجرائم متراكمة وممنهجة من قتل وتهجير واغتصاب وقصف للأعيان المدنيّة وسرقة لأموال الشعب.. إلخ. كل ذلك طرح تساؤلات حول آليات التعامل مع هذا الإرث الكبير من الجرائم.

وبما أن الحالة السورية ليست استثناء في هذا السياق رغم تعقيدات المشهد السوري داخلياً، وحجم التدخُّل والتلاعب الدولي خارجياً وطول فترة الصراع بين قوى الثورة السورية والنظام الاستبدادي، وحجم الانتهاكات الممارَس بشكل رئيسي من منظومة الأسد وحلفائه دولاً ومليشيات، تبرز أهمية النظر في الجهود النظرية والعمليّة التي أنتجتها شعوب كثيرة في العالم كانت قد عانت أيضاً ويلات أنظمةِ حكمٍ بوليسية شمولية في القرنين العشرين والواحد والعشرين[1] -مع التأكيد على الخصوصية السورية  بسبب وحشية نظام الأسد الاستثنائية وحجم التضحيات التي قدَّمها الشعب السوري- خصوصاً أن بعض هذه الشعوب استطاعت إنجاز مرحلة انتقالية بما يتلائم مع سياقاتها المختلفة نحو مستقبلٍ أفضل[2]، وعالجت الإرث الثقيل للماضي عبر تطبيق آليات العدالة الانتقالية وأدواتها.

يسعى هذا التقرير إلى الإجابة على التساؤلات المفاهيمية الأساسية حول العدالة الانتقالية وأهميتها وآلياتها من جهة، وأهمية إعمالها في الحالة السورية كوسيلة رئيسة للعبور نحو المستقبل، وكيفية إنتاج مقاربة وطنية خاصة بالسياق السوري.

وقد اعتمد هذا التقرير على منهجية البحث المكتبي والذي يعتمد على البيانات الثانوية، وبالاستناد إلى أساليب التحليل النقدي من حيث مراجعة الأدبيات وتقديم خلاصات تحليلية مُبسَّطة[3].

يهدف هذا التقرير التمهيدي إلى فهم وتوضيح منظومة العدالة الانتقالية وتفكيك أُسسها الإشكالية على المستوى النظري  والتأسيس لسلسة قادمة من التقارير التي تتناول آليات العدالة الانتقالية على المستوى المعرفي وتطبيقاتها العملية -دولياً وعربياً- واقتراح السُّبل المناسبة للحالة السورية، سواء على صعيد المساءلة الجنائية أو آليات تكوين هيئة الحقيقة وإنشائها وصولاً لآليات المصالحة المجتمعية واسترداد الأموال المنهوبة والإصلاح القانوني والمؤسساتي، في محاولة لتعزيز النقاش العام سريعاً لإنتاج مقاربة سورية تحظى بأكبر قدر ممكن من الإجماع الوطني لمعالجة الماضي والتطلُّع للمستقبل.

أولاً- خلاصات رئيسة في مفهوم العدالة الانتقالية:

يُشير استقراء مجموعة التعريفات المقدَّمة أن مفهوم العدالة الانتقالية يقوم على وجود منظومة يتم تطبيقها في فترة زمنية خاصة وبظروفٍ استثنائية لتمثل مقاربة مُعيّنة لتحقيق العدالة اللازمة كي يتعافى المجتمع ككل عبر التعمُّق في جذور الانتهاكات بمفهومها الواسع، وذلك بهدف الانتقال بأمان إلى مستقبل جديد بعد مواجهة جريئة للماضي وتصفيته[4]، ولذلك فإن العدالة الانتقالية من المنظومات المعقّدة وغير البسيطة ولا يجب التعامل معها بشكل سطحي وتعميمي.

كما يرتبط تحديد مفهوم العدالة الانتقالية بعوامل متغيرة في كل من الزمان والمكان، مما يجعله مفهوماً نسبياً متأثراً بدرجة كبيرة بطبيعة التجربة الوطنية المحلية، وينعكس ذلك تفاوتاً في أساليب تحليل المفهوم وانعكاسه على التشريعات الناظمة[5].

وعلى الرغم من تعقيدات مسار العدالة الانتقالية وإشكالاته النظرية والتطبيقية تظهر الكثير من الأسباب التي تظهر أهمية تطبيق العدالة الانتقالية في المراحل الانتقالية والتي يمكن إجمال أبزرها بثلاث حجج رئيسة، وهي:

    تجسّد خطةً شاملةً متوازنةً فهي لا تتجاهل كلياً الآليات العادية للعدالة، والتي تكون عاجزة عن تقديم الحلول في المرحلة الانتقالية، فالعدالة الانتقالية إذاً أوسع وأعمق من العدالة في الظروف العادية لكنها ليست نقيضاً لها.

    البديل المتوازن عن فكرة عدالة المنتصر أو الانتقام بسيف القانون[6].

    تجسّد العدالة الانتقالية عموماً الفلسفة المتوازنة بين الماضي والحاضر والمستقبل، فلا تتجاوز الماضي ككل ولا تغرق به كقيد على معالجة متطلبات الحاضر والتأسيس لمستقبل يضمن عدم تكرار المآسي.

ثانياً- نظرة في الآليات الرئيسة للعدالة الانتقالية: المنظومة الشاملة

تنطوي العدالة الانتقالية بوصفها منظومة شاملة ومتكاملة ومتضمّنة كمّاً متنوّعاً من الآليات التي تُصنّف عادة إلى نوعين رئيسيين، وهما: الآليات القضائية والآليات غير القضائية.

أ-الآليات القضائية: تقوم على أساس الملاحقة القضائية لمرتكبي الجرائم والانتهاكات، وعادة ما تُركّز على كبرى الجرائم التي يمكن اعتبارها انتهاكات جسيمة لحقوق الإنسان، مثل: جرائم الحرب والجرائم ضد الإنسانية، والتي تنطوي عموماً على أربع أنماط رئيسة لكل منها إيجابيات وسلبيات وهي:

    القضاء الوطني: وهو الأصل العام، حيث يختص القضاء الوطني بملاحقة المجرمين ومحاسبتهم تجسيداً لمبدأ سيادة الدول، وهو ما يمتاز بمجموعة من الإيجابيات كتوفير الأموال والفعالية والإنجاز وتعزيز ثقة المواطنين بالسلطة الجديدة، إلا أن تحديات أخرى تبرز ومن أهمها وجوب إصلاح القضاء أولاً والذي يكون عادة أحد أدوات الاستبداد قبل الاعتماد عليه.

    المحاكم الجنائية الدولية الخاصة: وهي محاكم يتم إنشاؤها بغرض التحقيق في انتهاكات حقوق الإنسان في فترة صراع دولي أو غير دولي لمحاسبة المسؤولين عنها كما حصل في حالة يوغسلافيا السابقة ومن ثم رواندا[7]، وعلى الرغم من أهمية هذا النوع إلا أن سلبيات عديدة تبرزها دراسة وتحليل التجارب السابقة ومن أهمها ارتباطها بكبار المجرمين فقط وطول مدة عملها، إذ قد تمتد لعقود، وحضور مخاطر التلاعب السياسي الدولي والتكلفة المالية الباهظة وعدم وجود أحكام بالإعدام [8].

    المحاكمات المدوّلة أو (المختلطة): والتي تُنشأ وفقاً لاتفاقية تعقد بين الأمم المتحدة والدولة التي ارتكبت على إقليمها الجرائم الدولية، وتتكون من مجموعة مشتركة من القضاة المحليين والدوليين كما حصل في سيراليون وتيمور الشرقية[9]. وعلى الرغم من إيجابية هذا النمط بوصفه استكمالاً لتطور القضاء الجنائي الدولي والتعاون لمنع الإفلات من العقاب والاستفادة من الميزات الوطنية كالقرب الجغرافي والنفسي من الضحايا والميزات الدولية كالخبرات والموارد، إلا أن تحديات عديدة تبرز أيضاً في هذا النمط على الصعيد القانوني والتطبيقي وكذلك التداخل بين السياسي والقانوني في كل مرحلة من مراحل وجودها[10].

    الاختصاص الجنائي العالمي أو الولاية القضائية العالمية: والتي نشأت كآلية عدالة للضحايا بهدف تعزيز المساءلة العالمية عن الجرائم الدولية وهي كبرى الانتهاكات الجسيمة، ومعالجة فجوة الإفلات من العقاب، إلا أنها تبقى آلية احتياطية وغير مُطبَّقة في جميع الدول[11]، ومن أبرز سلبياتها انفصالها عن الفلسفة الشاملة لمنظومة العدالة الانتقالية في بلد ما، مما قد يُولّد تطبيقات متناقضة[12].

ب-الآليات غير القضائية:

وهي ما تُشكّل الطيف الواسع من الآليات التي تتفاعل معاً لعلاج ماضي الاستبداد والانتهاكات بمفهومها الواسع، وتؤدي للعبور من المراحل الانتقالية بأقل الخسائر، والتي تتركّز عموماً على خمسة أنواع رئيسة:

    لجان أو هيئات الحقيقة: تُمثّل هذه المؤسسة الآلية الأهم في سياق العدالة الانتقالية نظراً لتزايد الاعتماد عليها في التجارب المختلفة، حيث تُعرَّف عادة بأنها: هيئة وطنية رسمية ومؤقتة وذات طبيعة شبه قضائية واختصاصات مُحدَّدة وتصدر تقارير نهائية، ومن أبرز أمثلتها: اللجنة الوطنية العليا للأشخاص المفقودين في الأرجنتين عام 1983، مفوضية الحقيقة والمصالحة في جنوب إفريقيا عام 1995، هيئة الحقيقة والكرامة في تونس عام 2014.

    جبر الضرر: والذي يقوم على أساس تقديم ترضية لضحايا الانتهاكات التي ارتُكبت، وذلك عبر خليط متعدّد من أنواع التعويض، وجبر الضرر الذي قد يكون مادياً أو معنوياً فردياً أو جماعياً، وهي العملية التي تسعى لتحقيق ثلاثة أهدافٍ رئيسةٍ هي: الإقرار بمسؤولية الدولة عن الانتهاكات، ونيل ثقة المواطنين، وأخيراً تحقيق التضامن الجماعي[13].

    الإصلاح المؤسّساتي: والتي تعني إعادة بناء المؤسسات وخاصة السيادية التي تكون متورّطة عادة في ارتكاب الانتهاكات كأجهزة الأمن والقضاء ومؤسّسات العدالة، لتصبح قادرة على المضي بالبلاد نحو عهد جديد، وهي العملية التي تشمل بمعناها الواسع الإصلاح المرتبط بالنصوص، أي الإصلاح القانوني والإصلاح المرتبط بالهياكل وصولاً للإصلاح المرتبط بثقافة الكوادر.

    العزل السياسي: والتي تسمى أيضاً بالتطهير السياسي أو التفحُّص والاستبعاد، وتُركّز على ألا يُتاح للأشخاص الذين كانوا جزءاً من نظام استبدادي الاستمرار في الحياة السياسية في المرحلة التي تشهد جهوداً للتحوُّل، لأنهم بكل بساطة مكمن خطر وليسوا فرصة وطاقة بشرية داعمة للتحوُّل، إلا أن هذه العملية حساسة جداً، بحيث يجب ألا تُستخدم كآلية انتقامية، وألا تكون عشوائية بمعنى أن تخلو من معايير دقيقة أو تغلق باب التظلُّم القانوني منها[14] .

    حفظ الذاكرة الوطنية: والتي ترتبط بواجب عدم النسيان وبأحد الحقوق ذات الاحترام في الفقه الدولي، وهو الحق في المعرفة، إذ يُشكّل معرفة الشعب لتاريخ اضطهاده جزءاً من تراثه، ومن الواجب صيانة هذا التراث من خلال اتخاذ تدابـير مناسبة لإحياء أي واقعة أو حدث تعمل كآلية للتذكُّر، وتتضمن هذه الآلية الكثير من الأساليب والأدوات كرسالة إلى الأجيال القادمة كإنشاء المتاحف وتحديد أيام وطنية وإدماجها في المناهج الدراسية.. الخ، وهو ما يرتبط بدوره بتعزيز ضمانات عدم التكرار[15].

ومن الجدير ذكره وجود طيف آخر من التصنيفات على المستوى النظري، على سبيل المثال: إدراج فكرة المصالحة الوطنية أو إعادة بناء الهوية كآليات للعدالة الانتقالية، إلا أنه يمكن النظر إلى ما سبق على أنها أهداف أو نتائج نهائية لمسارات العدالة الانتقالية.

شكل رقم 1 يوضح أبرز آليات العدالة الانتقالية

ثالثاً- لماذا نحتاج لمقاربة سورية خاصة للعدالة الانتقالية؟ تجنُّب الفراغ والفوضى

يجُسّد مفهوم العدالة الانتقالية مفهوماً ديناميكياً وغير جامد؛ بمعنى آخر أنه ليس وصفة جاهزة للتطبيق في كل مكان وزمان وذات الطريقة والمقاييس[16]، ولذلك لا يمكن استنساخ تجربة من هنا أو هناك لتطبيقها في دول أخرى خارجة من حالات نزاعية مع أنظمة استبدادية.

وبناء على ذلك، فمن الطبيعي أن تكون سوريا حالياً وبعد إسقاط نظام الأسد بحاجة إلى تصميم نموذجها الخاص للعدالة الانتقالية، وبما يُحقّق الغايات والطموحات المشروعة للسوريين للمضيّ بثبات نحو دولة قانون ومؤسسات، لكن ذلك لا يعني أبداً تجاهل السوريين للتجارب الدولية الأخرى والاستفادة من الدروس المستخلصة منها بجانبيها السلبي والإيجابي، وبدورها تُقدّم التجربة العملية السورية بعد سنوات دروساً للتجارب الأخرى.

فضلاً عما سبق يمكن تحديد مجموعة من الأسباب التي تدفع السوريين لإنضاج مقاربتهم الخاصة للعدالة الانتقالية بأسرع ما يمكن:

    على الرغم من وجود غنى في المستوى النظري والمعرفي وكذلك طيف واسع من التجارب فإنه من الضرورة بمكان أن يُؤسّس السوريون لمبادئ أساسية حاكمة لمنظومة العدالة الانتقالية وبأسرع وقت ممكن، إذ يؤدي الغنى السابق إلى تنوّع شديد في الآراء، على سبيل المثال: إلى أي مدى يتم تقديم ترتيب أولوية السلام المجتمعي والعدالة، فهل يجب أن تميل التجربة السورية للعدالة الجنائية أكثر أم العدالة التصالحية؟[17]، وكل ذلك في ضوء عوامل خاصة بالسياق السوري ومتطلبات الحاضر والمستقبل، وهو ما يعزز حالة الانقسام حتى في القوى الداعمة للمسار.

    يؤدي التأخر في حسم الإجابات الأساسية إلى نشوء مسارات مبعثرة تؤدي إلى تناقضات عديدة لمنطق العدالة الكلي كخضوع بعض الأشخاص للمساءلة القضائية في الفترة القريبة وإفلات البعض منها بناء على قانون لاحق، من جانب آخر فإن التأخُّر في وضع قواعد أساسية للعملية يؤدي لفقدان الثقة لدى كثير من ضحايا انتهاكات نظام الأسد بالتحوُّل الحاصل، ويُعزّز من الانتقام الفردي ويؤدي لدوامة من العنف.

    ضرورة تفويت الفرصة أمام خلط الأوراق بحيث يبدأ أنصار النظام البائد في المجتمع وبشكل سريع بمحاولة إعادة إنتاجه وأفكاره بطرق وأساليب شتى ويجمعهم في ذلك على تنوُّعهم الكره الشديد للثورة والسعي لإحباطها عبر إعادة التموضع في الهياكل الجديدة، واستغلالاً لمساحة الحريات، وهو ما ينذر بإفراغ مسارات العدالة لاحقاً من جوهرها، وهو ما بدأ سريعاً جداً في الحالة السورية عبر انطلاق بعض داعمي الانتهاكات بحركات مطلبية بعيدة عن القضايا ذات الأولوية.

    إن الحالة السورية شهدت انقسامات حادة وعلى مختلف الأصعدة، ولذلك فإن التأسيس السريع لقواعد العدالة الانتقالية الكبرى يُسهم في استقرار المجتمع نسبياً بحيث تُحسم قضية المجرم والضحية ومحدّدات العفو ومواصفات أركان النظام البائد التي لا يجب أن تتسلّل للنظام الجديد.. الخ، فضلاً عن الحدود الزمنية والموضوعية للعملية برُمّتها.

وإذ تتعدد الأسباب الموجبة لإنتاج مقاربة سورية خاصة للعدالة الانتقالية فإن الخصوصية السورية أيضاً لم تقتصر على الحالة المأساوية لجهة الانتهاكات وحجمها خلال حكم النظم البائد بل تحمل في طيّاتها فرصاً إيجابية عديدة كحالة روح التسامح التي رافقت عمليات التحرير العسكرية وانهيار المليشيات الطائفية وأجهزة الأمن ووجود مسارات مُبكّرة للعدالة الانتقالية عملياً كجهود توثيق الانتهاكات من القوى المدنيّة السورية واللجان الدولية الحكومية وغير الحكومية، ووجود جهود لبناء قدرات النشطاء والحقوقيين في قضايا العدالة الانتقالية والكثير من الجهود الفكرية للإصلاح القانوني والقضايا الدستورية بما يجعل الانطلاق ليس من نقطة الصفر.

رابعاً- ملامح المقاربة الخاصة بالعدالة الانتقالية في سوريا: من أين نبدأ؟

في السياق السوري وتبعاً لطول الفترة الزمنية للثورة السورية منذ عام 2011 فقد تم العمل وفي فترات مختلفة ومن قبل جهات بحثية وأكاديمية عديدة داخل سوريا وخارجها وبمشاركات مع مؤسسات دولية حكومية وغير حكومية على إنتاج تصوّرات حول العدالة الانتقالية في سوريا[18]، لذلك فإن إرثاً عاماً للتحضير القانوني والسياسي كان موجوداً بالفعل في الحالة السورية على العكس من حالات أخرى، وهو ما يُمثّل حالة إيجابية دون شك، إلا أنه من جانب آخر مثَّل انعكاساً لحالة التفكير خارج دائرة السلطة وبعيداً عن المستجدات المرتبطة بالواقع الميداني والدولي ومعطياته من جانب، كما تنوّعت الطروحات وتعدّدت الأُسس والغايات للمقاربة السورية تبعاً لمرور السنوات وتطوّر السياق وتعدُّد الجهات[19].

أما بعد سقوط النظام البائد ومع أولى إجراءات إدارة العمليات العسكرية ذات الصلة بملف العدالة عبر إطلاق عفو وإجراء تسويات، بدأت أيضاً طروحات عديدة عن ملامح العدالة الانتقالية المطلوبة بين دعوات لمحاسبة كبار المجرمين وفتح الباب أمام الدعاوى الفردية[20]، أو الدمج بين عدالة جنائية وتصالحية[21]، وصولاً للحديث عن العزل السياسي وشمولية العدالة وإطارها الزمني.. الخ[22]، وعلى هذا النحو توجد مئات الطروحات التي تتقاطع في نقاط وتختلف في نقاط أخرى وتعكس بذلك حدود الفلسفة العامة للعدالة في سوريا بين التركيز أكثر على المساءلة وبين التركيز بشكل أكبر على بدائل العقاب والنهج التصالحي والمضيّ نحو المستقبل.

مع أهمية وحيوية كل ذلك بما يُشكّل موجة ضاغطة تمنع التوجُّهات السياسية التي تميل عادة لتقديم منطق السلام والاستقرار على منطق العدالة كُليّاً، ومع قدرة الكثير على الاستدلال من القانون الدولي أو الأسس النظريّة للعدالة الانتقالية أو التجارب المختلفة على صحة طروحاته وأهميتها، يبدو أن قضيتين رئيسين جديرتين بالاهتمام في هذه المرحلة.

الأولى: أهمية التوافق على مُحدّدات أساسية للعدالة الانتقالية في سوريا بما يُراعي خصوصية الحالة السورية لجهة عمق الانتهاكات الجسيمة لحقوق الإنسان، وأعداد الجناة والضحايا، واتساع نطاق الانتهاكات وأساليبها، ووضع المؤسسات والبنى، وعمق الانقسامات حتى بين قوى الثورة والمعارضة، وحساسية عامل الزمن. كل ذلك يتطلّب أكبر قدر من العقلانية بالطروحات والموازنة الدقيقة بين المأمول والمتاح، وبالتالي ضرورة التعامل مع قضية العدالة الانتقالية باعتبارها قضية وطنية مُعقّدة تحتاج لمقاربة شاملة، وعدم تبسيطها بحلول مختصرة وناقصة.

الثانية: التركيز على تقديم إجابات واضحة تُساهم بوضع محدّدات أساسية للعدالة الانتقالية في سوريا؛ بمعنى تقديم إجابات على أسئلة جوهرية، منها: ما الطريقة التنظيمية المناسبة للمضي قدماً في إنتاج الملامح الأساسية التوافقية بين أكبر عدد ممكن من القوى الوطنية والمجتمعية؟ ما الرؤية الكلية التي ستستند عليها مقاربة العدالة الانتقالية في سوريا؟ ما المبادئ الرئيسة التي ستُركّز عليها هذه المقاربة؟ ..إلخ.

لا شك أيضاً أن الطرق والوسائل متعدّدة في المشهد الحالي، ويمكن أن تؤدي لحدوث مسارات تنظيميّة بدلاً من مسار إذا لم ترتكز العملية على مركز مُعيّن، وتجنُّباً لكل ذلك التعقيد من الممكن أن تكون قيادة السلطة المؤقتة دوراً رئيساً في هذا الصدد، من خلال المؤتمر الوطني ذاته.

فمع انطلاق المؤتمر الوطني الذي يتم الحديث عنه يبدو من المناسب وجود محور محدّد للتوافق على مبادئ كليّة أساسية لعملية العدالة الانتقالية في سوريا، وفي معرض الحديث عن هيئة انتقالية وحكومة تدير المرحلة الانتقالية يمكن تأسيس هيئة وطنية رسمية مستقلة للعدالة وحقوق الإنسان تتحدّد أولى مهامها بقيادة مشاورات وطنية واسعة وبحضور فاعل لقوى المجتمع المدني وذوي الضحايا وروابطهم لإعداد مُسوّدة قانون خاص بالعدالة الانتقالية في سوريا، مع مراعاة مُحدّدات تكوين هذه الهيئة ومواصفات وشروط عضويتها ومرجعيتها وضمانات نجاحها كالموارد المالية والتقنيّة والصلاحيّات والاستقلالية.

وريثما يتم مناقشة الأمر داخل مؤتمر الحوار الوطني، يُفترض القيام بسلسلة من الإجراءات والتدابير الاحتياطية -إن صح التعبير-، والتي تهدف لإنجاح مسار العدالة الانتقالية في المساءلة وكشف الحقائق كمصير المفقودين والمُغيّبين ومنع تدمير الأدلة، ومن أبرز هذه التدابير:

    السعي لإلقاء القبض على أكبر عدد ممكن من كبار المتورّطين بجرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية وفقاً للقوائم المسبقة للجان التحقيق الدولية والمنظمات الحقوقية السورية وغبر السورية وقوائم العقوبات، وتوقيفهم على ذمة التحقيق.

    ضبط وحماية السجون السريّة والعلنيّة للنظام البائد ومنع الدخول إليها، وإنشاء لجنة خاصة للمتابعة والتحرُّز على الوثائق المختلفة.

    إحصاء وحماية أماكن المقابر الجماعية ومنع العبث بها أو الأعمال المنفردة لأي جهة كانت.

    تنظيم لقاءات أوليّة تشاورية مع اللجان الدولية والمنظمات السورية وروابط الضحايا ومراكز الدراسات للبحث في قائمة الأولويات والأعمال التحضيرية.

    تنظيم عمليات جبر الضرر المؤقتة للضحايا الناجين وذويهم بما يُقدّم رسالة إيجابية رمزيّة لأولوية المسار وحتميّته.

شكل رقم 2 يوضح المشهد العام والمقترح لتأسيس المقاربة السورية للعدالة الانتقالية

خاتمة: 

مع إسقاط نظام الأسد البائد تجدَّد لدى مئات الآلاف من السوريين وخاصة من الأمهات داخل وخارج سوريا الأمل بالعثور على أبنائهم وأقربائهم أحياء من مسالخ نظام الأسد وأفرعه الأمنية، واستعاد بعض السوريين مباشرة أملاكهم المغتصَبة في البلدات والقرى، فيما عاد البعض الآخر سريعاً حالماً بتحقيق العدالة من المليشيات الإجرامية التي عذّبته وقتلت أبناءه ..الخ، إلا أن ذلك ترافق مع اصطدام الكثير من السوريين بلحظة الحقيقة وهي مشاهدة وسائل القتل والمقابر الجماعية والبلدات المدمّرة والمنازل التي تم نقل ملكياتها ووكلاء الأمن باللباس المدني في قيادة المؤسسات العامة،  وهو ما أكد الحقيقة التي نشأت العدالة الانتقالية من أجلها، وهو التعامل مع إرث الماضي الرهيب للأنظمة الاستبدادية.

وإذ تُشكّل الفترة الأولى لإسقاط الأنظمة الاستبدادية فرصة للتطلُّع للمستقبل فإن الضبابية في كيفية التعامل مع كل هذه التركة وترك المجتمع في دوّامة من الأفكار التي تبدأ بالرغبة بالانتقام وإلحاق الأذى بكل منظومة الاستبداد وصولاً إلى فكرة طي الماضي كلياً وفتح صفحة جديدة وكأن شيئاً لم يحصل وآلاف المتموضعات بين النموذجين تؤكد الحاجة للبدء الفوري بحوار يشمل القوى السورية المختلفة التي وقفت بوجه نظام الأسد بكل الوسائل خلال مرحلة الثورة السورية مع السلطات المؤقتة ومع ضمان دور واسع للناجين وروابط الضحايا والمنظمات الحقوقية للتوافق حول قواعد أساسية تقدّم لهيئة الحكم الانتقالية لإكسائها آليات النفاذ قريباً.

[1] على سبيل المثال نذكر: في أوروبا (دول المعسكر الاشتراكي السابق ألمانيا الشرقية، رومانيا، بولندا، يوغسلافيا) في إفريقيا (سيراليون، رواندا، جنوب أفريقيا، تونس) وفي أمريكا الجنوبية (تشيلي، الأرجنتين، الأورغواي، بيرو) وفي آسيا (كمبوديا، تيمور الشرقية).

[2] يُطلق اصطلاح المرحلة الانتقالية للفترة التي تفصل بين مرحلتين كبيرتين من مراحل حياة الدول كالتحوُّل من حالة احتلال إلى حكم وطني أو نظام استبدادي إلى ديمقراطي أو حرب أهلية إلى سلام أهلي.

ينظر: نوال كوثراني، العدالة الانتقالية، رسالة دبلوم دراسات عليا، الجامعة الإسلامية في لبنان، كلية الحقوق، 2008، ص 5-6.

[3] البحث المكتبي، المعروف أيضاً باسم البحث الثانوي أو البحث التكميلي ، يتضمن جمع المعلومات والبيانات من المصادر الموجودة، مثل الكتب والمجلات والمقالات ومواقع الويب والتقارير وغيرها من المواد المنشورة. يقوم المستخدمون بتحليل المعلومات وتلخيصها من المعلومات المتاحة بالفعل.

ينظر:

What Is Desk Research? Meaning, Methodology, Examples, Meltwater, April 2024.

[4]– انظر كلاً من: جواد كاظم عجيل، العدالة الانتقالية ما بعد النزاعات المسلحة، العراق ما بعد 2003، رسالة ماجستير في القانون العام، الجامعة الإسلامية في لبنان، كلية الحقوق،2015-2016، ص 4-5؛ خميس دهام حميد وهمسة قحطان خلف، العدالة الانتقالية في دولة جنوب إفريقيا بحث محكّم في مجلة دراسات دولية، جامعة بغداد، عـ61، 27/10/2015، ص1؛ نبيل العوني، العدالة الانتقالية بين مطامح التشريع ووعورة الطريق، المركز الديمقراطي العربي، برلين، ط1، تموز 2020، ص 22.

[5] – ينظر مصطفى زغيشي، دور الحكم الراشد في تجسيد العدالة الانتقالية، أطروحة دكتوراه في الحقوق تخصص الحكامة وبناء دولة المؤسسات، جامعــة باتنــة 1 الحاج لخضر، 2019-2020، ص 41؛ عمر عبد الحميد عمر، مفهوم العدالة الانتقالية من وجهة نظر القانون الدولي العام، مجلة جامعة تكريت للحقوق، عـ2، جـ1، إصدار 2019، ص 2020.

[6] هو ذلك الانتقام القانوني الذي يُمارسه من ينتزع السلطة من خصومه، فيفسد معنى العدالة ويفرط في الانتقام عبر استغلال القانون وتطويعه ضد خصومه.

ينظر: محمد جمال عرفة، عدالة المنتصر وقانون زينب، موقع مصر العربية، 7/6/2015.

[7] زياد الـعـبـادي، دور المحاكم الجنائية الدولية الخاصة في تحديد جريمة الإبادة الجماعية والمعاقبة عليها، رسالة ماجستير في القانون العام، جامعة الشرق الأوسط، 2016، ص 60 وما بعدها.

[8] من الجدير ذكره وجود تطور في القانون الجنائي الدولي أدى لنشوء المحكمة الجنائية الدولية الدائمة بموجب اتفاق روما الأساسي لعام 1998.

[9] في سيراليون: أبرمت اتفاقية دولية بين حكومة سيراليون والأمم المتحدة لغرض إنشاء المحكمة الخاصة عن طريق قراره رقم (1315) لعام 2000 وتم تأسيسها رسمياً في 2002، أما في تيمور الشرقية: فبموجب قرار مجلس الأمن تم تأسيس جهات قضائية متخصصة أطلق عليها “الغرف الجنائية المتخصصة لتيمور الشرقية “في عام 2000.

[10] للتوسع ينظر: د. محمد علي مخادمة، المحاكم الجنائية المختلطة، مجلة الحقوق، جامعة الكويت، مجلد 32، عدد3.

[11] للتوسع ينظر: هوارد فارني وكاتارزينا زدوتشيك، تعزيز المساءلة العالمية: دور الولاية القضائية العالمية في مقاضاة الجرائم الدولية، المركز الدولي للعدالة الانتقالية، 3/12/2020.

[12] مثلاً: أثارت المحاكمات التي جرت لكل من أنور رسلان وإياد الغريب انقساماً كبيراً في الشارع السوري، فقد اعتبر البعض أن هذه الإدانات مهمة جداً في مسار العدالة السوري، في حين رأى البعض الآخر بأن هذه العدالة عقابية لمن رفض الاستمرار في ركب نظام الأسد ولرتب متدنيّة جداً ويشوبها الخلل أساساً في تحديد من هو الجلاد فعلاً لمحاسبته، وبأنها انطلاقة كارثية لمسار المساءلة والمحاسبة.

ينظر: نورس العبد الله، هل من إيجابيات للنقاشات السورية حول محاكمة أنور رسلان؟ منتدى الحوار الشبابي، 28/1/2022.

[13] تم النص عليه في إعلان المبادئ الأساسية لتوفير العدالة لضحايا الجرائم الصادر بقرار الجمعية العامة للأمم المتحدة عام 1985، وكما جاء في مبادئ الإنصاف وجبر الضرر لضحايا الانتهاكات الجسيمة للقانون الدولي الإنساني.

[14] على سبيل المثال: يُعتبر قانون اجتثاث البعث في العراق بعد الغزو الأمريكي أوضح مثال على هاتين الملاحظتين، حيث كان كارثة على العراق وأحد أهم أسباب عدم استقرارها فيما بعد، حيث تضمّن إخراج أعداد كبيرة جداً من المؤسسات المختلفة بناء على معايير غير دقيقة ومنعوا من الطعن أو التظلم.

ينظر: سلام عبود، اجتثاث البعث: لعبة سياسية أم حاجة وطنية حقيقية، موقع الحوار المتمدن، عـ1661، 2/9/2006، شوهد في: 20/12/2024

[15] ينظر على سبيل المثال: عبد العزيز الطاهري، تدابير حفظ الذاكرة في سياق العدالة الانتقالية دراسة مقارنة للتجربة المغربية، سطور للدراسات التاريخية، المجلد 7 العدد 13، عام 2021.

[16] عبد القادر الشيخ، العدالة الجنائية واحتمالاتها في ضوء مبادئ العدالة الانتقالية، مركز ماري للأبحاث، عـ1، تشرين الثاني 2020، ص 63.

[17] يتم تقديم تعريفات عديدة أيضاً للعدالة التصالحية من أبرزها أنها “عملية يشارك فيها الضحية والجاني معاً، وتقوم على مبدأ المصالحة والتصالح بينهما لأجل الوصول إلى “ناتج تصالحي”، أو أنها “عملية تهدف إلى تحسين الأحوال وليس معاقبة الناس”. كما ينظر إلى العدالة التصالحية والعدالة الانتقالية على أنهما استجابات وثيقة وأساسية للجريمة. وهي تؤكد على القيم المشتركة وتُعزّز أطراً مماثلة تسعى إلى توضيح المسؤوليات، وكلاهما يعالج القيود المتأصّلة في المؤسسات القائمة، حيث يمكن أن تتضمّن العدالة التصالحية: مشاركة الجهات المعنية وإصلاح الضرر، استخدام الحوار المباشر أو غير المباشر أو المشاركة بين الضحايا والجناة لحل الجرائم، العقوبات البديلة أو التصالحية في تسهيل المشاركة والإصلاح.

ينظر: وليد النوفل، ما هي العدالة “التصالحية” و”التعويضية” و”الانتقالية”؟، سوريا على طول، 20/12/2020، شوهد في: 25/12/2024، برنامج العدالة التصالحية الذي يركّز على الضحايا، justice and community safety، تحويل العلاقات الاجتماعية: الاستجابات التصالحية للانتهاكات الجسيمة لحقوق الإنسان، المركز الدولي للعدالة الانتقالية، 23/4/2024. شوهد في: 25/12/2024.

[18] ينظر على سبيل المثال: خطة التحول الديمقراطي في سوريا، بيت الخبرة السوري، 14/8/2013، العدالة الانتقالية من منظور الشباب السوري، دولتي، 8/8/2017،

العدالة الانتقالية في سوريا “حلول عملية”، المركز السوري للإعلام وحرية التعبير، الموقع الرسمي.

[19] على سبيل المثال طرح المبعوث الدولي بيدرسون خلال إحدى إحاطاته أمام مجلس الأمن الدولي عام 2020 مصطلح العدالة التصالحية في سوريا وهو ما أثار موجة غضب عارمة في سوريا في حينها.

ينظر: المبعوث الأممي لسوريا يثير غضب المعارضة باستخدامه مفردة: العدالة التصالحية، القدس العربي، 17/12/2020، شوهد في: 23/12/2024.

[20] ينظر على سبيل المثال: لا بديل عن محاسبة مرتكبي الجرائم ضد الإنسانية وجرائم الحرب، بيان صادر عن الشبكة السورية لحقوق الإنسان، 23/12/2024.

[21] ينظر على سبيل المثال: كندة حواصلي، ما هي أشكال العدالة الانتقالية التي يحتاجها السوريون؟، مركز الحوار السوري، 17/12/2024، بيان للمركز الدولي للعدالة الانتقالية: لحظة سوريا التاريخية والخطوات المقبلة، المركز الدولي للعدالة الانتقالية،  17/12/2024.

[22] ينظر على سبيل المثال: سوريا: الأولوية لإرساء العدالة الانتقاليّة وتعزيز سيادة القانون لحفظ السلم الأهلي، الأورو متوسطية لحقوق الإنسان، 19/12/2024.

أحمد قربي

مدير وحدة التوافق والهوية المشتركة في مركز الحوار السوري، يحمل شهادة الدكتوراه في القانون العام من جامعة حلب، وحائز على اعتمادية المعهد العالي للحقوق في الشرق الأوسط، وعمل سابقاً مدرساً في كلية الحقوق في جامعة حلب الحرة. يركز في أبحاثه الحالية على دراسة ديناميكيات العلاقة بين المجتمع السوري والنصوص القانونية والدستورية منها على وجه التحديد.

نورس العبد الله

باحث في وحدة التوافق والهوية المشتركة يحمل إجازة في الحقوق وحاصل على شهادة الماجستير في القانون العام، ناشط في المجتمع المدني والمجال الحقوقي وقدم عدداً من البرامج التدريبية

مركز الحوار السوري

—————————–

ما هي تجارب العدالة الانتقالية التي يمكن الاستفادة منها في الحالة السورية؟/ باسل المحمد

من الطبيعي أن يكون ملف العدالة الانتقالية من أوّل القضايا التي تشغل بال السوريين بعد سقوط النظام في الثامن من ديسمبر/ تشرين الأول، لأنه وعلى خلاف باقي الملفات التي خلفتها تركة “الأسد” الثقيلة، يرتبط بشكل مباشر بمعاناة ملايين العائلات السورية من جهة، والكفيل بتحقيق السلم الأهلي في البلاد من جهة ثانية، إذ تشير التقارير إلى أن عدد الضحايا الهائل في سوريا مقارنةً بعدد سكّانها يجعل من كلّ السوريين تقريباً أصحاب ثأرٍ وأولياء دمّ، حيث قُتِل أو أصيب أو اعتقل شخص من بين كل عشرة، وهُجّر شخص من كل اثنين.

وأمام هذا الواقع فقد تناولت العشرات من وسائل الإعلام السورية وغير السورية، إضافة إلى مراكز الأبحاث هذه القضية، من حيث الأهمية، وكيفية تطبيقها، وآليات المحاسبة، وهل ستكون عدالة تصالحية أم عقابية، إلى غير ذلك من التفاصيل المتعلقة بها.

لذا سيكون الحديث في هذه المادة باتجاه مختلف قليلاً، إذ سيتم تسليط الضوء على تجارب بعض البلدان التي طبقت مبدأ “العدالة الانتقالية” في مرحلة ما بعد الصراعات والحروب الأهلية، عبر تحليل النجاحات والإخفاقات وإمكانية الاستفادة منها في الحالة السورية.

حرب أهلية في راوندا

شهدت رواندا، عام 1994، حرباً أهلية أدّت إلى واحدة من أسوأ الإبادات الجماعية في التاريخ، حيث قُتل ما يقرب من 800 ألف شخص خلال 100 يوم، معظمهم من أقلية “التوتسي” على يد جماعات “الهوتو” المسلحة.

وتعتبر تجربة رواندا نموذجاً ملهماً، حيث تم توحيد مجتمع منقسم بعد الإبادة الجماعية بفضل جهود المصالحة الوطنية والمشاركة المجتمعية الواسعة.

ما يميّز التجربة الرواندية في موضوع تطبيق العدالة الانتقالية هو اعتمادها نماذج وحلول محلية متناسبة مع خصائصها الثقافية، وتكوينها الاجتماعي، إذ لم تنتظر الحكومة الرواندية تدخّل المجتمع الدولي، بل اتخذت خطوات جادّة لحلّ الآثار السلبية للنزاع من خلال المحاكم المحلّية التي كانت جزءاً من نظام العدالة المجتمعية، فكانت المحاكمات علنيةً وتهدف إلى معالجة الجرائم بطريقة تضمن محاسبة الجناة، وفي الوقت نفسه ترميم العلاقات الاجتماعية داخل المجتمع.

لذلك، اعتمدت راوندا نظام “غاتشاتشا”، وهو محاكم تقليدية محلية تهدف إلى تحقيق العدالة السريعة وتعزيز المصالحة، ويمكن لسوريا -بحسب خبراء- الاستفادة من هذا النموذج في معالجة الجرائم الأقل خطورة، خاصة تلك التي ارتُكبت على المستوى المجتمعي، مع ضمان عدم الإفلات من العقاب للجرائم الكبرى.

جنوب إفريقيا.. لجان الحقيقة والمصالح

تعتبر تجربة العدالة الانتقالية في جنوب إفريقيا من أبرز التجارب لتطبيق هذا النظام في العالم، فبعد انتهاء فترة نظام التمييز العنصري، وما صاحبها من حرب دامت أكثر من ثلاثين عام (1960-1990) قادها المؤتمر الوطني الإفريقي ضد نظام التمييز العنصري، دخلت البلاد مرحلة الانتقال الديمقراطي، عام 1990، خاصة في فترة وصول زعيم الأقلية البيضاء (دو كليرك) إلى السلطة، حيث رفع الحظر عن نشاطات المؤتمر الوطني الإفريقي وأطلق سراح زعيمه نيلسون مانديلا بعد 27 عاماً من السجن.

أدّى إطلاق سراح مانديلا إلى مفاوضات بين حكومة الفصل العنصري في جنوب إفريقيا والمؤتمر الوطني الإفريقي، أسهمت في إحداث انتخابات العام 1994، وأدت إلى حالة من الانتقال السلمي الديمقراطي، ومشاركة المواطنين من ذو البشرة “السوداء” في الانتخابات، بعد عقود من عدم مشاركتهم أو إيلاء أي اهتمام بهم في الشأن العام، كنتاج لنظام العنصري، الذي أنشئ بعد الاستعمار الأوروبي.

وفي العام 1995، كلّف برلمان جنوب إفريقيا، بإنشاء لجنة الحقيقة والمصالحة (TRC)، ضمن برنامج من بناء السلام واستدامته في الجمهورية، عبر ما يسمى بأداة “العدالة الانتقالية”، كوسيلة للتعافي من آثار وويلات عمليات انتهاك حقوق الإنسان ما بين عام 1960-1994.

المعتقلون

العدالة الانتقالية بعد النزاعات والحروب: العلقم الذي فيه الشفاء

وشمل تقريبا جميع أنواع العنف الذي ارتكب بحق المدنيين على خلفية عنصرية وجرائم سياسية، حيث تضمن تقرير لجنة الحقيقة والمصالحة، الذي نُشر في عام 1998، شهادات من أكثر من 21000 ضحية وشاهد، في محاولة جادة لتحقيق العدالة عبر اعتراف الجاني بما اقترفه من جرائم بحق الجناة من المدنيين.

وفي هذا السياق يوضح مدير مركز سوريا القانوني للتوثيق فخر الدين العريان، أنّ تجربة جنوب إفريقيا تعد من أنجح نماذج العدالة الانتقالية، حيث تم تشكيل لجنة الحقيقة والمصالحة بعد انتهاء نظام الفصل العنصري، إذ ركّزت هذه اللجنة على كشف الحقيقة، وجبر الضرر، ومنح العفو المشروط للجناة الذين اعترفوا بجرائمهم.

وفي حديثه لـ موقع تلفزيون سوريا، يرى “العريان” أنه رغم اختلاف السياق، يمكن استخلاص بعض الدروس من تجربة جنوبي إفريقيا لتطبيق آلية ملائمة للوضع السوري، وذلك عبر تشكيل لجنة وطنية للحقيقة والتوثيق تضم ممثلين عن المجتمع المدني والخبراء القانونيين، تكون مهمتها الأساسية:

    توثيق الجرائم والانتهاكات التي ارتكبت منذ عام 2011.

    تخليد ذكرى هذه الجرائم في الدستور، وفرض عقوبات قانونية على أي محاولة لإنكارها أو تشويه حقيقتها.

    وضع إطار قانوني لمحاسبة الجناة وفق درجات المسؤولية، بحيث تُتاح الفرصة لبعض مرتكبي الجرائم للاعتراف بما اقترفوه مقابل تخفيف العقوبات، شرط ألا يشمل ذلك المتورطين في جرائم الإبادة الجماعية والتعذيب الممنهج.

    تعويض الضحايا وإعادة تأهيلهم نفسياً واجتماعياً.

    تحويل السجون والمعتقلات سيئة الصيت مثل سجن صيدنايا إلى متاحف لحفظ الذكرى.

تشيلي: المحاسبة والتعويضات

تعتبر تشيلي من الدول التي سعت إلى تحقيق العدالة الانتقالية من خلال الكشف عن الحقيقة لتحقيق المصالحة الوطنية، حيث دعا رئيس الدولة المنتخب (أيلوين باتريسيو)، الذي أعقب حكم الديكتاتورية، وبمقتضى مرسوم رئاسي صدر في 25 أبريل/ نيسان 1990 إلى تشكيل لجنة رسمية للتحقيق في الماضي الأليم، الذي عانى منه شعب تشيلي إبان حكم الديكتاتور بينوتشي، والكشف عن الحقيقة التي انتظرها الشعب خاصة الضحايا وأسرهم، على اعتبار أن معرفة الحقيقة تساهم في تحقيق المصالحة للوصول إلى تحقيق العدالة.

وأطلق على هذه اللجنة اسم “لجنة الحقيقة والمصالحة”، عُهد لها أمر التحقيق في الفترة التاريخية الممتدة من سنة 1973 إلى سنة 1990، خاصة حالة الاختفاء والاعتداء خارج نطاق القانون والتعذيب والوفيات المرتبطة بهذه الانتهاكات والناتجة عن ممارسات ارتكبت بمبررات سياسية.

وقد أعطيت أوامر للجنة الحقيقة والمصالحة في التحقيق بخصوص حالات القتل التي تجاوز عددها الألفي قتيل في عهد الحكم العسكري، إضافة إلى حالات الاختفاء والمهجرين.

وتعليقاً على حالة تشيلي، يرى الحقوقي العريان أنه يمكن لسوريا الاستفادة من هذه التجربة في محاسبة المسؤولين عن الجرائم الكبرى، وضمان حقوق الضحايا، ومنع تكرار الانتهاكات عن طريق محاكمة للمسؤولين عن الانتهاكات، وتقديم تعويضات للضحايا، وحفظ الذاكرة التاريخية.

بولندا: الإصلاحات المؤسسية

تمثل التجربة البولندية واحد من بين أهم هذه التجارب نظراً للخصوصية التي تفرّدت بها هذه التجربة ضمن محيطها الجيوسياسي والعالمي، والأهم جنوحها إلى الطابع السلمي في إدارتها لعملية الانتقال الديمقراطي وتحقيق العدالة الانتقالية.

وتختلف التجربة البولندية عن مساري الإنصاف والمصالحة في جنوبي إفريقيا، إذ تم تأسيس هيئة الذاكرة الوطنية البولندية، وهي مؤسسة عمومية أنشئت بمقتضى قانون، وترمي للكشف عن الجرائم ضد الإنسانية التي ارتُكبت على أيدي النازيين والشيوعيين، ومن أجل ضمان استقلالية الهيئة، فإن رئيسها يُنتخب مباشرة من البرلمان لولاية تستمرُ خمس سنوات.

في الثامن من ديسمبر، طوى الشعب السوري صفحة مظلمة من تاريخه بعد عقود من حكم نظام الأسد الطاغية، الذي ترك خلفه إرثًا من الجرائم والانتهاكات المروعة. ومع تحرير البلاد، انفتحت أبواب السجون لتكشف عن فظائع التعذيب، بينما تعيد صور المدن المدمرة إلى الأذهان أهوال القصف الوحشي الذي استهدف المدنيين الأبرياء. ومع كل حالة تظهر، يتجدد السؤال المحوري: كيف يمكن مواجهة هذا الإرث الثقيل دون السقوط في دوامة الانتقام؟

العدالة الانتقالية.. حجر الزاوية لبناء سوريا ما بعد التحرير

وأضيف قسمان جديدان في نطاق الهيئة، سنة 2016، وهما مكتب التربية الوطنية ومكتب التوثيق، إذ يختص الأول بإدخال مادة في المنهاج تخصُ تعريف الأجيال الجديدة بويلات القمع الذي عاناه البولنديون في ظل الأنظمة الاستبدادية السابقة، أما الثاني فيتعلق بتجميع الوثائق الموزعة بين مديرية الشرطة السابقة والشرطة النازية.

خبراء قانونيون يرون أنه يمكن لسوريا الاستفادة من هذه التجربة البولندية في إصلاح مؤسساتها القضائية والأمنية، وإرساء نظام قانوني يحمي الحقوق والحريات، على اعتبار أن هذه التجربة قامت على إصلاحات قانونية ودستورية لضمان التحول الديمقراطي ومنع تكرار الانتهاكات، كما ركزت هذه الإصلاحات على إعادة هيكلة القضاء، وتطبيق سياسات المساءلة، وتعزيز سيادة القانون.

    خصوصية الحالة السورية

تكتسب القضية السورية أهمية خاصة عند تناول مفهوم العدالة الانتقالية، نظراً لخصوصية الأحداث وتطوراتها منذ اندلاع الثورة عام 2011 وحتى مرحلة التحرير، نهاية العام 2024.

لا بدّ من التمييز بين الثورة السورية والحروب الأهلية التي شهدتها دولٌ أخرى مثل (جنوب إفريقيا، بولندا، تشيلي، رواندا وغيرهم)، إذ إنّ الطابع العام للحالة السورية لا يتجسّد في صراعٍ طائفيٍّ بين مجموعاتٍ سكانيةٍ مختلفة، كما هو الحال في تلك البلد بقدر ما هو انتفاضةٌ شعبيةٌ واسعةٌ شاركت فيها شرائح متنوعة من مختلف مكوّنات الشعب السوري، ضد نظامٍ ديكتاتوريٍّ قائمٍ على القمع والإقصاء واستغلال الأقليات وتهميش الأغلبية للحفاظ على سلطته.

وفي هذا السياق يقترح “العريان” عدة خطوات لتطبيق العدالة الانتقالية في سوريا منها؛ تشكيل لجنة الحقيقة تضم ممثلين عن كل أطياف المجتمع السوري، بما في ذلك منظمات المجتمع المدني، وخبراء قانونيين، وممثلين عن الضحايا، إلى جانب إصلاح النظام القضائي وضمان استقلاليته.

أكد المشاركون في المؤتمر تمسكهم بأهداف الثورة وتحقيق العدالة والمحاسبة

عن “العزل الاجتماعي” في الحالة السورية

ومن هذه الخطوات -بحسب “العريان”- تعويض الضحايا وجبر الضرر، عن طريق تنفيذ برامج إعادة تأهيل نفسي واجتماعي للضحايا وأسرهم، خاصة لمن تعرضوا للتعذيب والاعتقال القسري، كما يكتسب الدعم الدولي والإقليمي، عن طريق تأمين تمويل دولي لبرامج العدالة الانتقالية، والاستفادة من الخبرات الدولية، من خلال التعاون مع الأمم المتحدة والجهات المانحة أهمية كبيرة في دعم مسار العدالة الانتقالية.

ختاماً، يُجمع الحقوقيون على أن تطبيق العدالة الانتقالية في سوريا بعد سنوات الثورة الطويلة يعد تحدياً كبيراً، ولكنه ضروري جداً لتحقيق المصالحة الوطنية وبناء مستقبل مستقر، وهذا يتطلب إرادة سياسية قوية ومشاركة مجتمعية واسعة.

—————————

العدالة الانتقالية والدستور والانتخابات/ جنى العيسى

أبرز التعديلات المتوقعة على القرار “2254”

في 12 من كانون الثاني الحالي، قال مبعوث الأمم المتحدة إلى سوريا، غير بيدرسون، إن من الممكن دراسة تعديل القرار الأممي رقم “2254”، أو تبني قرار آخر بشأن سوريا، بعد التغييرات التي شهدتها سوريا عقب سقوط النظام المخلوع.

تصريحات بيدرسون جاءت عقب تحفظ حكومة دمشق المؤقتة على بنود في القرار، مع الأخذ بعين الاعتبار أن القرار القائم لفض الصراع بين طرفين لم يعد قابلًا للتطبيق بصيغته الحرفية بعد انتهاء دور أحد هذين الطرفين، وهو النظام السابق، الذي سقط رئيسه الأسد وهرب إلى موسكو، وفرّ معظم مسؤوليه الكبار إلى الخارج، في 8 من كانون الأول 2024.

وقال بيدرسون حينها، “فشلنا بالتعامل مع الشأن السوري خلال السنوات الماضية وعلينا إعادة الثقة (…) المجتمع الدولي مجمع الآن على دعم سوريا”.

وتطالب جهات دولية وعربية باتخاذ القرار مرجعية لرسم الخارطة السياسية لمستقبل سوريا، وترى فيه السبيل لإحلال الاستقرار في سوريا، واستكمال التحول من “سوريا الأسد” إلى سوريا الجديدة، مرتبط بتطبيق هذا القرار الذي جاء ذكر التحول السياسي فيه في بند واحد فقط.

لا تفاصيل حول التعديلات

لم يذكر بيدرسون في تصريحه أي تفاصيل إضافية حول طبيعة التعديل الذي سيطرأ على القرار، أو ماهية القرار الأممي الجديد الذي يمكن اتخاذه حول سوريا.

    اتخذ القرار “2254” في جلسة مجلس الأمن التابع الأمم المتحدة رقم “7588”، التي عقدت في 18 من كانون الأول 2015، وأكد في بدايته التزامه بسيادة سوريا واستقلالها ووحدتها وسلامتها الإقليمية، وبمقاصد ميثاق الأمم المتحدة ومبادئه.

    أيد القرار الذي وقع في 16 بندًا بيان “جنيف” وبياني “فيينا” كأساس لتحقيق أي انتقال سياسي في سوريا عبر عملية سياسية يقودها السوريون، كما كرر في بعض بنوده ضرورة البدء بوقف إطلاق النار، باستثناء الفصائل المدرجة على “لوائح الإرهاب” آنذاك، وهي تنظيم “الدولة الإسلامية”، و”جبهة النصرة” التي فكت ارتباطها بتنظيم “القاعدة” لاحقًا، ومرت بعدة مراحل لتشكل “هيئة تحرير الشام” التي قادت اليوم المعارضة نحو القصر الرئاسي في دمشق.

    وكمرحلة نهائية، تحدث القرار الأممي عن ضرورة إحلال حكومة انتقالية في سوريا مدتها 18 شهرًا، وإقامة حوار وطني يشارك به السوريون، وإعداد دستور جديد للبلاد، والسماح للوكالات الإنسانية والمنظمات الدولية بالوصول إلى المناطق المتضررة، ومساعدة السوريين المتضررين.

للحديث حول هذه التفاصيل، تواصلت عنب بلدي مع المتحدثة باسم المكتب الصحفي للمبعوث الأممي، جينيفر فانتون، إلا أنها لم تستطع الحصول بالضبط على التعديلات المرتقبة فيما يتعلق بالقرار الأممي حول سوريا.

فانتون أكدت حديث بيدرسون أنه من المفهوم جيدًا أن القرار الأممي “2254” لا يمكن تطبيقه حرفيًا في سوريا في ظل التطورات الأخيرة، على سبيل المثال، لن يكون النظام السابق طرفًا في أي عملية مستقبلية، وهناك بالطبع أمثلة أخرى أيضًا تفرض الحاجة إلى نهج وأساليب تفكير جديدة على العديد من الجبهات.

ولكن يوجد إجماع واسع النطاق على أن الانتقال السياسي في سوريا لا يزال بحاجة إلى تحقيق الأشياء الرئيسة التي حددها القرار “2254”، بحسب المتحدثة فانتون وهي:

    عملية انتقالية ذات مصداقية وشاملة وشفافة يقودها ويملكها السوريون.

    ضمان تشكيل حكومة انتقالية ذات مصداقية وشاملة وغير طائفية.

    إعداد دستور جديد من خلال عملية موثوقة وشاملة.

    إجراء انتخابات حرة ونزيهة، تشمل كل السوريين، وفقاً للمعايير الدولية.

تعديلات واجبة

حول التعديلات التي يجب أن يشملها القرار، اعتبر الباحث السياسي السوري نادر الخليل، أنه منذ سقوط النظام المخلوع تتجه الأنظار إلى دور الأمم المتحدة في سوريا في ظل تصريحات قائد الإدارة السورية الجديدة، أحمد الشرع، حول عدم جدوى العمل بالقرار الأممي “2254” الذي صدر لمرحلة سابقة وأنه لا بد من ادخال تعديلات جوهرية عليه.

وتأتي تصريحات المبعوث الأممي، غير بيدرسون، مؤخرًا حول إمكانية تعديل القرار أو تبني قرار جديد، لتشير إلى تحولات محتملة في المشهد السياسي، بحسب ما أكده نادر الخليل لعنب بلدي.

في ظل هذه التطورات يعتبر الخليل أن هناك عدة ملفات يجب تعديلها في القرار لتكون مناسبة للمرحلة وهي:

    العملية السياسية: يجب التركيز على إشراك جميع الأطراف السورية في العملية السياسية، بما في ذلك الفصائل المعارضة المختلفة والمجتمع المدني، لضمان تمثيل شامل.

    الانتخابات: تعديل بنود الانتخابات لتكون تحت إشراف دولي محايد، وضمان مشاركة جميع السوريين في الداخل والخارج، وفق أسس تضمن العدالة والشفافية.

    حقوق الإنسان: تعزيز بنود حماية حقوق الإنسان وضمان محاسبة المسؤولين عن الانتهاكات والجرائم.

    المساعدات الإنسانية: تسهيل وصول المساعدات الإنسانية إلى جميع المناطق السورية دون تمييز، وضمان عدم استخدامها كأداة ضغط سياسي.

لضمان نجاح مساعيه، تبقى من مصلحة بيدرسون التنسيق مع إدارة سوريا الجديدة في الملف السوري، حيث يمكن لهذا التنسيق أن يسهم في تحقيق تقدم ملموس بالعملية السياسية والتحول الديمقراطي، ويعزز من فرص الوصول إلى حل سلمي شامل ومن مصداقية الأمم المتحدة، ويظهر التزامها بتحقيق السلام في سوريا.

المجتمع الدولي يضمن الانتقال

يجب أن تكون الجهود الدولية متضافرة لتحقيق نظام سياسي ديمقراطي شامل ومستدام في سوريا، مع التركيز على حماية حقوق الإنسان وضمان العدالة والمحاسبة، بحسب ما أكده الباحث نادر الخليل.

ويتطلب دور الأمم المتحدة في سوريا إعادة تقييم شاملة في ظل الظروف الحالية، ويبقى من الضروري تعديل القرار “2254” أو تبني قرار جديد يركز على المصالحة والتنمية وإعادة الاعمار واللاجئين وضمان سلاسة التغيير السياسي لنظام ديمقراطي عادل وشامل لكل السوريين، عبر إشراك جميع الأطراف المعنية، والتنسيق مع الإدارة السورية الجديدة قد يكون خطوة حيوية لتحقيق النجاح في المساعي الأممية، ما يساهم في تحقيق استقرار دائم في البلاد.

وحول الأطراف التي يجب أن تشارك في صنع القرار الجديد أو تعديل القرار “2254”، يرى نادر الخليل ضرورة وجود أربعة أطراف بشكل رئيس، هم أولًا الأمم المتحدة بصفتها الجهة الراعية للعملية السياسية، وثانيًا الدول الكبرى مثل الولايات المتحدة الأمريكية وروسيا والصين وغيرها، لضمان دعم دولي قوي، وثالثًا عدد من الدول الإقليمية مثل تركيا والسعودية ومن لها تأثير كبير على الوضع في سوريا، وأخيرًا بالتأكيد الأطراف السورية بما في ذلك القيادة الجديدة وكل أطراف المعارضة والفصائل المسلحة والمجتمع المدني.

ليس من مصلحة الإدارة السورية الجديدة “معاندة” المجتمع الدولي وخصوصًا مع وجود إرادة واضحة ورقابة دولية (إن صحت تسميتها) لتحقيق انتقال سياسي لنظام ديمقراطي يتضمن دستورًا جديدًا وعملية انتخابية للرئيس وشكل الحكومة وغيرها من متعلقات، بحسب ما أكده الباحث السياسي نادر الخليل.

وأضاف الخليل، “هنا قد يرى البعض أن هذه النقطة يمكن أن تضر بالسوريين لناحية وجود تدخلات دولية، ولكن الرأي الآخر يقول من إن مصلحة السوريين إجمالًا ألا تستفرد الإدارة الجديدة بالحكم في البلد، وهو بذلك تدخل لمصلحة جميع السوريين، بشرط أن تكون هناك ضغوط من مختلف الأطراف السورية بأن هذا التدخل لمصلحة السوريين”.

تبرز أهمية هذا الأمر اليوم، وفق الباحث، خاصة مع وجود ما يمكن تسميته تقاطع مصالح في لحظة تاريخية بين السوريين إجمالًا من جهة، وبين دول الإقليم بمعظم دوله، والمجتمع الدولي بمعظم قواه الفاعلة من جهة أخرى، في ما يظهر أنه اتفاقها على رؤية سوريا جديدة مستقرة، ولتحقيق هذا الاستقرار بعيد الأمد لا بد من وجود حكم رشيد يحظى بمشروعية شعبية ناتجة عن مشروعية ديمقراطية وانتخابات، وليس فقط مشروعية ثورية.

لذا من مصلحة الإدارة السورية الجديدة الاستفادة من هذا الاتجاه العام وعدم معاندته تجنبًا لعدم رفع العقوبات بشكل نهائي، وعدم إعادة إعمار واسعة وكبيرة للبلد، لأن حصول ذلك سينعكس سلبًا على الجميع، وبالتالي ستدفع ثمنه الإدارة الجديدة لناحية انفضاض جانب كبير من السوريين وجمهورها عنها.

—————————-

سوريا: العدالة الانتقالية ضمانة للوصول إلى سلام مستدام

يجب إدراج مفهوم العدالة الانتقالية في الدستور السوري المزمع كتابته بتيسير من الأمم المتحدة وضمان تطبيق جميع عناصرها

1.    خلفية:

تتناول هذه الورقة واحدة من أهم الآليات الحديثة التي اعتمدتها العديد من الدول ما بعد الصراع في صيانة حقوق الإنسان والحريات العامة وهي “العدالة الانتقالية”، وتهدف إلى إبراز دور وأهمية العدالة الانتقالية في سوريا وفي معالجة الانتهاكات والممارسات القمعية المتنوعة من مختلف أطراف الصراع، وذلك في سبيل بناء تدابير قانونية وسياسية واجتماعية؛ أبرزها البحث وكشف الحقيقة حول انتهاكات حقوق الإنسان، وإنصاف الضحايا، وإصلاح المؤسسات، وإيجاد آليات لمحاسبة المنتهكين من المسؤولين في الدولة أو ضمن الجهات الأخرى المنخرطة في الصراع في سوريا.

إن للعمل على العدالة الانتقالية في سوريا أهمية كبيرة بسبب تعقيد الوضع وكمّية الانتهاكات وتعدد الجناة، لقد بنيت العديد من الافتراضات حول فكرة العدالة الانتقالية في سوريا من طرف العديد من الجهات، على إن الحكومة السورية هي الطرف الوحيد الذي ارتكب انتهاكات جسيمة لحقوق الإنسان، ورغم أنّ هذا الافتراض كان في محله حتى نهاية العام 2011 على الأقل، غير أن العدد الهائل للجرائم المرتكبة من معظم اللاعبين المحليين والأجانب على مدار سنوات الصراع، والمشاركين في الوقت عينه في مفاوضات السلام، يجعل الفرضية السابقة غير أكيدة، لذا لابد من تبنّي مقاربة جديدة، تتصف بالشمولية، بما يتوافق مع الواقع الحالي للنزاع السوري.

تستند هذه الورقة إلى ورشة عمل دعت لها “سوريون من أجل الحقيقة والعدالة”، على مدار أربع جلسات تناولت المفاهيم العامة للعدالة الانتقالية وأيضا تجارب سابقة للعدالة الانتقالية في عدد من البلدان، وخصوصاً (جنوب أفريقيا والمغرب وتشيلي)، وأيضاً تمّ عرض أوجه أو مقاربات جديدة داعمة للعدالة الانتقالية من سبيل العدالة التصالحية والعدالة التحويلية، كما تمّت مناقشة ضرورة إدراج العدالة الانتقالية ضمن جدول أعمال اللجنة الدستورية الخاصة بسوريا، كجسر وممر أساسي للانتقال إلى مستقبل آمن ودولة قانون مستدامة.

2.    ما هي العدالة الانتقالية؟

يُعدّ مفهوم “العدالة الانتقالية” من المفاهيم القانونية الحديثة، حيث بدأت دوافعه السياسية والقانونية والحقوقية والإنسانية بالتبلور، وإنْ كان ببطء، من خلال التجارب الدولية، وفي العديد من المناطق في العالم، ولاسيما في أوروبا، بعد الحرب العالمية الثانية، مع إنشاء المحاكم العسكرية الدولية في طوكيو ونورمبرغ. وساعد إنشاء منظمة الأمم المتحدة، وصدور الإعلان العالمي لحقوق الإنسان والعهود الدولية المختلفة بشكل واضح، في تطوير هذه الفكرة.[1]

كان لتطور المجتمع المدني في أوروبا نهاية الستينيات أثرٌ واضح في انتقال دول عدّة في أوروبا، من الحكم العسكري إلى الديمقراطية، كما في اليونان وإسبانيا. كذلك كان الانتقال السياسي من الدكتاتورية إلى الديمقراطية في أوروبا الشرقية، اتبّعت هذه الدول مسارات مختلفة من العدالة الانتقالية، تتناسب وأوضاعها السياسية والاجتماعية والاقتصادية. ساهمت في توطيد مفهوم العدالة الانتقالية.[2]

مع اندلاع الحروب الأهلية في العديد من دول العالم (دول أميركا اللاتينية وأفريقيا) وازدياد حجم الانتهاكات الجسيمة، تحرك المجتمع الدولي لتعزيز المحاكمات الجنائية لملاحقة كبار مرتكبي الانتهاكات، فتم إنشاء محاكم دولية ومختلطة في يوغسلافيا السابقة ورواندا وسيراليون وغيرها.

إن العدالة الانتقالية ميدان دائم التوسع في البحث الأكاديمي والممارسة، تتعلق بمجموعة من الإجراءات التي تتناول انتهاكات سابقة لحقوق الإنسان في أعقاب الانتقال/التحول السياسي؛ حيث طُبقت العدالة الانتقالية في المجتمعات التي خرجت من أنظمة استبدادية، وفي البلدان الخارجة من صراعات داخلية أو صراعات عبر الحدود، وفي البلدان التي تعاني من صراعات جارية أو ديمقراطية محدودة أو تحول ديمقراطي[3]

2.1.        تعريف العدالة الانتقالية:

عرفت الأمم المتحدة مفهوم العدالة الانتقالية بأنه “كامل نطاق العمليات والآليات المرتبطة بالمحاولات التي يبذلها المجتمع لتفهم تركة من تجاوزات الماضي الواسعة النطاق بغية كفالة المساءلة وإقامة العدالة وتحقيق المصالحة، وقد تشمل هذه الآليات القضائية وغير القضائية على السواء، مع تفاوت مستويات المشاركة الدولية (أو عدم وجودها مطلقاً) ومحاكمات الأفراد، والتعويض، وتقصي الحقائق، والإصلاح الدستوري، وفحص السجل الشخصي للكشف عن التجاوزات، والفصل أو اقترانهما معا”.[4] أي أن العدالة الانتقالية تتعامل مع  إرث من الانتهاكات الممنهجة واسعة النطاق وليس مع التجاوزات الفردية.

فيما عرفها المركز الدولي للعدالة الانتقالية على أنها: مفهوم يشير إلى مجموعة التدابير القضائية وغير القضائية التي قامت بتطبيقها دول مختلفة من أجل معالجة ما ورثته من انتهاكات جسيمة لحقوق الإنسان وتتضمن هذه التدابير الملاحقات القضائية ولجان التحقيق وبرامج جبر الضرر وأشكال متنوعة من إصلاح المؤسسات، تُشيرُ العدالة الانتقاليّة إلى كيفية استجابة المجتمعات لإرث الانتهاكات الجسيمة والصّارخة لحقوق الإنسان. وهي تطرحُ بعضًا من أشدّ الأسئلةِ صعوبةً إن في القانون، أم السياسة، أم العلوم الاجتماعيّة، وتجهدُ لحسمِ عددٍ لا يُحصَى من الجدالات. إنَّ العدالة الانتقاليّة تُعنى، أوّلًا، بالضّحايا، قبلَ أي اعتبارٍ آخر[5].

2.2.        عناصر العدالة الانتقالية:

إنّ العدالة الانتقالية متجذّرة في القانون الدولي لحقوق الإنسان. ويقع على عاتق الدول توفير سبل فعالة لإنصاف ضحايا انتهاكات حقوق الإنسان،[6] فقد حدد الأمين العام للأمم المتحدة عناصر العدالة الانتقالية بأنها تتألف من عمليات واليات قضائية وغير قضائية على حد سواء ومن بينها مبادرات المقاضاة ومبادرات التيسير فيما يخص الحق في معرفة الحقيقة وجبر الضرر والإصلاح المؤسسي والمشاورات الوطنية، وأيا كانت المجموعة التي يجري اختيارها، فيجب أن تكون متوافقة مع المعايير والالتزامات القانونية الدولية.[7]

عناصر العدالة الانتقالية

الأسس الحقوقية للعدالة الانتقالية        التعريف

تدابير قضائية/شبه قضائية        محاكم وطنية أو محاكم دولية خاصة أو دائمة      الحق في العدالة محاسبة الجناة أو المنتهكين حق للضحايا وحق للمجتمع، وتشمل التحقيقات القضائية مع المسؤولين عن ارتكاب انتهاكات حقوق الإنسان؛ أو من يُعتقد أنهم يتحملون القدر الأكبر من المسؤولية عن الانتهاكات الجسيمة أو الممنهجة.

لجان الحقيقة    الحق في معرفة الحقيقة          مهمتها التحقيق في أنماط الانتهاكات المنتظمة والتبليغ عنها والتوصية بإجراء تعديلات والمساعدة على فهم الأسباب الكامنة وراء الانتهاكات الخطيرة لحقوق الإنسان، لا تحاكم، ولكن تصدر تقارير وتدرس أسباب المشكلة والأسباب التي أدت إلى هذه الانتهاكات وتعطي توصيات حول تعديل أو إلغاء بعض القوانين التي تؤثر على التحقيقات أو المحاكمات.

تدابير غير قضائية         برامج جبر الضرر           الحق في جبر الضرر      وهذه مبادرات تدعمها الدولة وتسهم في جبر الأضرار المادية والمعنوية المترتبة على انتهاكات الماضي ويكون التعويض مادي أو معنوي.[8]

إصلاح المؤسسات والتشريعات   ضمانات عدم التكرار      إنّ إصلاح المؤسسات هي العملية التي تتمّ بموجبها مراجعة مؤسسات الدولة وإعادة هيكلتها، بحيث تحترم حقوق الإنسان وتحافظ على سيادة القانون وتُخضع للمحاسبة كل من انتهك تلك الحقوق، لضمان عدم تكرار الانتهاكات وتأسيس الديمقراطية عبر إصلاح دستوري، ومن خلال إصلاح القوانين وإصلاح المنظومة الأمنية والقضائية والإعلامية في الدولة، لأنه من دون الإصلاحات قد تقوم هذه المؤسسات بتكرار تلك الانتهاكات.

المشاورات الوطنية                 تعتبر المشاورات الوطنية عنصر حاسم الأهمية من عناصر النهج القائم على حقوق الإنسان لتحقيق العدالة الانتقالية بما فيها مشاركة أصوات المجموعات المختلفة المهمشة، كالنساء، والمجموعات العرقية، والدينية، واللغوية.

إن العدالة الانتقالية مشروع تحكمه مجموعة مركبة من الأسباب والشروط والقوى. وهي فضاء مفتوح لا ينص على اعتماد مقاربة واحدة، بل هي عملية تعطي الأولوية للتصورات المحلية الموضوعة للعدالة والمصالحة والسلام وتستلهم من التجارب التي سبقتها.

كما تتطوّر العدالة الانتقالية مع الزمن، فهي إلى جانب الممارسات القانونية والدستورية، هي واحدة من جملة الأدوات الفعّالة، في تعزيز قيمِ المواطنة وحقوق الإنسان وتعميم المشاركة المجتمعية وتطبيق الديمقراطية وممارستها، فأصبحت العدالة الانتقالية جزءاً من مسارات إعادة بناء المجتمعات التي حطمتها الدكتاتورية أو مزقتها الحروب الأهلية.

3.    أشكال ومقاربات العدالة الانتقالية:

ليس للعدالة الانتقالية شكل واحد أو نموذج افتراضي، حيث لديها بنية متغيرة تتطور وتتغير مع تغير البيئات أو المجتمعات التي تعمل عليها أو بها. فالعدالة الانتقالية هندسة لمقاربات متعددة وهندسة لاستراتيجيات العدالة في ظروف معينة لبلد أو دولة ما نتيجة تحول ديمقراطي، أو نزاع أو انتقال في الحكم حيث تكون مؤسسات الدولة في حالة ضعف أو فساد أو دمار.[9]

ضمن هذا السياق، تقوم العدالة الانتقالية على ضرورة فهم السياق السياسي والاجتماعي والاقتصادي والثقافي الذي يطبع المجتمع المعني للاستعانة بها لمعالجة آثار انتهاكات الماضي، فلا يمكن نقل تجربة بلد ما إلى بلد آخر بحذافيرها، فالأولويات والتحديات والعقبات لا بد أن تختلف من بلد لآخر.

فمثلاً في حالة العدالة الانتقالية في كولومبيا، قدمت الحكومة اقتراحاً لتطبيق العدالة التصالحية بشأن المعاملة القانونية للفظائع التي ارتكبتها الجماعات شبه العسكرية: الاقتراح التشريعي موجه نحو مفهوم تصالحي، والذي يحل محل استيعاب العقوبة بالانتقام. هذا الاستيعاب نموذجي لخطاب يتفاعل بشكل أساسي مع المجرم بألم مشابه لما يسببه للضحية، ويسعى إلى عدم التكرار (المنع) وتعويض الضحايا. من المهم أن نأخذ في الاعتبار أنه عند إقامة العدل، أن القانون يشير إلى جبر الضرر وليس الانتقام. في مواجهة الفشل المتكرر للسجن، باعتباره الرد الوحيد على الجريمة، لإعادة دمج الجانحين في المجتمع.[10]

أمّا في تجربة جنوب إفريقيا،[11] والتي جاءت بعد إصدار قانون المصالحة في 1995، لم تتوقف جهود لجان العدالة الانتقالية، ولكن استمرت جهود جمعيات الضحايا في سبيل تعديل دستوري، وفي عام 2008، وبدعم من المركز الدولي للعدالة الانتقالية، أعلنت محكمة بريتوريا العليا عدم دستورية تعديلات سياسة الملاحقة القضائية.[12]

وفي العام 2010، أيّدت المحكمة الدستورية حقّ الضحايا باستشارتهم قبل منح العفو السياسي، وأيضاً في الطعن القانوني لإجراء تعديلات على سياسة الملاحقة القضائية الخاصّة بسلطة المتابعة القضائية الوطنية التي منحت عفوا عاما غير نزيه.[13] في مرحلة التحول الديمقراطي، كانت قضية العفو عن مرتكبي الجرائم الخطيرة خلال فترة الصراع من أهم نقاط المفاوضات، وقد توصل طرفي الصراع إلى تسوية مفادها أن العفو يمكن أن يتم بالنسبة للأعمال الإجرامية التي تمت بهدف سياسي وكان لها علاقة بنزاعات الماضي.[14]

مع اندلاع ثورات “الربيع العربي” كان لا بدّ من إجراء مراجعات كبيرة لهذا المفهوم بما يتناسب مع واقع المنطقة، إلى جانب الجرائم والانتهاكات الخطيرة التي ارتكبتها أنظمة الحكم والميليشيات المسلحة بحق السكان القابعين تحت سيطرتها مثلما هو حاصل في سوريا.

4.    سوريا والعدالة الانتقالية:

على الصعيد السوري، لم يكن إلا قلّة من المختصين على دراية بهذا المفهوم قبل اندلاع الاحداث في سوريا 2011، حيث بدأ سوريون/ات ينظمون أنفسهم/ن في منظمات غير حكومية مختصة بقضية العدالة الانتقالية. وقد طرحت الفكرة في وثيقة العهد الوطني التي أقرها مؤتمر المعارضة السورية المنعقد تحت رعاية جامعة الدول العربية بالقاهرة بتاريخ 3 تموز/يوليو 2012.[15] والتي دعت إلى تشكيل هيئة عامّة للمحاسبة والمصالحة الوطنيّة، كذلك ظهرت العديد من منظمات المناصرة والتوثيق والتدريب التي شاركت في وضع تصورات لتحقيق العدالة الانتقالية في سوريا.

كما تم تشكيل مجموعات تنسيق هدفت إلى صياغة رؤية وطنية للعدالة الانتقالية في سوريا والبدء بعملية تشاور واسعة لإشراك السكان على نطاق أوسع في عملية العدالة الانتقالية وتشجيع الضحايا وعائلاتهم على تنظيم أنفسهم في منظمات/جمعيات الضحايا.[16] واصلت هذه الجهات التفكير في مفاهيم وآليات العدالة الانتقالية، وقد تركزت جهود هذه المنظمات في توثيق الانتهاكات والشهادات، حيث كانت هذه الوثائق ضرورية لإبراز معاناة الضحايا ومطالبات العدالة والمساءلة الخاصة بهم، كما كانت هناك جهود التقاضي الجنائي التي تسعى للوقوف في وجه الإفلات من العقاب، حيث نتجت عنها مبادرات الملاحقة القضائية المتعددة بموجب مبدأ الولاية القضائية العالمية – وكذلك أشكال أخرى من الولاية القضائية خارج الإقليم – للمحاكم المحلية في عدد من البلدان التي تستضيف لاجئين سوريين بمقاضاة الجرائم المرتكبة في سوريا. وقد خلق هذا دافع لجهود العدالة الجنائية الدولية، كذلك لجأت مجموعات الضحايا والجهات الفاعلة الأخرى في المجتمع المدني إلى البحث عن الحقيقة في محاولة لمعالجة أزمة عشرات الآلاف من الأشخاص المختفين قسريا والمفقودين في سوريا، والتي قادت مناهج جديدة ومبتكرة تجاه العدالة.[17]

لقد تنوّع إرث الانتهاكات في سوريا، بحيث طالت معظم أفراد ومكونات الشعب السوري، العرقية، والدينية، والثقافية، والاجتماعية. الأمر الذي يفرض على السوريين العمل على ابتداع مسار وفلسفة خاصة للعدالة الانتقالية، فحجم الانتهاكات من جهة، وحجم التحديات من جهة ثانية، يجعل من الواجب تصميم برامج متنوعة بآليات متعددة وأدوات مختلفة للوصول إلى النتائج المرجوة.

5.    دور المجتمع الدولي في تعزيز مسار العدالة الانتقالية في سوريا:

ورد الحديث عن مفهوم العدالة الانتقالية وبعض عناصرها في بيان جنيف 2012،[18] في سياق الحديث عن السلامة والاستقرار والهدوء حيث تنص الفقرة 10(د) على “الالتزام بالمساءلة والمصالحة الوطنية. ويجب النظر في الجوانب المتعلقة بالمساءلة عن الأفعال المرتكبة خلال هذا النزاع. ومن اللازم أيضاً إعداد مجموعة شاملة من أدوات العدالة الانتقالية، تشمل تعويض ضحايا هذا النزاع أو ردّ الاعتبار إليهم، واتخاذ خطوات من أجل المصالحة الوطنية والعفو”. [19]

ورغم أنّ قرار مجلس الأمن الدولي رقم  2254[20] لعام 2015، والقاضي بوقف إطلاق النار والتوصل إلى تسوية سياسية للوضع في سوريا، لم يذكر صراحة مفهوم العدالة الانتقالية، إلاّ أنّه أكّد بأنه ما من حل دائم للأزمة الراهنة في سوريا إلا من خلال عملية سياسية جامعة بقيادة سورية تلبي تطلعات الشعب السوري بهدف التنفيذ الكامل لبيان جنيف المؤرخ 30 حزيران/يونيو 2012، والذي أيده القرار 2118 لعام 2013. [21]

وفي سبيل تمثيل واسع لكافة مكونات السوريين، كان إنشاء غرفة دعم المجتمع المدني في كانون الثاني/يناير 2016، من قبل مكتب المبعوث الخاص لسوريا كمنصة لضمان عملية سياسية شاملة من خلال التشاور مع مجموعة واسعة ومتنوعة من الجهات الفاعلة في المجتمع المدني وإشراكها. ومن خلال غرفة دعم المجتمع المدني، يمكن للجهات الفاعلة في المجتمع المدني أن تلتقي وتتفاعل وتتبادل الأفكار فيما بينها، مع مكتب المبعوث الخاص، والجهات الفاعلة المعنية في الأمم المتحدة، فضلاً عن أصحاب المصلحة الدوليين، ولكن بعد عدة جولات للجنة الدستورية حول سوريا، كانت هناك آراء متضاربة بين الأطراف المنخرطة في العملية الدستورية، فمن جهة هناك رأي يدعو: “التزام الدولة بمعالجة جرائم الحرب والجرائم ضد الإنسانية والانتهاكات لحقوق الإنسان يتبنى نهج شامل للعدالة الانتقالية، يقوم على الأسس التالية: عدم الإفلات من العقاب، عدم سقوط هذه الجرائم بالتقادم أو بصدور عفو سابق، ضمان حقوق الضحايا وعائلاتهم “، ويمثله (وفد مرشحي هيئة التفاوض السورية)، كما أنه في الجهة المقابلة هناك رأي يقول: “إن ما يسمى بالعدالة الانتقالية ليس مبدأً دستورياً، وبالتالي لا يمكن تضمينه في الدستور”، ويمثله وفد المدعوم من الحكومة السورية.[22]

وكمثال على تضمين عملية العدالة الانتقالية في تجارب سابقة يمكن الاستدلال بالتجربة التونسية التي تعتبر من أحدث التجارب في العدالة الانتقالية فقد تضمن الدستور التونسي لعام 2014 في المادة 148 الفقرة 9: “تلتزم الدولة بتطبيق منظومة العدالة الانتقالية في جميع مجالاتها والمدة الزمنية المحددة بالتشريع المتعلق بها، ولا يقبل في هذا السياق الدفع بعدم رجعية القوانين، أو بوجود عفو سابق، أو بحجية اتصال القضاء، أو بسقوط الجريمة، أو العقاب بمرور الزمن”[23]. أو في دستور جمهورية مصر العربية المادة 241: “يلتزم مجلس النواب فى أول دور انعقاد له بعد نفاذ هذا الدستور بإصدار قانون للعدالة الانتقالية يكفل كشف الحقيقة، والمحاسبة، واقتراح أطر المصالحة الوطنية، وتعويض الضحايا، وذلك وفقاً للمعايير الدولية”.[24]

6.    التحديات والعقبات في تطبيق العدالة الانتقالية في سوريا:

إن أولى العقبات التي ستواجه الوصول إلى مرحلة انتقالية في سوريا هي وجود عدة جهات دولية وإقليمية متورطة في النزاع السوري وتسببت في انتهاكات جسيمة بحق المواطنين في سوريا، حيث لم يعد ارتكاب الجرائم الخطرة مقتصراً على القوات العسكرية والأجهزة الأمنية التابعة للحكومة السورية، حيث أن أطراف عديدة باتت مشتركة كالقوات العسكرية الروسية،[25]  قوات التحالف الدولي بقيادة الولايات المتحدة الأمريكية،[26] القوات العسكرية والأمنية التركية،[27] قوات الحرس الثوري الإيراني مع جميع الميليشيات العراقية واللبنانية والأفغانية المرتبطة به،[28] كذلك الجماعات المسلحة المصنفة على قوائم الإرهاب الدولي بمن فيها تنظيم الدولة الإسلامية في العراق والشام المعروف باسم (داعش)،[29] وتنظيم القاعدة الجهادي وتوابعه المحلية (جبهة النصرة/هيئة تحرير الشام)[30]، إضافة إلى فصائل الجيش السوري الحر/الوطني[31]، قوات سوريا الديمقراطية[32] جميعها مارست وتمارس صور العنف المختلفة بحق السوريين. ارتكبت هذه الجهات جملة من الانتهاكات ضد حقوق الإنسان، كما إن بعض الفصائل لم تعد موجودة أو لم تعد تملك السيطرة الميدانية التي كانت تمتلكها في وقت انتهاكها لحقوق المواطنين كتنظيم (داعش)، أو جماعات المسلحة المتطرفة الأخرى.

ومثلما هناك أطراف متورطة في النزاع المسلح في سوريا، هناك أطراف تتدخل في العملية الدستورية في سوريا حيث تضع شروط وفيتو على حضور جهات وعدم مشاركات جهات أخرى، حيث أن رسم شكل العدالة الانتقالية المرجوة في سوريا ليس فقط في يد السوريين وإنما في يد الأطراف المتورطة في الازمة السورية بشكل أساس.

هذا الوضع يحيلنا إلى التساؤل حول القدرة الفعلية في تطبيق جميع عناصر العدالة الانتقالية على جميع أطراف النزاع ومحاسبة مختلف الجرائم المرتكبة في سوريا.

بالتأكيد إن حجر الأساس في عملية الانتقال في سوريا، هي الإرادة السياسية، والتي تتحقق إما عبر توافق وطني داخلي وعملية مصالحة وطنية، أو تفرض هذه الإرادة من المجتمع الدولي وعبر الدول الفاعلة والمؤثرة. وفي السياق السوري هناك غياب لهذه الإرادة سواء على المستوى المحلي بين الأطراف المتنازعة أو عند الأطراف الدولية والإقليمية المؤثرة في السياق السوري مثل روسيا وتركيا وإيران.

إن انعدام الثقة بالمؤسسات الوطنية السورية سيشكل عائقاً أمام العدالة الانتقالية وأمام الوصول إلى عقد اجتماعي جامع، الذي هو -بشكل أو بآخر- يفترض أن يمثل مجموع إرادات السوريين بالعيش المشترك، وفق قواعد تحقق تطلعاتهم وتنظم سبل حياتهم. وتتجسد هذه الإرادة في الدستور، فبدون نصوص دستورية واضحة، لا يمكن أن يحوز أي مسار للعدالة الانتقالية الشرعيةَ والقبول من جهة، كما لا يمكن -لاحقاً- إلزام الحكومات اللاحقة على الحكم وفقاً بها من جهة ثانية.

لذا الخطوة المهمة في بداية المرحلة الانتقالية تتمثل في التأسيس الدستوري لمؤسسات السلطة: التشريعية، والتنفيذية، والقضائية. فالدستور السوري الحالي (دستور 2012)، كما الدساتير السابقة، كان ومازال يستمر في انتهاك حقوق المواطنين الموجودين في سوريا من جميع المكونات، على سبيل المثال في ديباجة دستور 2012:

تعتز الجمهورية العربية السورية بانتمائها العربي، وبكون شعبها جزءاً لا يتجزأ من الأمة العربية مجسدة هذا الانتماء في مشروعها الوطني والقومي، وفي العمل على دعم التعاون العربي بهدف تعزيز التكامل وتحقيق وحدة الأمة العربية.[33]

تتكرر كلمتا (العربي/العربية) أكثر من عشر مرات في الديباجة فقط، وهذا يخلق انطباعاً بأن الشعب السوري مؤلف من المكون العربي فقط، وهذه الرؤية لا تعكس الواقع في سوريا وتخلق شعوراً سلبياً وحالة اغتراب عند كل الإثنيات الأخرى من الكرد والتركمان والسريان الآشوريين وغيرهم من المكونات القومية، ويسري هذا الأمر على المادة الثالثة[34] من الدستور التي تنص على أن يكون الإسلام مصدر للتشريع وعلى هذا الأساس يتم استبعاد فئات سكانية مثل المسيحيين/ المسيحيات والايزيديين/ الايزيديات والدروز/ الدرزيات.

كما إن الرئيس السوري بموجب دستور 2012، يتمتع بصلاحيات تنفيذية، وتشريعية واسعة وشبه مطلقة، فلا يوجد مجال من مجالات الحياة السياسية، والاقتصادية، والأمنية، والاجتماعية، إلا وله الصلاحيات المطلقة للتدخل فيها، سواء عبر التشريع، أم عبر الأوامر والتعليمات الإدارية وهو الذي يحدد السياسة العامة للدولة مع مجلس الوزراء الذي هو يعينه بطبيعة الحال.[35] وله الحق بالاعتراض على القوانين التي يصدرها مجلس الشعب وهو الذي يصدر المراسيم، والقوانين، والأوامر، وهو الذي يعلن الحرب، والتعبئة العامة، ويعقد الصلح، بعد موافقة مجلس الشعب.[36] وهو الذي يعلن حالة الطوارئ ويلغيها.[37] وله أن يشكل اللجان، والهيئات، والمجالس الخاصة، ويحدد مهامها وصلاحياتها.[38] وهو رئيس مجلس القضاء الأعلى،[39] ويسمي أعضاء المحكمة الدستورية.[40]

وبموجب الدستور الحالي، ليس هناك وجود فعلي لفصل السلطات واستقلالها، أو للمساواة بين السوريين، أو للحياة السياسية، فكل الصلاحيات منحت للرئيس.

وهذا يقودنا إلى عقبة أخرى وهي تركيبة وصلاحيات المؤسسات والهيئات الضالعة في انتهاكات حقوق الإنسان والتي كانت شريكة في قتل وتهجير السوريين، مثل المؤسسات الأمنية (الشرطة والجيش)، كما يطرح الغطاء القضائي للانتهاكات إشكالية بالغة، من حيث كيفية التعامل مع الجهاز القضائي الذي كان شريكا في القمع وانتهاكات حقوق الإنسان عبر منح منفذيها الغطاء القانوني أو المشاركة الفعلية فيها.

على سبيل المثال: المرسوم 64 لعام 2008، الذي نزع يد القضاء عن النظر في الجرائم التي يرتكبها عناصر الشرطة وشعبة الأمن السياسي والضابطة الجمركية ومنحهم حصانة ضد الجرائم التي يرتكبونها بجعلها من اختصاص القضاء العسكري وحصر أمر تحريك الدعوى العامة أو حفظها بوزير الدفاع.

وأيضاً المادة 53 من قانون العقوبات العسكري التي لا تجيز ملاحقة من يخضع لاختصاص القضاء العسكري من العسكريين أو من العاملين في الدوائر العسكري إلا بموجب أوامر ملاحقة تصدر عن الجهات المختصة. أيضاً القانون رقم 14 لعام 1969: لا يجوز ملاحقة أي من العاملين في الإدارة عن الجرائم التي يرتكبونها أثناء تنفيذ المهمات المحددة الموكولة إليهم أو في معرض قيامهم بها إلا بموجب أمر ملاحقة يصدر عن المدير.[41]

حيث لا بد أن يترافق التأسيس الدستوري بالتأسيس القانوني في إلغاء القوانين الاستثنائية والقضاء الاستثنائي، وضرورة تعديل القوانين والتشريعات وتحديثها بما يتلاءم مع التعديلات الحاصلة في الواقع الاجتماعي والقانوني (قانون العقوبات، القانون المدني، قانون أصول المحاكمات المدنية والجزائية، قانون الأحوال الشخصية…)، ثم وضع قوانين صارمة لاحترام وتنفيذ الأحكام القضائية.[42] إذ تبدأ المرحلة الانتقالية بالتأسيس لدستور يؤسس بدوره نظاما قضائيا مستقلاً ومحايداً وقادراً على القيام بالدور المنوط به المتمثل بتحقيق المطالب المحقة للمتقاضين، ومنحه كامل الصلاحيات بعدم تطبيق القوانين الغير متوافقة مع الدستور ومع المعاهدات التي صادقت عليها سوريا ولا سيما تلك المتعلقة بحقوق الإنسان. وإعادة النظر بقانون المحكمة الدستورية العليا بحيث يتم نزع الصلاحيات الممنوحة للسلطة التنفيذية في مسألة تعيين قضاة هذه المحكمة.[43]

كما أن أبرز التحديات التي سوف تواجه السوريون هي تشكيل لجان الحقيقة وقدرتها على التوثيق والبحث التحقيق، في الكشف عن مصير آلاف القتلى أو المختفين قسراً أو المعتقلين، وذلك لأسباب عديدة منها اختلاف الجهات المسيطرة على المنطقة على مدار الازمة في سوريا، أو نتيجة غياب الأدلة والوثائق والشهود، أو نتيجة النزوح واللجوء لكثير من الضحايا وذوي الضحايا في دول العالم. فعلى سبيل: كان الاعتراف بمعالجة قضية المفقودين عنصر أساسي في عملية المصالحة الاجتماعية عقب العودة إلى الديمقراطية في تشيلي.[44]

وفي السياق السوري، هناك عدة صعوبات في هذا الجانب، جانب جبر الضرر، فمثلا! مفهوم الضحية وتحديد من هم الضحايا في سوريا،[45] وأيضاً المدة الزمنية لهذه العملية هل ستكون منذ بداية النزاع أو سيكون هناك نقطة بداية أخرى وخاصة في موضوع المعتقلين السياسيين أو موضوع الحرمان من الجنسية كما في حالة الكرد في سوريا.[46]

تشير تقارير المنظمات الحقوقية ولجنة التحقيق الدولية المستقلة إلى مجموعة واسعة من الانتهاكات الجسيمة لقانون حقوق الإنسان والقانون الدولي الإنساني.[47] في ظل العدد الكبير والمتنوع للانتهاكات وجرائم الحرب والجرائم ضد الإنسانية وفي ظل العدد الهائل من الضحايا ووجود 6.2 مليون شخص مشرد داخلياً ومثلهم من اللاجئين وفي ظل الأزمة اقتصادية خانقة سوف تشكل عائق أمام أي جهة مستقبلية في سوريا لتنفيذ إجراءات عدالة انتقالية حقيقية وتوفير الموارد المالية لها.[48]  حيث سيكون توافر الإمكانات المالية من القضايا والتحديات التي ستواجه السوريين، تبعا لحجم الدمار الذي أصاب الاقتصاد والبنية التحتية وحكم البطالة وحالة الفقر، والنقص الحاد في الموارد المالية.[49]

يضاف إلى هذه التحديات برامج جبر الضرر والموارد المالية والمادية المخصصة لذلك. إن الإقرار بالمسؤولية هو عنصرٌ أساسي في جبر الضرر، وغيابه ينبع من سوء الفهم بأن التعويض، إنْ أُعطي، كان في حد ذاته كافياً لجبر الضرر. حيث توجد حالات تعطي فيها الحكومات المال للضحايا دون تحمل المسؤولية عن إخفاق الدولة في منع الانتهاكات ودون الالتزام بعدم تكرار تلك الانتهاكات[50]. لذا لا بد من تزامن التعويض بالإقرار بالمسؤولية.

ففي حالة تشيلي: قامت بتقديم جبر الضرر لمجموعةٍ كبيرة ومتنوعة من الضحايا، ومعالجة الآثار الناجمة عن الانتهاكات من خلال تدابير شاملة. دفعت للتعويضات من المعاشات، ممّا أتاح لها أن توزع التكاليف على مدى عدة سنوات، وأن تضمن أيضاً عدم وقوع الضحايا في الفقر إذا ما كبروا. كما اشتملت برامج التعويضات على إرساء نظام رعاية صحية متخصص يراعي احتياجات الضحايا، وعلى برنامج يقدم المنح الجامعية للضحايا وأبنائهم. نُفِّذت برامج جبر الضرر في تشيلي والأرجنتين بالتوازي مع بذل جهود كبيرة للإقرار بالحقيقة، والتعبير عن تقبل مسؤولية الدولة، والتحقيق مع مرتكبي الجرائم الجسيمة ومقاضاتهم، وإصلاح المؤسسات.[51]

سوف يتوصل السوريون والأطراف المتصارعة في سوريا مستقبلاً إلى تسوية سياسية تخلق توازن في مصالح هذه الأطراف، حيث ستبدأ المرحلة الانتقالية في البلد، ولكن ستكون هناك واحدة من التحديات الأولية للعدالة الانتقالية تتمثل في الوعي القاصر بالعدالة الانتقالية كمفهوم، والذي سيكون عقبة في التوصل إلى حل مستدام في البلد، فالخلط بين مفهوم العدالة الانتقالية وبين مفاهيم أخرى، مثل مفهوم العدالة الجنائية/ العقابية، أو مفهوم العدالة الإصلاحية/ التصالحية أو أية مقاربات تهدف إلى تحقيق العدالة.

مثلاً وفي التجربة العراقية: بعد سقوط نظام صدام حسين في عام 2003، وحتى بعد الانتصار على تنظيم الدولة الإسلامية في العراق والشام (داعش)، سواء في محاكمة مسؤولي الدولة أو في قانون اجتثاث البعث، أو عناصر تنظيم الدولة، طغت الرغبة في الانتقام من النظام السابق على معايير المحاكمة العادلة كما لم تؤمن المحاكمات الفرصة لتحقيق العدالة والإنصاف للضحايا، حيث كانت هناك تنفيذ للمحاكمات، ولكن من دون مشاركة الضحايا ومن دون جبر الضرر ومن دون معرفة المعلومات عن المختفين أو من دون معرفة الحقيقة.[52]

وهنا لا بد من توضيح مفهوم هذه العملية، فالعدالة العقابية والعدالة الجنائية، ليستا خارج سياق العدالة الانتقالية، ولكنها واحدة من المقاربات التي تحتاج إليها العدالة الانتقالية لتنفيذ رؤيتها، مع ضمان سلام مستدام قائم على تطبيق العدالة. فمثلاً في تجربة جنوب افريقيا في العدالة الانتقالية، مثال بارز على عملية التحول الديمقراطي التي أخذت موقف وسط بين العدالة العقابية والعدالة الإصلاحية/التصالحية:

أخذت لجنة الحقيقة والمصالحة موقعاً وسطاً بين العدالة العقابية والعفو الشامل، نأت عن منهج الانتقام، وعملت على إعادة تأسيس نظام أخلاقي يؤسس على منطق الفهم، ويستعيض عن العقاب الجنائي بالوصم الاجتماعي، فقد أجاز قانون لجنة الحقيقة والمصالحة “العفو من أجل الحقيقة” لمرتكبي انتهاكات حقوق الإنسان الذين رغبوا بالاعتراف. وتمت عمليات العفو الرئاسية بموجب محاكمات سرية بغياب الضحايا ومن دون أي تمثيل لهم. كما مكّنت مرتكبي الجرائم في زمن التمييز العنصري، ممّن لم يتقدّموا بطلبات للحصول على عفو لجنة الحقيقة والمصالحة، الإفلات من العقاب.[53]

يمكن أن تتخذ العدالة مقاربة أخرى فتكون شكلاً من أشكال عدالة المنتصر، أو أن تكون السلطة القائمة قد اتبعت نهج العدالة الانتقالية تحت الضغوط الدولية، وهذا ما يمكن ملاحظته في تجربة المغرب في العدالة الانتقالية، التي تم عرضها في ورشة العمل، وتشكيل هيئة الإنصاف والمصالحة.[54]

أنشئت هيئة الإنصاف والمصالحة ضمن النظام السياسي نفسه، وظلت منسجمة معه، فلم يكن في مقدورها تجاوزها، وكانت بمثابة هيئة سياسية وإن بدت بمضامين حقوقية وقانونية. وقد انعكس ذلك بوضوح على عمل الهيئة، فقد اقتصر عملها على العدالة التصالحية واختصاصات غير قضائية، مكتفية بتدابير التحقيقات المستقلة وإعادة الحقوق والتعويضات المعنوية، ومنح تعويضات لأسر الضحايا من دون منحهم حقوق التقاضي ودون إدانة مسؤولين ممن غادروا أو مازالوا في مواقع المسؤولية بارتكاب الانتهاكات، فقد تحدد اختصاص ولاية الهيئة في مهمات البحث والتحري والتقييم والتحكيم والاقتراح من دون إمكانية إثارة المسؤولية الفردية عن الانتهاكات[55].

أو مثلما حصل في التجربة الشيلية للعدالة الانتقالية،[56] فقط أصبحت السلطات العسكرية المتورطة بالانتهاكات في شيلي شريكة ولها الدور في السلطة الجديدة، حيث ظل بنوشيه، الرئيس التشيلي الذي يتهم نظامه بتنفيذ انتهاكات وجرائم ضد حقوق الإنسان في شيلي، نفسه كقائد عام للجيش.[57] الأمر الذي منع لجان الحقيقة من البحث والتحقيق في الانتهاكات التي تورطت فيها قيادات في الجيش الشيلي.

غير أن بلدان ما بعد النزاع والديكتاتورية والتي تحاول تنفيذ توصيات لجان الحقيقة الخاصة بها أو وضع برامج قائمة بذاتها لمنح الضحايا درجات من العدالة التعويضية تواجه صعوبات نتيجة الاحتياجات الملحة لسكانها.

نص قرار تأسيس هيئة الإنصاف والمصالحة في المغرب على أن ولاية الهيئة يشمل المرحلة الزمنية الممتدة من بداية الاستقلال إلى تاريخ المصادقة الملكية على إحداث هيئة التحكيم المستقلة لتعويض ضحايا.

7.    التوصيات:

استناداً إلى النقاشات التي رافقت الجلسات التي عقدتها “سوريون من أجل الحقيقة والعدالة” كجزء من مشروع “تجسير الهوّة بين السوريين/ات واللجنة الدستورية” الممول من قبل “الصندوق الوطني لدعم الديمقراطية”، يمكن استخلاص التوصيات الآتية:

    ضرورة إدراج مبدأ العدالة الانتقالية (كفصل كامل) ضمن الدستور السوري الجديد المزمع كتابته في أروقة الأمم المتحدة، سواء من قبل اللجنة الدستورية إن كتب لها كتابة الدستور، أو من قبل جهات أخرى.

    الضغط على الدولة السورية لمعالجة آثار الماضي من جرائم وانتهاكات الجسيمة لحقوق الانسان، وضمان عدم تكرار ما حدث ويحدث وبناء السلم المجتمعي.

    تبني نهج شامل للعدالة الانتقالية ينطلق من مبدأ عدم الإفلات من العقاب، واتخاذ مجموعة من التدابير القضائية وغير القضائية مبنية على مشاروات وطنية بما فيها من معرفة الحقيقة والكشف عن مصير المفقودين والمختفين، وضرورة المحاسبة والمساءلة.

    تشكيل هيئة وطنية سورية للعدالة الانتقالية/لحقوق الانسان، تأخذ صلاحياتها من الدستور وتختص بإعداد مقترحاتها بخصوص عناصر العدالة الانتقالية ولها صلاحيات في تشكيل لجان تخصصية: (في جبر الضرر والإصلاح المؤسسي ولا سيما المؤسسات المتورطة في تلك الانتهاكات خاصة قوى الجيش والأمن والقضاء)، وتقديم تلك المقترحات إلى الحكومة التي ستشكل نتيجة التوافقات والتفاهمات التي ستتم بهذا الخصوص، بهدف تطبيق تلك المقترحات ووضعها موضع التنفيذ.

    تشكيل لجان مهمتها التحقيق في الانتهاكات التي طالت حقوق الإنسان في سوريا طوال السنوات السابقة، على أن تكون قرارات تلك اللجان قابلة للطعن أمام القضاء المختص، بشرط تحرير الأخير من هيمنة السلطة التنفيذية.

    تقديم الدعم والمساعدة من قبل المجتمع الدولي فيما يتعلق بمسارات العدالة الانتقالية الواجب السير فيها، ولا سيما الدعم المادي والتقني، والاستعانة بخبرات التقنيين الأكفاء العاملين في الهيئات الأممية المعنية بقضايا العدالة الانتقالية.

    ضرورة مراجعة القوانين والمراسيم التي تتناقض مع الدستور الجديد ومع الاتفاقيات الدولية ولا سيما تلك التي تكون سوريا طرفاً فيها، وإلغاء تلك التشريعات أو تعديلها كي لا تكون عائقا أمام تطبيق برامج العدالة الانتقالية.

    ضرورة إشراك الضحايا جميعا من مختلف المناطق السوريّة بتلك العملية، مشاركة حقيقة وفعلية منذ عملية التصميم، مع اعطاء خصوصية للنساء والأطفال وعائلات الضحايا.

[1] حبيب عيسى، التأسيس الدستوري للعدالة الانتقالية في سوريا، الأسس والمنطلقات في كتاب العدالة الانتقالية في سورية (دراسة قانونية) مجموعة من المؤلفين، مركز حرمون للدراسات المعاصرة، تركيا، تشرين الثاني/ نوفمبر 2017، ص 9- 14

[2] حسان الأسود، العدالة الانتقالية في سورية الجديدة، مركز حرمون للدراسات المعاصرة، 26 كانون الأول/ ديسمبر 2021. (آخر زيارة للرابط: 9 أيار/مايو 2023). https://www.harmoon.org/reports/%D8%A7%D9%84%D8%B9%D8%AF%D8%A7%D9%84%D8%A9-%D8%A7%D9%84%D8%A7%D9%86%D8%AA%D9%82%D8%A7%D9%84%D9%8A%D8%A9-%D9%81%D9%8A-%D8%B3%D9%88%D8%B1%D9%8A%D8%A9-%D8%A7%D9%84%D8%AC%D8%AF%D9%8A%D8%AF%D8%A9/

[3] العدالة الانتقالية في الشرق الأوسط وشمال أفريقيا. مركز الدراسات الدولية والإقليمية. جامعة جورجتاون قطر. تقرير موجز رقم 16 (2018). (آخر زيارة للرابط: 9 أيار/مايو 2023). https://repository.library.georgetown.edu/handle/10822/1050477

[4] سيادة القانون والعدالة الانتقالية في مجتمعات الصراع ومجتمعات ما بعد الصراع، تقرير الأمين العام، مجلس الامن، الأمم المتحدة S/2004/616 23 آب/ أغسطس 2004، الفقرة 8، ص: 6. (آخر زيارة للرابط: 10 أيار/مايو 2023). https://undocs.org/Home/Mobile?FinalSymbol=S%2F2004%2F616&Language=E&DeviceType=Desktop&LangRequested=Fals

[5] مَا العدالةُ الانتقاليّة؟ المركز الدولي للعدالة الانتقالية. (آخر زيارة للرابط: 10 أيار/مايو 2023). https://www.ictj.org/ar/what-transitional-justice

[6] لمحة عن العدالة الانتقالية وحقوق الإنسان، الأمم المتحدة، حقوق الإنسان، مكتب المفوض السامي. (آخر زيارة للرابط: 10 أيار/مايو 2023). https://www.ohchr.org/ar/transitional-justice/about-transitional-justice-and-human-rights

[7] مذكرة توجيهية أعدها الأمين العام للأمم المتحدة، نهج الأمم المتحدة في شأن العدالة الانتقالية (12-38576)، الأمم المتحدة، اذار/ مارس 2010، ص 3، متوفر على الرابط (آخر زيارة للرابط: 10 أيار/مايو 2023). http://www.ivd.tn/ar/wp-content/uploads/2015/02/%D9%87%D9%86%D8%AC-%D8%A7%D9%84%D8%A3%D9%85%D9%85-%D8%A7%D9%84%D9%85%D8%AA%D8%AD%D8%AF%D8%A9-%D9%81%D9%8A-%D8%B4%D8%A3%D9%86-%D8%A7%D9%84%D8%B9%D8%AF%D8%A7%D9%84%D8%A9-%D8%A7%D9%84%D8%A7%D9%86%D8%AA%D9%82%D8%A7%D9%84%D9%8A%D8%A9-%D9%85%D8%B0%D9%83%D8%B1%D8%A9-%D8%AA%D9%88%D8%AC%D9%8A%D9%87%D9%8A%D8%A9-%D8%A3%D8%B9%D8%AF%D9%87%D8%A7-%D8%A7%D9%84%D8%A3%D9%85%D9%8A%D9%86-%D8%A7%D9%84%D8%B9%D8%A7%D9%85-%D9%84%D9%84%D8%A3%D9%85%D9%85-%D8%A7%D9%84%D9%85%D8%AA%D8%AD%D8%AF%D8%A9.pdf

[8] بحسب قرار الجمعية العامة للأمم المتحدة 60/147 لعام 2006 المتضمن المبادئ الأساسية والمبادئ التوجيهية بشأن الحق في الانتصاف والجبر لضحايا الانتهاكات الجسيمة للقانون الدولي لحقوق الإنسان، تنقسم التعويضات إلى تعويض مادي: التعويضات النقدية أو الخدمات الصحية والعلمية المجانية على الضحايا أو ذويهم، وتعويض معنوي: تخليد الذكرى، أو إقامة المتاحف والنصب التذكارية التي تحفظ الذكرى العامة.

https://undocs.org/Home/Mobile?FinalSymbol=A%2FRES%2F60%2F147&Language=E&DeviceType=Desktop&LangRequested=False

[9] حبيب نصار، مدير السياسات والأبحاث في “إمبيونيتي ووتش”، ضمن محاضرة في ورشة حول العدالة الانتقالية في سوريا نظمتها سوريون من أجل الحقيقة والعدالة.

[10]الجريدة الرسمية للكونغرس الكولومبي رقم 436، 2003. انظر: العدالة الانتقالية والعدالة التصالحية والمصالحة. بعض الرؤى من الحالة الكولومبية. (Transitional Justice, Restorative Justice and Reconciliation. Some Insights from the Colombian Case). ماريا باولا سافون ورودريغو أوبريمني. جامعة كولومبيا الوطنية 2005، ص 1. (آخر زيارة للرابط: 10 أيار/مايو 2023).

https://www.legal-tools.org/doc/e5caf8/pdf

[11] تعد تجربة جنوب افريقيا من أبرز تجارب العدالة الانتقالية، حيث عانت جنوب افريقيا على مدار ثلاثين عاماً: من عام 1960 إلى 1990، من حكم الفصل العنصري من الأقلية البيضاء ضد الأكثرية السوداء، وصراع مسلح قاده المؤتمر الوطني الافريقي ضد نظام التمييز العنصري انتهى بمرحلة الانتقال الديمقراطي في عام 1990 مع رفع الحظر عن نشاط المؤتمر الوطني الأفريقي وإطلاق سراح نلسون مانديلا.

[12] جنوب إفريقيا، المركز الدولي للعدالة الانتقالية. (آخر زيارة للرابط: 10 أيار/مايو 2023). https://www.ictj.org/ar/location/sud%C3%A1frica

[13] المرجع السابق.

[14] في منتصف عام 1995 صادق برلمان جنوب افريقيا على قانون دعم الوحدة الوطنية والمصالحة رقم 34 في 1995 الذي أسس للجنة الحقيقة والمصالحة، وكان مقرها في كيپ تاون، كان عمل اللجنة ضمن ثلاث لجان: (لجنة انتهاكات حقوق الإنسان، لجنة جبر الضرر وإعادة التأهيل، لجنة العفو). الموقع الإلكتروني الرسمي للجنة الحقيقة والمصالحة. (آخر زيارة للرابط: 10 أيار/مايو 2023). https://www.justice.gov.za/trc/

[15] وثائق القاهرة: الرؤية السياسية المشتركة، مركز مالكوم كير- كارينغي للشرق الأوسط. (آخر زيارة للرابط: 10 أيار/مايو 2023). https://carnegie-mec.org/syriaincrisis/?fa=50099

[16] العدالة الانتقالية في سوريا المسار والمآل، مركز مع العدالة، 24 آب/ أغسطس 2018. (آخر زيارة للرابط: 10 أيار/مايو 2023). https://pro-justice.org/ar/accountability/%D8%A7%D9%84%D8%B9%D8%B1%D8%A8%D9%8A%D8%A9-%D8%A7%D9%84%D8%B9%D8%AF%D8%A7%D9%84%D8%A9-%D8%A7%D9%84%D8%A7%D9%86%D8%AA%D9%82%D8%A7%D9%84%D9%8A%D8%A9-%D9%81%D9%8A-%D8%B3%D9%88%D8%B1%D9%8A%D8%A7-%D8%A7.html

[17] فتح الطريق إلى العدالة في سوريا (Unlocking the Road to Justice in Syria). أوبينيو يوريس. 1 تشرين الأول/أكتوبر 2022. (آخر زيارة للرابط: 10 أيار/مايو 2023). http://opiniojuris.org/2022/10/01/unlocking-the-road-to-justice-in-syria/

[18] البيان الختامي لمجموعة العمل من أجل سوريا عام 2012 (بيان جنيف). هيئة التفاوض السورية اللجنة الدستورية. 30 حزيران/يونيو 2012. (آخر زيارة للرابط: 10 أيار/مايو 2023). https://syriancc.org/2021/09/02/%D8%A8%D9%8A%D8%A7%D9%86-%D8%AC%D9%86%D9%8A%D9%81/

[19] البيان الختامي الصادر عن مجموعة العمل من أجل سوريا، الجمعية العامة للأمم المتحدة 30 حزيران/ يوليو 2012 رقم S/2012/522  . (آخر زيارة للرابط: 10 أيار/مايو 2023). https://undocs.org/Home/Mobile?FinalSymbol=S%2F2012%2F522&Language=E&DeviceType=Desktop&LangRequested=False%D8%8C

قرار مجلس الأمن الدولي رقم 2118. (آخر زيارة للرابط: 10 أيار/مايو 2023). https://ar.wikisource.org/wiki/%D9%82%D8%B1%D8%A7%D8%B1_%D9%85%D8%AC%D9%84%D8%B3_%D8%A7%D9%84%D8%A3%D9%85%D9%86_%D8%A7%D9%84%D8%AF%D9%88%D9%84%D9%8A_%D8%B1%D9%82%D9%85_2118

[20] القرار S/RES/2254(2015)، الأمم المتحدة، مجلس الأمن، 18 كانون الأول/ ديسمبر 2015. (آخر زيارة للرابط: 10 أيار/مايو 2023). https://undocs.org/Home/Mobile?FinalSymbol=S%2FRES%2F2254(2015)&Language=E&DeviceType=Desktop&LangRequested=False

[21] اللجنة الدستورية، مكتب المبعوث الخاص للأمين العام في سوريا.(آخر زيارة للرابط: 10 أيار/مايو 2023). https://specialenvoysyria.unmissions.org/ar/%D8%A7%D9%84%D9%84%D8%AC%D9%86%D8%A9-%D8%A7%D9%84%D8%AF%D8%B3%D8%AA%D9%88%D8%B1%D9%8A%D8%A9

[22] من محضر جلسات مفاوضات وفد الحكومة السورية ووفد هيئة التفاوض في اللجنة الدستورية.

[23] دستور الجمهورية التونسية الصادر في 27 كانون الثاني/يناير 2014. (آخر زيارة للرابط: 10 أيار/مايو 2023). https://legislation-securite.tn/ar/law/44137

[24] دستور مصر. رئاسة الجمهورية المصرية. الباب السادس. المادة: 241. (آخر زيارة للرابط: 8 أيار/مايو 2023). https://www.presidency.eg/ar/%D9%85%D8%B5%D8%B1/%D8%A7%D9%84%D8%AF%D8%B3%D8%AA%D9%88%D8%B1/

[25] التقرير السنوي السابع عن أبرز انتهاكات القوات الروسية منذ تدخلها العسكري في سوريا في 30 أيلول 2015، الشبكة السورية لحقوق الإنسان، 30 أيلول/ سبتمبر 2022. (آخر زيارة للرابط: 10 أيار/مايو 2023). https://snhr.org/arabic/2022/09/30/%d8%a7%d9%84%d8%aa%d9%82%d8%b1%d9%8a%d8%b1-%d8%a7%d9%84%d8%b3%d9%86%d9%88%d9%8a-%d8%a7%d9%84%d8%b3%d8%a7%d8%a8%d8%b9-%d8%b9%d9%86-%d8%a3%d8%a8%d8%b1%d8%b2-%d8%a7%d9%86%d8%aa%d9%87%d8%a7%d9%83%d8%a7/

[26] التقرير العشرون والسنوي السادس عن قوات التحالف الدولي لمحاربة تنظيم داعش بقيادة الولايات المتحدة الأمريكية، الشبكة السورية لحقوق الإنسان، 23 أيلول/ سبتمبر 2022. (آخر زيارة للرابط: 10 أيار/مايو 2023). https://snhr.org/arabic/2020/09/23/12683/

[27] سوريا: أدلة دامغة على جرائم الحرب وغيرها من الانتهاكات التي ارتكبتها القوات التركية والجماعات المسلحة المتحالفة معها، منظمة العفو الدولية، 18 تشرين الأول/ أكتوبر 2019. (آخر زيارة للرابط: 10 أيار/مايو 2023). https://www.amnesty.org/ar/latest/press-release/2019/10/syria-damning-evidence-of-war-crimes-and-other-violations-by-turkish-forces-and-their-allies/

[28] خبيران سوريان: مجموعات إيران ساعدت النظام في انتهاكاته، وكالة الاناضول، 10 أيار/ مايو 2022. (آخر زيارة للرابط: 10 أيار/مايو 2023). https://www.aa.com.tr/ar/%D8%A7%D9%84%D8%AF%D9%88%D9%84-%D8%A7%D9%84%D8%B9%D8%B1%D8%A8%D9%8A%D8%A9/%D8%AE%D8%A8%D9%8A%D8%B1%D8%A7%D9%86-%D8%B3%D9%88%D8%B1%D9%8A%D8%A7%D9%86-%D9%85%D8%AC%D9%85%D9%88%D8%B9%D8%A7%D8%AA-%D8%A5%D9%8A%D8%B1%D8%A7%D9%86-%D8%B3%D8%A7%D8%B9%D8%AF%D8%AA-%D8%A7%D9%84%D9%86%D8%B8%D8%A7%D9%85-%D9%81%D9%8A-%D8%A7%D9%86%D8%AA%D9%87%D8%A7%D9%83%D8%A7%D8%AA%D9%87/2583809

[29] أبرز انتهاكات تنظيم داعش بحق المجتمع السوري وإسهامه في تشويه الحراك الشعبي المطالب بالحرية والكرامة، الشبكة السورية لحقوق الإنسان. 10 شباط/فبراير 2022. (آخر زيارة للرابط: 10 أيار/مايو 2023). https://snhr.org/arabic/2022/02/10/14769/

[30] أبرز انتهاكات هيئة تحرير الشام منذ تأسيس جبهة النصرة حتى الآن، الشبكة السورية لحقوق الإنسان، 31 كانون الثاني/ يناير 2022. (آخر زيارة للرابط: 10 أيار/مايو 2023).https://snhr.org/arabic/2022/01/31/14719/

[31]سوريا: “المناطق الآمنة” انتهاكات واقتتال دائم بين مجموعات المعارضة المسلح، سوريون من اجل الحقيقة والعدالة، 1 اب/ أغسطس 2022. (آخر زيارة للرابط: 10 أيار/مايو 2023). https://stj-sy.org/ar/%D8%B3%D9%88%D8%B1%D9%8A%D8%A7-%D8%A7%D9%84%D9%85%D9%86%D8%A7%D8%B7%D9%82-%D8%A7%D9%84%D8%A2%D9%85%D9%86%D8%A9-%D8%A7%D9%86%D8%AA%D9%87%D8%A7%D9%83%D8%A7%D8%AA-%D9%88%D8%A7%D9%82%D8%AA%D8%AA/

سوريا: انتهاكات بحق المدنيين في “المناطق الآمنة”، هيومان رايتس ووتش، 27 تشرين الثاني/ نوفمبر 2019. (آخر زيارة للرابط: 10 أيار/مايو 2023). https://www.hrw.org/ar/news/2019/11/27/335938

“دمهم ما زال هنا” عمليات الإعدام وإطلاق النار العشوائي واتخاذ الرهائن من قبل قوات المعارضة في ريف اللاذقية، هيومن رايتس ووتش، 11 تشرين الأول/ أكتوبر 2013. (آخر زيارة للرابط: 10 أيار/مايو 2023). https://www.hrw.org/ar/report/2013/10/11/256480

[32] تقرير لجنة التحقيق الدولية المستقلة المعنية بالجمهورية العربية السورية A/HRC/51/45 الجمعية العامة. 17 آب/أغسطس 2022. (آخر زيارة للرابط: 10 أيار/مايو 2023). https://reliefweb.int/report/syrian-arab-republic/report-independent-international-commission-inquiry-syrian-arab-republic-ahrc5145-enarruzh

[33] الدستور السوري، موقع مجلس الشعب السوري، 27 شباط/ فبراير 2012. (آخر زيارة للرابط: 10 أيار/مايو 2023). http://www.parliament.gov.sy/arabic/index.php?node=5518&cat=423&

[34] المصدر السابق.

[35] المواد 97، 98، 99، 124

[36] المواد 100، 101، 102

[37] المادة 103

[38] المادة 115

[39] المادة 133

[40] المادة 141

[41] قانون إحداث إدارة أمن الدولة وقانون التنظيمات الداخلية لإدارة أمن الدولة، اللجنة السورية لحقوق الإنسان، 6 شباط/ فبراير 2004. (آخر زيارة للرابط: 10 أيار/مايو 2023). https://www.shrc.org/?p=7451

[42] سوريا: حصانة نظرية للقضاة في ظل ضغوط السلطات التنفيذية والأجهزة الأمنية، سوريون من أجل الحقيقة والعدالة، 28 تموز/ يوليو 2022. (آخر زيارة للرابط: 10 ايار/مايو 2023). https://stj-sy.org/ar/%D8%B3%D9%88%D8%B1%D9%8A%D8%A7-%D8%AD%D8%B5%D8%A7%D9%86%D8%A9-%D9%86%D8%B8%D8%B1%D9%8A%D8%A9-%D9%84%D9%84%D9%82%D8%B6%D8%A7%D8%A9-%D9%81%D9%8A-%D8%B8%D9%84-%D8%B6%D8%BA%D9%88%D8%B7-%D8%A7%D9%84%D8%B3/

[43] المحكمة الدستورية العليا في سوريا: استقلالية شكلية وأداة بيد رئيس الجمهورية، سوريون من أجل الحقيقة والعدالة، 15 آب/ أغسطس 2022. (آخر زيارة للرابط: 10 أيار/مايو 2023). https://stj-sy.org/ar/%D8%A7%D9%84%D9%85%D8%AD%D9%83%D9%85%D8%A9-%D8%A7%D9%84%D8%AF%D8%B3%D8%AA%D9%88%D8%B1%D9%8A%D8%A9-%D8%A7%D9%84%D8%B9%D9%84%D9%8A%D8%A7-%D9%81%D9%8A-%D8%B3%D9%88%D8%B1%D9%8A%D8%A7-%D8%A7%D8%B3%D8%AA/

[44] تشيلي، اللجنة الدولية لشؤون المفقودين. (آخر زيارة للرابط: 10 أيار/مايو 2023). https://www.icmp.int/ar/where-we-work/the-americas/latin-america-and-the-caribbean/chile/

[45] تعرف الجمعية العامة للأمم المتحدة وفق القرار 60/147 (21 اذار/ مارس 2006) الضحايا بأنهم الأشخاص الذين لحق بهم الضرر، أفرادا كانوا أو جماعات، بما في ذلك الضرر البدني أو العقلي أو المعاناة النفسية أو الخسارة الاقتصادية أو الحرمان بدرجة كبيرة من التمتع بحقوقهم الأساسية، وذلك من خلال عمل أو امتناع عن عمل يشكل انتهاكا جسيما للقانون الدولي لحقوق الإنسان، أو انتهاك للقانون الإنساني الدولي. (آخر زيارة للرابط: 10 أيار/مايو 2023). https://undocs.org/Home/Mobile?FinalSymbol=A%2FRES%2F60%2F147&Language=E&DeviceType=Desktop&LangRequested=False

[46] سوريا والحرمان الجنسية: محنة بلا نهأية، سوريون من اجل الحقيقة والعدالة، 5 تشرين الأول/ أكتوبر 2022. (آخر زيارة للرابط: 10 أيار/مايو 2023). https://stj-sy.org/ar/%d8%b3%d9%88%d8%b1%d9%8a%d8%a7-%d9%88%d8%a7%d9%84%d8%ad%d8%b1%d9%85%d8%a7%d9%86-%d8%a7%d9%84%d8%ac%d9%86%d8%b3%d9%8a%d8%a9-%d9%85%d8%ad%d9%86%d8%a9-%d8%a8%d9%84%d8%a7-%d9%86%d9%87%d8%a7%d9%8a%d8%a9/

[47] تقرير لجنة التحقيق الدولية المستقلة المعنية بسوريا، مجلس حقوق الإنسان الدورة 37 -A/HRC/37/72 . (آخر زيارة للرابط: 10 أيار/مايو 2023). https://undocs.org/Home/Mobile?FinalSymbol=A%2FHRC%2F37%2F72&Language=E&DeviceType=Desktop&LangRequested=False

[48] تقرير لجنة التحقيق الدولية المستقلة المعنية بسوريا، مجلس حقوق الإنسان الدورة 40 -A/HRC/40/70 . (آخر زيارة للرابط: 10 أيار/مايو 2023). https://undocs.org/Home/Mobile?FinalSymbol=A%2FHRC%2F40%2F70&Language=E&DeviceType=Desktop&LangRequested=False

[49] المرصد الاقتصادي السوري – ربيع 2022: جيل ضائع من السوريين. مجموعة البنك العالمي. (آخر زيارة للرابط: 9 تشرين الثاني/ نوفمبر 2022).

https://openknowledge.worldbank.org/handle/10986/37617

[50] القاعدة 150، من قواعد بيانات القانون الدولي الإنساني، المجلد الثاني، الفصل 42، القسم ب. (آخر زيارة للرابط: 10 أيار/مايو 2023). https://ihl-databases.icrc.org/ar/customary-ihl/v1/rule150

[51] تقرير البرامج للمركز الدولي للعدالة الانتقالية: جبر الضرر، المركز الدولي للعدالة الانتقالية، 25 أيار/ مايو 2013. (آخر زيارة للرابط: 10 أيار/مايو 2023). https://www.ictj.org/ar/node/16978

[52]كتيب: العدالة الانتقالية في سوريا، منظمة دولتي ومنظمة لا سلام دون عدالة، أغسطس/اب 2014، ص 19 (اخر زيارة للرابط 8 أيار/ مايو 2023). https://dawlaty.org/publications/%d8%a7%d9%84%d8%b9%d8%af%d8%a7%d9%84%d8%a9-%d8%a7%d9%84%d8%a5%d9%86%d8%aa%d9%82%d8%a7%d9%84%d9%8a%d8%a9-%d9%81%d9%8a-%d8%b3%d9%88%d8%b1%d9%8a%d8%a7/

[53]مثال: بيتر وليم بوتا (اخر رئيس وزراء في حكومة الفصل العنصري)، الذي وصف المحاكمات بالسيرك ورفض الذهاب إليها. لجنة الحقيقة والمصالحة (جنوب إفريقيا). Truth and Reconciliation Commission South Africa. (آخر زيارة للرابط: 10 أيار/مايو 2023). https://ar.wikipedia.org/wiki/%D9%84%D8%AC%D9%86%D8%A9_%D8%A7%D9%84%D8%AD%D9%82%D9%8A%D9%82%D8%A9_%D9%88%D8%A7%D9%84%D9%85%D8%B5%D8%A7%D9%84%D8%AD%D8%A9_(%D8%AC%D9%86%D9%88%D8%A8_%D8%A5%D9%81%D8%B1%D9%8A%D9%82%D9%8A%D8%A7)

[54] تُعد تجربة العدالة الانتقالية في المملكة المغربية من أوائل التجارب في الدول العربية. في العام 1990 أسس الملك حسن الثاني المجلس الاستشاري لحقوق الإنسان نتيجة للضغط الداخلي والدولي. تأسست هيئة التحكيم المستقلة سنة 1999 لتعويض ضحايا الاعتقال التعسفي والاختفاء القسري. أوصى المجلس بإنشاء لجنة للحقيقة. صادق الملك محمد السادس على تأسيس هيئة الإنصاف والمصالحة سنة 2003، وكانت ذات اختصاصات غير قضائية في مجال تسوية الانتهاكات الجسيمة لحقوق الإنسان و من مهامها البحث و التحري و التقييم و الاقتراح. تنظر هذه اللجنة في الانتهاكات من تاريخ الاستقلال في عام 1956 حتى تاريخ تشكيلها في عام 2004. اعتمدت الهيئة منهجية التحريات الميدانية والبحث الوثائقي ودراسة السجلات والوثائق.

[55] نبيل زكاوي، انحراف مسار ما بعد العدالة الانتقالية وهشاشة الانتقال الديمقراطي في المغرب، المركز العربي للأبحاث ودراسة الدراسات، مجلة سياسات عربية، العدد 47، تشرين الثاني/ نوفمبر 2020. ص 57- 72. (آخر زيارة للرابط: 10 أيار/مايو 2023). https://siyasatarabiya.dohainstitute.org/ar/issue047/pages/issuehome.aspx

[56] أنشأ الرئيس السابق باتريسيو ايلوين عام 1990 بمرسوم رئاسي لجنة عرفت باسم (لجنة ريتنغ/Retting commission)، لكشف الحقيقة والمصالحة بين المسؤولين عن انتهاكات حقوق الإنسان وأسر ضحايا الاغتيالات والاختفاء القسري التي وقعت خلال 17 سنة من حكم العسكري لنظام أوغستو بينوشيه،في شباط / فبراير 1991، أصدرت اللجنة الوطنية التشيلية من أجل الحقيقة والمصالحة تقريراً مفصلاً عن انتهاكات حقوق الإنسان التي أسفرت عن حالات وفاة واختفاء خلال سنوات الحكم العسكري. ووفقاً للتقرير، قُتل 2296 شخصاً خلال فترة الـ 17 عاماً. وقدرت التقديرات اللاحقة عدد المفقودين إلى 3400. تم الاعتراف بمعالجة قضية المفقودين كعنصر أساسي في عملية المصالحة الاجتماعية عقب العودة إلى الديمقراطية تشيلي، اللجنة الدولية لشؤون المفقودين: https://www.icmp.int/ar/where-we-work/the-americas/latin-america-and-the-caribbean/chile/ (آخر زيارة للرابط 22 تشرين الأول/ أكتوبر 2022)

[57] مجلة لباب. العدد 5 – شباط/فبراير 2020. مركز الجزيرة للدارسات. (آخر زيارة للرابط: 10 أيار/مايو 2023). https://online.flippingbook.com/view/267413/26/#zoom=true

إعداد موقعنا “صفحات سورية”

————————————-

ما هي أشكال العدالة الانتقالية التي يحتاجها السوريون؟/ كندة حواصلي

خرجت سوريا قبل أسبوع من نير نظام استبدادي شمولي أحكم قبضته على مفاصل الحياة بأكملها، وأشاع لعقود قيم الظلم والاستبداد والتوحّش كوسيلة مشروعة للبقاء. طُويت هذه الصفحة القاتمة من تاريخ سوريا وفتحت معها صفحات جديدة تحمل آلام الماضي ومعاناته ودفعت إلى الواجهة بملفات شديدة الحساسية والأهمية لا يمكن تجاوزها أو تأجيلها لأنها الضمان لدخول سوريا إلى عصر جديد.

لقد أثارت السياسة التي تعاملت معها السلطة الانتقالية المؤقتة الكثير من الثناء من قبل بعض الجهات والكثير من الإحباط لجهات أخرى، لا سيما فيما يتعلق بموضوع العفو عن الجميع، رغم ما كشفه سقوط النظام من انتهاكات جسيمة أبرزها وأعمقها ملف المعتقلين والمفقودين والمغيّبين قسرياً والمتورطين به، فارتفعت العديد من الأصوات مطالِبة بضرورة البدء بمسار محاسبة صارم وإنزال القصاص العادل بجميع المجرمين.

لا يوجد في قاموس العدالة الانتقالية مصطلح ” المسامحة”، أي ترك الجرائم دون قصاص، فقد فصلت التجارب الدولية مسارات رصينة تصلح لمعالجة آثار ما بعد الصراع كمسار المساءلة ومسار العدالة التصالحية، ورغم أن هذه المسارات تُقدّم تصوّرات وتجارب مختلفة إلا أن أياً منها لا يحمل الحل المثالي الذي يُرضي الجميع ويُلبّي كافة التوقعات، إذ يشوبها الكثير من العقبات والتحديات التي ينبغي معرفتها والتحضُّر لها.

مسار “العدالة التصالحية” والتعافي المجتمعي:

نصّت المادة الثانية من العهد الخاص بالحقوق المدنية والسياسية على اعتبار التقاعس عن محاسبة المتهمين بجرائم تٌقوّض حقوق الإنسان انتهاكاً صريحاً لحقوق الضحايا في الوصول للعدل والإنصاف، ولهذا تنطلق فكرة العدالة التصالحية من مفهوم إصلاح الضرر الذي نتج عن الجريمة وإشراك المتضررين في تحقيق عملية العدالة، وذلك من خلال اعتراف الجاني بجريمته وطلب المسامحة، ثم إصلاح الضرر الناجم عنها وتقديم التعويض أو ردّ الحقوق، والأهم من ذلك كله معالجة أسباب الجريمة، وتقليل احتمالية تكرارها من خلال إعادة دمج الجاني في المجتمع بعد إعادة تأهيله وفق مسارات وشروط مُعيّنة[1].

طُبّق مسار العدالة التصالحية في العديد من الدول، وتُعتبر راوندا من أشهر وأنجح التجارب رغم أنها شهدت أكبر عملية تصفية عرقيّة وانتهاكات جسيمة من قتل واغتصاب وتشريد استمرت لمدة لفترة طويلة وذهب ضحيتها أكثر من 800 ألف راوندي، وشارك في الإبادة أطياف متنوعة من المجتمع بينهم نساء وأطفال[2].

لقد واجهت الحكومة الرواندية في فترة ما بعد الإبادة الجماعية تحدّياً صعباً، فقد امتلأت السجون بما يقارب 200 ألف من المتورطين بتنفيذ هذه الانتهاكات، وعجز النظام القضائي عن التعاطي مع هذا الحجم من المحاكمات، فقامت الحكومة بسنّ قانون عام 1996 قُسِّم فيه المتهمون إلى فئات، وتم العفو عن البعض مقابل الإدلاء بمعلومات حول الأشخاص الأشد إجراماً والذين شاركوا في جرائم أكبر[3].

شهد عام 2003 وحده ما يزيد عن 6000 محاكمة، ومع ذلك ظلت السجون مليئة بالمتورطين، ولهذا انتجت الحكومة نهجاً إضافياً للبدء في مرحلة سلام جديدة وذلك من خلال تأسيس محاكم قبلية عرفت بـ”جاكاكا” ضمت الحكماء والقيادات المجتمعية الذين انتخبهم المجتمع، وهدفت هذه المحاكم إلى عقد جلسات استماع بغرض حل النزاعات  لا لفرض عقوبات، فقد كان الهدف منها اعتراف الجاني بالجرم وطلب المغفرة من أهالي الضحايا، واشتراط قبولهم لذلك وتقديم التعويضات لهم ، وقد استمرت هذه المحاكم لمدة 10 سنوات أُقيمت فيها 10 ألاف محكمة ونظرت في قرابة مليوني قضية شملت ما لا يقلّ عن مليون متهم[4].

وقد رافقت تجربة التعافي من آثار الإبادة عملية إحياء للذاكرة الجماعية وتخصيص يوم حداد وطني للضحايا تقوم فيه الحكومة باستخراج رفات ضحايا الإبادة من المقابر الجماعية ودفنهم بشكل لائق، كما تم إطلاق عملية إصلاح سياسي واقتصادي شاملة، وإعادة بناء الهوية الوطنية الجامعة بعد حظر الهويات العرقيّة التي كانت أحد الأسباب في اندلاع الصراع[5].

لقد حقّقت التجربة الراوندية مستويات متقدّمة من المصالحة، ولكنها لم تسلم من الانتقادات الداخلية والخارجية، فقد اتُهم مسار العدالة التصالحية بأنه كان وسيلة لتحقيق عدالة المنتصر الانتقائية كون عمليات المحاكمة ركزت على مرتكبي الجرائم من طرف وتغاضت عن المتورطين من الطرف الآخر، كما واجهت تحديات أيديولوجية وعرقيّة، إضافة إلى عوامل كالفقر والجروح النفسية والجسدية ومشاكل في التعويضات وإعادة الممتلكات[6].

المحاسبة والمسائلة.. نهج لتمكينٍ مستقبليٍّ للقانون:

يُقدّم مفهوم المساءلة نهجاً مستخدماً في مراحل ما بعد الصراع، إذ يشير إلى علاقة محاسبة تستند إلى أطر قانونية تكون عادة بين المواطن والحكومة أو المواطن والمسؤولين المعنيّين، وتهدف إلى ضمان عدم إفلات كبار المسؤولين من العقاب، وإثبات مسؤولية الدولة وتورّطها في الانتهاكات واستعادة الحقيقة، بالإضافة إلى الملاحقة الجنائية والتعويض وضمان عدم تكرار هذه الانتهاكات[7].

يعتبر إطلاق هذا المسار تحدّياً كبيراً، خاصة أنه يتعلّق بالأنظمة المحلية البيروقراطية والقانونية والمهنيّة والسياسية، وقد يتعارض مع المصالح المتضاربة للفاعلين الجدد، كما قد يتحوّل إلى مجال للسياسات العقابية التي تحاول تحقيق مكاسب سياسية أو صرف الانتباه عن انتهاكات جديدة يتم التورّط بها، عدا عن كونه عملية تحتمل التسييس بشكل كبير[8].

وإلى جانب ذلك، قد تُعاني عملية المساءلة من البطء وتعقيد الوصول إلى أحكام صارمة لاسيما في أحداث العنف الجماعي، بالإضافة إلى صعوبة تجميع الأدلة التي تُثبت المسؤولية الفردية والجماعية، والفشل في إرضاء الضحايا أو تعويضهم، عدا عن هشاشة الوضع الأمني بعد الصراع واحتمال عودة العنف بأشكال جديدة وغياب الحكومات القوية، كما أن عامل الزمن وصعوبة ملاحقة المتورّطين الهاربين من القصاص يزيد من التحدّيات، لاسيما عند اللجوء إلى المحاكم الجنائية الدولية التي يستغرق البت بالقضايا فيها عشرات السنوات، ويحدث خلالها وفاة المتهمين أو فقدان الشهود أو المدعين كما حدث في حالة محاكمة ميلوسوفيتش المتهم بارتكاب جرائم حرب في يوغسلافيا والمحكمة الدولية الخاصة بالتحقيق باغتيال رفيق الحريري.

تقدم ليبيا تجربة معاصرة، فقد واجه مسار العدالة الانتقالية فيها أيضاً الكثير من العوائق، إذ تضمّنت مرحلة ما بعد القذافي وجود 3 هياكل تشريعيّة متعاقبة أصدرت أكثر من 17 قانوناً، ركّزت غالبية التشريعات فيها على قوانين عزل سياسي تهدف لقطع الصلة بأزلام النظام السابق، الأمر الذي أدى لاحقاً إلى أدى الى زيادة الاستقطاب وتعميق الصراع، كما وُصفت حزمة القوانين الصادرة في هذا السياق بأنها متسرّعة ومربكة، فقد ركزت على فترة القذافي فقط ولم تؤسّس لأي نظام محاسبة مستدام يصلح لتتبُّع الانتهاكات التي ارتُكبت بعده، وتحوّل العمل التشريعي إلى أداة للتلاعب والارتجال بسبب غياب سياسة تشريعيّة واضحة وإهمال العمل على تمكين مصالحة مجتمعية[9].

لقد فشلت المنظومة القانونية الليبية -وفقاً لبعثة التحقيق التابعة للأمم المتحدة- في معالجة الانتهاكات ومحاسبة المسؤولين وتحقيق الإنصاف كونها اتخذت شكلاً عقابياً تطهيرياً، ولم يتم بناء إطار واضح لمعالجة ظاهرة الإفلات من العقاب، كما تأثرت بشكل كبير بعودة الإضرابات والصراع المسلح وتدهور الأوضاع وعدم سيادة الدولة على كامل أراضيها[10].

إن إطلاق أي مسار للعدالة أمرٌ لازم وضروري لأنه يجلب الشرعيّة والثقة للمؤسسات الحكومية، ورغم أنه هذا المسار لا يتم فيه تلبية كل التوقّعات دائماً، إلا أنه يفسح المجال لإنتاج مسار تعليمي رديف مهمّ لمعرفة الثغرات القانونية والإدارية والمؤسسية ومنع تكررها مستقبلاً، بالإضافة إلى تحسين نموذج الحكم المحلي، وذلك عندما يتم التركيز في إطار العدالة على  عمليات الإصلاح والتعلُّم دون إغفال عملية العقاب، ففي عديد من تجارب العدالة تم منح الجناة وحتى الشهود ضمانات بعدم المحاسبة من أجل فهم دوافع الجرائم السابقة، عدا عن تقديم حوافز قد تصل للحصانة والحماية لمن يُدلي بمعلومات أو أدلّة قيّمة، فمن الضروري الفصل بين الأخطاء والتجاوزات الإدارية الفردية، وبين الإخفاقات المؤسّسية وضعف الأُطر القانونية التي سمحت بمثل هذه الانتهاكات[11].

بناءً على ما سبق، فإن ما يتوافق عليه السوريون ويرونه الأنسب لهم لتحقيق الاستقرار المجتمعي، ومنع تكرار هذه الجرائم، هو الأنسب، وهذه الأفكار والحلول الواردة هي مجرّد مساهمات توضح أن مسار العدالة لا يقتضي نمطاً واحداً، فلها عدّة أدوات، وإن أية عملية عدالة انتقالية لا تعني معاقبة الجميع، ولن ترضي الجميع، وهذا ما تخبرنا به التجارب المقارنة.

 مسارات العدالة اللازمة لتحقيق الاستقرار:

إن سوريا الحرة عطشى إلى العدالة والحرية، تحلم بأن تطوي الصفحة القاتمة التي جثمت على صدرها لعقود، وتبدأ صفحة جديدة لا مكان فيها لإرهاب أو انتهاكات لحقوق الإنسان أو تعدٍّ على حقوق أو جرائم حرب، ولكن التحدّيات في سوريا هائلة أيضاً، فالنظام الساقط قد رهن طائفة كاملة لخدمته وربط وجودها بوجوده، وتشارك مع منتفعين من خارج الطائفة باعوا ضمائرهم حفاظاً على مصالحهم والسلطة في أيديهم، فأطلق أيديهم ليعثوا في الأرض الفساد.

وبالنظر إلى حالات الهروب الجماعي، والفوضى والتخريب المتعمّد التي رافقت عملية سقوط نظام الأسد، فُقدت الكثير من الأدلة الهامة في عملية العدالة المطلوبة مهما كان شكلها، وتم التلاعب بجهل أو بقصد ببعض ساحات الجرائم الجماعية نتيجة عمليات فتح السجون والمعتقلات، وهو أمر متفهّم في سياق الواقع لكنه أفقد السوريين وثائق في غاية الأهمية.

إن أولويات السوريين الآن متعدّدة، أهمها تحقيق الاستقرار السياسي والمجتمعي اللازم لإطلاق عملية التعافي وإعادة الإعمار، وضمان وحدة البلاد وإنشاء مسار للعدالة يُنصف الضحايا ويمنع تكرار الجريمة، كما يُعيد بناء مؤسسات الدولة على أُسسٍ راسخة ويعيد ثقة المجتمع فيها، ولعل التجارب المقارنة السابقة تؤكد أن مسار العدالة لا يقتضي نمطاً واحداً، بل يمكن الأخذ بحزمة من الأدوات، كما أن أية عملية عدالة انتقالية لا تعني معاقبة الجميع، ولن ترضي الجميع، خاصة مع صعوبة الوصول لكافة المتورّطين.

وفي حين أن مسار المساءلة الكاملة قد يفتح المجال لحرب أهلية أو يمكّن لمشاريع التقسم في بعض الأحيان، فإن غياب هذا المسار أو التعامل معه بشكل مجتزأ قد يغرق البلاد في دوامة الثأر والانتقام، ولهذا لا بد للعقلاء من استخدام جميع الأدوات الممكنة والتي يمكن من خلالها جبر الضرر والحفاظ على السّلم الأهلي والحيلولة دون إفلات المتورّطين من العقاب.

لقد شهدت سوريا في الحقبة السوداء مستويات متعدّدة من الجرائم والانتهاكات، منها ما كان في حق الوطن وثرواته وخيراته، لا يمكن أن تسقط معها الحقوق ولا يجب التسامح بها، بل يجب محاسبة مجرميها وملاحقتهم دولياً حتى لو غيابياً، وتثبيت الجريمة واستحضار الأدلة ومصادرة الممتلكات، بالإضافة إلى مطالبتهم بالتعويضات وإنزال وصمة العار بهم وتأريخ الواقعة ليكونوا عبرة لمن خلفهم، وهم أزلام نظام الأسد البائد وأصحاب السلطة الذين نهبوا خيرات البلد ودمّروا مقدّراتها وقتلوا أبناءها وضربوهم بمختلف الأسلحة والذخائر، إضافة لحلفائهم  ومشغّليهم من الدول والقيادات التي مارست شتى أشكال الانتهاكات.

كما أن هناك مستوى أقلّ من الجرائم تلك التي نفذها آخرون في مستويات قيادية أدنى، وهم الشريحة الأوسع والتي قد يصعب إثبات تورُّطها بالأدلة والبراهين باستثناء شهادة الشهود، وفي هذه الحالة يفترض أن يتفق السوريون على شكل مسار المحاسبة المطلوب والذي يُحقّق العدالة والفائدة على حد سواء، والنظر في إمكانية تقديم بعض المغريات والوعود بتخفيف العقوبة لقاء تقديم المزيد من المعلومات التي تكشف نمط الحكم الحقيقي الذي كان مُطبّقاً، وتعيد صياغة المنظومة الإدارية والقانونية بما يضمن عدم تكرار الجريمة أو الإفلات من العقاب[12].

أما المستوى الثالث، فهو مستوى صغار المجرمين والمرتزقة الذين تورّطوا بجرائم ونفّذوا الأوامر، وهنا قد يكون مسار العدالة التصالحية خياراً قائماً، وذلك إن رغبت عائلات الضحايا بذلك، ويمكن أن تشترط عملية العفو وإعادة التأهيل تقديم المتورّطين معلومات دقيقة عن الضحايا ومصيرهم وإعادة الحقوق الممكنة لأصحابها، مع ضرورة إخضاع المتورطين لقرار عزل يبعدهم عن أي مناصب سياسية وقيادية حتى ولو حصلوا على الغفران.

أما صغار الشبيحة والمحرّضين و”العواينيّة” والإعلاميين وأصحاب المواقف السياسية[13] ممن لم يتورّطوا في جرائم أو دماء، وهم شريحة واسعة [14] في المجتمع قد يصعب معها تعقُّبهم أو محاكمتهم، وقد يكون من الأنسب أن يلتحقوا بمسارات إعادة تأهيل طويلة تعيد تصحيح منظومة القيم والأخلاق لديهم، وأن يتم تكليفهم بخدمات مجتمعية تُحوّل طاقاتهم من التخريب إلى الإصلاح.

إن التحدّي أمام السوريين كبير، يتمثّل في الموازنة بين مصلحة سوريا الحرة عامة واستقرارها، وإعادة بناء مؤسساتها ونُظمها، وبين إطلاق مسار عدالة سوريّ راسخ رصين، يمنع الإفلات من العقاب ويُؤسّس لنظام محاسبة مستدام قائم على المساءلة وتعويض المتضررين، يضمن عدم حدوث أي انتهاكات مستقبليّة ويُعيد الثقة بين الدولة والمجتمع.

  كما يحتاج السوريون إلى إطلاق مسار مصالحة اجتماعية، يُوثّق الجريمة ويؤرّخها ويُحدّد المتورّطين فيها، ويفسح المجال لعائلات الضحايا للعفو والغفران والتعويض إن رأوا ذلك، بما يؤسّس لعهد جديد يتم فيه إعادة تشكيل الولاء للوطن لا لعصابة فيه، ويقطع الطريق أمام أي مشاريع تقسيم خارجية تلعب على وتر المخاوف الطائفية أو تُجدّد الصراع بشكل حرب أهلية.

إن التهاون في اتخاذ خطوات جادة في مسار العدالة الانتقالية أو تأجيله سيُغرق البلاد في دوامة جديدة من العنف ويُعيق عملية التعافي، ويُعيد إنتاج النظام الاستبدادي بأشكال ووجوه جديدة، وسيفسح المجال لتكرار الانتهاكات من قبل أطراف جديدة أَمِنت من الحساب، وهو ما يفتح المجال لعودة الثورات المضادة، أو إعادة تشكيل النظام الاستبدادي المجرم وقيمه وسياساته بشكل جديد.

[1] حول العدالة التصالحية ، موقع كلية الحقوق في جامعة  ويسكونسن – ماديسون​ .

[2][2] رواندا من الإبادة إلى الريادة… كيف نجحت في تحقيق التنمية وبناء السلام؟ ، موقع المشاهد، تاريخ النشر 29/9/2020

[3] المرجع السابق.

[4] المصالحة الوطنية في رواندا:ا، التجارب والدروس المستخلصة، المعهد الجامعي الأوروبي، تاريخ النشر 2022.

[5] المرجع السابق.

[6] المرجع السابق.

[7] مخاطر المساءلة بعد الأزمات: الغموض، وإرث السياسات، والتنازلات في القيم،  مجلة كامبريدج للشؤون الدولية، تاريخ النشر 7/1/2020.

[8] المرجع السابق.

[9] ميزان المحاسبة: العدالة الانتقالية والمحاسبة عن الانتهاكات الجسيمة لحقوق الإنسان في ليبيا ، مجلة موازين.

[10] المرجع السابق.

[11] مخاطر المساءلة بعد الأزمات: الغموض، وإرث السياسات، والتنازلات في القيم، مرجع سابق.

[12] ثمة من يرى أن هناك أبعاداً قانونية وإدارية يتم إغفالها ساهمت في تمكين حدوث هذه الجرائم والتي  لم يكن الخوف والفساد الأسباب الوحيدة الدافعة لها ، فعلى سبيل المثال كان تركيز السلطات في أيدي  عدد محدود من الشخصيات،  وهيمنة المراكز الأمنية على دوائر الحياة العامة وتضارب صلاحياتها في بعض الأحيان، بالإضافة الى غياب مفهوم الرقابة والمساءلة، وارتهان السلطة القضائية من الثغرات في المنظومة الإدارية والقانونية التي مكنت لهذه الممارسات الوحشية.

[13] كرجال الأعمال والفنانين وبعض الشخصيات التي أعلنت موقفاً سياسياً مؤيداً لنظام الأسد وداعماً له على التلفزيونات أو في بعض الاجتماعات والمؤتمرات.

[14] على الرغم من أن هذه الفئات قد تسببت بالكثير من الضرر  لشرائح مختلفة من السوريين إلا أنها كانت ضمن منظومة بناها نظام الأسد الساقط الذي استغل خوف الناس واحتياجهم للمال أو الحماية وجندهم ضد بعضهن مستغلاً ضعف قيمهم ومبادئهم ، ولهذا فإن فتح المجال للقصاص من هؤلاء قد يعني الدخول في دوامة كبيرة جداً من القضايا التي يصعب التحقق منها  لعدم توافر الأدلة التي تظهر حجم الجرم ، ولهذا قد يكون إخضاعهم للوصم وإلحاقهم ببرامج تأهيل طويلة الحل الأفضل في مثل هذه الحالات، واستبعادهم من المشهد المستقبلي أفضل عقاب لهم.

كندة حواصلي

مديرة الوحدة المجتعية في مركز الحوار السوري، بكالوريوس في الهندسة من جامعة دمشق، دبلوم في التخطيط العمراني وإعادة الإعمار المستدام، عملت في مجال الإعلام المكتوب والمسموع لعدة سنوات، نشرت العديد من الأوراق والتقارير البحثية في مواضيع سياسية واجتماعية، وخاصة ما يتعلق بأوضاع اللاجئين وقضايا المرأة

مركز الحوار السوري

———————————

العدالة الانتقالية في سوريا: حلول عملية

للتحميل

https://scm.bz/wp-content/uploads/2023/08/TJ-Handbook-AR-1.pdf

للقراءة 

————————

العدالة الانتقالية وآفاق تطبيقها في سوريا/ داريوس الدرويش

تعني العدالة الانتقالية في أحد التعريفات الأكثر انتشاراً أنها: مجموعة التدابير القضائية وغير القضائية التي قامت بتطبيقها دول مختلفة من أجل معالجة ما ورثته من إنتهاكات جسيمة لحقوق الإنسان؛ وتتضمّن هذه التدابير الملاحقات القضائية، ولجان الحقيقة، وبرامج جبر الضرر وأشكال متنوّعة من إصلاح المؤسسات. بالنظر إلى الوضع السوري، نجد أنّ الدولة السوريّة تعاني فعلاً من انتهاكات جسيمة لحقوق الإنسان (القتل، الاغتصاب، الاختفاء القسري، مصادرة الممتلكات… الخ)، وأنّ معظم هذه الانتهاكات تحصل في أثناء فترة الانتقال من النظام الديكتاتوري الشمولي، إلى نظام يريده السوريّون أكثر حريّة.

وهذا ما يدعو للبحث عن آليات لتطبيق العدالة الانتقالية في سوريا. تعدّ المصالحة الوطنيّة من الأهداف الأساسيّة لتطبيق العدالة الانتقاليّة، فعبر آليات المحاسبة والتعويض (النفسي والمادي)، يتمّ التخلّص من الإرث الماضي من انتهاكات حقوق الإنسان، وعبر تطبيق معايير حاسمة وصارمة في احترام حقوق الإنسان عند بدء عمليّة تطهير وإصلاح مؤسسات الدولة (الأمنيّة بشكل خاص)، يمكننا تفادي حصول انتهاكات مستقبليّة لحقوق الإنسان تقود إلى مرحلة أخرى من عدم الاستقرار والنزاع الأهلي. عند الحديث عن تطبيق آليات العدالة الانتقالية في سوريا، تواجهنا عدّة معضلات جوهريّة، فكريّة وعمليّة، لعلّ أبرزها هو الوصول إلى فهم تفصيلي “للمجتمعات السوريّة”.

حيث أنّ هذه الآليات تبنى من الأسفل للأعلى، بأسلوب يقارب حياة المجتمعات المستهدفة، ويعالج مشاكلها الأساسيّة، التي تختلف من مجتمع إلى آخر باختلاف الموروثات الثقافيّة، والعادات الاجتماعية والأعراف. ولعلّ الاعتراف بتعدد البنى الاجتماعيّة في سوريا هو الخطوة الأولى نحو تطبيق سليم للعدالة الانتقالية. وما يستتبع من تعدد المجتمعات في سوريا هو تعدد أهمية أشكال الانتهاكات المرتكبة بحقه، أو، بتعبير أدق، اختلاف أهميّة هذه الانتهاكات بين منطقة وأخرى. فالوضع في محافظتي حمص والحسكة على سبيل المثال يتشابه من حيث الأهميّة القصوى لانتهاك حقوق الملكيّة (الاستملاك والمصادرة) أو حالات وضع اليد على الممتلكات الخاصّة للسكّان، حيث تفسّر هذه الإجراءات على أنّها محاولة من النظام الديكتاتوري بتغيير التركيبة السكانية لدوافع سياسيّة-فئويّة (طائفيّة أو قوميّة)، وبالتالي فإنّ هذا التغيير يستهدف الوجود القانوني والفيزيائي للضحايا على الأرض، كمجموعات بشريّة مختلفة عن “المستوطنين”، خاصّة في مناطق التماس بين المكوّنات السوريّة. بينما نلاحظ أنّ هذه الانتهاكات ليست بذات الأهميّة في مناطق أخرى، لا “تعاني” من وجودها على خط التماس. وكما يوجد اختلافات في “نوع الانتهاكات”، هناك اختلافات في تحديد “زمن الانتهاكات” الواجب الرجوع إليه بين المجتمعات السوريّة، فالمجازر في حماة وحلب التي حدثت في الثمانينات من القرن الماضي لم يتمّ نسيانها بعد، والإحصاء الاستثنائي للكرد في منطقة الجزيرة في الستينات ما تزال آثاره باقية حتّى الآن. فالفترة الزمنيّة التي ستشملها آليات العدالة الانتقالية تختلف من منطقة إلى أخرى، وما قد يناسب مجتمعاً ما، لن يناسب بالضرورة مجتمعاً آخر. إنّ التفصيل الدقيق لهذه الاختلافات لا بدّ أن يكون نابعاً من المجتمعات نفسها حتّى تكون “دقيقة” بحق؛ وهذا يتضمّن عملاً مشتركاً ضمن البنية الاجتماعيّة نفسها، يشمل القيادات المحليّة التقليديّة والحديثة، الضحايا وممثّليهم، وذوي الاختصاصات العلميّة المتعلّقة بهذه الانتهاكات (الحقوقيين، الأطباء، علماء ودارسوا علم النفس… الخ).

وهنا يكمن تحدٍ حقيقي: إلى أيّ حدّ يمكننا إقناع المجتمع المحلّي (بفئاته المذكورة) بضرورة استعادة “حكم القانون”؟ وبالتالي تطبيقاً جديّاً للعدالة الانتقاليّة؟ أعتقد أنّ الإرث الهائل من الانتهاكات المرتكبة من قبل النظام بشكل مباشر، جعلت إمكانيّة إيمان الضحايا بقدرة أجهزة الدولة تحت سيطرة النظام الحالي على تحقيق العدالة شبه مستحيلة، فاستشراء الفساد والمحسوبية في الجسم القضائي منذ بدايات صعود النظام وحتى الآن، ومحاكمة قطاعات واسعة من المعارضين للنظام أمام محاكم تتّبع إجراءات مسيّسة، أفقدتا السلطة القضائيّة استقلاليتها، وبالتالي ثقة الشعب فيها، وبقدرتها على تحقيق العدالة إذا ما تمّ الاحتكام لهذا القضاء. كما أنّ عدم قدرة المعارضة حتى الآن على إنشاء بديل حقيقي للنظام في المناطق التي تسيطر عليها، بديل يؤمّن الأمن الأساسي للمواطنين، كالحماية من الجرائم، والحماية ضد انتهاكات حقوق الإنسان، وبديل يؤمّن قضاءاً كفؤاً وغير مؤدلج، أدى في مجمله إلى تزايد الهوّة بين المجتمع وحكم القانون، وأضعف إمكانية تقبل المجتمع وتطبيقه لآليات العدالة الانتقالية، لا سيما بوجود انتهاكات خطيرة لحقوق الإنسان تقوم بها بعض قوّات المعارضة، أو من المحسوبة عليها. بالنظر إلى هذه المشاكل، وغيرها الكثير، نجد أنّ البدء بتطبيق حقيقي وشامل لآليات العدالة الانتقاليّة في المرحلة الراهنة أمراً في غاية الصعوبة، إلا أنه يمكن اتخاذ خطوات فعالة تمهد الطريق لهذه الآليات للعمل مستقبلاً. فالعدالة الانتقالية تحوي، بالإضافة للإجراءات القضائيّة، إجراءات غير قضائيّة، والمقصود بها هو “التعويض، جبر الضرر، إصلاح المؤسسات، تخليد الذكرى… الخ)”، وهناك الكثير من العمل الذي يجب القيام به قبل الحصول على نتائج ملموسة على الأرض.

يعتبر التوثيق من المداخل الرئيسية لتطبيق آليات العدالة الانتقالية، القضائيّة وغير القضائيّة معاً، فيعمل التوثيق على تحديد من هم الضحايا، وما هي درجة تعرضهم للانتهاكات، كما أنّه يحدد في كثير من الأحيان الجناة أيضاً. لذلك فمن الضروري البدء من الآن بالتوثيق العلمي للانتهاكات، وحتّى مراجعة التوثيقات الماضية من أجل تدعيمها بالأدلة. ولكن، وبسبب وجود الكثير من الجهات التي تمتهن التوثيق، إما كجهات مستلمة للوثائق، أو جهات موثّقة تفتقد ربّما للمصداقيّة الاجتماعيّة، نجد أن الطريقة المثلى للتوثيق أن تتمّ عبر آليات نابعة من المجتمع، وتتقبّلها القوى الاجتماعيّة والسياسيّة الموجودة في المنطقة، لتحقيق غايتين رئيسيّتين:

الأولى: زيادة ثقة المجتمع المحلي بآليات التوثيق، وبالتالي توثيق انتهاكات أكثر عدداً وأشدّ خطورة.

الثانية: ضمان عدم ضياع الوثائق مادياً وقانونياً، أي حماية قيمتها القانونيّة من كافّة المشاكل التي يمكن أن تفقدها المصداقيّة أما المحاكم بكافة أشكالها، كالانقطاع في “سلسلة الحيازة”، أو بيع بالوثائق. إنّ البدء بالمشاركة الاجتماعيّة في بناء العدالة الانتقاليّة يمكن أن يتم عبر عدّة وسائل: مثل بناء لجان الحقيقة والمصالحة في المحافظات بمشاركة القوى المحليّة الفاعلة، كالمجالس المحليّة والقوى الثوريّة والسياسيّة في المناطق الخارجة عن سيطرة النظام، أو رجال الدين والشخصيات الوطنية في المناطق الخاضعة لسيطرة النظام. وحتى لو لم توفي هذه اللجان بالأشكال القانونيّة الاعتياديّة لتشكيلها، إلا أنها ستكون عاملاً مساعداً في بناء استراتيجية وطنيّة للعدالة الانتقالية تنطلق من النظرة المحليّة لهذه الاستراتيجيّة، وتجمّع هذه الأجزاء المحليّة في حالة وطنيّة عامة. كما أنّ آفاق تطبيق العدالة الانتقاليّة يتعلّق بمدى تقبّل المجتمع السوري للمفاهيم المتعلّقة به بشكل أساسي.

فالعدالة الانتقاليّة بوصفها أساساً فكرة حديثة في العالم بشكل عام، وبالأخص في الشرق الأوسط، لا بدّ وأن تلاقي بعض المعارضة قبل تبنّيها من المجتمع، ولا بدّ من أن تشكّل حلاً حقيقيّاً للمشاكل التي تستهدفها في ذهنيّة المجتمع حتى يتقبل العمل بها. وللوصول إلى هذا الحد لا بدّ من دراستها بشكل جوهري ومعرفة مدى ملائمتها للحالة السوريّة، وكذلك العمل على نشر الوعي بالعدالة الانتقاليّة ضمن الفئات الاجتماعية الفاعلة. ولا بدّ من وجود قناعة لدى العاملين في هذا الشأن بأنّ العدالة الانتقاليّة ليست قالباً جاهزاً يتم تطبيقه على المجتمعات، إنما هي آلية تفاعليّة تنتج قوالبها الملائمة لكل بيئة تعمل فيها. ولا بدّ أيضاً للعاملين في مجال العدالة الانتقاليّة أن يساهموا في نشر مفاهيمها الحقيقيّة بالطرق المناسبة، والابتعاد عن العواطف السلبيّة أو الإيجابيّة تجاه حالة التغيير القائمة في سوريا. ولا بدّ أن يكونوا على اطلاع واسع بالعدالة الانتقالية وآلياتها، فمن الخطورة بمكان التصوير بأنّ “الملاحقة القضائيّة لمرتكبي انتهاكات حقوق الإنسان الأكثر تحمّلاً للمسؤوليّة” على أنها “إفلات من العقاب للأقل تحمّلاً للمسؤوليّة”، رغم أنّ مبدأ “عدم الإفلات من العقاب” هو المبدأ الأساسي الذي تبنى عليه العدالة، وتؤيّدها مفاهيم العدالة الانتقاليّة بشدّة. إنّ العدالة الانتقاليّة، في حال المقاربة الصحيحة لها، تعتبر حلاً جديّاً يمكن العمل عليه حاليّاً في المناطق الخارجة عن سيطرة النظام، ومستقبلاً في كافة أنحاء الدولة السوريّة، ومن الممكن أن تكون بديلاً للحل في الكثير من المشاكل التي لا يمكن للقضاء التدخّل فيها، كما أنّها تزيح أعباءً هائلة عن الدولة بمجال التعويضات، التوثيق، وإصلاح مؤسسات الدولة.

* المركز السوري للعدالة الانتقاليّة – مسعى

—————————

الأا‚ﺳﺲ اﻟﻔﻠﺴﻔﻴﺔ ﻟﻤﻔﻬﻮم اﻟﻌﺪاﻟﺔ اﻻﻧﺘﻘﺎﻟﻴﺔ ﻣﻘﺎرﺑﺔ أوﻟﻴة

للتحميل

https://tabayyun.dohainstitute.org/ar/issue11/Pages/Tabayun11-2015_moulay%20ahmed%20moulay.pdf


إعداد موقعنا “صفحات سورية”

العدالة الانتقالية في سورية الجديدة” في ندوة لحرمون

عقد مركز حرمون للدراسات المعاصرة ندوة بعنوان “العدالة الانتقالية في سورية الجديدة“، شارك فيها كل من رضوان زيادة، الباحث في المركز العربي بواشنطن؛ وإيمان شحود، القاضية وعضوة اللجنة الدستورية؛ ومهند شرباتي، المحامي المختص بالقانون الدولي؛ وأدارتها ديمة ونوس، الإعلامية السورية.

تناولت الندوة، وهي تندرج ضمن برنامج الحوار الوطني الذي أطلقه المركز مطلع حزيران/ يونيو الفائت، تعريف العدالة الانتقالية وغايتها ومضمونها وأدواتها، وقالت إيمان شحود: إن “العدالة الانتقالية هي مزيج من الأخلاق والقانون والسياسة، وهي مجموعة من التدابير والإجراءات القضائية وغير القضائية التي تتخذها دولٌ بعد الخروج من مرحلة النزاعات، لمعالجة الكم الهائل من انتهاكات حقوق الإنسان، وصولًا إلى بناء وتحقيق السلام، وهذه الآليات تختلف من دولة لأخرى، وقد تكون قضائية مثل المحاكمات الجنائية، أو قد تكون عبر لجان تقصي الحقائق، أو عبر الإصلاح المؤسسي”.

من جانبه، أوضح رضوان زيادة الفرق العدالة الانتقالية وغيرها من أنواع العدالة، وقال: “هناك تمييز بين مفهومي العدالة الانتقالية والعدالة الجنائية، فالعدالة الجنائية هي بشكل رئيسي مفهوم قانوني يركز على مفهوم المحاسبة والقصاص، كما هو معروف في الأعراف والتقاليد العربية والإسلامية، بينما العدالة الانتقالية في داخلها قد تتضمن مجموعة من الإجراءات القانونية، وتشمل خمسة أركان رئيسية: لجان الحقيقة، تحقيق العدالة والمحاسبة عبر الإجراءات القضائية والقانونية، سواء أكان القضاء المحلي أو الإقليمي أو الدولي، إصلاح المؤسسات القضائية والبرلمان والدستور، التعويضات أو ما يسمّى في المغرب العربي (جبر الضرر) سواء أكان جماعيًا أو فرديًا أو ماديًا أو معنويًا، وحفظ الذكرى، سواء كان إحياء الذكرى عبر المتاحف أو عبر إصلاح المناهج المدرسية أو عبر النُصب التذكارية، أو عبر ما يسمى رسائل الاعتذار أو العفو الرسمي”.

وركّزت الندوة أيضًا على مناقشة مسائل عديدة: ما هي النماذج والتطبيقات المختلفة للعدالة الانتقالية، وهل هي نسبية تختلف باختلاف الظرف والزمان والمكان أم ثابتة، ولماذا تُعدّ ضرورة ماسّة لسورية القادمة، وما هو شكلها المطلوب في سورية، وآلياتها وأدواتها وأولوياتها، وشروط ومتطلبات تحقيقها، وأي الملفات يجب أن يبدأ بها السوريون، وما هي الصعوبات والعقبات المتوقعة التي قد تحول دون تحقّقها، وماذا عليهم فعله لتحسين فرص واحتمالات حدوثها؟

وفي ذلك، قال مهند شرباتي: “إن العدالة الانتقالية هي نهج شامل له أبعاد عدة، قد تكون اقتصادية أو اجتماعية أو قانونية، وقد تختلف بين بلد وبلد، وقد تختلف آليات العدالة الانتقالية، حسب السياق أو حسب اختلاف الظروف السياسية أو الاجتماعية أو االقانونية أو الاقتصادية، في البلد الذي ستطبق فيه هذه العدالة الانتقالية، وبغض النظر عن اختلاف الظروف واختلاف المكان، لا بد من الأخذ بعين الاعتبار الأهداف والركائز الأساسية (الحقيقة والعدالة وجبر الضرر وغيرها) عند الحديث عن العدالة الانتقالية”.

وعن الشروط الأخرى المتعلقة بتحقيق “العدالة الانتقالية”، أوضح شرباتي أن “العدالة الانتقالية يجب أن تأخذ بعين الاعتبار، وبشكل رئيسي، رؤية الضحايا وعائلاتهم لشكل وأدوات هذه العدالة في سورية، وأيضًا يجب أن يكون هناك اهتمام خاص بالانتهاكات المرتكبة بحق الفئات الأكثر ضعفًا في المجتمع، وأن تتخذ تدابير لجماية هذه الفئات، سواء من خلال المحاكم أو بالأدوات الأخرى، إضافة إلى وجوب أن تعتمد الهيئات القضائية أو غير القضائية تعريفات للضحايا أو الجناة، وأن تُصرّح بأنها تقف على طرف واحد من كل الأطراف، وأن هذه الهيئات هي لمحاسبة جميع الأطراف وجميع الانتهاكات، والابتعاد عن تعريف الضحية، حسب انتمائها أو حسب الجاني، لذلك يجب وضع تعريف محايد للضحية بعيدًا عن السياسة”.

وأكد أن الهدف من “العدالة الانتقالية” هو “دعم قيم معينة، ومحاولة كشف الحقيقة، ومحاولة تحقيق الانتصاف للضحايا”، لافتًا إلى أنه من المهم التركيز أيضًا على “الحقوق الاقتصادية والثقافية والاجتماعية، إلى جانب الحقوق المدنية والسياسية التي يتم التركيز عليها بشكل أكبر، كونها ربما تكون أحيانًا أحد أسباب النزاع المباشرة في سورية”.

وردًا على سؤال لماذا تعتبر “العدالة الانتقالية” ضرورة ماسة لسورية الجديدة؛ قالت شحود: “إنها حاجة وضرورة لبناء السلام، لأنه إذا ما تم الاتفاق السياسي وتخطى موضوع العدالة دون أن يبحث في هذا الأمر، فإن ذلك سينعكس على بناء السلام في مستقبل سورية، لأنه قد تتفجر الخلافات على صور انتقام شخصي أو تفجير نوع جديد من النزاعات في مرحلة ما بعد الانتقال السياسي، وهذا سيؤدي إلى انتقال غير ديمقراطي، لأنه يرسخ مبدأ الإفلات من العقاب، ويكرّس عدم احترام سيادة القانون”.

وتطرقت الندوة إلى مسألة التسوية السياسية في سورية مستقبلًا: هل ستفرض هذه التسوية حلًا لن يكون قائمًا على “العدالة الانتقالية”. وفي هذا الجانب، استبعد رضوان زيادة إمكانية تحقيق هذه التسوية بعيدًا عن “العدالة الانتقالية”، كشرط رئيسي، وقال: “إن هذه المسألة أصبحت في سورية مسألة مستحيلة، فلو كان عدد الضحايا وعدد الانتهكات أقل بكثير، فربّما، وكلمة (ربّما) تحتها خمسة خطوط حمراء، يمكن تحقيق هذه التسوية، أمّا في بلد صغير مثل سورية لا يمتلك الموارد الكافية من أجل إعادة الإعمار أو الإنعاش، فأعتقد أنه لن يتم تقديم أي دولار أميركي أو يورو أوروبي لعمليات إعادة الإعمار، دون أن يكون هناك تعامل مع قضايا العدالة الانتقالية وقضايا انتهاكات الماضي”.

من جهته، أكد شرباتي أنه لا يمكن فرض “العدالة الانتقالية” على السوريين، وأن ذلك يتم عن طريق الحوار، إذ “لا يمكن أن يكون هناك تصالح مع إرث الماضي الكبير من الانتهاكات دون أن يكون هناك نهج شامل ومتكامل للعدالة الانتقالية، يعالج كل هذه القضايا، وليس فقط التركيز على محاسبة الجناة ومعاقبتهم، ومن أجل تحقيق ذلك، لا بد أيضًا من وجود مؤسسات تحقق إرساء سيادة القانون وتضمن نفاذ هذا القانون”.

ولاقت الندوة تفاعلًا واضحًا من المتابعين الذين بدؤوا المشاركة وطرح الأسئلة على الضيوف المشاركين في الندوة، وتركزت الأسئلة حول محاور مختلفة تتعلق بملف “العدالة الانتقالية”.

———————————–

العدالة الانتقالية والعدالة الانتقامية/ عبد الحسين شعبان

يعتبر مفهوم العدالة الانتقالية من المفاهيم التي ما زالت غامضة أو ملتبسة، خصوصاً لما يشوبه من إبهام فيما يتعلق بالجزء الثاني من المصطلح ونعني به “الانتقالية”، فهل توجد عدالة انتقالية؟ وما الفرق بينها وبين العدالة التقليدية المرتبطة بأحكام القضاء واللجوء إلى المحاكم بأنواعها ودرجاتها؟

وإذا كانت العدالة قيمة مطلقة، ولا يمكن طمسها أو التنكّر لها، أو حتى تأجيلها تحت أي سبب كان أو ذريعة أو حجة، فإن العدالة الانتقالية تشترك مع العدالة التقليدية في إحقاق الحق وإعادته إلى أصحابه، وفي كشف الحقيقة، وفي جبر الضرر وتعويض الضحايا، خصوصاً لما له علاقة بالقضايا السياسية والمدنية العامة، وكذلك في توخّي صلاح المجتمع من خلال إصلاح قوانينه وأجهزته القضائية والأمنية، لاسيما المعنية بإنفاذ القانون.

لكن العدالة الانتقالية تختلف عن العدالة التقليدية المتواترة في كونها تُعنى بالفترات الانتقالية مثل: الانتقال من حالة نزاع داخلي مسلح إلى حالة السلم، أو من حالة حرب أهلية إلى حالة السلم، أو الانتقال من حالة صراع سياسي داخلي يرافقه عنف مسلح إلى حالة السلم وولوج سبيل التحوّل الديمقراطي، أو الانتقال من حكم سياسي تسلّطي إلى حالة الانفراج السياسي والانتقال الديمقراطي، أي الانتقال من حكم منغلق بانسداد آفاق، إلى حكم يشهد حالة انفتاح وإقرار بالتعددية، وهناك حالة أخرى وهي فترة الانعتاق من الكولونيالية أو التحرر من احتلال أجنبي باستعادة أو تأسيس حكم محلي، وكل هذه المراحل تواكبها في العادة إجراءات إصلاحية ضرورية، وسعي لجبر أضرار ضحايا الانتهاكات الخطيرة، وخصوصاً ذات الأبعاد الجماعية.

قد يتبادر إلى الذهن أن اختيار طريق العدالة الانتقالية يتناقض مع طريق العدالة الجنائية، سواءً على المستوى الوطني أو على المستوى الدولي، في حين أن اختيار الطريق الأول لا يعني استبعاد الطريق الثاني، وخصوصاً بالنسبة للضحايا، ولاسيما مسألة إفلات المرتكبين من العقاب!!، وقد كان هذا الأمر محلّ نقاش جاد -لاسيما للتجربة التونسية- في ندوة نظمّها مركز الدراسات الوطنية في تونس مؤخراً.

ولعل مفهوم العدالة الانتقالية ودوافعها السياسية والقانونية والحقوقية والإنسانية، أخذ يتبلور وإنْ كان ببطء في العديد من التجارب الدولية، وفي العديد من المناطق في العالم، ولاسيما في أوروبا بعد الحرب العالمية الثانية فيما يخص ضحايا النازية، وانْ كان قد شابه شيء من التسييس، وخصوصاً بعد تقسيم ألمانيا من جانب دول الحلفاء، كما اتخذ بُعداً جديداً في أميركا اللاتينية وخاصة بعد ما حصل في تشيلي إثر الانقلاب العسكري في 11 أيلول (سبتمبر) 1973، الذي قاده الجنرال بينوشيه.

ومنذ سبعينيات القرن العشرين وحتى الآن، شهد العالم نحو 40 تجربة للعدالة الانتقالية، من بين أهمها تجربة تشيلي والأرجنتين وبيرو وسلفادور ورواندا وسيراليون وجنوب أفريقيا وتيمور الشرقية وصربيا واليونان، وقد شهدت البرتغال وإسبانيا والدول الاشتراكية السابقة شكلاً من أشكال العدالة الانتقالية والمصالحة الوطنية، اتسم بعضها بالاستمرارية القانونية أو ما أطلقنا عليه “فقه التواصل”، وساد بعضها “فقه القطيعة” كما هي تجربة ألمانيا الديمقراطية، لاسيما بعد اتحادها مع ألمانيا الاتحادية.

ويعتبر البعض أن تجربة لبنان ما بعد مؤتمر الطائف شهدت شكلاً من أشكال المصالحة الوطنية كان يمكن أن يفضي إلى تحقيق العدالة الانتقالية، لكنني أعتبر أن الشروط العامة للعدالة الانتقالية لا تنطبق عليها، وخصوصاً كشف الحقيقة وجبر الضرر وتعويض الضحايا والإصلاح المؤسسي، إلاّ أن التجربة اللبنانية -على الرغم مما عليها- بحاجة إلى تأمل ودراسة، ولاسيما في ظروف لبنان الراهنة والمعارك السياسية “المتكررة”، لكي لا يعيد التاريخ نفسه!!

وعلى الرغم من أن المقاربة اللبنانية للعدالة الانتقالية ناقصة ومبتورة، فإن التوافق القلق والهش دون أدنى شك أفضل من الاحتراب والاقتتال، الأمر الذي هو بحاجة إلى بحث في إطار التوافق اللبناني، دون نكء للجراح في عدالة انتقالية، مع تنازلات متبادلة واعتراف مجتمعي على أساس التسامح وعدم تكرار ما حصل.

ولا بدّ من إدراج تجربة المغرب كإحدى أهم التجارب العربية والدولية في إمكانية الانتقال الديمقراطي السلمي من داخل السلطة، خصوصاً بإشراك المعارضة التي كان في مقدمتها عبد الرحمن اليوسفي الذي تم تعيينه رئيساً للوزراء (الوزير الأول)، وفتح ملفات الاختفاء القسري والتعذيب، وفيما بعد تشكيل هيئة الإنصاف والمصالحة، وتعويض الضحايا، والعمل على إصلاح وتأهيل عدد غير قليل من المؤسسات.

وقد بدأت فكرة العدالة الانتقالية تدخل الأدب الحقوقي والسياسي الحقوقي على المستوى العربي، ابتداءً من المغرب العربي ومروراً بمصر، ووصولاً إلى دول المشرق العربي، والأمر له علاقة بانتشار الثقافة الديمقراطية بشكل عام والثقافة الحقوقية بشكل خاص، لاسيما ارتباط ذلك بانبثاق العديد من مؤسسات المجتمع المدني ونشاطها وفاعليتها، وخصوصاً بعد انتهاء عهد الحرب الباردة وموجة التغيير التي اجتاحت أوروبا الشرقية، وقادت إلى تحوّلات ديمقراطية أنهت الأنظمة الشمولية، وفتحت الباب على مصراعيه لإشاعة الحريات، وتعزيز دور المجتمع المدني، وإعلاء شأن الفرد، وتقليص توجه الدولة للتدخل في الشؤون الاقتصادية، وغيرها من التوجهات الانفتاحية التي انتقلت إلى العديد من دول أميركا اللاتينية وبعض بلدان آسيا وأفريقيا، حيث اعتبرت الديمقراطية واحترام حقوق الإنسان القيمة العليا التي يقاس بموجبها تقدم أي مجتمع، وهو الأمر الذي يفترض علاقة جديدة بين الحاكم والمحكوم على أساس اختيار المحكومين للحكام بشكل دوري، وفصل السلطات، وتأكيد استقلال القضاء، وإعمال مبدأ سيادة القانون ومبادئ المساواة والمواطنة.

وإذا كان مثل هذا التوجّه يرتكز على قواعد عامة مشتركة تمثّل المشترك الإنساني، فإن لكل بلد خصوصيته، ولا تشبه عملية انتقال ديمقراطي غيرها من العمليات، نظراً لاختلاف التطور السياسي والاجتماعي والاقتصادي والثقافي والتاريخي، على الرغم من المشتركات بين الأمم والشعوب.

ولعل هذه المسألة تنطبق -إلى حدود كبيرة- على مسألة العدالة الانتقالية المطروحة اليوم بشدة بعد انتفاضات الربيع العربي الناجحة منها أو تلك التي تنتظر إجراء تغييرات من شأنها أن تحتاج إلى الإفادة من المبادئ العامة للعدالة الانتقالية، على الرغم من أن لكل تجربة عربية نكهتها الخاصة ومذاقها المختلف، وذلك بحكم التطور التاريخي واصطفافات القوى والطبقات الاجتماعية والدينية والإثنية، وتنوّع الفاعليات والأنشطة السياسية والفكرية، فضلاً عن طريقة الانتقال، وحجم العنف، وتراكم الفساد المالي والاداري، وغيره من المشكلات.

وإذا كان هدف هذا المقال البحث في التجارب الدولية لمقاربتها من زاويتها الفكرية والمبادئ العامة وظروف التطبيق، فإن الغرض يتركز على الإفادة من النجاحات التي حققتها، وبالقدر نفسه التوقف عند أخطائها وثغراتها وعيوبها لتجاوزها وتجنبها وعدم الوقوع فيها، ذلك أن أي عملية تقليد أو تكرار لنموذج ما دون الأخذ بنظر الاعتبار خصوصية كل تجربة سيكون تشويهاً للنموذج الأول، وإكراهاً للنموذج الثاني، فللأول سياقاته وظروفه الناجحة والفاشلة، وللثاني أوضاعه الخاصة وتركيباته المختلفة، ولا يمكن زرع بذرة في بيئة غير ملائمة، مما سيؤدي إلى عدم نموها، ولو تمت فسيكون نموّها لأجل قصير، ومن بعد ذلك تذوي وتموت. وكلا الحالين ينذران بالمخاطر، مما يؤدي إلى ضياع الزمن والجهد والموارد دون طائل أو جدوى تذكر.

لكن حقيقة الحاجة إلى تجارب دولية تبقى مهمة وقائمة لاستلهام الدروس والعِبَر والإفادة منهما بشفافية وانفتاح، وهذه مسألة ضرورية لتحصين التجارب الخاصة وجعلها بعيدة عن التقوقع والانغلاق من جهة، وفي الوقت نفسه ملاحظة التمايز بين التجارب بحيث لا تقود التجربة العالمية إلى استنساخ مشوه أو تقليد أعمى، الأمر الذي يحتاج إلى معرفة ودراية بظروف كل بلد لإنجاز مشروع عقد جديد لتنظيم علاقة الحاكم بالمحكوم فيه، تلك التي يمكن أن تندرج فيها مبادئ وقواعد ذات طابع قيمي، حيث تتحول إلى مبادئ دستورية عليا، بما فيها ما ينطبق على العدالة الانتقالية لأن ذلك يمس جوهر التحول الديمقراطي ومحتواه اللاحق. وبقدر احترام الخصوصيات والتمسك بها، فالأمر يحتاج إلى الاطلاع على التجارب ودراستها لاستكمال صورة التغيير على المستوى الكوني والبحث في المشترك الإنساني.

إن تجربة تونس لا تشبه تجربة مصر، مثلما أن تجربة ليبيا لا تشبه تجربة اليمن، وتجربة المغرب مختلفة عن تجربة العراق، مثلما تختلف تجربة الأردن عن تجربة سوريا، حتى وإن كان هناك الكثير من المشتركات بينها.

يعتقد البعض أحياناً أن مجرد انهيار نظام تسلطي واستبدادي يعني الاقتصاص من جميع أركانه وعناصره، وقد لا يريد انتظار الإجراءات القانونية والقضائية لبطئها، وقد يكون لعدم جدواها في إنزال العقاب بالمتهمين بالارتكاب، لاسيما بعد مضي زمن ليس بالقصير، ناهيكم عن التحوّطات التي كانت تضعها الأنظمة السابقة للإفلات من العقاب، وقد يندفع بعضهم الآخر لأخذ العقاب بنفسه طالما أن “الجميع” يعرف أن هناك ارتكابات، ومثل هذا الأمر لا يجمعه جامع مع العدالة الانتقالية التي تتطلب حكم القانون في ظرف استثنائي وضمن أوضاع انتقالية، أما العقاب السياسي الجماعي فليس ذلك سوى عدالة انتقامية.

أما العدالة الانتقائية فنقصد بها معاقبة البعض وإهمال البعض الآخر لاعتبارات تمييزية دينية أو طائفية أو اجتماعية أو سياسية أو غير ذلك، والعقوبة الانتقامية أو الانتقائية تؤدي إلى إثارة الكراهية والبغضاء والثأر والأحقاد، وتعطّل وتعرقل عملية الانتقال الديمقراطي الذي هو الأساس والهدف للعدالة الانتقالية، وهو ما أخذت به مبادئ شيكاغو التي تتلخص في محاكمة المشتبه في ارتكابهم لانتهاكات جسيمة لحقوق الإنسان والقانون الدولي الإنساني، وإبراز الحق في الحقيقة، وتشجّع التحقيقات الرسمية في الانتهاكات السابقة عن طريق لجان لتقصّي الحقائق أو هيئات أخرى، والاعتراف بالوضع الخاص للضحايا، وضمان وصولهم إلى العدالة، كما تعدّ سبل جبر الضرر وتحقيق الإنصاف وتنفيذ سياسة العقوبات والإجراءات الإدارية ودعم البرامج الرسمية والمبادرات الشعبية لتخليد ذكرى الضحايا، وتثقيف المجتمع فيما يتعلق بالعنف السياسي الماضي وتخليد الذاكرة التاريخية.

كما أن من واجب الدول أن تدعم وتحترم الوسائل التقليدية والأهلية والدينية في التعاطي مع الانتهاكات السابقة، والمشاركة في الإصلاح المؤسسي لدعم سيادة القانون، واستعادة ثقة الجمهور، وتعزيز الحقوق الأساسية، ودعم الحكم الرشيد، ولعل تلك الحزمة من الأسئلة ستكون موضوع بحث ونقاش وجدل ليس بين النخبة والباحثين والمتخصصين فحسب، بل على صعيد الفاعلين السياسيين والفكريين من جهة، وفي الشارع من جهة أخرى، خصوصاً وهي تواجه جميع التجارب التي شهدت الربيع العربي!

الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.

 كاتب ومفكر عراقي

الجزيرة

—————————–

العدالة الانتقالية من منظور الشباب السوري

بناءً على جهود «دولتي» الهادفة لتمكين مشاركة الأفراد الفاعلين في المجتمع المدني، خاصةً الشباب والشابات، بعمليات العدالة الانتقالية في سوريا، قامت المؤسسة بتصميم وتنفيذ دراسة بعنوان “العدالة الانتقالية من منظور الشباب السوري”. تهدف الدراسة إلى تسليط الضوء على تجارب الشباب والشابات ضمن الصراع في سوريا، وكيفية تعاملهم مع هذه التجارب، بالإضافة إلى مشاركتهم في مجتمعاتهم ونظرتهم لمفاهيم العدالة الانتقالية وآلياتها. ركزت الدراسة على الشباب والشابات الذين تتراوح أعمارهم بين الثامنة عشر والثلاثين سنة، لأنهم يمثلون فئة عمرية لا يتم استهدافها أو مشاركتها بشكل جدي، ويجب مشاركتها من أجل ضمان انتقال عادل، وديمقراطي، وسلمي في سوريا.

للتحميل

https://dawlaty.org/wp-content/uploads/2017/08/Dawlaty-ARABIC-report-TJ-.pdf

—————————-

ما هي العدالة “التصالحية” و”التعويضية” و”الانتقالية”؟/ وليد النوفل

على عكس “العدالة الانتقالية”، لاتتضمن العدالة التصالحية محاسبة أو مكاشفة المجرمين، ولا حتى تكريم الضحايا

تسبب استخدام المبعوث الأممي الخاص إلى سوريا، غير بيدرسون، مصطلح “العدالة التصالحية” خلال إحاطته الأخيرة أمام مجلس الأمن، في 16 كانون الأول/ديسمبر الحالي، في موجة غضب بين أوساط المواطنين السوريين المعارضين لنظام بشار الأسد تحديداً. الأمر الذي أجبر مكتب بيدرسون على التراجع عن المصطلح، واصفاً استخدامه بـ”الخطأ الفني غير المقصود”.

إذ خلال تناوله قضية عودة اللاجئين السوريين إلى وطنهم، قال بيدرسون في إحاطته إن أعضاء من قائمة “المجتمع المدني” في اللجنة الدستورية -والتي تعرف باسم “الثلث الأوسط” بين وفدي ممثلي النظام وممثلي المعارضة اللذين يشكلان الثلثان الآخران- تقدموا بنقاط تتعلق بعودة اللاجئين الطوعية والكريمة، منها: إعادة المساكن والأراضي والممتلكات، والعدالة التصالحية، والآليات الدستورية المستقلة المحايدة ذات الصلة.

لكن بيدرسون أقر لاحقاً في التوضيح الصادر يوم الجمعة الماضي بأن “خطأ فنياً غير مقصود” أدى “إلى وصف بعض أعضاء الثلث الأوسط على أنهم طرحوا نقاطاً خلال الجلسة الأخيرة للجنة الدستورية تتعلق بالعدالة التصالحية، لكنهم لم يستخدموا هذا المصطلح في بياناتهم المكتوبة والشفوية”. مضيفاً أن “البيان الخاص الذي أشارت إليه الإحاطة لم يذكر في الواقع سوى العدالة التعويضية، في سياق الحديث عن السكن والأراضي وحقوق الملكية”.

العدالة التصالحية

تشير “العدالة التصالحية” إلى عملية يشارك فيها الضحية والجاني معاً، وتقوم على مبدأ المصالحة والتصالح بينهما لأجل الوصول إلى “ناتج تصالحي”، وعلى عكس “العدالة الانتقالية”، لاتتضمن العدالة التصالحية محاسبة أو مكاشفة المجرمين، ولا حتى تكريم الضحايا.

وتجري العملية بمساعدة من “ميسر”، يتمثل دوره في أن يدير “بطريقة منصفة ونزيهة” العملية التصالحية، كما يمكن أن تتضمن العملية الوساطة، والمصالحة، والتفاوض بين المحامين والقضاة والتشاور بشأن إصدار الأحكام.

أما “الناتج التصالحي” الذي تفضي إليه العملية، فهو عبارة عن اتفاق يتوصل إليه الطرفان. وتشمل النواتج التصالحية “برامج مثل التعويض ورد الحقوق والخدمة المجتمعية، بهدف تلبية الاحتياجات والمسؤوليات الفردية والجماعية للأطراف وتحقيق إعادة اندماج الضحية والجاني في المجتمع”.

ونظراً لاستمرار “تطوير عمليات العدالة التصالحية”، يصبح من المستحيل،  وفقاً للأمم المتحدة، منح تعريف شامل ووحيد لهذا المصطلح.

وتستخدم العدالة التصالحية في العديد من الدول مثل فرنسا والمغرب وهولندا وكندا والسويد كجزء من عدالتها الجنائية، لكن ليس كبديل كامل بل تترافق مع “العدالة الجنائية” التي تعتمد العقوبات.

العدالة التعويضية

هي إحدى أنواع العدالة بمفهومها العام. وتعني تعويض الجرحى والمصابين والمتضررين تعويضاً عادلاً بما يتناسب مع الضرر، لكنها لا تشمل المحاسبة والملاحقة القضائية لمرتكبي الانتهاك، أي إنها تقوم فقط على فكرة جبر الضرر بعد تحقيق الاعتراف بوقوع الانتهاكات ضد الضحايا. وهو ما يقربها من “العدالة التصالحية”، كونها لا تفضي إلى محاسبة مرتكبي الانتهاكات.

العدالة الانتقالية

تعرف “العدالة الانتقالية” بأنها مجموعة التدابير والإجراءات القضائية والقانونية التي تهدف إلى معالجة “إرث ثقيل” من انتهاكات حقوق الإنسان، لأجل تمكين مجتمع ما من الاستقرار والسلم المجتمعي بعد حقبة من الحكم الدكتاتوري أو الحرب الأهلية.

وتقوم العدالة الانتقالية على أربعة أسس، هي: كشف حقيقة الانتهاكات، ومحاكمة مرتكبي الانتهاكات، وتعويض الضحايا والاعتذار لهم، إضافة إلى تطبيق أشكال واسعة من الإصلاح الإداري والمؤسساتي بما يضمن عدم تكرار الانتهاكات.

لذا فإن العدالة الانتقالية تعد الشكل الذي تحتاجه سوريا من أجل الوصول إلى الاستقرار والتعايش السلمي في البلاد.

وقد ظهر مصطلح “العدالة الانتقالية” في تسعينات القرن الماضي، حين قام عدد من الأكاديميين الأميركيين بصياغة المصطلح لأجل وصف الطرق المختلفة التي عالجت بها البلدان مشاكل وصول أنظمة جديدة للسلطة، وكذلك مواجهة الانتهاكات الجسيمة. إلا أن المصطلح كان حينها توصيفياً، إذ لم يكن يشير إلى وجود نهج موحد أو مبادئ مشتركة خاصة به.

لاحقاً تطورت مناهج العدالة الانتقالية. ومنذ أواخر القرن الماضي أصبحت ترتكز على مبادئ حقوق الإنسان والإصرار على أن “انتهاك الحقوق لا يمكن تجاهله”. كذلك ارتبطت العدالة الانتقالية بمجموعة من الآليات، من قبيل: الملاحقات القضائية، وتقصي الحقائق والتحقيقات، وبرامج جبر الضرر، ومبادرات الإصلاح.

ومن أبرز تجارب العدالة الانتقالية تلك التي عرفتها الأرجنتين، وجنوب أفريقيا، والمغرب، وغواتيمالا.

———————————

لمحة عن العدالة الانتقالية وحقوق الإنسان

المفوضية السامية لحقوق الإنسان والعدالة الانتقالية

    لمحة عامة

    لمحة عن العدالة الانتقالية

قضايا تحت المجهر

    الحقيقة

    العدالة

    جبر الضرر

    ضمانات عدم التكرار

في المجتمعات التي تحاول إعادة بناء نفسها من جديد والانتقال من تاريخ عنيف يتسم بانتهاكات جسيمة لحقوق الإنسان ارتُكِبَت في سياق ممارسة القمع أو في سياق نزاع مسلح أو غير ذلك من السياقات الأخرى، تبرز تساؤلات بالغة الأهمية تتناول كيفية الاعتراف بالانتهاكات ومنع تكرارها، وتلبية مطالب العدالة واستعادة نسيج المجتمعات المحلية الاجتماعي، وبناء سلام مستدام. والعدالة الانتقالية هي النظام الذي يسعى إلى بذل كل ما يلزم كي تنجح المجتمعات في التعامل مع مثل هذه الموروثات الصعبة، وتطوّر أدوات مختلفة من أجل تحقيق هذه الغاية.

بالنسبة إلى الأمم المتّحدة، تغطي العدالة الانتقالية “كامل نطاق العمليات والآليات المرتبطة بالمحاولات التي يبذلها المجتمع لتفهم تركة تجاوزات الماضي الواسعة النطاق بغية كفالة المساءلة وإقامة العدالة وتحقيق المصالحة” (المزيد من التفاصيل في S/2004/616). وتهدف العدالة الانتقالية إلى الاعتراف بضحايا تجاوزات الماضي على أنّهم أصحاب حقوق، وتعزيز الثقة بين الأفراد في المجتمع الواحد، وثقة الأفراد في مؤسسات الدولة، وتدعيم احترام حقوق الإنسان وتعزيز سيادة القانون (A/HRC/21/46). وبالتالي، تسعى العدالة الانتقالية إلى المساهمة في المصالحة ومنع الانتهاكات الجديدة.

إنّ العدالة الانتقالية متجذّرة في القانون الدولي لحقوق الإنسان. ويقع على عاتق الدول التزام بتوفير سبل انتصاف فعالة لضحايا انتهاكات حقوق الإنسان، وتلبية حقوقهم في الحقيقة والعدالة والجبر. ومن أجل الوفاء بهذا الالتزام، وكي تكون العدالة الانتقالية قادرة على المساهمة بفعالية في السلام والمصالحة المستدامين، لا بد من اتباع نُهج شاملة. وتسعى مثل هذه النُهج إلى إحراز تقدم على مستوى جميع أبعاد العدالة الانتقالية وبطريقة متكاملة.

تشمل عمليات العدالة الانتقالية تقصي الحقائق ومبادرات الملاحقات القضائية وأنواع مختلفة من التعويضات ومجموعة واسعة من التدابير لمنع تكرار الانتهاكات من جديد، بما في ذلك الإصلاح الدستوري والقانوني والمؤسسي، وتقوية المجتمع المدني، والجهود الرامية إلى تخليد الذكرى، والمبادرات الثقافية، وصون المحفوظات، وإصلاح تعليم التاريخ، بحسب اقتضاء واحتياجات كلّ سياق.

وعلى عمليات العدالة الانتقالية أن تكون:

    محدّدة السياق: تستند العملية إلى خصوصيات سياق كل بلد، والسياقات السياسية والمؤسسية والقانونية والتاريخ والثقافة والأولويات المحلية، بما في ذلك توقّعات الضحايا ومطالبهم في ما يتعلق بالعدالة والمصالحة وإعادة البناء بعد العنف.

    وطنية: تمتلك العملية السلطات الوطنية والمحلية، فضلاً عن مجتمعات الضحايا المحلية والمجتمع ككل، وتشارك في تصميمها وتنفيذها، والاعتراف بها، وتعتمدها لفهم إرث الماضي وتركته وبناء رؤية مشتركة للمستقبل.

    شاملة: تشمل العملية جميع أصحاب المصلحة، سواء أكانوا من الضحايا أم المارة أم مرتكبي الجرائم، بغض النظر عن خلفيتهم السياسية والاجتماعية والدينية والعرقية، وكذلك المجتمعات المحلية والمجتمع الأوسع، مع التركيز على إشراك مَن يُستَبعَد ويُهَمَّش تقليديًا أو عادةً (الأقليات العرقية والدينية وعديمي الجنسية والنساء والشباب والأطفال، إلخ).

    محورها الضحية: تعترف العملية بأهمية الضحايا المحورية ووضعهم الخاص عند تصميم عمليات العدالة الانتقالية وتنفيذها، وتحترم كرامتهم وآرائهم وأولوياتهم واهتماماتهم بالكامل.

    مراعية للفوارق بين الجنسَيْن: تشرك العملية المرأة في جميع مراحل ومستويات عملية صنع القرار في ما يتعلّق بعملية العدالة الانتقالية والتصدي الشامل لمجموعة كاملة من انتهاكات حقوق الإنسان بهدف تحويل عدم المساواة بين الجنسين، بما في ذلك من خلال التركيز بشكل خاص على الانتهاكات الجنسية والجنسانية وأسبابها الجذرية.

    قائمة على المشاركة وتمكينية: تضمن العملية المشاركة الفعالة والتشاور مع الضحايا والمجتمعات المتضررة عند تصميم آليات العدالة الانتقالية وتنفيذها، فتساهم بالتالي في إحداث تحول في تصورات الضحايا والمجتمع الأوسع نطاقًا وفهمهم لوضعهم وأدوارهم كمستفيدين من العملية وكعوامل تغيير في السعي لتحقيق هذا التحوّل والسلام والديمقراطية والمصالحة.

    تحويلية للمجتمع ككلّ: لا تُفهَم العملية على أنها ممارسة تتطلع إلى الماضي فحسب بل أيضًا كفرصة للتطلع إلى المستقبل فتحقّق تحوّلًا مجتمعيًا جذريًا من خلال تلبية احتياجات الضحايا ومعالجة أسباب الانتهاكات، بما في ذلك التفاوتات الجسيمة وهياكل السلطة غير العادلة والتمييز المترسّخ والإقصاء وأوجه القصور المؤسسية والإفلات الهيكلي من العقاب وانتهاكات حقوق الإنسان الأخرى التي تهدّد السلم والأمن أو تولّدهما.

إذا استوفت عمليات العدالة الانتقالية هذه المعايير، فإنها تساهم في إحداث التغيير الجذري في المواقف الذي تتطلبه التحولات كي تبقى مستدامة. وفي هذا السياق، من الضروري ضمان أوسع مشاركة ممكنة لمنظمات المجتمع المدني في صنع القرار.

العدالة الانتقالية كأداة لبناء السلام

يرتبط السلام الدائم ارتباطًا وثيقًا بالعدالة والتنمية واحترام حقوق الإنسان. فقد أظهرت عمليات العدالة الانتقالية مرارًا وتكرارًا أنه يمكنها أن تساهم في معالجة المظالم والانقسامات المجتمعية. وتحقيقًا لهذه الغاية، يجب أن تكون عمليات العدالة الانتقالية هذه محددة السياق، ووطنية، وأن تركز على احتياجات الضحايا. وبالتالي، تنجح في ربط المجتمعات مع بعضها البعض وفي تمكينها وتحويلها بأفضل طريقة ممكنة، فتساهم في تحقيق سلام دائم.

ويعترف القراران الصادران في العام 2016 بشأن حفظ السلام، أي قرار الجمعية العامة 70/262 وقرار مجلس الأمن 2282 ، بالسيطرة الوطنية والشمولية باعتبارهما أساسيين لنجاح جهود بناء السلام.

العدالة الانتقالية والمساءلة والوقاية

تساهم عمليات العدالة والمساءلة في كسر دوّامة العنف والجرائم الوحشية، واستعادة سيادة القانون والثقة في المؤسسات، وبناء مجتمعات قوية وقادرة على وأد الانتهاكات الجسيمة لحقوق الإنسان قبل وقوعها. وقد ركّزت قرارات مجلس الأمن على “[…] أهمية المساءلة في منع النزاعات في المستقبل، وفي تجنب تكرار الانتهاكات الجسيمة للقانون الدولي، وفي تمكين السلام الدائم والعدالة والحقيقة والمصالحة”. كما أنّ العدالة والمساءلة أساسيتان للتصدي لخطر وقوع جرائم فظيعة ومعالجتها (الإطار التحليلي للتنبؤ بالجرائم الوحشية).

وبإمكان كل مكون من مكونات العدالة الانتقالية أن يؤدّي دورًا في منع الجرائم الوحشية والأنواع الأخرى من الانتهاكات الجسيمة لحقوق الإنسان(A/HRC/37/65). فالمساءلة الجنائية تُرسَل إشارة واضحة على أنه ما مِن أحد فوق القانون، وهذه الحقيقة بالغة الأهمية لتحقيق التكامل والتماسك الاجتماعيين. كما أنها تؤدّي إلى تعطيل وتفكيك الشبكات الإجرامية، وتتمتّع بالقدرة على ردع المزيد من الانتهاكات والجرائم.

ويوفر تقصي الحقائق للضحايا والمجتمعات المتضررة منصة عامة يعبّرون من خلالها عن آرائهم، كما يمكّن المجتمعات المحلية المختلفة من سماع تصورات بعضها البعض، فيوفّر بالتالي أساسًا موضوعيًا وواقعيًا يسمح بتطوير فهم مشترك للماضي ويؤمّن ركيزة للتوصيات في مجال الوقاية. أمّا جبر الضرر فيساهم أيضًا في الوقاية من خلال الاعتراف بالضحايا كأصحاب حقوق وبإمكاناتهم كأداة تحفيزية لتغيير ظروفهم.

وضمانات عدم التكرار هي بطبيعتها تطلعية ووقائية. فهي إجراءات محددة تعالج الأسباب الجذرية والفورية للانتهاكات بهدف تجنب تكرارها. وإلى جانب الإصلاح المؤسسي الذي يشمل الإصلاح الدستوري، وإصلاح قطاع العدالة والأمن، بما في ذلك التدقيق، يمكن أن تنطوي الإجراءات المعتَمَدة في هذا الصدد على تغيير في مادة التاريخ وتقديم المشورة لمعالجة الصدمات والأرشفة ومبادرات تخليد الذكرى.

———————————

العدالة الانتقالية في تونس

https://www.kawakibi.org/wp-content/uploads/2020/02/unnamed-file-1.pdf

—————————————

إعداد موقعنا “صفحات سورية”

العدالة الانتقالية..نماذج وتطبيقات/ اللواء هشام صبري

يعتبر مفهوم العدالة الانتقالية من المفاهيم التي ما تزال غامضة النسبة للكثيرين، لاسيما فيما يتعلق بالمقطع الثاني من المصطلح أي الانتقالية إذ يثور التساؤل هل توجد عدالة انتقالية وما الفرق بينها وبين العدالة التقليدية ؟

وقد حظى مصطلح العدالة الانتقالية حديثا على الكثير من الاهتمام من كل من الأكاديميين وصناع القرار السياسي، كما حظي بالاهتمام في المجالات السياسية والقانونية ، وخصوصا في المجتمعات التى تمر بالفترات الانتقالية السياسية ، سواء من نظام تسلطي أو من الخلافات المدنية إلى الديمقراطية، و معالجة انتهاكات حقوق الإنسان الماضية.

ماهية العدالة الانتقالية:

تشير العدالة الانتقالية إلى مجموعة التدابير القضائية وغير القضائية التي قامت بتطبيقها دول متعددة لمعالجة ما ورثته من انتهاكات جسيمة لحقوق الإنسان خلال حقبة سياسية معينة. وتتضمّن هذه التدابير الملاحقات القضائية، ولجان تقصى الحقائق، وبرامج جبر الضرر، وأشكال متنوّعة من إصلاح المؤسسات. والتي تساعد في النهاية على التأسيس لمرحلة سياسية جديدة يسود فيها القانون والاستقرار السياسي.

 ووفقا لتقرير الأمين العام للأمم المتحدة رقم 616 الصادر في 23 أغسطس 2004 يشمل ﻣﻔﻬﻮﻡ “العدالة الانتقالية” الذي ﻳﺘﻨﺎﻭﻟـﻪ هذا ﺍﻟﺘﻘﺮﻳـﺮ ﻛﺎﻣـﻞ نطاق ﺍﻟﻌﻤﻠﻴـﺎﺕ والآليات ﺍلمرتبطة ﺑﺎلمحــﺎولات التي يبذلها المجتمع لتفهم ﺗﺮﻛــﺔ ﻣــﻦ تجــﺎﻭﺯﺍﺕ ﺍلماﺿــﻲ ﺍﻟﻮﺍﺳــﻌﺔ النطاق ﺑﻐﻴﺔ ﻛﻔﺎﻟﺔ ﺍلمساءلة ﻭﺇﻗﺎﻣﺔ العدالة ﻭتحقيق المصالحة.

ﻭﻗﺪ ﺗﺸـﻤﻞ هذه الآليات الإجراءات ﺍﻟﻘﻀـﺎﺋﻴﺔ وغير ﺍﻟﻘﻀﺎﺋﻴﺔ ﻋﻠﻰ السواء، ﻣﻊ ﺗﻔﺎﻭﺕ مستويات المشاركة الدولية (ﺃﻭ عدم وجودها مطلقاً) ﻭمحاﻛﻤــﺎﺕ ﺍﻷﻓــﺮﺍﺩ، ﻭﺍﻟﺘﻌـويض ﻭﺗﻘﺼــﻲ ﺍلحقائق، والإصلاح الدستوري، وفحص ﺍﻟﺴــﺠﻞ ﺍﻟﺸﺨﺼﻲ للكشف ﻋﻦ ﺍﻟﺘﺠﺎﻭﺯﺍﺕ .

تطور ونماذج:

رغم حداثة مفهوم وتطبيق العدالة الانتقالية، إلا أن البعض يرجع بدايات تطبيقاتها الأولي إلي ما بعد الحرب العالمية الثانية في “محاكمات نورمبرج ” في ألمانيا وهي من أشهر المحاكمات التي شهدها التاريخ المعاصر، والتي قامت بمحاكمة مجرمي الحرب من القيادة النازية.

ثم كانت البداية الحقيقة لما يمكن أن يسمي تطبيق للعدالة الانتقالية، في محاكمات حقوق الإنسان في اليونان في أواسط السبعينيات من القرن الماضي، وبعدها في المتابعات للحكم العسكري في الأرجنتين وتشيلي من خلال لجنتي تقصي الحقائق في الأرجنتين 1983 وتشيلي 1990 ومن بعد ذلك في العديد من دول القارة اللاتينية.

فقد كانت مساهمات أوروبا الشرقية في التعامل مع انتهاكات حقوق الإنسان، من خلال فتح ملفات الأمن الداخلي كما حدث في ألمانيا بعد سقوط حائط برلين، وكذلك أيضا عمليات التطهير التي حدثت في تشيكوسلوفاكيا في 1989. أما تجربة دولة جنوب أفريقيا فجاءت من خلال لجنة “الحقيقة والمصالحة ” الشهيرة في 1995 التي تشكلت للتعامل مع قضايا الانتهاكات الجسيمة التي تعرض لها السكان السود في جنوب إفريقيا في فترة التمييز العنصري الطويل. ثم جاءت تجارب دول أمريكا اللاتينية في الأرجنتين وتشيلي والبرازيل. ثم التجربة الخاصة جدا التي شهدتها المغرب حين قام الملك الحسن الثاني بإجراءات التحول وتسليم الحكم إلي المعارضة في عام 1995، والتي أفضت إلي إنشاء هيئة “الإنصاف والمصالحة ” لتقصي الحقائق واختتمت أعمالها في دفع تعويضات للضحايا والعمل على إصلاح وتأهيل عدد غير قليل من المؤسسات في عام 2005. وبهذا العمل تكون المغرب صاحبة تجربة فريدة في التعامل مع “العدالة الانتقالية ” ، والتي تمت من داخل النظام نفسه ولم يتم تنفيذها عقب انتهاء حرب أهلية أو ثورة.

أهمية..

تتمثل أهمية العدالة الانتقالية في عدة نقاط، أهمها:

1- ارساء دعائم الديمقراطية : يعتبر العديد من الأشخاص أن الديمقراطية لا يمكن بناؤها على أساس أكاذيب وأن جهوداً مستمرة ومنظمة وتوافقية لمواجهة الماضي يمكن أن تؤدي إلى ديمقراطية أكثر قوة. ويتم ذلك بشكل كبير من خلال إرساء المحاسبة (مثل مكافحة الإفلات من العقاب) ومن خلال بناء ثقافة ديمقراطية.

2- الواجب الأخلاقي في مواجهة الماضي: يستدل نشطاء حقوق الإنسان والضحايا وآخرون بأن ثمة واجباً أخلاقياً في التذكر، لقبول الضحايا والاعتراف بهم كضحايا. كما أن نسيان الضحايا والناجين من الفظائع يعتبر شكلاً من أشكال إعادة الإحساس بالظلم والإهانة.

3- من المستحيل تجاهل الماضي: ثمة تبرير آخر وهو أنه من المستحيل تجاهل الماضي أو نسيانه – فهو دائماً يطفو على السطح – لذلك من الأفضل إظهاره بطريقة بنّاءة وشافية. ويمكن أن نسمي البديل الآخر “بثورات” الذاكرة حيث يغلي الغضب وعدم الرضا تحت سطح الحياة السياسية وبالتالي ينفلتان من وقت لآخر.

4- منع تكرار مثل هذه الانتهاكات فى المستقبل: يعتبر هذا المبرر أن التعامل مع الماضي يخلق نوعاً من الردع. فالتذكر والمطالبة بالمحاسبة هما وحدهما الكفيلان بالوقاية من وقوع أشياء فظيعة مجدداً في المستقبل.

 آليات وأدوات:

1- الملاحقات القضائية ، لاسيّما تلك التي تطال المرتكبين الذين يُعتَبَرون أكثر من يتحمّل المسئولية.

2- جبر الضرر الذي تعترف الحكومات عبره بالأضرار المتكبَّدة وتتّخذ خطوات لمعالجتها. وغالباً ما تتضمّن هذه المبادرات عناصر مادية (كالتعويضات النقدية أو الخدمات الصحيّة على سبيل المثال) فضلاً عن نواحٍ رمزية (كالاعتذار العلني أو إحياء يوم الذكرى).

3- إصلاح المؤسسات ويشمل مؤسسات الدولة مثل القوات المسلّحة ، والشرطة والمحاكم ، للحد من آلية الانتهاكات القمعية وتفادي تكرار الانتهاكات الخطيرة لحقوق الإنسان والإفلات من العقاب.

4- لجان تقصى الحقائق أو وسائل أخرى للتحقيق في أنماط الانتهاكات المنتظمة والتبليغ عنها، وللمساعدة على فهم الأسباب الكامنة وراء الانتهاكات الخطيرة لحقوق الإنسان.

العدالة الانتقالية والمفاهيم المرتبطة بها:

مما سبق يتضح ان هدف العدالة الانتقالية هو أن ينتقل المجتمع من حالة الديكتاتورية ودولة القوة الباطشة إلى حالة الديمقراطية ودولة القانون بعد أن يكون قد تخلص من مظالم المرحلة المنتهية و ذلك وفق خطوات مدروسة ومنظمة.

اما ما يعتقده البعض أحياناً من أن مجرد انهيار نظام تسلطي واستبدادي يعني الثأر من جميع أركانه وعناصره ، و عدم انتظار او اتباع الإجراءات القانونية والقضائية لبطئها ، او للشعور بعدم جدواها في إنزال العقاب بالمتهمين بارتكاب انتهاكات جسيمة ، لاسيما بعد مضي زمن ليس بالقصير دون اتخاذ اجراءات حاسمة لإقرار احكام عادلة و ناجزه ، و خاصة ان معظم الأنظمة الاستبدادية كانت تضع احتياطات للإفلات من العقاب ، مما قد يؤدى لاندفاع البعض لإنزال العقاب بنفسه طالما أن الجميع يعرف أن هناك انتهاكات و جرائم قد ارتكبت ، و ايضا اتخاذ اجراءات العقاب السياسي الجماعي فليس ذلك سوى عدالة انتقامية.

تجارب شخصية:

من خلال ثلاث مشاركات فى عمليات لحفظ السلام مع منظمة الأمم المتحدة (كمبوديا – كوسوفو – السودان ) و هى كلها دول عانت من حروب و صراعات اهلية فى ظل انظمة حكم اقل ما توصف به انها انظمة غير ديمقراطية ، و قد نتج عن هذه الصراعات اما انهيار و اختفاء لأجهزة انفاذ القانون نتيجة للصراعات المسلحة و انهيار الدولة ، او وجود هذه الأجهزة و لكنها لا تؤدى مهامها بكفاءة و لا تعتمد على الأسس الديمقراطية و احترام حقوق الأنسان عند تنفيذ القانون.

 وقد اعتمدت سياسة الأمم المتحدة فى مجال تطبيق العدالة الأنتقالية على اجهزة انفاذ القانون (الشرطة – القضاء – السجون ….) على تنفيذ برنامج اصلاحى اطلق عليه R.R.R و هو اختصار للآليات التالية :

1- Reform و تعنى اصلاح مؤسسات انفاذ القانون و مراجعة اجراءات العمل بها من اجل مستوى اداء افضل .

2-Restructuring و تعنى اعادة هيكلة التنظيم الداخلى لمؤسسات انفاذ القانون لزيادة كفاءتها .

3-Rebuilding و تعنى اعادة بناء مؤسسات انفاذ القانون – فى حالة انهيارها – عن طريق توفير الموارد اللازمة و الدعم المالى اللازم لقيام هذه المؤسسات بمهامها

بعض الأنشطة المرتبطة بالإصلاح، وإعادة الهيكلة، وإعادة البناء

1. إصلاح النظام القضائي (مثلا : تغيير القوانين القائمة أو وضع قوانين جديدة)

2- إنشاء و تحديث البنية التحتية للشرطة من المعدات والأسلحة ، والزي الرسمي….

3- تدريب أو إعادة تدريب الشرطة و بناء معاهد لتدريب الشرطة و تضمين مناهجها ثقافة احترام حقوق الإنسان

4- بناء السجون و تدريب حراس السجون على اساس ان السجن ليس عقاب فقط و لكنه ايضا للإصلاح و تعديل السلوك.

5- دعم نشر ثقافة احترام حقوق الإنسان وأسس الشرطة الديمقراطية.

————————

قانون العدالة الانتقالية في تونس

http://www.ivd.tn/wp-content/uploads/2017/12/%D9%82%D8%A7%D9%86%D9%88%D9%86-%D8%A7%D9%84%D8%B9%D8%AF%D8%A7%D9%84%D8%A9-%D8%A7%D9%84%D8%A7%D9%86%D8%AA%D9%82%D8%A7%D9%84%D9%8A%D8%A9.pdf

————————-

ما هي العدالة الانتقالية؟

تُشيرُ العدالة الانتقاليّة إلى كيفية استجابة المجتمعات لإرث الانتهاكات الجسيمة والصّارخة لحقوق الإنسان.وهي تطرحُ بعضًا من أشدّ الأسئلةِ صعوبةً إن في القانون أم السياسة أم العلوم الاجتماعيّة، وتجهدُ لحسمِ عددٍ لا يُحصَى من الجدالات. إنَّ العدالة الانتقاليّة تُعنى، أوّلًا، بالضّحايا، قبلَ أي اعتبارٍ آخر.

العدالة الجنائية

في سياقاتٍ ترتكبُ فيها فظائعُ جماعيّة وانتهاكات حقوق الإنسان على نطاقٍ واسع، يتعذّرُ إحقاق العدالة الجنائيّة باعتمادِ المُقاربة والموارد الضّئيلة نفسها المُعتمدة في آليات العدالة العاديّة. فالتماسُ المُحاسبة الجنائيّة في أحوالٍ مُماثلة غالبًا ما يتطلّبُ ملاحقاتٍ استراتيجيّة، ومنهجياتِ تحقيقٍ خاصّة ومجموعة واسعة من العمليات المُعيّنة، بالإضافة إلى توليفةٍ من المُقاربات، الجزائيّة منها والإصلاحيّة على حدّ سواء. ففي نهاية المطاف، يجبُ أن تؤولَ هذه المبادرات إلى الاستجابة لمصلحة العدالة وحقوق الضحايا، والمساعدة على إعادة بناءِ نسيج المُجتمع الاجتماعي والمؤسستيّ ودفع السلام المُستدام قدمًا. 

يشكّل التحقيق في الجرائم الدولية ومُلاحقتها قضائيًّا – بما في ذلك جريمة الإبادة الجماعية، والجرائم ضدّ الإنسانية وجرائم الحرب – مكوّنًا أساسيًّا من العدالة الإنتقالية. ويرجعُ أصلُ هذا المكوّن إلى المحكمتَيْن الجنائيتَيْن الدوليَّتَيْن الخاصّتَين بيوغوسلافيا السابقة ورواندا.

فمن شأنِ التحقيق مع القادة النّافذِينَ (السياسيّين منهم أم العسكريين) ومحاكمتهم على حدّ سواء أن يُساهمَا في تعزيز سيادة القانون، وأن يبعثا رسالة قوية مفادها أنّ الجرائمَ المماثلة لن يُسمح بها مطلقًا في مجتمع يحترم الحقوق.

ولا تزال المحاكمات مطلب الضّحايا الأساسيّ. فَهي، مَتى أُجرِيَت على نحوٍ يعكس حاجات الضحايا وتوقّعاتهم، أمكنها أن تضطلع بدور حيويّ في استعادة كرامتهم وإحقاق العدالة واسترجاع الثّقة بمؤسّسات الدّولة.

إلّا أنّ الملاحقات القضائيّة وحدها لا يمكنها إحقاق العدالة. فطبيعة الجرائم واسعة النطاق غالبًا ما تُبطِلُ إمكانيّة معالجتها عبرَ نظام العدالة الجنائية العادي – وهو الأمرُ الّذي يُحدثُ “ثغرة الإفلات من العقاب”. وغالباً ما تركّز استراتيجيات الملاحقة الفاعلة الخاصّة بالجرائم واسعة النطاق على مُدبِّرِي الجرائم ومنظمّيها، أكثر من تركيزها على الجناةِ الأقلّ شأنًا أو مسؤولية.

ومن الممكن أن يساهم تطبيق استراتيجيات الملاحقة القضائية إلى جانب مبادرات أخرى – مثل برامج جبر الضرر، وإصلاح المؤسسات، والبحث عن الحقيقة – في سدّ “ثغرة الإفلات من العقاب”، وذلكَ من خلالِ ملاحقة الجرائم التي تشمل عددًا كبيرًا من الضحايا والجناة.

الملاحقات القضائية المحلية

قد تُحِدُث الملاحقة القضائية على الجرائم الدولية أثرًا أكبرَ في حالِ أُجرِيَت محليًّا، ضمن المجتمع الذي ارتُكِبَت فيه الجرائم. إلّا أنّ المجتمعات الخارجة من نزاع معيّن أو التي تمرّ بمرحلة انتقالية، قد تفتقر الإرادة السياسية للملاحقةِ في شأنِ هذه الجرائم، وقد تكون أنظمتها القانونية في حالةٍ من الفوضى العارمة.

حتّى الأنظمة القانونية المتطوّرة – التي تعالج بشكل أساسي الجرائم العادية– قد تفتقر القدرة على معالجة هذه الجرائم بفاعلية، على الرّغم من التّقدم في الجهود الدّولية الرّامية إلى التعاونِ على التوثيق والتحقيق والمُلاحقة في شأنِ جرائمَ تُصنّفُ دوليّة بموجب مبادئ الولاية القضائية العالمية، ولعلَّ أبرزها الجهود المبذولة في إطارِ مُلاحقة أوغستو بينوشيه والرّد على الفظائع الجماعية المُرتكبة في سوريا. فقد كانَ من شأنِ تطبيق مبادئ الولاية القضائية العالمية – الّتي تُجيزُ ممارسة الولاية القضائية على المُتّهم، بصرف النّظر عن مكانِ وقوع الجريمة المزعومة أو عن جنسيّة المُتّهم أو محلّ إقامته- أن أدّى، مثلًا، إلى إدانة رئيس تشاد المنفيّ حيسان هبري بتهمِ ارتكابِ أعمال عنف. 

الملاحقات القضائيّة الدّولية

قد تفرضُ هذه المشكلات، أحيانًا، أنواعًا أُخرى من المُقاربات الدّولية التي تُستمدُّ من الممارسات الفضلى المُعتمدة في أماكن أخرى – على غرارِ إنشاءِ المحكمتَيْن الجنائيّتَيْن الدوليّتَيْن آنفتَي الذّكر أو إنشاءِ محاكم “مختلطة” تضمّ فاعلينَ، دوليينَ ومحليين، في مجال العدالة. وقد أُنشأت هذه المحاكم في كلٍّ من سيراليون، والبوسنة، وتيمور الشرقية، وكمبوديا.

المحكمة الجنائية الدولية

في العام 2002، أنشأ نظام روما الأساسي المحكمة الجنائية الدولية. وهي محكمةٌ تنظرُ في الإبادات الجماعية، وجرائم الحرب، والجرائم ضدّ الإنسانية المرتكبة منذ الأوّل من تموز/يوليو من العام 2002، فتُحقِّقُ مع المسؤولينَ عنها وتُحاكمهم – حيثما تكون الدول غير راغبة في ذلك أو غير قادرة عليه. 

وبموجب مبدأ “التكامل” المنصوص عليه في نظام روما الأساسي، يقعُ على عاتق المحاكم المحليّة واجبُ إحقاق العدالة. وبناءً على ذلك، ليست المحكمة الجنائيّة الدوليّة سوى الملاذ الأخير. وقد شهدت السنوات الأخيرة تزايدًا في تأدية المحاكم المحليّة هذا الواجب المُلقَى على عاتقها.

مُقاربة المركز الدّولي للعدالة الانتقاليّة 

يُكافِحُ المركز الدّولي للعدالة الانتقاليّة الإفلات من العقاب ويدعم سيادة القانون ضمنَ الولايات القضائيّة المحليّة وعلى المُستوى الدّولي على حدّ سواء. وغالبًا ما ينطلقُ هذا العمل بدعمِ جهود المُجتمع المدني الرّامية إلى توثيق جرائم الحرب والجرائم ضدّ الإنسانية المستمرّ ارتكابها، كما هو الحالُ مثلًا في سوريا وأفغانستان. بعدَ ذلك، يُستكملُ العملُ عندَ إجراءِ المجتمعات مُفاوضات السّلام ثمّ انتقالها إليه وتنفيذها آليات المُحاسبة المُعقّدة على غرارِ المحكمة الخاصة للسلام في كولومبيا. فنُقدِّمُ المُساعدة والتحاليلَ والمشورة المُتقنة لكلٍّ من الحكوماتِ والمجتمع المدني والفاعلينَ أو المُؤسسات العاملة في قطاعِ العدالة، حولَ مسائلَ عدّة، منها قوانين العفو العامّ واستراتيجيّة الادّعاء والتعديلات في قوانين أصول المحاكمات الجنائيّة، وانتقاء القضاة والمُدّعين العامّين، بالإضافة إلى مختلف أشكال المسؤولية الجنائية. 

ونُعمِّمُ أيضًا العبر والممارسات الفُضلى المُستخلصة من مبادرات العدالة الجنائيّة المُنفّذة في العالم أجمع، وفي السياقات الدّولية ضمنًا، على غرارِ جمعية الدّول الأطراف في نظام روما الأساسي. فعلى سبيل المثال، عقدنا شراكات مع الدّول الأطراف والمُنظّمات الدّولية، بما فيها نقابة المحامين الدّوليّة والأكاديميّة الدّولية لمبادئ نورمبرغ، وذلكَ من أجلِ عرضِ النتائج والتّوصيات حولَ المحاكم المختلطة والسّياسات المُوجِّهة للقرارات المتعلّقة بالمُلاحقة القضائيّة، بالإضافة إلى الولاية القضائية العالميّة في شأنِ الجرائم المُرتكبة في سوريا. 

في دولٍ عدّة، ومن ضمنها الأرجنتين وكولومبيا وغواتيمالا وتونس، قدّمنا الدّورات التدريبيّة للقضاة والمدّعين العامّين، أثناء استعدادهم للمباشرة بالإجراءات الجنائيّة ضدّ قادة عسكريّين وسياسيين سابقين. 

فَفي كلِّ عملٍ نُنجزه، نسعى جاهدينَ إلى أن نضمنَ دعم جهود الضّحايا الرّامية إلى الوصول إلى نظامِ عدالةٍ رسميّ وإلى المُشاركة فيه، مع الحرصِ على صونِ حقوق المُتّهمين في مُحاكمةٍ عادلة وفقَ الأصول. هذا ونجمعُ بينَ المجتمع المدني والضّحايا من جهة والمسؤولينَ في المحاكم من جهة أخرى، بغيةَ الحثّ على مُشاركة الضّحايا والمُساهمة في نيلِ ثقة العامّة بالعمليات القضائية على غرارِ تلكَ الّتي أُجريَت ضمنَ شعبة الجرائم الدّولية التّابعة للمحكمة العُليا في أوغندا. 

أمّا على مُستوى السّياسة، فنُعِدُّ الموادّ حولَ سيادة القانون، بما في ذلكَ الأدوات الخاصّة بمبادرات المُلاحقة القضائيّة، وتقارير الإحاطةِ المُوجّهة إلى مكتب مفوضية الأمم المتحدة السّامية لحقوق الإنسان، والدّلائل الإرشاديّة على غرارِ الكُتيّب حولَ مبدأ التّكامل. 

جبر الضرر

يرمي جبر الضرر إلى الإقرارِ بأسبابِ وقوعِ انتهاكات حقوق الإنسان والمظالم وبتبعاتها كما يرمي إلى مُعالجتها على حدّ سواء، وذلكَ في البُلدان الخارجة من حكمٍ ديكتاتوريّ أو نزاعٍ مُسلّح أو عنفٍ سياسي وفي المُجتمعات الّتي تُعاني من ظلمٍ بسببِ العرق أو من إرثِ الاستعمار. وفي هذا السياق، يُقدّمُ المركز الدولي للعدالة الانتقالية المعرفة المقارنة والعبر العمليّة المُستفادة من خبرته في تصميم برامج جبر الضّرر وتنفيذها، ولا سيّما في الجنوب العالميّ. 

لضحايا انتهاكات حقوق الإنسان جميعهم الحقّ في جبر الضّرر. ولكلِّ ضحيّةٍ حاجاتها المُختلفة، وهذه الحاجاتُ تتبدّلُ مع مرور الزّمن. وقد يختلفُ نوع جبر الضّرر المطلوب باختلافِ مستوى الضّحية الاقتصاديّ ونوعها الاجتماعيّ وعمرها وهويّتها الاجتماعيّة. فَعلى سبيل المثال، تُؤثِّرُ الانتهاكات في النّساء تأثيرًا مُختلفًا تمامًا عنه في الرّجال، علمًا أنّ تجارب النّساء لا تُحصر بالعنف الجنسي أو العنف القائم على النوع الاجتماعي وتبعاتهما. والأمرُ سيّان بالنّسبة إلى المجتمعات المُشرّدة الّتي تختلفُ حاجاتها إلى جبر الضّرر عن حاجاتِ العائلات المدنيّة النازحة. 

إنّ الدول الّتي ترتكبُ انتهاكاتٍ أو الّتي تخفقُ في ردعها، وكذلكَ الهيئات غير الحكوميّة، ومنها الأشخاص المعنويون والمؤسسات والشّركات والمجموعات المُسلّحة الّتي ترتكبُ هذه الانتهاكات أو تتواطأ في ارتكابها، يقعُ على عاتقها التزامٌ قانونيّ يقضي بتوفير جبر الضّرر. 

ومن الأهمية بمكان الالتفات إلى أنَّ التعويض- أي دفع المالِ- ليسَ سوى شكلًا واحدًا من أشكالِ جبر الضّرر الماديّة العديدة. فالأشكالُ الأخرى تشملُ استرداد الحقوق المدنيّة والسّياسيّة، وإعادة التأهيل الجسديّة، ومنح حقّ دخول الأرض، والإيواء، وتوفير الرّعاية الصّحية أو التعليم. ويُمكنُ أن يتّخذ جبر الضّرر شكلًا آخرَ هو كشف الحقيقة حولَ الانتهاكات وتقديم ضماناتٍ بعدم تكرارها. أمّا أشكالُ جبر الضّرر المعنويّة- على غرارِ تقديم الاعتذار، وتشييد النّصب التذكارية وتخليد الذّكرى- فتُعدُّ تدابيرَ جبريّة مهمّة، وتزدادُ جداوها حين تُقرَنُ بأشكالِ جبرِ ضررٍ ماديّة. 

يُمكنُ جبر الضّرر أن يُنفّذَ عبرَ برامجَ إداريّة أو أن يُفرَضَ بموجبِ الأحكام في الدّعاوى القضائيّة. ففي الكثير من البلدان، قدّمت عمليات العدالة الانتقاليّة جبر الضرر لمجموعاتٍ وجماعاتٍ وحتّى لمناطقَ برمّتها. وقد يتقاطعُ تصميمُ جبر الضّرر الجماعيّ وتنفيذه مع برامج التنميّة، في حين قد تتقاطعُ أشكال جبر الضّرر الفرديّة المُستعجلة مع برامج الإغاثة الإنسانيّة. فَبروزُ مواضِع التقاطع هذه أمرٌ حتميّ لأنَّ الأفراد الأشدّ عرضةً لانتهاكات حقوق الإنسان هم أكثر مَن يُعانِي مِن عدم المُساواة الاجتماعيّة والاقتصاديّة. وينبغي أن يُصمّمَ جبر الضّرر ويُنفّذَ على نحوٍ يُخوّله تبديلَ الظّروف الظّالمة والمُجحِفَة هذه. وصحيحٌ أنَّ أغلبَ الضّحايا ينظرون إلى جبر الضّرر على أنّه الطّريقة الأكثر وضوحًا والأفضل جدوى من أجلِ نيلِ العدالة، إلّا أنّه “قلّما يُولَى الأولويّة” وغالبًا ما ينالُ النّصيبَ الأدنَى من تمويلِ العدالة الانتقاليّة. 

مُقاربة المركز الدّولي للعدالة الانتقاليّة 

يُشدِّدُ المركز الدّولي للعدالة الانتقاليّة على دور الضّحايا في عمليَةِ تصميم برامج جبر الضّرر وتنفيذها وفي تحقيق نتائجها على حدّ سواء. لذا، يُساعد المركز الدّولي للعدالة الانتقاليّة الضّحايا في الإفصاحِ عن حاجاتهم وفي تحديد أشكال جبر الضّرر الأفضل لهم. ونحنُ نُسدي المشورة لواضعي السّياسات في شأنِ التحديّات العمليّة والقانونيّة والماليّة والإجرائيّة الّتي تكتنفُ تصميمَ برامج جبر الضّرر وتنفيذها. بالإضافة إلى ذلك، نتواصلُ مع الضّحايا ومُختلف الأطراف المعنيّة، بمَن فيهم واضعو السّياسات الوطنيونَ والدّوليون، والجهات المانحة، والفاعلونَ في مجال التنمية، وغيرهم من منظمات حقوق الإنسان، وذلكَ بُغيةَ إيلاء جبر الضّرر الأولويّة نفسها المُولاة للبحث عن الحقيقة والمُحاسبة الجنائيّة الفرديّة في إطارِ مساعي البلد إلى إحقاق العدالة الانتقاليّة. 

نُشدِّدُ أيضًا على أنَّ برامج جبر الضّرر يُمكن وضعها بشكلٍ مُنفصل، وأنّها تقدرُ على تسريع تنفيذ التدابير المُتعلّقة بالبحث عن الحقيقة وإحقاق العدالة الجنائيّة. فتقديمُ جبر الضّرر للضحايا لا يتطلّبُ التريّث حتّى إصدار لجنة الحقيقة توصياتها، كما لا يتطلّبُ ربطه بالمُلاحقات الجنائيّة أو بالمقاضاة في المحاكم. ويعملُ المركز الدّولي للعدالة الانتقاليّة على جبر الضّرر القضائيّ، وهو بذلكَ إنّما يحثُّ المحاكم الجنائية الدّوليّة على الاستفادة من التّجارب غير القضائيّة ويدعم الضّحايا الماثلينَ أمامَ المحاكم الواقعة في الشّمال العالميّ، في ادّعاءاتهم للمطالبة بجبر الضّرر، بما في ذلكَ الدّعاوَى المرفوعة ضدّ الشّركات المُتواطِئَة في ارتكاب انتهاكات حقوق الإنسان. 

وإلى جانب مجموعات الضّحايا، يعملُ المركز الدّولي للعدالة الانتقاليّة عن كثبٍ مع مُختلف عمليات العدالة الانتقاليّة ومؤسسات الدّولة والمنظمات غير الحكوميّة، وذلكَ من أجلِ التوّصل إلى أفضل السّبل الآيلة إلى تلبية حاجات الضّحايا وتنفيذ برامج جبر الضّرر. هذا ونُسدي المشورة للجان الحقيقة، وندعمُ المؤسسات المُنفّذة لجبر الضّرر، ونتواصلُ عن كثبٍ مع هيئات الدّولة الّتي تُساعِدُ في تأمينِ تمويل جبر الضّرر وبناء القدرات من أجله. 

وسّعَ عملُنا نطاقَ الأضرار الواجب جبرها، وذلكَ من خلالِ مُعالجة الانتهاكات الّتي تنالُ من الحقوق الاقتصاديّة والاجتماعيّة، وربط المُحاسبة على الفسادِ بجبر الضّرر، ودعم التّدابير الّتي تتصّدَى للتهميش على الصّعيدَيْن الاقتصادي والاجتماعي على السّواء. هذا ونحثُّ المجتمعات على اعتمادِ مُقارباتٍ تنبثقُ من لغةِ البلدِ وثقافته وتاريخه، ومن الجماعات الّتي وقعت ضحيّة حكمٍ استبداديّ أو حرب أو استعمار أو ظلمٍ عرقيّ وعنفٍ اقتصاديّ أو عنفٍ سياسي.

الحقيقة والذاكرة

يمكن مبادرات البحث عن الحقيقة والمُصارحة أن تؤدِّي دورًا عظيمًا في توثيق انتهاكات حقوق الإنسان وفي الإقرار بها على حدٍّ سواء. هذا وتساهم مبادرات تخليد الذكرى في تشكيل الفهم العامّ حولَ الانتهاكات الماضية. ويسعى برنامج الحقيقة والذاكرة الذي يعتمده المركز الدولي للعدالة الانتقالية إلى مناصرة الحقّ في معرفة الحقيقة، وإلى تقديم الدعم والنصح لمبادرات الحقيقة والذاكرة حولَ العالم.

“للعدالة الانتقاليّة آلياتٌ مختلفة. بقيتُ أشجّع نساء عديدات على رفع الدّعاوى، لأنّه حينَ تجتمعُ شهاداتٌ مُتشابهة أدلى بها أشخاصٌ مُختلفون في فترةٍ زمنيّة واحدة، فإنّهم يدعمونَ بعضهم بعضًا. ويُنبؤكَ ذلكَ بأنّ الانتهاكاتِ كانت ممنهجة.” نجاة- امرأة تونسيّة أدلت بشهادتها أمامَ هيئة الحقيقة والكرامة.

في أعقابِ نزاعٍ مُدمّرٍ أو نظامٍ قمعيّ، تعدُو معرفة الحقيقة حولَ الماضي كونها مجرّد خطوةٍ مهمّة نحو إحقاقِ العدالة، فهي حقٌّ إنسانيٌّ مُعترفٌ به ويتمتّعُ بهِ جميع ضحايا انتهاكات حقوق الإنسان والنّاجين منها على حدّ سواء. ويُقرّ القانون الدّولي صراحةً “بالحقِّ في معرفة مُلابسات الانتهاكاتِ الصّارخة لحقوق الضّحايا الإنسانيّة ومعرفة هويّة المسؤول عنها.”

ويكتسبُ التّمسّكُ بهذا الحقّ أهميّة خاصّة نظرًا إلى أنَّ الأنظمة القميّة تتعمّدُ تحريفَ التّاريخ وإنكار ارتكابِ الفظائع بغيةَ تبرير أنفسهم وتأجيج شعورِ فقدانِ الثّقة وحتّى التحريض على حلقات جديدة من العنف. لذا، يُساهم البحث عن الحقيقة في وضعِ سجلٍّ تاريخي يحولُ دونَ هذا النّوع من التّلاعب.

يُعزّزُ البحث المُجدي عن الحقيقة العدالةَ ويُحرِّكُ أشكالَها الأخرى. فتدابيرُ البحث عن الحقيقة قادرةٌ على أن توفِّرَ المعلومات المهمّة والموثوقة الّتي تُوضعُ على أساسِها سجّلات الضّحايا وقوائمُ القضايا الجنائيّة. وهي تقومُ أيضًا مقامَ منصّةٍ مهمّة تخوّلُ الضّحايا التّعبيرَ عن تجاربهم ومطالبهم، وهو ما من شأنه أن ينيرَ كيفيّة وضعِ تدابير جبر الضرر والإصلاحات المُجدية وكيفيّة تنفيذها على حدّ سواء. ويُمكنُ البحث عن الحقيقة أن يُساعدَ الضّحايا على إنهاءِ مُعاناتهم وذلكَ من خلالِ كشف تفاصيلَ على غرارِ مصير ذويهم المخفيينَ قسرًا أو الدّافع الكامن وراء ارتكابِ الانتهاكِ بحقِّ فئةٍ مُعيّنة من النّاس.

يعجزُ ضحايا انتهاكات حقوق الإنسان عن النسيان، وواجبُ الدُّولِ أن تحفظَ الذّاكرة التّاريخيّة لحقباتِ العنف والقمع. ففي هذا الصّدد، تُعدُّ النّصب المعماريّة والمتحاف وأنشطة تخليد الذّكرى مُبادراتٍ تثقيفيّة ضروريّة من شأنها أن تُشكِّلَ سجلًّا عامًّا وأن تقومَ مقام الدّرع الحصينة في وجه النكرانِ والتكرار. وفي حالاتٍ كثيرة، كانَت أنشطةُ تخليد الذّكرى والبحث عن الحقيقة المُنظّمة بقيادة المُجتمع المدني العاملَ المُحفِّزَ الّذي حملَ الدّول إلى تحمّل مسؤوليّاتها. وفي الأعمّ الأغلب من الأحوال، تُعتبرُ أشكالُ البحث عن الحقيقة والمُصارحة القائمة على الفنون الطّريقة الأجدَى نفعًا في الوصول إلى شرائحَ واسعة من الجمهور وفي ابتداءِ التحّولاتِ الثقافيّة الضّروريّة نحوَ مستقبلٍ عادلٍ وشاملٍ للجميع.

مُقاربة المركز الدّولي للعدالة الانتقاليّة

يُقرُّ المركز الدّولي للعدالة الانتقاليّة بأنَّ البحث عن الحقيقة قد يتّخذ أشكالًا شتّى، ونحن نسعى إلى مؤازرةِ طيفٍ واسعٍ من الجهود المبذولة على الصّعيد المحليّ والوطني والدّولي. فنُقدِّمُ الدّعم المُباشر ونُسدِي المشورة، بمقتضى الحاجة، كي نُسلّط الضّوء على قصص كانت، لولا ذلك، لتبقى مكتومة، وكي نكشف النّقاب عن الأسباب الكامنة وراء النّزاع والقمع وآثارهما المترتّبة على حيوات الضّحايا. كما يُقدِّمُ المركز الدّولي للعدالة الانتقاليّة المشورة التقنية الخاصة بالسّياق لمبادرات شتّى منها مشاريعُ التوثيق المنفّذة رسميًّا أو بقيادةِ المجتمع المدني، ولجان الحقيقة الّتي تُسيِّرُها الدّول، ولجانُ البحث عن المخفيين، ولجان التّحقيق، والمشاريع القائمة على العروض المسرحيّة أو الأفلام أو غيرها من أشكال الفنّ، بالإضافة إلى جلسات الاستماع العلنيّة المُنظّمة بقيادة المجتمع المدني، وغير ذلكَ من الجهودِ المبتكرة.

أمّا على المُستوى المحليّ، فنحثُّ الحكومات وندعمُ جهودها الرّامية إلى صياغةِ ولاياتٍ شاملة للجميع وخاصة بالسّياق للجانِ الحقيقة وغيرها من الهيئات. ويدعمُ المركز الدّولي للعدالة الانتقاليّة وضعَ هذه العمليات، فورَ إنشائِها، موضعَ التنفيذ، وذلكَ من خلالِ تبيانِ التجارب المُقارنة المُفيدة وإسداءِ المشورة حولَ السّياسات والإجراءات النافعة والبُنَى التنظيميّة واستراتيجيات التّواصل ومجالات البحث الأساسيّة بالإضافة إلى كيفيّة تنظيم جلسات استماعٍ علنيّة ناجحة، وهلمّ جرًّا.

وعلى نحوٍ مُماثلٍ، ندعمُ المجتمع المدني، من خلالِ تَيْسِير المنصات الّتي تُخوّله التفاعل المُباشر مع الفاعلينَ في الدّولة، ونُقدِّمُ، كذلكَ الأمر، المساعدة والمشورةَ التّقنيَتَيْن في شأنِ مُبادرات الحقيقة والذّاكرة المُستقلّة. فتسعى هذه الجهود، في بعضِ الأحيانِ، إلى سدّ الفجوات الّتي تُخلّفها العمليات المُنفّذة بقيادة الدّولة، وتُشكِّلُ، في أحيانٍ أُخرَى، عواملَ مُحفِّزَة تُبيِّنُ الحقيقة الّتي لم لا يُصرّح عنها بعد وتحكي قصص الضّحايا الّتي كتمتها الحكومات.

أمّا على المُستوى الدّولي، فيواصل المركز الدّولي للعدالة الانتقاليّة التأمّلَ في العبر المُستخلصة وجمعها من أجلِ تقديم الإرشاد الواضح في شأنِ السّياسات، وتأليفِ مراجعَ عمليّة، وقيادةِ أشكالٍ أخرى من التثقيف العامّ والتّوعية. هذا ويُؤازرُ المركز الدّولي للعدالة الانتقاليّة آليات تقصّي الحقائق والبحث عن الحقيقة الّتي تقودها الأمم المُتحدّة أو غيرها من الجهات المعنيّة الدولية.

مهما يكن نوعُ أعمال البحث عن الحقيقة وتخليد الذّكرى أو مُستواها، يبذلُ المركز الدولي للعدالة الانتقاليّة الجهود الّتي تُلبّي الحاجات الفريدة لكلِّ جماعةٍ أو مجموعةٍ على حدة، وذلكَ نتيجةَ مُراعاتها عواملَ عدّة، منها النوع الاجتماعي والعرق، والدّين والسنّ، والجغرافيا.

إصلاح المؤسسات

يستدعي التّصدّي التّام لإرث الانتهاكات الجسيمة لحقوق الإنسان اعتمادَ استراتيجيّة مُتعدّدة الأوجه تشملُ تدخّلاتٍ على مستوى المؤسسات والقانون والمجتمع المدني والجماعة والفرد على حدّ سواء. ولا تصلحُ هذه الاستراتيجيّة من دونِ إصلاح مؤسسات الدّولة الآيل إلى تحسينِ شرعيّتها ونزاهتها. فالسّعي إلى تحقيق الإنصاف والمُحاسبة والوقاية أمرٌ على قدرٍ عالٍ من الأهميّة.

غالبًا ما تُتّخذُ المؤسسات العامّة – مثل الشرطة والقوى العسكريّة والقضاء – أدواتٍ للقمع وارتكابِ الانتهاكات المُمنهجة لحقوق الإنسان في المُجتمعات الّتي تشهدُ نزاعًا أو تخضعُ لحكمٍ استبداديّ. وحينُ تُتِمُّ هذه الجماعات انتقالها إلى السّلامِ والحكم الديمقراطي، يُصبحُ إصلاح تلكَ المؤسسات أمرًا ضروريًّا، وهو لطالما اعتُبرَ، سابقًا، جوهرَ العدالة الانتقاليّة. ولكنَّ التجربة المُمتدّة على سنواتٍ طوال بيّنت أنّ التركيزَ المحصور على المُؤسسات المعنيّة مُباشرةً بالاعتداءات الجسديّة لا يكفي ولا يُجدي نفعًا. لذا، تقتضي الحاجة إصلاح أجهزة الدّولة كلّها ووضع آلياتٍ ملائمة لمُراقبتها، وذلك من أجلِ ضمانِ استقلاليّتها المهنيّة. ويتطلّبُ هذا الأمر إعادة النّظر في جزءٍ كبيرٍ من إطار العمل القانوني الموضوع حيّز التنفيذ، وعلى رأسه الميثاق الدستوريّ. بالإضافة إلى ما أنفَ ذكره، فإنَّ إصلاحَ العدالة والمؤسسات الأمنية تُكملهُ التغييرات الجذريّة الّتي يجبُ إحداثها في المؤسسات السياسيّة والاقتصاديّة والاجتماعيّة والثّقافيّة، في حالِ عزَمَ المجتمع على التّصدّي للانتهاكات المُرتكبة، بما فيها تلكَ الاقتصاديّة والاجتماعيّة، تصدّيًّا تامًّا.

إصلاح المؤسسات هو عمليةٌ تتمّ بموجبها إعادة النّظر في مؤسسات الدولة وإعادة هيكلتها حتّى تحترم حقوق الإنسان وتحافظ على سيادة القانون وتخضع لمحاسبةِ الناخبين. فجهودُ الإصلاح، الّتي تعتمدُ مُقاربة العدالة الإنتقالية، تقدرُ على تحقيق المحاسبة، وجبر الأضرار المُترتّبة عن الاعتداءات، والأهمّ من ذلك، أنّها تقدرُ على القضاء على البنى والعقائد التي سمحت بوقوع تلك الإنتهاكات. لذا، تكثرُ التوصيةُ باعتمادِ هذا النّوع من الإصلاح، وهو غالبًا ما تُطلقهُ مبادرات المُصارحة الّتي تكشفُ الجوانب المؤسّستيّة من أخطاء الماضي.

ويمكن أن يتضمّن إصلاح المؤسسات العديد من التدابير المرتبطة بالعدالة، بما فيها تلكَ الّتي ترمي إلى:

       تحويل الأطر القانونية أو إيجادِ أُطر جديدة: ويشملُ ذلك، على سبيل المثال، صياغةَ دساتير جديدة، أو تبنّي تعديلاتٍ دستوريّة أو المُصادقة على معاهدات دولية لحقوق الإنسان لضمان حماية حقوق الإنسان وتفعيلها؛

       التّأكد من تمتّع كلِّ شخصٍ بهويّةٍ قانونيّة: وهو أمرٌ يُعدُّ شرطًا مُسبقًا من أجلِ ممارسة غالبية حقوق الإنسان والاستفادة من الخدمات العامّة؛

       إصلاح المؤسسات بنيويًّا: وذلكَ بغيةَ ضمانِ استقلاليّتها وحسنِ استجابتها وتمثيلها للأفراد، وتوفيرها المُحاسبة اللّازمة، أي بغية تعزيز نزاهتها وشرعيتها؛

       فحص سجلات الموظفين: وذلك خلال عمليتَي إعادة الهيكلة أو التوظيف، فيُنظرُ بإمعانٍ في خلفياتهم بغية تنحيةِ المسؤولين المُسيئينَ والفاسدين عن الخدمة العامّة أو إنزالِ العقوبة بهم؛

       إنشاء أجهزة مُراقبة معلومة لعامة النّاس: وذلكَ ضمن مؤسسات الدولة بغيةَ ضمان إخضاعها للمحاسبة أمام الحوكمة المدنية.

       تجريد المُسلّحينَ من أسلحتهم، وتسريحهم وإعادة دمجهم: وتوفير العمليات والوسائل التي تراعي العدالة وتُخوِّلُ المحاربين القُدامى إعادة الاندماجِ في المجتمع المدني.

       تثقيف المسؤولين والموظّفين في القطاع العامّ: وذلكَ من خلالِ برامج التدريب حول معايير حقوق الإنسان والقانون الإنساني الدولي المرعيّة الإجراء.

يهدف إصلاح المؤسسات، باعتبارهِ إحدى عملياتِ العدالة الإنتقالية، إلى الاعتراف بالضحايا كمواطنين وأصحاب حقوق، وإلى بناء الثقة بين كافة المواطنين ومؤسّساتهم العامة. والإصلاحُ هذا، إذا كانَ مُتقنًا ومُنفّذًا على نحوٍ شفّافٍ وشاملٍ للجميع، يُصبحُ جابرًا للضرر أيضًا. لذا، يُمكنُ التدابير المُساعدة على دفع إصلاح المؤسسات قدمًا أن تتضمّن حملات التثقيف العامّة حولَ حقوق المواطنين وحريّة الحصول على المعلومات، بالإضافة إلى تقديم الاستشارات المُجدية للضّحايا وممثلي المجتمع المدني في شأنِ المُبادراتِ القانونيّة.

مُقاربة المركز الدّولي للعدالة الانتقاليّة

يُقدِّمُ المركز الدّولي للعدالة الانتقاليّة الخبرة والدّعمَ من أجل ضمانِ أنّ إصلاح المؤسسات وما عداه من عملياتِ بناء الدّولة يتعامل مع اعتداءات الماضي وأسبابها الجذريّة على نحوٍ مُناسب. وتُشدِّدُ مُقاربتنا في مسألة إصلاح المؤسسات على اعتباره جُزءًا لا يتجّزأ من الفهم الأوسع لضماناتِ عدم التكرار ومن سياسة العدالة الانتقاليّة الشّاملة.

       في كينيا، دعمنا إنشاء مجلس فحص سجلات القضاة وقضاة التحقيق كما دعمنا تفعيلهُ وقيّمنا العمليات الّتي نفّذتها السلطةُ المستقلة لمراقبة السّياسات، وذلكَ في ما يخصُّ فحص سجلات قوى الشّرطة والاعتداءات المُستمرة المُرتكبة على أيدي ضبّاطها. هذا وقد توصّلنا إلى تحديد سبلٍ شتّى من أجل مكافحة الفساد المُستشري وتعزيز مبدأ التقيّد بالدّستور.

       في جورجيا، قيّمنا الثغرات الكامنة في خطوات إصلاح المؤسسات المُتّخذة بعدَ العام 2012، واقترحنا تدابيرَ مُتعلّقة بفحص السّجلاتِ القائم على أساس الكفاءة في الجهازَيْن الأمني والقضائي.

       وضعنا المبادئ التّوجيهيّة الخاصّة بفحص سجلاتِ المؤسسات الأمنية، وقد نشرها كلٌّ من مكتب المفوضيّة السامية لحقوق الإنسان وبرنامج الأمم المتحدة الإنمائي.

       عملنا في بوروندي على المُساعدة في مُراقبة العناصر الأمنيّة وتحديدها.

       في العراق، كُنّا المصدرَ الأبرز الّذي قدّمَ النّقدَ المُتقن في شأنِ مُبادرات اجتثاث البعث.

       أصدرنا بحوثًا حولَ فحص السّجلات، ونزع السّلاح والتسريح وإعادة الإدماج، وإصلاح القطاع الأمني في الشّؤون المُتعلّقة بالتنمية والنزوح، وإصلاح الأنظمة التعليميّة.

في بحثنا حول الوقاية من العنف والنّزاع العنيف وفي سياستنا في شأنِ أهداف التنمية المُستدامة، شدّدنا على ضرورةِ إدراجِ الإصلاحِ واسع النّطاق وطويل الأمد للمؤسسات في جداول الأعمال الدّولية المُتعلّقة بالسلام المُستدام والتنمية.

العدالة الجندرية

قد تُرتِّبُ انتهاكات حقوق الإنسان تبعاتٍ خاصّة على النّساء وغيرهنَّ من المُستهدفينَ بسبب نوعهم الاجتماعيّ أو هويّتهم الجنسيّة. لذا، يساعد المركز الدّولي للعدالة الانتقاليّة الضّحايا على نيلِ حقوقهم في العدالةِ والحقيقة وجبر الضّرر، وعلى فرضِ احترامِ كرامتهم، وذلكَ من خلالِ مُواكبتهم ودعمهم وتزويدهم بالاستجاباتِ المؤاتية. ونحنُ نُسانِدُ الضّحايا في سعيهم إلى الحصولِ على إقرارٍ بالانتهاكات الجنسيّة والقائمة على النّوع الاجتماعي المُرتكبة في ظلِّ الاعتداءات المُمنهجة، وإلى المُحاسبةِ عليها على حدٍّ سواء.

     “لِمَ على الصراع أن يحلَّ في جسدي؟”

     – جاكلين موتيري، مُؤسّسة “غرايس آجندا” في كينيا

في حقباتِ النّزاع أو الحكم الاستبدادي، غالبًا ما تُمسي النّساء هدفًا لانتهاكاتِ حقوق الإنسان، بسببِ نوعهنّ الاجتماعيّ والتهميش الّذي يُعانينَهُ في مجتمعاتٍ شتّى. فقد تتعرضُ النّساء للعنف الجسدي والعنف الجنسي، ولانتهاكاتٍ أُخرى تنالُ منهنَّ بطرقٍ خاصّة، على غرارِ إخفاءِ ذويهنّ قسرًا وتهجيرهنَّ وممارسة التمييز الاجتماعي الاقتصادي بحقهنّ.

فعلى سبيل المثال، قد تُعاني النّساء، اللّواتي أُخفيَ أزواجهنّ قسرًا خلالَ النّزاع، صدمةً نفسيّةً مُطوّلة وقد يواجهنَ عوائق قانونيّة ظالمة وغيرها من أشكالِ التّمييز بسببِ وضعهنَّ المُلتَبِس، فهنَّ لسنَ متزوّجات ولسنَ أرامِل أيضًا. هذا وقد تتعرّض النساء لخطرِ استغلالٍ أكبرَ، بسببِ اشتدادِ فقرهنَّ بعدَ فقدانهنّ المُعيل ونبذهنَّ من عائلاتهنَّ ودوائرهنّ الاجتماعيّة المُقرّبة.

وغالبًا ما يُقوِّضُ تراكم الأذيّة هذا قدرة النّساء على العثور على مصادر الإعالة بسببِ عدمِ المُساواةِ البُنيويّة. فحتّى آليات العدالة الانتقاليّة نفسها، إن أُسِيءَ وضعها، قد تغفلُ حاجات النّساء الخاصّة وقد تعكس استجاباتُها الاختلال بين الجنسين في السُّلطة على المجتمع كَكُلّ.

صحيحٌ أنَّ النّساء يندرجنَ في الفئة الأكثر تهميشًا في المُجتمع ويحتحنَ إلى اهتمامٍ خاصّ وإلى استجاباتِ عدالةٍ انتقاليّة موجّهة خصيصًا لهنّ، إلّا أنَّ العدالة بينَ الجنسين لا تقتصرُ عليهنَّ. بل يجبُ تقييم تجارب الضّحايا كلّها من أجلِ النّظر في تبعاتها المُرتبطة بالنّوع الاجتماعي. فمن شأنِ مقاربة العدالة الانتقاليّة المُراعية للنوع الاجتماعي أن تنظرَ في الطّيف الواسع من التجارب وأن تُعالجها، بما في ذلكَ تجارب الضّحايا الذّكور في بعضِ السياقاتِ وضحايا جماعة المثليين والمثليات ومزدوجي الميل الجنسي ومغايري الهوية الجنسية وأحرار الهوية الجنسيّة وحاملي صفات الجنسيْن (LGBTQI).

هل تقدرُ العدالة الانتقاليّة على المساهمة في تعزيز العدالة لضحايا العنف الجنسي والعنف القائم على النّوع الاجتماعي؟

تُعدُّ استجابات العدالة الانتقاليّة للانتهاكات القائمة على النّوع الاجتماعي المُرتكبة إبّانَ النزاع أو الحُكم الاستبداديّ، أمرًا ضروريًّا من أجلِ ضمانِ العدالةِ للضحايا ومُحاربة تهميش النّساء وتلافي وقوعِ انتهاكاتٍ مستقبليّة بحقّهنّ وبحقّ غيرهنّ من المجموعات الّتي تُستهدفُ بسببِ نوعها الاجتماعي. ويأتي على القدر نفسه من الأهميّة ضمانُ أن تُعالِجَ تدابير العدالة الانتقاليّة أسباب الاعتداءات على النّساء وتبعاتها، بما في ذلكَ الاعتداءات الّتي لا تقومُ بطبيعتها على النوع الاجتماعي.

شهدت العقود الأخيرة المُنصرمة تقدّمًا بارزًا على صعيد الإقرار العامّ بعدم المُساواة والتمييز بينَ الجنسَيْن وبانتهاكات حقوق الإنسان القائمة على النّوع الاجتماعي. لكنَّ الأعمّ الأغلب من هذه الإقرارات لا يرقَى إلى ترجمةٍ مُجديةٍ على أرضِ الواقع. ويُعزَى الإخفاقُ في هذا الصّدد إلى ضآلة المعرفة التّقنيّة حولَ كيفيّة تنفيذ التّدابير على نحوٍ يشجّع النّساء على المُشاركة ويتصدّى لطبيعة انتهاكات حقوق الإنسان المرتبطة بالنّوع الاجتماعي تصدّيًا مُلائمًا.

ويتفاقم هذا الخللُ سوءًا حينَ تُقصَى النساء من عملية اتّخاذ القرارات. فإن أريد للسّياسةِ أن تستجيبَ للحاجاتِ كلّها استجابةً ملائمة، لا بدّ، إذًا، من أن تؤدّي النّساء دورًا محوريًّا في وضعِ تدابير العدالة الانتقالية وفي تنفيذها على حدّ سواء. وينطبق ذلك تحديدًا عندَ محاولة تنفيذ السياسة في ظلّ استمرار العنف الجنسي والعنف القائم على النوع الاجتماعي وحيث تضؤل إرادة السّلطاتِ وقدرتها على التّحقيق.

رؤية المركز الدولي للعدالة الانتقالية

هدفُ المركز الدولي للعدالة الانتقالية هو ضمان إشراك ضحايا الانتهاكات القائمة على النوع الاجتماعي إشراكًا مُجديًا في تدابير العدالة الانتقالية كما ضمان حسن تصدّي هذه التدابير لأسباب انتهاكات حقوق الإنسان القائمة على النوع الاجتماعي ولتبعاتها على حدّ سواء.

تقومُ المُقاربةُ الأساسيّة المُعتمدة في المركز الدولي للعدالة الانتقالية على توفير المساعدة التقنية في سياقات معينة، بما في ذلك الشراكة مع مجموعات الضّحايا والناشطين والمسؤولين بغيةَ وضعِ سياساتٍ وعملياتٍ تأخذُ في الحسبان أولويات جميع الضّحايا، لتكونَ مراعيةً للفوارق بين الجنسين ومُستجيبةً لكلٍّ منهما. ويسعى المركز الدّولي للعدالة الانتقاليّة إلى ضمان أن تُعزِّزَ هذه الجهود العدالة المُجدية في شأنِ الانتهاكات الجنسيّة والقائمة على النّوع الاجتماعي، وأن تعالِجَ التّبعات المُتعلّقة بالنوع الاجتماعي والمُترتّبة على انتهاكات حقوق الإنسان مُعالجةً أوسع نطاقًا، وأن تُوجِدَ، بشكل استباقيّ، فضاءات آمنة يُمكن للضّحايا الأكثر هشاشةً وتهميشًا الوصول إليها.

وفي هذا صدد، يرمي منهاج العدالة الاجتماعيّة والنّوع الاجتماعي الّذي وضعه المركز الدّولي للعدالة الانتقاليّة واستمدّهُ من خبرته على مدَى عقودٍ من العمل، إلى مؤازرة الفاعلين والمُمارِسين في المُجتمع المدني على إدراجِ هذه المعارف الأساسيّة والتّقنية في أعمالهم وحلقاتهم التدريبيّة.

بالإضافة إلى المساعدة الخاصّة بالسّياقاتِ، يُقدِّمُ المركز الدولي للعدالة الانتقالية أفكارًا نيِّرَة وجديدة عن كيفيّة تصدّي العدالة الانتقالية لديناميات العنف المرتبطة بالنّوع الاجتماعي، ويُساهمُ، كذلكَ، في النقاشات العالميّة المُتعلّقة بوضعِ السّياساتِ في هذا الشأن. ومن خلال إجراءِ أبحاثٍ رائدة حول مواضيعَ لم تكن تلقَى سوى اهتمامٍ هزيلٍ في كثير من الأحيان، على غرارِ تأثير الإخفاء القسري في النساء أو العنف الجنسي المُمارس بحقّ الرجال والفتيان، يسعى المركز الدولي للعدالة الانتقالية إلى توسيع الحدود الضّيقة وضمان أن تُلائِمَ المعايير والممارسات الفُضلى القائمة الحقائق اليومية الّتي يعيشها الضحايا ملاءمةً تامّة.

مشاركة الشباب

يُعاملُ المركز الدّولي للعدالة الانتقاليّة الشّباب معاملةَ الفاعلينَ السّياسيين، فيُؤازرهم في رسمِ مستقبلِ جماعاتهم. ونحنُ، في المركز الدّولي للعدالة الانتقاليّة، نفسحُ لهم المجال كي يُشاركوا بفاعليّةٍ في عمليات العدالة الانتقاليّة ويُعبّروا عن رؤاهم أيضًا. وغالبًا ما تُزعزع مُساهماتِهم الواقع الرّاهن وتُسلّط الضّوء على المسائل المُلحّة الّتي ينبغي معالجتها في سبيلِ إرساءِ سلامٍ مستدام.

إنَّ اعتبار الأطفال والشّباب فئة خاصّة من الضّحايا، والإقرار بصفتهم مواطنينَ، وفهم حاجاتهم الفريدة شروطٌ أساسيّة من أجلِ كسرِ حلقات الاعتداء والإفلات من العقاب المتناقلة عبرَ الأجيال. فالأطفالُ والشّباب يندرجونَ في عِدادِ الفئة الأكثر عرضةً لتكبّدِ آثار النّزاع والانتهاكات الجسيمة لحقوق الإنسان. إذ تُرتّبُ الانتهاكاتُ، من قبيل استهداف المدارس والتجنيد الإجباري والعنف الجنسي والنّزوح وضآلة الرّعاية الصّحيّة، آثارًا طويلة الأمد قد تُقوّض مستقبلَ الشّباب. ففي الواقع، يؤثّرُ النّزاعُ والقمع تحديدًا وبشكلٍ مُطوّلٍ في الأطفال، ذلكَ لأنّهم يتعرّضونَ لهما خلالَ سنواتهم التكوينيّة الأولَى الّتي يكونونَ فيها أكثر هشاشةً وضعفًا. وبغية رسمِ مشهدٍ مُكتملٍ يتّضحُ فيه مَا جَرَى، ومَن أُذِيَ منه وكيفَ يواصلُ التّأثير في حيوات الأفراد، لا بدّ من الاعتراف بأصوات الأطفال والشّباب والإنصات إليها على حدّ سواء. فلِلشّباب “الحقّ في التعبير عن تلكَ الآراء في جميع المسائل الّتي تمسّهم، وفقًا لسنّهم ونضجهم”، بحسبِ ما نصّت عليه اتفاقية حقوق الطّفل.

في مُختلفِ أنحاء العالم، أدّى إشراك الشّباب الفعّال والمستنير في عمليات العدالة الانتقاليّة إلى تحسين جدواها ومنفعتها. فالشّبابُ هم الجيلُ الآتي من القادة والعاملين المحترفين وأولياء الأمور وأفراد الجماعة والنّاخبين، لذا، فهم المُكوّن الأساسيّ المسؤول عن ترسيخ النظام السياسي الجديد، وإرساء القيم الديمقراطيّة واستدامة السلام. ومن شأنِ إشراكِ الشّباب في جهود العدالة الانتقاليّة أن يبثَّ فيهم حسّ المسؤوليّة وروح النّشاط النّضالي. وعادةً ما يندفع الشّباب إلى مناصرة المحاسبة والإصلاح وإلى المساعدة في بناء مجتمعٍ يتمسّكُ بالسلام المُستدام وبحقوق الإنسان.

تصدّرَ المركز الدّولي للعدالة الانتقاليّة الجهود المبذولة في سبيلِ التوصّل إلى إقرارٍ عالميّ بالدّور الّذي يُمكن أن يؤدّيه الشّباب في العدالة الانتقاليّة. فقد أنارَ عملُ المركز الدّولي للعدالة الانتقاليّة الدّراسة المرحلية المُنجزة في العام 2018 حولَ الشّباب والسلام والأمن لصالحِ قرارِ مجلس الأمن رقم 2250، الّذي يدعو إلى إشراكِ الشّبابِ إشراكًا مُجديًا في جهودِ العدالة الانتقاليّة. وفي معرضِ المناقشة المفتوحة في مجلس الأمن حولَ العدالة الانتقاليّة، عدَّت الدّولُ الأعضاء شمولَ الشّبابِ واحدًا من العناصر الأساسيّة الّتي تكفلُ نجاح عمليات العدالة الانتقاليّة. واستشهدَ مُمثِّلُ لبنانَ، خلالَ كلمته، بأحدِ أعمالِ المركز الدّولي للعدالة الانتقاليّة، قائلًا: “يجب أن يُمنح الشّباب الدّورَ المُهمّ الّذي يستحقونه في العدالة الانتقاليّة، باعتبارهم عناصرَ التّغيير.”

مُقاربة المركز الدّولي للعدالة الانتقاليّة

يرمي المركز الدّولي للعدالة الانتقاليّة إلى تمكين الشّباب، وذلكَ من خلالِ منحهم المجالَ والدّعمَ والموارد اللّازمة من أجل التّصدّي للقوَى القامعة. لقد أقمنا شراكاتٍ مع ناشطينَ شباب، واتّخذنا خطواتٍ مدروسة لإبطالِ العوامل المعيقة للمشاركة، ونفّذنا مبادراتٍ خاصّة بكلٍّ سياقٍ على حدة في سبيلِ إشراك الشّباب.

ويسعى المركز الدّولي للعدالة الانتقاليّة إلى الاستفادةِ من موارده وشبكاته أقصَى استفادةٍ مُمكنة من أجلِ إفساح المجالاتِ أمامِ الشّباب للتفاعلِ المُباشر مع الجهات المعنيّة النّافذة على المُستَوَيَيْن المحليّ والوطني على حدّ سواء. ويُساعدُ المركز الدّولي للعدالة الانتقاليّة أيضًا في سدّ الفجوات العابرة للأجيال وفي إطلاقِ حوارٍ أكثر شمولًا تُعطَى الكلمةُ فيه للشباب وأفراد المجموعات المُهمّشة. ففي غامبيا، على سبيل المثال، جمعنا أفرادًا من مجموعة “وطننا صوتنا” الفنيّة الّتي يُديرها الشّباب بنساءٍ يتحدرنَ من مناطقَ نائية، وذلكَ من أجلِ مُناصرة جبر الضّرر.

ويمتثلُ المركز الدّولي للعدالة الانتقاليّة بالمبادئ التوجيهيّة التّالية:

       مُعاملة الشّباب باحترامٍ واعتبارهم مواطنين، ودعمهم في مُمارستهم دورهم السّياسيّ،

       التّطلع إلى أبعدِ من حدود “المؤسسات” الشّبابية الرّسمية من أجلِ إشراك الشباب في حركاتٍ شبابيّة أوسع نطاقًا وأكثر شعبيّةً،

       اعتماد مُقاربةٍ تتمركزُ حولَ العمليّة، ويُشاركُ الشّباب أنفسهم في تحديدِ نتائجها النّهائية.

تشملُ مجالاتُ التّركيز الأساسيّة:

       تعزيز المُشاركة المدنية. وذلكَ من خلالِ إفساح المجالات أمام الشّباب وتزويدهم بالأدوات الّتي تُخوّلهم الاضطلاع بهذا العمل المُتعدّد الأجيال. فعلى سبيل المثال، يُعدِّدُ تقريرنا المُعنون “مُستقبلنا، عدالتنا: الشّباب يأخذ زمام المبادرة”، النصائحَ والاستراتيجيات الموجّهة للشباب المُهتمّينَ في السّعي إلى معرفة الحقيقة وتحقيق الإصلاح والإنصاف وإحقاق العدالة، في حين، تُقدِّمُ ورقة الإحاطة المُعنونة “مُحفِّزُ التّغيير” التوجيهات لواضعي السّياسات حولَ سُبُل العمل المُجدي مع الشّباب.

       إحداث التّغيير عبرَ الفنّ. لعلَّ أحد أكثر أعمال المركز الدّولي للعدالة الانتقاليّة ابتكارًا هو التعاون مع النّاشطينَ والفنّانين الشّباب من أجلِ المُشاركة الفاعلة في تحديد السّرديات الوطنيّة. ففي كولومبيا، على سبيل المثال، شاركنا في تنظيم مهرجانِ دوليّ لموسيقى الهيب هوب، بيّنَ دورَ هذه الموسيقى وثقافتها في كشف الحقيقة ومقاومة العنف والقمع؛ وفي تونس، أطلقنا مشروع “أصوات الذّاكرة” الّذي يُحثّ الشّباب على التفكير مليًّا في الأسباب الجذريّة المحرّضة على ارتكاب المظالم الماضية والحاضرة، كما التّفكير في دورهم في دفعِ العدالة قدمًا؛ أمّا في غامبيا، فأقمنَا مسابقة شعرٍ وطنيّة سلّطت الضّوء على الأشعار الّتي نظَمَها الشّبابُ حولَ الدّيمقراطيّة وحقوق الإنسان.

       حماية الحقوق وتعزيز الدّور في آنٍ معًا. فنحنُ نُقِرُّ بدور الشّباب ونلتزمُ بمقاربةِ “عدم الأذيّة”. هذا ونُعمِّمُ استراتيجياتٍ تراعي الأطفال، كما هو مُبيّنٌ في دليلِنا المُعنون “الاستماع للأصوات اليافعة” الّذي أُعِدَّ خصيصًا للمُمارسينَ ويتناولُ كيفيّة إجراء المُقابلات مع الشّباب بسلامةٍ واحترام.

يعملُ المركز الدّولي للعدالة الانتقاليّة جنبًا إلى جنبٍ مع شركائه المحلّيين، أمّا على المستوى الدّولي، فهو يشغلُ منصبَ عضوٍ في اللّجنة التوجيهيّة الخاصة بمبادئ باريس، وقد أبرمَ شراكات عدّة مع منظمة الأمم المتحدة للطفولة (اليونيسف).

أهداف التنمية المستدامة

تواجه البُلدان والجماعات الّتي عانت من انتهاكات جسيمة لحقوق الإنسان تحديّاتٍ جليلة تعيقُ تحقيقها التنمية المُستدامة. تتعاملُ العدالة الانتقاليّة مع هذه الانتهاكاتِ وتعالجُ تبعاتها الوخيمة، وبذلكَ، فهيَ تقدرُ على أن تدفعَ التنميةَ في المُجتمعِ قدمًا، من خلالِ جعلها أكثرَ سلامًا وشمولًا وإنصافًا.

تُعدُّ خطّة التنمية المستدامة للعام 2030 واحدةً من أكثر أطر السّياسة الدّوليّة أهميّةً على الإطلاق. ففي العام 2015، تبنّت الجمعيّة العامّة للأمم المتحدة أهداف التنمية المستدامة، وهي عبارة عن مجموعةِ أهدافٍ ومقاصدَ عالميّة تُشكّلُ “خطّةَ عملٍ” من أجلِ السلام والازدهارِ في العالم. وفي حين تُركِّزُ هذه الأهداف على العناصر الاقتصاديّة والاجتماعيّة والبيئيّة المُكوِّنَة للتنمية المُستدامة، فإنّها تُساهمُ أيضًا في تحديدِ معالمَ الخطاب والغايات والأولويّات العالميّة في طيفٍ واسعٍ من الميادين المُختلفة.

لم تُشِر خطّة العام 2030، الّتي يؤخذُ عليها إغفالها حقوقَ الإنسان، إشارةً صريحةً إلى انتهاكات حقوق الإنسان أو إلى الجهود الآيلة إلى مُعالجةِ إرثها، علمًا أنَّ المجتمعات الّتي عانت من انتهاكاتٍ جسيمة تُواجهُ تحدياتٍ خاصّة وجليلة تعيقُ تقدّمها نحوَ تحقيقِ أهداف التنمية المُستدامة. ففي ظلِّ تسجيلِ أعدادٍ هائلة من الضّحايا وانقسام الجماعات وتفشّي المظالم وضعف المؤسسات وانعدام الثقة بها، واستنزافِ الموارد، تعجزُ هذه البلدان على مُقاربةِ التنميةِ مُقاربةَ البُلدان الّتي لم تُعانِ صدمةً مماثلة. أمّا الضّحايا ممّن هم أساسًا في عِدَاد الفئة الأكثر فقرًا وتهميشًا من المجتمع، فإنَّ وصولهم إلى العدالة أمرٌ في غاية التّعقيد بسببِ المقاربات المعياريّة المُعتمدة في بناء القدرة المؤسّستيّة والحدّ من الفقر.

تخلو أهداف التنمية المستدامة من أيّ إشارة إلى العدالة الانتقاليّة، إلّا أنّها تتضمّنُ الكثيرَ من الغايات والمقاصد الّتي يُمكن العدالة الانتقاليّة أن تُساهمَ في تحقيقها. فعلى سبيل المثال، تتضمّنُ مقاصد هدف التنمية المُستدامة السّادس عشر، تعزيز سيادة القانون وتحسين الوصول إلى العدالة، والحدّ من العنف وإنشاء مؤسّسات شاملة للجميع، ومحاربة الفساد، في حين تركّزُ مقاصد هدف التنمية المستدامة الخامس على تعزيز المساواة بين الجنسَيْن، وترمي مقاصدُ هدف التنمية المُستدامة العاشر إلى الحدّ من عدم المساواة الأوسع نطاقًا. وفي سياقاتِ العدالة الانتقاليّة، يُستبعدُ تحقيق هذه المقاصد على نحوٍ مستدامٍ، ما لم تُعالج انتهاكات الماضي الجسيمة مُعالجةً فعليّة.

دورُ المركز الدّولي للعدالة الانتقاليّة

يتّخذُ المركز الدّولي للعدالة الانتقاليّة أهدافَ التنمية المُستدامة مجهرًا يُمعنُ من خلالِه النّظرَ في سياسته وأبحاثه وبرامجه المرتبطة بالسّلامِ والتنمية المُستدَامَيْن. فعلى مُستوى السّياسة، جمعنَا الفريق العامل المعني بالعدالة الانتقاليّة ومقاصد هدف التنمية المُستدامة 16+، الّذي ضمَّ حكومات ومنظمات غير حكومية ومنظّمات دوليّة، وأصدرَ في العام 2019 تقريرًا حملَ عنوان، “على أرضٍ صلبة، بناء السّلام والتنمية المُستدَامَيْن في أعقاب الانتهاكات الجسيمة لحقوق الإنسان”. ويرمي هذا التقرير إلى أن تبلغَ مساهمة العدالة الانتقاليّة في التنمية المستدامة ذروتها، لذا، فهو يدعو إلى اعتمادِ مقاربةٍ تراعي السّياق والنّوع الاجتماعي، وتُوضعُ على نحوٍ يضمنُ إحداث تغيير طويل الأمد، على أن تعودَ ملكيّتُها، وتاليًا قيادتُها، إلى الضّحايا والفاعلينَ في المُجتمع المدني والحكومة المحليّة، وأن تأتيَ مُبتكرةً وعمليّةً ومتمركزة حولَ حلّ المشكلات، وأن تحظَى بدعمِ الفاعلينَ الدّوليين، من دون أن يضطلعوا في وضعها أو في تنفيذها.

وردَت رسالةُ الفريق العامل آنفة الّذكر في تقاريرَ أصدرتها جهتان دوليّتان مرموقتان هما فرقة العمل المعنية بالعدالة والتحالف الدّولي للإبلاغ عن التّقدّم المُحرز في تعزيز مجتمعات سلميّة وعادلة وشاملة للجميع. بالإضافة إلى ذلك، فإنَّ إعلان لاهاي للعام 2019 حولَ تكافؤ فرص وصول الجميع إلى العدالة بحلول العام 2030، قد سلّطَ الضّوءَ على الحاجة إلى معالجة إرث انتهاكات حقوق الإنسان، وبيّنَ تأثيرَ سياستنا في خطّة العام 2030.

يُشارك المركز الدّولي للعدالة الانتقاليّة أيضًا في النّقاشاتِ حولَ السّياسات المُتعلّقة بأهداف التنمية المُستدامة، وذلكَ من خلالِ إجراءِ حواراتٍ مع واضعي السّياسات كما من خلالِ تعميم الأبحاثِ المُنجزة حولَ مسائلَ مُعيّنة من قبيل توفير العدالة للضحايا في السّياقات الهشّة، وأوجه التّآزر بينَ جبر الضّرر وبرامج التنمية، وقياس النتائج والتّقدّم المُحرز، وكذلكَ مساهمة العدالة الانتقالية في الوقاية. ونعملُ، يدًا بيدٍ، مع شركائنا على المُستوى الدّولي، ومنهم، على سبيل المثال، مجموعة الرّواد من أجلِ مجتمعات مسالمة وعادلة وشاملة للجميع، ومنصّة المعارف حولَ الأمن وسيادة القانون.

يسعى المركز الدّولي للعدالة الانتقاليّة إلى أن يضمنَ إعارةَ خطّة التنمية المُستدامة الانتباهَ المُلائمَ للتحدياتِ الخاصّة المترتّبة عن الانتهاكات الجسيمة الماضية وكذلكَ للجدوى المُحصّلة من التّصدّي لها. فالكثيرُ من البُلدان التي عانت من انتهاكاتٍ مماثلةٍ، لا تزالُ ماضيةً في سعيها نحوَ تحقيقِ أهداف التنمية المُستدامة، لكنَّها تواجه عوائقَ هائلة تحولُ دون استعادة ثقة الجماعات المهمّشة والمُجنى عليها وكذلكَ دونَ إعادة بناء المُؤسّسات. لذا، يتولّى المركز الدّولي للعدالة الانتقاليّة زمامَ قيادة الجهود المبذولة ضمنَ المجتمع الدّولي والرّامية إلى العمل عن كثبٍ مع هذه البُلدان من أجلِ معالجةِ مُخلّفات الماضي في سبيلِ إيجادِ مُستقبلٍ أفضل.

الوقاية

تحلُّ الوقاية على رأسِ قائمة الأولوياتِ ضمنَ خطّة السّياسة العالميّة المعنية بالسّلام والتنمية والحكم الرّشيد. وتُقرُّ هذه الخطّة بقيمةِ العدالة الانتقاليّة الوقائيّة الّتي لا تقتصرُ على مساعدة المجتمعات في تجنّبِ تكرار انتهاكات جسيمة لحقوق الإنسانِ، بل تشملُ أيضًا التّصدّي للدوافع المُشتركة المؤدّية إلى وقوعِ العنفِ والنّزاع، ومنها الإقصاء والهشاشة وعدم المساواة.

لطالما أدرجت العدالةُ الانتقاليّة الوقاية في أُولَى أهدافِها. ففي الأرجنتين، على سبيل المثال، شكّلَ مفهوم “لن تُعاد الكرّة” جزءًا لا يتجزّأُ من عملِ اللّجنة الوطنيّة المعنيّة بالمخفيين. أمّا على نطاقٍ أوسع، فخلال عقد التسعينات من القرن المنصرم، والعقد الأوّل من القرن الحالي، حثّت مبادئ الأمم المتّحدة لمكافحة الإفلات من العقاب، المجتمعات المارّة في مرحلةٍ انتقاليّة على أن تتّخذَ خطواتٍ مُحدّدة من شأنها أن تضمنَ عدم تكرار انتهاكات جسيمة لحقوق الإنسان. هذا ومنَ المُسلّمِ به أنّ عناصر العدالةِ المُختلفة، على غرارِ الحقيقة والمُحاسبة والإنصاف والإصلاح، من شأنها أن تُؤازرَ المجتمعات في تجنّبِ تكرارِ أخطاء الماضي.

واليوم، تحلُّ الوقاية على رأسِ قائمة الأولويات ضمنَ خطّة السّياسة العالميّة، بما فيها الخطط المُتداولة بين فاعلينَ على غرارِ الأمم المُتّحدة، وكذلكَ أطر العمل من قبيل أهداف التنمية المُستدامة وخطّة الأمم المتّحدة المُشتركة. وقد أقرّت هذه الخطّة، مرارًا وتكرارًا، بقيمة العدالة الانتقاليّة الوقائية في التّصدّي للدوافع المُشتركة المؤدّية إلى وقوع الانتهاكات والعنف، على غرار الإقصاء والهشاشة وعدم المُساواة. ففي العام 2004، على سبيل المثال، جزمَ الأمين العام للأمم المُتحدة في تقريره حولَ العدالة الانتقاليّة وسيادة القانون جزمًا قاطعًا بأنَّ “الوقاية هي أوّل حتميّة للعدالة” في مسألتَي السلام والاستقرار. وفي العام  2016، كرّرَ كُلٌّ من مجلس الأمن والجمعيّة العامّة هذه الرّسالة في القرارَيْن المُعتمدَيْن حولَ استدامة السّلام.

دور المركز الدّولي للعدالة الانتقاليّة

يُشدّدُ المركز الدّولي للعدالة الانتقاليّة على قدرة العدالة الانتقاليّة على الوقاية وذلكَ في معرضِ برامجه وسياساته وأعماله البحثيّة. فنحنُ نُعمّمُ فهمَ العدالة فهمًا أوسع لا يقتصرُ على معالجتها تبعات انتهاكات الحقوق فحسب، بل يشمل أسبابها أيضًا، في سبيلِ كسر حلقات الإفلات من العقاب والعنف. وهذا يعني صبَّ التّركيز على الانتهاكات الّتي لا تنالُ من الحقوق المدنيّة والسيّاسية فحسب، بل من الحقوق الاقتصادية والاجتماعيّة والثّقافية أيضًا، وكذلكَ على المظالم البُنيويّة، من قبيل التهميش وعدم المساواة على حدّ سواء. بالإضافة إلى ما أنفَ ذكره، يعملُ المركز الدّولي للعدالة الانتقاليّة على أساسِ مفهومٍ فضفاضٍ لضمانِ عدم التّكرار لا يُحدُّ بمجموعةٍ مُعيّنة من الإصلاحات المؤسسّتيّة بل يُحدّدُ وفقَ حاجاتِ كُلِّ مجتمعٍ على حدة.

تؤيّدُ الأبحاث الّتي يُجريها المركز الدّولي للعدالة الانتقاليّة هذه المُقاربة في شأنِ الوقاية. فدِراساتُنا المُقارنة حولَ عمليات فحص السجلات والإصلاح التربوي والنزوح القسري تُسلّطُ الضّوء على الطّرق المُتشّعبة الّتي يُمكن العدالة الانتقاليّة من خلالها أن تُعزّزَ الوقاية، في حين أنَّ دراساتنا المُعمّقة والمتخصّصة أكثر في البلدان والمُنجزَة حولَ مواضيعَ من قبيل إصلاح السّياسة تُمعنُ النّظرَ في التحديات الّتي تحولُ دونَ ضمان عدم التكرار. وفي العام 2021، أُطلِقَت مُبادرةٌ بحثيّة ضخمة ضمّت دارسة حالةِ كُلٍّ من كولومبيا والمغرب وبيرو وفلبين وسيراليون، فبيّنت أنّ العدالة الانتقاليّة قادرة على المُساهمة في توفير الوقاية، وذلكَ من خلال تعزيز الإدماج وتعجيل إرساء إصلاحٍ طويل الأمد، وقد خلَصت المبادرة إلى وجوبِ أن تُشكِّلَ العدالة الانتقاليّة جزءًا لا يتجّزأ من الوقاية من النّزاع وبناء السّلام والتنمية المستدامة على حدّ سواء.

يُولي المركز الدّولي للعدالة الانتقاليّة الوقاية أولويّة قُصوى في مشاركته مع واضعي السّياسات ومُمارسِيها عبرَ شبكاتِ المجتمع المدني ومُنتديات نقاش السّياسة والدّروس المُكثّفة. ويشملُ ذلكَ أيضًا عضويّتنا الفعّالة في مكتب الاتصال الأوروبي لبناء السّلام وشبكة حقوق السّلام والدّيمقراطيّة، وكلاهما شبكةٌ متخصّصة في موضوعٍ مُحدّد ومهتمّة بسياسات الاتحاد الأوروبي، بالإضافة إلى عضويّتنا في منشأة الاتحاد الأوروبي للعدالة في النّزاع والمرحلة الانتقاليّة، وكذلكَ دروسنا السّنويّة الّتي يُعطيها خبراء المركز الدّولي للعدالة الانتقالية ومُحاضِرُون ضيوف وغالبًا ما تُركِّزُ على الوقاية.

عمليات السلام

خلالَ عمليات السّلام، ينبغي على الأطراف أن تتنبّهَ إلى أسئلةٍ جوهريّة حولَ كيفيّة التعامل مع انتهاكات حقوق الإنسان الجسيمة والصّارخة الّتي ارتُكِبَت إبّان نزاعٍ عنيف. ففي حين أنَّ المُطالبات بإحقاقِ العدالةِ غالبًا ما تندرجُ في عناصر المُفاوضات الأشدّ تعقيدًا والأكثر جدلًا، فإنَّ مُعالجة هذه الانتهاكات، ولا سيّما الاهتمام برؤَى الضّحايا وتلبية حاجاتهم، أمرٌ أساسيّ يكفلُ إكسَاب اتفاقات السّلام المُبرمة الموثوقيّة والشّرعية اللّازمتَيْن.

ينبغي على عمليات السّلام والمُفاوضات السّياسيّة الرّامية إلى إنهاءِ نزاعٍ عنيف أن تتعاملَ دومًا مع انتهاكات حقوق الإنسان الماضية. ففي عملياتِ السّلام الّتي أنهت الحروبَ في غواتيمالا وجنوب أفريقيا والسلفادور وسيراليون وكولومبيا، وكذلكَ في المُفاوضات الدّائرة حاليًّا في بلدان مثلَ ليبيا وجنوب السّودان وسوريا وفنزويلا واليمن، فرضَت العدالة الانتقاليّة نفسها مسألةً على قدرٍ عالٍ من الأهميّة.

تطرحُ عمليات السّلام أسئلة جوهريّة حولَ كيفية تناول اتفاق السّلام إرثَ انتهاكات حقوق الإنسان الجسيمة والصّارخة الّتي ارتُكِبَت إبّان النّزاع- ومن جملة هذه الأسئلة، سؤالٌ عن نوع العدالة الممكن إحقاقها، وعن المعاملة الّتي يجب منحها الضّحايا، وعن طبيعة المُحاسبة الجنائية المُلائمة وكذلكَ الإنصاف والعمليات الإصلاحيّة، بالإضافة إلى السّؤال عن أوجه التوازن والتكامل المطلوب إقامتها بينَ العدالة والأمن والسلام المُستدام.

وغالبًا ما تندرجُ المُطالبات بالعدالة في العناصر الأشدّ تعقيدًا والأكثر جدلًا من مُفاوضات السّلام. لكنَّ مُعالجة اعتداءات الماضي والاهتمام برؤى الضّحايا وتلبيةَ حاجاتهم أمورٌ أساسيّة تكفلُ إكسابَ عمليات السّلام والاتفاقات المُنبثقة عنها الموثوقيّة والشّرعيّة اللّازمتَيْن. هذا ومن شأنِ أُطر العمل الموضوعة بموجب اتفاقات السّلام أن تُحدّدَ أيضًا طبيعةَ تدابير العدالة الانتقاليّة المُحتملة ومداها للسنواتِ أو العقود القادمة.

دور المركز الدّولي للعدالة الانتقاليّة

يُولي المركز الدّولي للعدالة الانتقاليّة العدالة الأولويّة القُصوَى، وذلكَ طوالَ المراحل المختلفة من عمليات السلام. فنحنُ نُسدي المشورةَ والتوصيات المُتقنة والمبنية على تجاربنا المُقارنة، ونقومُ، أيضًا، مقامَ الشّريك الأساسيّ بالنسبة إلى الأطراف المعنية المُشاركة.

ففي السّياق السّوري، على سبيل المثال، أسدَيْنا المشورة التّقنية للمعارضة الرّسمية المُتمثّلة بهيئة التفاوض السّورية، وعملنا عن كثبٍ مع المجتمع المدني السّوري لمؤازرته في رفعِ مطالبات السّوريّين بالعدالة، وذلكَ من خلالِ الاجتماعات وحلقات العمل والمؤتمرات وخطّة التّواصل الاستراتيجيّة. أمّا في كولومبيا، فقد اضطلعَ المركز الدّولي للعدالة الانتقاليّة بدورٍ بنّاءٍ وموثوقٍ به خلال عمليّة السّلام الّتي أفضت إلى إبرام اتفاق السّلام في العام 2016 بينَ الحكومة والقوات المسلحة الثورية الكولومبية، حيثُ أسدَى المركز المشورة العمليّة في شأنِ المُمارسات الفُضلى الّتي يُمكن إدراجها في الاتفاق.

وفي أعقابِ مفاوضات السّلام، يدعمُ المركز الدّولي للعدالة الانتقاليّة تنفيذَ أيّ اتفاقِ سلامٍ مُبرمٍ على نحوٍ مُجدٍ ومتمركزٍ حولَ الضّحايا. ففي كولومبيا، على سبيل المثال، قدّمَ المركز الدّولي للعدالة الانتقاليّة الدّعمَ الحيويّ لمؤسساتٍ جوهريّة- ومنها المحكمة الخاصة للسلام، ولجنة جلاء الحقيقة والتعايش وعدم التكرار، والوحدة الخاصة بالبحث عن الأشخاص المُعتبرينَ مفقودين- وذلكَ بغيةَ التثبّتِ من قدرتها على أداءِ عملٍ مُجدٍ وعلى الصّمود في وجهِ التّحديات.

هذا ويُسلّطُ المركز الدّولي للعدالة الانتقاليّة الضوء على مسألة عمليات السّلام في معرضِ مُنتدَيات النّقاش والتّعليم الّتي يُقيمها وكذلكَ في تحاليل السّياسات والأبحاث الّتي يُجريها. فعلى سبيل المثال، خلالَ مُحاضرة “إيميليو مينيوني” السنوية الحادية عشر الّتي نظّمناها في العام 2020 بالشّراكةِ مع مركز حقوق الإنسان والعدالة العالميّة التّابع لكليّة الحقوق في جامعة نيويورك، طرحَ المُتحدّثُ الرّئيس ورئيس كولومبيا السّابق والفائز بجائزة نوبل للسلام، خوان مانويل سانتوس، أفكارًا نيِّرَة وقيِّمَة حولَ عمليّة السّلام الكولومبيّة واستخلصَ منها العبرَ المُفيدة للسياقات الأخرى. بالإضافة إلى ذلك، فإنّنا غالبًا ما نُقدِّمُ دروسًا مُكثّفة حولَ هذا الموضوع من إعدادِ المركز الدّولي للعدالة الانتقاليّة ومُوجّهة خصّيصًا لواضعي السّياسات ومُمارسيها.

وفي العام 2013، أصدرَ المركز الدّولي للعدالة الانتقاليّة، بالتّعاون مع مؤسّسة كوفي أنان، تقريرًا قيِّمًا ينظرُ في دور لجان الحقيقة في عمليات السّلام. فالتقريرُ الّذي حملَ عنوان، الخروج على المألوف: هل يسعُ لجان الحقيقة توطيدَ عمليات السّلام، يدرسُ حالاتٍ من مُختلفِ أنحاء العالم ليستخلصَ منها أكثر العبر أهميّة ومنفعةً لمفاوضات السلام في المُستقبل. وفي العام 2005، نشرَ المركز الدّولي للعدالة الانتقاليّة تحليلًا مؤثِّرًا عن تبعات نظام روما الأساسي للمحكمة الجنائيّة الدّولية على وسطاء السّلام، وشاركَ، كذلكَ، في تنظيمِ مؤتمرٍ حولَ مبادئ الأمم المتّحدة التوجيهيّة الخاصّة بالوسطاء.

——————————————-

 مفهوم “العدالة الانتقالية

يعد فهم العدالة الانتقالية أمرًا معقدًا بسبب تعدد أبعادها السياسية والاجتماعية والقانونية. يضاف إلى ذلك أن كل تجربة انتقالية تختلف حسب سياقها التاريخي والاجتماعي. وقد ازداد الاهتمام بهذا المفهوم في العالم العربي مع مرور عدة دول بمرحلة انتقالية بعد ثورات الربيع العربي، فأصبح هذا المفهوم مهمًا للدراسة والبحث.

أولًا: التعريف اللغوي:

العَدْلُ ضد الجور، (عَدَل، عدلًا، عدولًا)، يقال في حكمه عدل وعدالة: أي حكم بالعدل، عادل بين الشيئين: أي وازن بينهما وسوى الشيء بالشيء. والعدل هو الإنصاف؛ وهو إعطاء المرء ما له وأخذ ما عليه. والعدالة هي إحدى الفضائل التي قال بها الفلاسفة من قيم الزمان؛ وهي الحكمة والشجاعة والعفة والعدالة. يقال للرجل عدْل وللمرأة عدْل. وقد وردت في العديد من النصوص القرآنية والأحاديث النبوية التي تؤكد على أهمية إقامة العدل في كل مجالات الحياة، قال الله تعالى: “إِنَّ اللّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّواْ الأمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُم بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُواْ بِالْعَدْلِ” (النساء: 58). وقد استخدمت كلمة العدل والعدالة في أكثر من معنى باللغة العربية بيد أن أكثر استخدام لمعنى العدالة استقر في حقل حقوق الإنسان، ومن هنا وجدت رابطة صحيحة بين القانون الأخلاقي والعدالة، فهما مرتبطان لا ينفصلان وإن كانا مختلفين كل الاختلاف، فقاعدة العدالة مرتكزة على طبيعة الحوادث ذاتها، هذه الحوادث ليست أمورًا افتراضية اخترعها المشتركون وإنما حوادث حسبة مشاهدة.

أما الأصل المحدد لمفهوم العدالة الانتقالية فيتمثل في العدالة: حيث الاعتماد على ما يدركه الإنسان ذاته من القانون الأخلاقي، ذلك لأن القانون الأخلاقي هو الموجب على الإنسان احترام العدالة، أما الانتقالية: فهي اسم مؤنث منسوب إلى المصدر انتقل، فنقول حكومة انتقالية (السياسية) حكومة تتولى زمام الأمور فترة معينة حتى يعتمد نظام ثابت للحكم، ونقول أحكام انتقالية بـ (القانون) أي نصوص تشريعية مؤقتة ترعى الأحوال القائمة إلى أن يتم سن تشريعات دائمة. ونقل الشيء: حوله من موضع إلى موضع، والانتقال والتغيير من حال إلى حال، ومن موضع إلى آخر، فالانتقالي مكان غير دائم.

ثانيًا: التعريف الاصطلاحي للعدالة الانتقالية:

العدالة هي الاستقامة والمساواة أمام القانون، والإنصاف في الحقوق، وهناك شبه إجماع بين الباحثين في موضوع العدالة على أنها مجموعة القيم التي تراعى فيها حقوق الإنسان وترتبط بالحرية والإنصاف وتكافؤ الفرص، وهي القيم التي تجيب على قضايا الديمقراطية والإصلاح.

أما الانتقالية فتعني من الناحية الاصطلاحية، تحول المجتمعات من نمط معين إلى آخر، وهنا لابد من توضيح أن العدالة الانتقالية تختلف عن العدالة التقليدية في كونها تعنى بالفترات الانتقالية؛ مثل الانتقال من حالة نزاع داخلي مسلح إلى حالة السلم، أو الانتقال من حكم سياسي تسلطي إلى حالة الحكم الديمقراطي أو التحرر من احتلال أجنبي بتأسيس حكم سياسي تسلطي إلى حالة الحكم الديمقراطي أو التحرر من احتلال أجنبي بتأسيس حكم محلي بإتباع إجراءات إصلاحية معينة، ومن هذا المنطلق تعرف العدالة الانتقالية بأنها مجموعة من الأساليب والآليات التي يستخدمها مجتمع ما لتحقيق العدالة بفترة انتقالية في تاريخه، وتنشأ هذه الفترة غالبًا بعد اندلاع ثورة أو انتهاء حرب، ويترتب عليها انتهاء حقبة من الحكم الاستبدادي داخل البلاد والمرور بمرحلة انتقالية نحو تحول ديمقراطي. خلال هذه المرحلة تواجه المجتمع إشكالية مهمة جدًا وهي التعامل مع قضايا انتهاكات حقوق الإنسان سواء كانت حقوق جسدية أم قضايا سياسية أم اقتصادية.

ثالثًا: التعريف القانوني للعدالة الانتقالية:

لكون مصطلح العدالة الانتقالية حديث النشأة فقد تعددت تعاريفه، وسوف نتناول أهم التعريفات التي تناولته في النقاط التالية:

أ- تعرف العدالة الانتقالية على أنها: “إعادة إقامة القواعد التي تحكم العيش المشترك في المجتمع وتحديده، والعلاقة بين المواطن والمؤسسات، بمعنى آخر أن تؤسس لقواعد جديدة يكون على المؤسسات والأفراد احترامها”.

ب- أنها استجابة للانتهاكات الممنهجة أو الواسعة النطاق لحقوق الإنسان، تهدف إلى تحقيق الاعتراف الواجب بما يكابده الضحايا من انتهاكات وتعزيز إمكانية تحقيق السلام والمصالحة والديمقراطية، وهي نوع من المحاسبة والمسائلة يعيد ثقة المواطن في العقد الاجتماعي بينه وبين الدولة.

ج- تعريف الأمم المتحدة: “مجموعة كاملة من العمليات والآليات المرتبطة بالمحاولات التي يبذلها المجتمع لتفهم تركة من تجاوزات الماضي الواسعة النطاق، بغية كفالة المساءلة وإقامة العدالة وتحقيق المصالحة، وقد تشمل هذه الآليات القضائية وغير القضائية على السواء، مع تفاوت المشاركة الدولية (أو عدم وجودها مطلقا).

ه- العدالة الانتقالية طريق للمصالحة، وبناء لسلام دائم، والتعاون بين المحاكم الوطنية والمحاكم الجنائية، وسيكون من الممكن إجراء اتفاقات دولية، وخاصة إذا أفلتت الدول، ذلك إنهم يمثُلون تماما لالتزاماتهم القانونية، بما في ذلك وضع تشريعات داخلية، حسب الاقتضاء لتمكينها من الوفاء بالالتزامات الناشئة عن انضمامها إلى نظام روما الأساسي للمحكمة الجنائية (ICC) أو غيرها من الصكوك الملزمة.

ج- تعريف كل من “هوغوفانديرميروي” و”فكتوريا باكستر” و”اوردري تشابمان”، يشيرون إلى أن العدالة الانتقالية هي الاستجابات المجتمعة للقمع الشديد، العنف المجتمعي، وحقوق الإنسان النظامية، التي تسعى إلى إثبات الحقيقة حول الماضي، وتحديد المسائلة، وتقديم شكل من أشكال الانتصاف، على الأقل من طبيعة رمزية، أضف إلى ذلك أن العدالة الانتقالية توفر مساحة للتصدي، والتوافق مع شقاء الماضي في مجموعة متنوعة من السياقات، كما هو الحال في المستوطنات، أو مجتمعات الصراع.

رابعًا: نشأة وتطور مفهوم “العدالة الانتقالية”:

لقد تبلور مفهوم العدالة الانتقالية عبر مراحل مختلفة، أسهم كل سياق تاريخي خلالها في صياغة المفهوم لتصبح حقلا مستقلا، ويمكن تقسيم المراحل التاريخية لتطور المفهوم إلى ثلاث مراحل رئيسة:

المرحلة الأولى: يعد الكثير من الباحثين مرحلة ما بعد الحرب العالمية الثانية هي المرحلة الأولى لتشكل المفهوم، وذلك من خلال محاكم نورمبورغ Nuremberg وطوكيو Tokyo؛ التي تمثل إنجازها في الاعتراف بالجرائم ضد الإنسانية، في شكل يؤسس لعدالة بعيدة عن الانتقام، ورغم كل الملاحظات التي طالت محاكم ما بعد الحرب العالمية الثانية، فلا يخفى دور تلك المحاكم في تطوير الجنائية الدولية؛ إذ تمكنت من تعزيز الوعي الحقوقي على المستوى الدولي، عبر تأسيسها للبنية القانونية والتنظيمية لفكرة حقوق الإنسان.

المرحلة الثانية: ارتبطت تلك المرحلة لتطوير مفهوم العدالة الانتقالية بتسارع مرحلة الديمقراطية Democratization، والتحول السياسي التي عاشته الكثير من الدول، خلال الحرب الباردة، وحتى نهاية الثمانينيات، والتي شهدت حالات صراع داخلي وجرائم ضد الإنسانية متأثرة بالصراع الدولي. تميزت هذه المرحلة بانتشار لجان الحقيقة، فكان أول إنشاء لها في أوغندا عام 1974م تحت اسم لجنة التحقيق في الاختفاء القسري، ثم في بوليفيا سنة 1982م، وكذلك في الأرجنتين سنة 1983م للتحقيق في مصير ضحايا الاختفاء القسري، إبان الحكم العسكري بين 1976م و1983م.

المرحلة الثالثة: عدت مرحلة تشكل مفهوم العدالة الانتقالية بعد نهاية الحرب الباردة؛ إذ شاع استخدام المصطلح بين عدد من الأكاديميين الأمريكيين، لوصف الطرائق المختلفة التي عالجت بها البلدان مشاكل وصول أنظمة جديدة إلى السلطة، ومواجهتها للانتهاكات الجسيمة للحكومات السابقة، في هذه المرحلة أضحى مفهوم العدالة الانتقالية أكثر استقرارًا؛ إذ أصبحت أهداف المفهوم ووسائله ونهجه أوسع، فتضمن دور العدالة الانتقالية في مرحلة ما بعد الصراع تنظيم العلاقات وقت السلم.

خامسًا: مراحل العدالة الانتقالية:

تمر العدالة الانتقالية بعدة مراحل متكاملة تعمل معًا لتحقيق الأهداف المرجوة منها. وفيما يلي عرض لهذه المراحل:

    مرحلة الحقيقة: تتضمن الكشف عن الحقائق المتعلقة بالانتهاكات التي وقعت في الماضي. يهدف هذا إلى توفير الاعتراف الرسمي بما حدث للضحايا، وتوثيق الجرائم، وإعطاء الفرصة للمجتمع لفهم الماضي بوضوح. في هذه المرحلة، قد تُنشأ لجان الحقيقة والمصالحة التي تعمل على جمع شهادات الضحايا والجناة، وتقديم تقارير توثق الجرائم والانتهاكات.

    مرحلة المساءلة: تتمثل في محاكمة مرتكبي الجرائم والمسؤولين عن الانتهاكات. قد تشمل هذه المحاكمات الأفراد الذين ارتكبوا الجرائم بشكل مباشر أو المسؤولين الحكوميين الذين كانوا وراء تلك الانتهاكات. العدالة الجنائية تعتبر جوهرية في تحقيق العدالة الانتقالية، وتساهم في إنهاء الإفلات من العقاب.

    مرحلة التعويض: تهدف إلى تقديم تعويضات للضحايا سواء مادية أم معنوية. قد يشمل ذلك تقديم التعويضات المالية للمتضررين أو توفير الرعاية الصحية والنفسية لهم. كما قد يشمل إعادة الممتلكات التي تم مصادرتها أو الاعتذار العلني للضحايا.

    مرحلة الإصلاحات المؤسسية: تشمل هذه المرحلة تعديل القوانين والسياسات وإصلاح المؤسسات الحكومية لضمان عدم تكرار الجرائم والانتهاكات. يُعتبر إصلاح النظام القضائي والأمني من أهم عناصر هذه المرحلة لضمان عدم وقوع المزيد من التجاوزات والانتهاكات في المستقبل.

سادسًا: نماذج دول مرت بتجارب عدالة انتقالية:

مرت عدة دول بتجارب في العدالة الانتقالية، خصوصًا في أعقاب الثورات أو التغيرات السياسية الكبيرة. ومن أبرز هذه التجارب:

    شهدت الأرجنتين أعمال قمع واسعة النطاق تحت الحكم العسكري بين 1976 و1983، قضى فيها نحو 15 ألف شخص وعُدَّ ضعفهم مفقودين، وبلغ عدد السجناء الذين أُفرج عنهم بعد التحول الديمقراطي تسعة آلاف، في حين دَفعت سياسات القمع مليون ونصف المليون شخص إلى اللجوء، وبعد التحول السياسي عام 1983، أنشأ الرئيس ألفونسان لجنة وطنية للتحقيق ضمت حقوقيين ومنظمات أهلية وممثلين عن الكنيسة، وكانت الأولى من نوعها في العالم، وأسندت إليها مهمة التحقيق في الماضي الحقوقي للبلاد وكشف الجرائم المرتكبة ومنفذيها والمسؤولين عنها، ووضع الآليات الكفيلة بمنع وقوعها في المستقبل، وتُوّج ذلك المسار بمحاكمة أبرز قيادات النظام العسكري والحكم عليهم في 1986، لكن خليفة ألفونسان في الحكم كارلوس منعم، يُصدر عفوا عاما عن العسكريين في 1989.

    شهدت جنوب أفريقيا هي الأخرى تجربة العدالة الانتقالية بعد إلغاء نظام التمييز العنصري عام 1991، وشُكلت لجنة الحقيقة والمصالحة بقيادة القس ديزموند توتو، وعلى مدى ثلاث سنوات استمعت اللجنة لشهادات الآلاف من ضحايا “الأبارتايد”، وحُكم على الآلاف من المسؤولين وعناصر الشرطة، واستفاد آخرون من العفو الذي كان مشروطا بالاعتراف بالجريمة والتأكد من أنَّها ارتُكبت عن “حسن نية”، ومع ذلك فإنَّ تجربة جنوب أفريقيا تعثرت لعدم نفاذ العدالة وطول الإجراءات.

    تونس: تعتبر تونس واحدة من الدول العربية التي نجحت نسبيًا في تطبيق العدالة الانتقالية بعد الثورة التونسية عام 2011. أنشأت تونس هيئة الحقيقة والكرامة في عام 2013 للتحقيق في انتهاكات حقوق الإنسان التي ارتكبت بين عامي 1955 و2013. عملت الهيئة على توثيق الانتهاكات وجمع شهادات الضحايا والجناة، مع تقديم توصيات للإصلاحات المؤسسية والتعويضات للضحايا.

    ليبيا: بعد سقوط نظام القذافي في عام 2011، واجهت ليبيا تحديات كبيرة في محاولة تطبيق العدالة الانتقالية. على الرغم من محاولات محاكمة رموز النظام السابق وتقديم الجناة للمساءلة، إلا أن استمرار الصراع المسلح في ليبيا حال دون تحقيق تقدم كبير في هذا المجال.

    دشَّن المغرب، بعد جلوس الملك محمد السادس على العرش عام 1999، مسار عدالة انتقالية، كان هدفه إلقاء الضوء على الانتهاكات الجسيمة لحقوق الإنسان التي شهدتها البلاد بين 1956-1999، والتي تُعرف “بسنوات الرصاص”، وفي عام 2004 شُكَّلت لجنة الإنصاف والمصالحة، حيث استمعت لشهادات مئات الضحايا رغم أنَّه كان مفروضا على الشهود عدم ذكر أسماء جلاديهم، وهو ما جلبَ على التجربة الكثير من النقد، لا سيما في غياب أي محاكمة للضالعين في الانتهاكات، وإن كان يُحسب للتجربة إلقاء الضوء على تلك الحقبة المظلمة من تاريخ البلد، عُوّض الضحايا ماديا، وفضلا عن ذلك فإن التجربة عزَّزت حضور الهمّ الحقوقي في المشهد العام بالبلاد من خلال توصيات اللجنة، خاصة ما يتعلق منها بخلق هيئات للرقابة والرصد وتشجيع المجتمع المدني.

سابعًا: التحديات التي تواجه تطبيق العدالة الانتقالية في العالم العربي:

رغم النجاحات التي تحققت في بعض الدول، فإن هناك العديد من التحديات التي تواجه تطبيق العدالة الانتقالية في العالم العربي. من أبرز هذه التحديات:

    استمرار الصراع المسلح: في العديد من الدول العربية، مثل سوريا واليمن، لا تزال الصراعات المسلحة قائمة، مما يعوق أي جهود نحو تحقيق العدالة الانتقالية. الصراعات تمنع الوصول إلى الحقيقة، وتحول دون إمكانية محاسبة الجناة أو تعويض الضحايا.

    ضعف المؤسسات القضائية: العديد من الدول التي تمر بمرحلة انتقالية تعاني من ضعف في النظام القضائي، وهو ما يشكل عائقًا أمام تحقيق العدالة. عدم استقلالية القضاء أو عدم وجود بنية تحتية قانونية قوية يعيق جهود المحاسبة.

    التوترات السياسية: التوترات السياسية بين الفصائل المختلفة في بعض الدول تجعل من الصعب تحقيق التوافق على آليات العدالة الانتقالية. هذا قد يؤدي إلى إعاقة العمليات القضائية أو تشكيل لجان الحقيقة والمصالحة.

ثامنًا: مفهوم العدالة الانتقالية في الشريعة الإسلامية:

من المهم أن نلاحظ أن مفهوم العدالة –بصفة عامة- ليس غريبًا عن الشريعة الإسلامية، بل هو من الأسس الجوهرية التي بُنيت عليها المبادئ الإسلامية، في الشريعة الإسلامية. يشكل مفهوم العدالة جزءًا لا يتجزأ من النظام الأخلاقي والقانوني، فالعدالة ليست فقط قيمة اجتماعية، بل هي من أهم القيم الدينية التي دعا إليها الإسلام. القرآن الكريم والسنة النبوية يقدمان أدلة كثيرة على وجوب تحقيق العدالة، سواء في العلاقات الاجتماعية أم السياسية أم القضائية.

1. العدالة كمبدأ أساسي في الإسلام:

الإسلام يُعلي من شأن العدالة ويعتبرها أساس الحكم الصالح. يقول الله سبحانه وتعالى في القرآن: “إِنَّ اللّهَ يَأْمُرُكُمْ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ” (النحل: 90). فالعدالة لا تقتصر فقط على النزاعات الفردية أو الصغيرة، بل تشمل الحكم بين الناس، سواء في الأمور الكبيرة أو الصغيرة. العدالة هنا ليست فقط في معاقبة الجاني، بل في تحقيق التوازن بين الحقوق والواجبات، ورد الحقوق إلى أصحابها، ومنع الظلم والاستبداد.

2. القصاص والعقوبات في الشريعة الإسلامية:

أحد جوانب العدالة في الإسلام يتمثل في القصاص والعقوبات التي يقرها الشرع. القصاص هو نظام عقوبات يضمن أن الجاني يُعاقب بما يعادل جريمته، كما ورد في قوله تعالى: “وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَا أُولِي الأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ” (البقرة: 179). وهذا النظام يشمل الجرائم الكبرى مثل القتل أو الاعتداء الجسدي، وهو جزء من تحقيق العدالة الانتقالية من خلال المحاسبة، إضافة إلى القصاص، توفر الشريعة آليات أخرى للعقوبة تهدف إلى تحقيق الردع والإصلاح. الحدود، على سبيل المثال، هي عقوبات محددة شرعًا للجرائم الكبرى مثل الزنا والسرقة، والتي تهدف إلى الحفاظ على النظام العام. في هذا السياق، يمكن رؤية نظام العقوبات في الإسلام كآلية للعدالة الانتقالية من خلال المساءلة عن الجرائم والانتهاكات.

3. التوبة والعفو كجزء من العدالة الانتقالية:

في الشريعة الإسلامية، لا تقتصر العدالة على العقاب والمساءلة، بل تتضمن أيضًا جوانب من التوبة والعفو. الإسلام يُشجع على التسامح والعفو عن الجناة الذين يعترفون بأخطائهم ويطلبون الصفح. يقول الله تعالى: “فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ” (الشورى: 40). هذا البُعد من العدالة يمكن أن يتجلى في العدالة الانتقالية من خلال تسهيل المصالحة بين الأطراف المتنازعة، مع التركيز على إعادة بناء الثقة الاجتماعية، في هذا الإطار، تبرز مفاهيم التوبة والإصلاح كمبادئ مركزية. الجاني الذي يعترف بجريمته ويتوب قد يُمنح فرصة للعفو إذا كانت هناك نية صادقة للإصلاح، وهذا يتماشى مع أهداف العدالة الانتقالية في تحقيق المصالحة الوطنية وإعادة بناء المجتمع.

4. رد الحقوق والتعويض في الشريعة الإسلامية:

الشريعة الإسلامية تشدد على ضرورة رد الحقوق إلى أصحابها كجزء من تحقيق العدالة، وهذا المبدأ يتوافق مع أحد أركان العدالة الانتقالية المتمثل في تعويض الضحايا، الإسلام يُلزم الجاني بتعويض ضحاياه، سواء كان ذلك تعويضًا ماليًا (مثل الدية في حالة القتل) أم إعادة الممتلكات التي سُلبت بغير حق، وتعويض الضحايا في الإسلام يشمل جوانب مادية ومعنوية، وهو ما يتماشى مع مفهوم العدالة الانتقالية الحديثة. يقول النبي صلى الله عليه وسلم: “من كانت له مظلمة عند أخيه من عرضه أو شيء، فليتحلل منه اليوم قبل ألا يكون دينار ولا درهم”، مما يوضح أهمية رد الحقوق وإقامة العدل.

5. الإصلاح المؤسسي في ضوء الشريعة الإسلامية:

من المبادئ التي يدعو إليها الإسلام أيضًا الإصلاح المؤسسي لضمان أن العدالة تتحقق بشكل دائم ومستدام. الإصلاح المؤسسي يشمل إصلاح القضاء والنظام الإداري، وضمان استقلالية القضاء لتحقيق العدالة، وهو جزء أساسي من العدالة الانتقالية، والشريعة الإسلامية تشجع على تأسيس نظام حكم يقوم على العدل والشورى، كما أن النبي صلى الله عليه وسلم والخلفاء الراشدين أقاموا نظام حكم يقوم على هذا الأساس. كما جاء في حديث رسول الله: “كلكم راع وكلكم مسؤول عن رعيته”، وهو ما يعكس أهمية مساءلة الحكام والمسؤولين وتحقيق العدالة.

6. العدالة الانتقالية في التاريخ الإسلامي:

شهد التاريخ الإسلامي العديد من الفترات التي يمكن أن تعتبر تطبيقًا عمليًا لمفهوم العدالة الانتقالية. على سبيل المثال، بعد الفتوحات الإسلامية، تعامل المسلمون مع الشعوب المفتوحة بطريقة تضمن حقوقهم وحمايتهم، كما حدث في صلح الحديبية وفتح مكة، ففي فتح مكة، قرر الرسول صلى الله عليه وسلم العفو عن معظم المشركين الذين حاربوه، وقال كلمته الشهيرة: “اذهبوا فأنتم الطلقاء”، مما يمثل مثالًا على المصالحة والعفو كجزء من العدالة الانتقالية.

7. العدالة الانتقالية من منظور المقاصد الشرعية:

المقاصد الشرعية تقدم إطارًا واسعًا لتحقيق العدالة، حيث تهدف الشريعة إلى حماية الدين، النفس، العقل، النسل، والمال. العدالة الانتقالية، التي تسعى إلى إصلاح ما أفسدته الفترات السابقة، تتفق مع هذه المقاصد من خلال حفظ النفس والعقل وكرامة الإنسان. من هنا، يمكن القول إن العدالة الانتقالية في الشريعة الإسلامية ليست مجرد أدوات قانونية، بل هي جزء من نظام أوسع يسعى لتحقيق التوازن والعدل في المجتمع.

تاسعًا: العدالة الانتقالية بين الشريعة الإسلامية والقانون:

ترتبط بعلاقة تكاملية ومقارنة بين الأطر القانونية الحديثة المستندة إلى القانون الوضعي، والأطر الدينية القائمة على الشريعة الإسلامية. ويمكن توضيح العلاقة بينهما من خلال عدة جوانب:

1. الأساس القيمي والتشريعي:

في الشريعة الإسلامية: العدالة تمثل قيمة جوهرية محورية في الشريعة الإسلامية، وهي أساس الحياة الاجتماعية والسياسية والاقتصادية. القرآن الكريم والسنة النبوية يشتملان على مبادئ قانونية وأخلاقية تؤكد على ضرورة تحقيق العدل والمساواة بين الناس، سواء في فترات السلم أم في فترات النزاع والتحول.

في القانون الوضعي: العدالة الانتقالية كإطار قانوني ظهر في العصر الحديث كنتيجة لتجارب العديد من الدول التي واجهت صراعات سياسية وانتهاكات لحقوق الإنسان. تقوم العدالة الانتقالية في القانون الوضعي على مبادئ مثل المحاسبة، الإصلاح، والتعويض.

2. مبادئ العدالة الانتقالية:

في الشريعة الإسلامية: تقوم على تحقيق العدالة من خلال القصاص، رد الحقوق إلى أصحابها، وضمان المصالحة والتسامح. تُشجع الشريعة أيضًا على العفو عند المقدرة والإصلاح الاجتماعي والسياسي من خلال إعادة بناء النظم والمؤسسات وفقًا لمبادئ الشورى والمساواة.

في القانون الوضعي: ترتكز العدالة الانتقالية على أربع ركائز رئيسية: المحاسبة على الجرائم، الحقيقة، التعويض، والإصلاح المؤسسي. تهدف هذه المبادئ إلى ضمان محاسبة الجناة على الجرائم المرتكبة ضد حقوق الإنسان، واستعادة حقوق الضحايا، وبناء مستقبل يعتمد على حكم القانون.

3. التركيز على حقوق الضحايا:

في الشريعة الإسلامية: يُعطي الإسلام أهمية كبيرة لحماية حقوق الأفراد والضحايا. نظام القصاص، الذي يهدف إلى تحقيق العدل من خلال المعاملة بالمثل، يُمكن أن يُطبق جنبًا إلى جنب مع مبادئ العفو والتسامح في الشريعة، مما يوفر توازنًا بين تحقيق العدالة والمصالحة.

في القانون الوضعي: يُعتبر تعويض الضحايا أحد الأركان الأساسية للعدالة الانتقالية. يُركز القانون الوضعي على توفير تعويضات مادية ومعنوية للضحايا، بالإضافة إلى ضمان حقوقهم من خلال التحقيق في الجرائم التي ارتكبت ضدهم.

4. المساءلة والمصالحة:

في الشريعة الإسلامية: المساءلة تتم من خلال نظام العقوبات الإسلامية مثل الحدود والقصاص، ولكن مع قد يتم إعطاء فرصة للجناة للتوبة والإصلاح. كما أن الإسلام يُشجع على المصالحة والعفو كجزء من العدالة.

في القانون الوضعي: تتم المساءلة من خلال محاكمات عادلة ومحاسبة الجناة على الانتهاكات التي ارتكبوها. المصالحة قد تأتي من خلال إجراءات رسمية مثل لجان الحقيقة والمصالحة، التي تعمل على كشف الحقيقة وإعادة بناء العلاقات بين الضحايا والجناة.

5. الإصلاح المؤسسي:

في الشريعة الإسلامية: الشريعة تقر إصلاح المؤسسات وتؤصل لضمان نزاهتها وعدالتها، سواء كان ذلك من خلال النظام القضائي أم النظام السياسي. يتجلى هذا الإصلاح في الشورى ومبدأ المساواة بين الجميع أمام القانون.

في القانون الوضعي: العدالة الانتقالية تسعى إلى إصلاح المؤسسات الأمنية والقضائية والسياسية لضمان عدم تكرار الانتهاكات السابقة، وتعزيز الثقة بين الحكومة والشعب.

6. التطبيق العملي

في الشريعة الإسلامية: هناك العديد من الأمثلة التاريخية التي تُظهر تطبيق العدالة الانتقالية في الإسلام. من أبرزها فتح مكة، حيث تم العفو عن الخصوم وتحقيق المصالحة العامة.

في القانون الوضعي: العدالة الانتقالية تُطبق في مراحل ما بعد الصراعات السياسية أو الحروب الأهلية، مثلما حدث في جنوب أفريقيا ورواندا وتونس، حيث تم تأسيس لجان حقيقة ومصالحة، ومحاكمات للجرائم المرتكبة خلال الفترات السابقة.

وإجمالًا؛

 العلاقة بين العدالة الانتقالية في الشريعة الإسلامية والقانون الوضعي تتسم بالتكامل في كثير من جوانبها. الشريعة الإسلامية تُقدم إطارًا أخلاقيًا وقانونيًا يعزز من تحقيق العدالة والمصالحة، بينما القانون الوضعي يُقدم أدوات ومؤسسات حديثة تضمن تحقيق هذه الأهداف في سياقات معاصرة. كلا المنهجين يهدف إلى تحقيق العدالة والإنصاف، مع اختلاف في الآليات والمفاهيم المستخدمة.

_________________

المصادر:

    لمحة عن العدالة الانتقالية وحقوق الإنسان، المفوضية السامية لحقوق الإنسان، https://bit.ly/42FFfk6

    العدالة الانتقالية، الجزيرة نت، 18 نوفمبر 2015، https://bit.ly/3WIsCRG

    العدالة الانتقالية والعزل السياسي … في سؤال وجواب، مركز القاهرة لدراسات حقوق الإنسان، https://bit.ly/40XzpcC

    العدالة الانتقالية والعدالة الانتقامية، الجزيرة نت، 1 نوفمبر 2012، https://bit.ly/3Q6RRsV

    مفهوم العدالة الانتقالية، الموسوعة السياسية، https://bit.ly/4aPbbof

    مني أبو الدهب، الإبداع في العدالة الانتقالية: تجارب من المنطقة العربية، معهد بروكينجز الدوحة، 24 نوفمبر 2020، https://bit.ly/4hzoBHL

    العدالة الانتقالية والانتقال الديمقراطي في البلدان العربية، المجلد الأول: حالات عربية ودولية، المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، 14 أغسطس 2022، https://bit.ly/40W2xAR

    أحمد على الأطرش، العدالة الانتقالية والمصالحة الوطنية في ليبيا: جدلية الأولويات، مركز الجزيرة للدراسات، 6 أكتوبر 2021، https://bit.ly/3CBPw6h

    ياسر حسن، العدالة الانتقالية: دراسة فقهية، استراتيجيات العدالة والتنمية المؤتمر الدولي لكلية الأداب جامعة المنيا السادس والثلاثون، https://bit.ly/3Q2hICC

    ابتسام بو معزة، مدى مشروعية العدالة الانتقالية في الفقه الإسلامي، مجلة جامعة الأمير عبد القادر للعلوم الإسلامية، العدد 38، 24 يوليو 2024، https://bit.ly/40WpGDp

———————————-

إعداد موقعنا “صفحات سورية”

إشكالية تطبيق العدالة الإنتقالية.. دراسة نظرية ومفاهيمية/ د. علي عبد الخضر المعموري

    تعد العدالة الإنتقالية بشكلها الحالي من المفاهيم الحديثة من حيث المفهوم والنشأة، والتي تم بلورتها من خلال تجارب وممارسات مرت بها الكثير من البلدان، والذي يعد بحد ذاته تطوراً للمفهوم، اضف الى ذلك اضافات ومساهمات الفقهاء والكتاب في هذا الشأن…

   تبين نظريات الدراسة في كل موضوع، بحث كل ما من شأنه ان يرتقي بموضوع الدراسة، ويؤطر المفاهيم النظرية له كالأفكار والمعلومات والمفاهيم والآراء، بحيث تقدم بالإضافة الى كل ما سبق أطر عامة ونماذج سابقة، حيث تنبع أهميتها من انها تقدم مدخلاً لموضوع الدراسة في ما يخص الإضافة العلمية، كما تقوم بتبيان العلاقة العلمية بين المتغيرات البحثية النظرية والعلمية، أضف الى ذلك، تقوم بتوليد مفاهيم ابداعية جديدة والاطلاع على الكثير من الخبرات المستقاة من نظريات الدراسة لا سيما السابقة منها والخاصة في موضوع الدراسة.

كما يجب ان تكون الدراسة موضوع البحث بالإستفادة من الدراسات السابقة ذات العلاقة المباشرة من حيث كم الإجراءات المتبعة فيه، والذي يتم التأكيد على تلك الإجراءات التي تميز الدراسة موضوع البحث عن غيرها من الدراسات الأخرى، حيث تقوم الدراسات السابقة بتقديم التغذية الإسترجاعية من خلال الاطلاع على الدراسات والكتابات السابقة، والتعرف على مجمل الأخطاء التي من الممكن ان لا تظهر مسبقا في الدراسة وعملية الإجراءات المتعارف عليها والمتبعة ضمن الدراسات السابقة ومحاولة الوصول الى اقصى استفادة منها.

بناءً على كل ماذكر آنفاً، نجد أن من اهم شروط الدراسة بصفتها العامة ان تحتوي على نظريات للدراسة ودراسات سابقة مرتبطة بشكل علمي واكاديمي من حيث تخصص موضوع الدراسة وتوجهاتها وكذلك بالهدف الموصول للدراسة، وكل ذلك مرتبط بصورة مباشرة بطريقة واسلوب كتابة الدراسة والتي يمكن ان تقدم تأثراً وانعكاساً بالدراسات السابقة وغيرها.

اهم النماذج النظرية لمفهوم العدالة الانتقالية

تعد العدالة الإنتقالية بشكلها الحالي من المفاهيم الحديثة من حيث المفهوم والنشأة، والتي تم بلورتها من خلال تجارب وممارسات مرت بها الكثير من البلدان، والذي يعد بحد ذاته تطوراً للمفهوم، اضف الى ذلك اضافات ومساهمات الفقهاء والكتاب في هذا الشأن، إلا أن الغالب في إطاره العام بدأت العدالة الإنتقالية بالتشكل منذ ثمانينات القرن الماضي، والتي سميت بهيئات المصالحة والحقيقة والإنصاف والتي كانت نتيجة تقاطع اعمالها المشتركة فيما بينهم، وبذلك تتأتى العدالة الإنتقالية من عدة نظريات مستندة من قبل الكثير من الفقهاء.

إن من أهم ما تثار في اطار العدالة الإنتقالية ان هناك عدة اشكاليات في نماذجها النظرية، وابرزها تلك الإشكاليات المرتبطة بالمجال المعرفي والذي ينتمي اليه مفهوم العدالة الإنتقالية ذاته، إذ تعد في الأساس الدراسات الخاصة بحقل العدالة الإنتقالية بشكلها التقليدي الى حقوق الإنسان في اطار القانون الدولي، ومع التوسع الحاصل في تطبيق المفهوم توسع المفهوم ليشمل العديد من الأهداف والآليات تنتمي الى مجالات علمية وبحثية اخرى مع اسهامات علماء القانون وعلماء السياسة والإجتماع والمؤرخين وعلماء الأنثروبولوجي والناشطين في مجال حقوق الإنسان والصحافة ورجال الدين، حيث تعكس كل تلك الممارسات مجتمعة التطورات الحاصلة في العدالة الإنتقالية كنظرية، اذ تعكس كل تلك الممارسات التطورات المستمرة والأجندة البحثية في العدالة الانتقالية وجميع النظريات المرتبطة بها من وجهة تحقيق العدالة، الحصانة وجهود اعادة حكم القانون ولجان الحقيقة وغيرها.

العدالة الاصلاحية

يلقي مفهوم العدالة الإصلاحية اهتماماً خاصاً في مجمل القضايا والموضوعات ذات الإهتمام المشترك في محاولات تطبيق العدالة الإنتقالية، لا سيما ان العدالة الإصلاحية هي المعيار الذي يحدد فيما نجحت او لم تنجح العدالة الإنتقالية برمتها لأنها مرتبطة بصورة مباشرة بجبر الضرر للضحايا واستعادة حقوقهم وإدانة المجرمين الذين تسببوا بذلك، ولأن العدالة الإصلاحية تركز على الطرق والتي من خلالها تؤذي الجريمة الواقعة على العلاقات بين الناس المكملين للمجتمع نفسه، وقياس الضرر وحجمه والذي يجب اصلاحه وتجنب وقوعه في المستقبل.

سبق وان تم ذكر ان العدالة الإنتقالية من حيث النظرية والتطبيق مقيداً بتقيد حداثة ظهوره، حيث ان تطور الإطار النظري جاء نتيجة التطور العملي له، وهو بهذا يجعل منه محط تطبيق أكثر من كونه محل نظرية واصبحت الدراسات فيما بعد نتيجة حتمية لكل ذلك، لاسيما موضوع العدالة الإصلاحية الذي يعد جزءاً مهما من محور العدالة الإنتقالية. يهدف هذا النوع من العدالة الى تقييم تجربة العدالة الإنتقالية بإصلاح المؤسسات الى أنهكها القمع والإستبداد والفساد وتحقيق هذا الهدف من خلال معالجتها بالشكل الذي يضمن عدم تكرار جميع الإنتهاكات التي شابت تلك المؤسسات أبان الفترات السابقة وإرساء دولة القانون وإحترام حقوق الإنسان.

وبالنسبة للعدالة الإصلاحية فإن حقيقة الأمر تبرز ان عملية الوصول الى تعريف محدد وجامع له أمر صعب المنال، ذلك ان المفهوم يخضع الى التطور المستمر حيث يشبه في تطوره مفهومي العدالة والديمقراطية من حيث التطور، وهذا التطور يجعل من الصعوبة بمكان على اتفاق محدد له، الا انه وبالوقت ذاته يوجد عدة محاور رئيسية يمكن من خلالها فهم العدالة الإصلاحية مثل الإصلاح وإعادة هيكلة العلاقات ذات الشأن والمواجهة، وكما تتضمن عدة مبادئ يمكن الإعتماد على تطبيقها كالاستمرار في العمل على اعادة التفكير في ادوار كل من المجتمع والحكومة في ارساء عملية العدالة والعمل المستمر على علاج الضحية والجاني وارساء ذلك من خلال المجتمع ومشاركة كل من الضحية والجاني والمجتمع بكافة منظماته.

ومن خلال كل ما ذكر فإن هناك عدة أطراف في عملية العدالة والتي يشكلون اساس تكوين تلك العملية حيث يقوم كل بدوره في هذا الشأن، فعملية العدالة الإصلاحية لا تقع فقط على الحكومة ونهمل الأطراف الأخرى كالجاني والضحية فهي عملية تفاعلية تخضع الى مجموعة من القواعد القانونية والقيم الأخلاقية من اجل اعادة الحقوق وجبر الضرر للضحايا ومحاسبة الجناة عما ارتكبوه من إعتداءات ودراسة الأسباب والعوامل المؤدية الى ذلك الإعتداء ضمن وحدة واحدة في المجتمع الذي ينتمون اليه. فالضحايا هم الاشخاص الذين تم تعرضهم لأي شكل من اشكال الأذى من الجاني، ويقسمون أما الى ضحايا اساسيين ممن وقعت عليهم الجريمة بصورة مباشرة، او ينتمون الى المستوى الثاني وهم عادة من عوائل أو أقارب الضحايا الأساسيين، وبغض النظر عن كل ذلك فأن الأضرار التي لحقت بالضحايا بكافة أوضاعهم والتي تختلف من مستوى الى اخر فأنهم يشتركون بأن لديهم احتياجات مشتركة فيما بينهم تتمثل في الحاجة الى اعادة بناء حياتهم والسيطرة عليها، والإقرار بحق حقوقهم المسلوبة، فمجرد اطلاق صفة الضحية بحد ذاته يعد وصفاً خاضعاً لتجربة فقدان السيطرة على مجمل الحياة، وعلى هذا فإن الضحايا بحاجة ملحة الى الشعور في كونهم شركاء رئيسيون في عملية التفاعل لتحقيق العدالة.

والحقيقة ان الأخذ بأساليب العدالة الإصلاحية من الممكن ان يترتب عليه إحداث تغيرات جذرية ونقلة نوعية في المفاهيم الإجتماعية والتي أرسيت في المجتمع لفترات زمنية طويلة، الأمر الذي يؤدي بالضرورة القصوى الى إحداث تغييرات في التشريعات والعقليات والسلوكيات التي تضطر الى التعامل مع تلك الملفات، اي يجب ان يواكب عمليات الأخذ بطرق وأساليب العدالة الإصلاحية عمليات توعية مدروسة بعناية في مجال الإعلام والسوشيال ميديا، يتم من خلالها شرح الفوائد المستوحاة منها في إطار الأفراد والمجتمعات من قبل المختصين والخبراء في هذا المجال، بشرط ان يتم كل ذلك ضمن إطار الخطط الستراتيجية الموضوعة على الأمد الطويل حتى لا يمكن الافتراض من قبل البعض ان تلك الأفكار والأساليب مستوحاة أو منقولة من التجربة الخارجية.

ان من اهم الأسس التي تقوم عليها العدالة الإصلاحية هو افساح المجال لعدد أكبر من الأطراف المعنيين من اجل المساعدة في تضميد الجراح واطلاق الإصلاح حيث من الممكن ان تعطي قيمة اكبر للمشاركة لتلك الأطراف فبالنسبة للضحايا تعتبر مشاركتهم في جزء من الخطوات الإجرائية تعويضاً لهم في اوقات فقدهم على مجمل أمور حياتهم حيث تمنحهم فرصاً أكثر لإستعادة قوة شخصيتهم من خلال افصاحهم عن متطلباتهم واحتياجاتهم، كما يعتبر الإعتراف الكامل الطوعي بالذنب من الجناة طريقة ذات أهمية بالغة، ليس بالنسبة لتعويض المتضررين من الجرائم التي قاموا بها المجرمين، ولكن ايضاً من اجل بناء نموذج شخصي قيم يلعب فيه الجاني دورا بشكل أكبر، كما يقوم بتحمل المسؤولية الشخصية عن جميع أفعاله ومن بعدها يبدأ العمل بصورة اكثر مهنية لإصلاح الضرر الذي ألحقه بالضحايا والمجتمع، كما يتم تصويب الأمور على قدر المستطاع، ومن الضروري بعد ذلك يتم اشراك المجتمع من خلال تنسيقية أو ممثلية في عملية إجراءات التسوية والتي تساعد على استقرار المجتمع وتراصه.

العدالة الجنائية

لقد عرفت العدالة الجنائية على أنها عبارة عن منظومة متكاملة يحاول العاملون في المجال الجنائي من خلالها الوصول الى مجتمعات عادلة وآمنة ومعافاة من الجريمة، والحقيقة أن نظام العدالة الإنتقالية هو نظام يقوم على الالتزام وذلك من خلال التمسك بحماية حقوق الإنسان من خلال تسيير سبل العدالة وكذلك منع الجريمة ومكافحتها، حيث تكون الدولة الجهة المسؤولة في المقام الأول عن إقامة نظام ثابت وقوي من اجل منع الجريمة وتحقيق العدالة الجنائية والتي يجب ان تتسم بالإنصاف والإنسانية والفعالية والمساءلة، كما تكون ملزمة على السعي في استخدام معايير الأمم المتحدة وقوانينها في منع الجرائم بعدها مبادئ عامة توجيهية يهتدى بها في تنفيذ إجراءاتها وقوانينها وبرامجها وسياساتها الوطنية والتي تتعلق بمنع الجرائم وتأمين التوجهات العامة للعدالة الجنائية. وهنا يأتي العامل الحاسم في تقديم التعزيز لإمكانيات العاملين في تنفيذ القانون والذي يأتي من خلال المساعدة الفنية وتبادل الخبرات، وكذلك بناء القدرات وجميع المعلومات على كافة المستويات الداخلية والإقليمية والدولية، ومن خلال هذا تقوم الأمم المتحدة بعقد مؤتمرات كل خمس سنوات والتي يطلق على تسميتها (مؤتمرات الأمم المتحدة الخاصة بمنع الجريمة والعدالة الجنائية)، والذي يحضره الكثير من الممثلون عن الدول من قضاة وادعاء عام واساتذة جامعات ووزراء وقادة أمنيين وشرطة ومختصون في الشؤون الإجتماعية، بالإضافة الى منظمات دولية واقليمية ومجتمع مدني وجامعات ومعاهد متخصصة بقضايا منع الجرائم وحماية حقوق الضحايا واصلاح السجون.

وقد عرّف نظام العدالة الجنائية على أنه (أداة اجتماعيّة لتطبيق معايير السلوك الضرورية لضمان حرية وسلامة الأفراد وحفظ النظام العام في المجتمع)، وبشكل عام، تهدف العدالة الجنائية إلى تحقيق هدفين أساسيين، الهدف الأول؛ تحقيق المصلحة الخاصة للأفراد من اجل ضمان حرياتهم وحقوقهم بكل ابعادها، أما الهدف الثاني؛ هو تحقيق المصلحة العامة للمجتمع وذلك من خلال ضمان الأمن والاستقرار، ويتم كل ذلك من خلال تطبيق عدة قواعد عامّة من خلال بيئة طبيعية من استقرار المجتمع ومكوناته، برعاية الدولة وأجهزتها الحيادية تجاه الأفراد والجماعات والمجتمع، من هنا يكون يمكن القول، أن مفهوم العدالة الجنائية مرتبطاً بشكل تقليدي في حالة الاستقرار بصفته العامة من جهة، وفي حالة الحياد الدائم لأجهزة الدولة من جهة أخرى، وفي حال تم تضييق نطاق الجرائم بتوجهاتها وانحصارها بالأطر التقليدية المتعارف عليها. وهذا يفترض وجوب توفر بيئة آمنة من أجل قيام العدالة الجنائية التقليدية، حيث يبدأ الانطلاق من مبدأ شرعنة الجرائم والعقوبات التي يمكن اختصاره بشكل مباشر وتجاوزاً لعبارة (لا جريمة ولا عقوبة إلا بنص قانوني)، والإعتماد على الإستقلال للمؤسسة القضائية وحيادها، بما يوفر كل ذلك من حماية حقوق الإنسان الأساسية، لا سيما ان التقاضي على درجات، والاستناد بشكل أو بآخر على مبدأ البراءة المفترض بالمتهم وضمان حقوقه القانونية بالدفاع المقدّس، وكذلك إنفاذ الأحكام جبراً بقوّة القانون وأجهزتها، وبمبادئ تقليدية أخرى.

كما يمكن الذكر، ان العدالة الإنتقالية تتكون من عدة إجراءات سبق ذكر منها العدالة الإصلاحية وما تمخض عنها في استخدامها في مراحل العدالة الإنتقالية، كما هناك عدة تطبيقات لها ولعل من اهمها العدالة الجنائية وهي تلك الاجراءات القانونية التي تتخذ ضد مرتكبي من قام بالإنتهاكات والمسؤولين عن ارتكاب الانتهاكات بحق المجنى عليهم وضد حقوق الانسان، وهي تعد من اشكال تطبيق العدالة الإنتقالية التي تساهم بشكل او بآخر في عملية الإستقرار السياسي وجبر الضرر وتعويض ضحاياهم ورد اعتبارهم وفهم مجموعة من السبل الإجرائية والتي يتمخض عنها ردم الهوة بين جميع أطياف المجتمع لاسيما اذا كان المجتمع ينقسم الى عدة طوائف متداخلة ومعقدة في الوقت ذاته. كما تشمل العدالة الجنائية التحقيقات القضائية مع المسؤولين في ارتكاب عدة انتهاكات في حقوق الإنسان، والحقيقة في كثير من الأحيان يركز المدعون في تحقيقاتهم على من لديه إعتقاد انهم يتحملون قدر اكبر من المسؤولية عن تلك الإنتهاكات، ويمكن عد المحاكمات القضائية اهم محور من محاور العدالة الجنائية في اي عدالة انتقالية يراد منها ان تكون فعالة ومستمرة، والذي من الممكن الاعتماد عليها في تحقيق مكتسبات في مجال المحاسبة، حيث تدخل ضمن اطار مبادرات القضاء وعلى المستويين المحاكم المحلية والمحاكم الدولية، ومن خلال كل ذلك يمكن ان تهدف كل ذلك الى اجراء محاكمات جنائية للمسؤولين عن عملية ارتكاب تلك الجرائم لا سيما الإنتهاكات الخاصة بحقوق الإنسان، والتي من الممكن ان تشمل جرائم الحرب والإبادة الجماعية والجرائم ضد الإنسانية والأقليات والأهم من ذلك كله الحد من ظاهرة الإفلات من العقاب وعدم المحاسبة.

يوجد الكثير من التحدّيات الهائلة حول عدم إمكانية محاكمة جميع مرتكبي الانتهاكات موضوع البحث، فالمحاكمات كما هو معروف تحتاج الى عدة كوادر قضائية متخصّصة، وايضاً تحتاج الى العديد من المرافق لدعم عمليات التقاضي من قاعات ومحاكم وسجون وأجهزة شرطة مؤهلة لذلك، كما تحتاج ايضاً الى أدلّة متوافقة مع المعايير القانونية الدولية، كما تأخذ المحاكمات أوقاتاً طويلة الأمد نوعاً ما، وهذا كلّه يحتاج الى الكثير من الإعداد والتمويل والتأهيل والتدريب والمراجعة، وقد دلّت تجارب الدول التي خرجت في وقت سابق من الحروب الأهلية أو من عهود طويلة من الاستبداد، وحاولت إعادة بناء وهيكلة مجتمعاتها من دون المرور والتركيز على مسارات العدالة الانتقالية الحقيقية، كيف أنّها لا تزال أسيرة الظلم والقهر والفساد والانتهاكات في حقوق الإنسان وغيرها، والشواهد قريبة على ذلك، بينما نجد في تجارب رواندا وجنوب أفريقيا على سبيل المثال إمكانيّة إنهاء الماضي بإرثه الثقيل مع التوفيق في الإستدلال ببناء أسس منع ارتكاب الانتهاكات مستقبلاً وتجاربه. كما ولا تغيب ذكر خصوصية كل دولة وكلّ صراع وله تحدياته وسياقاته المجتمعية والقانونية.

يجب معرفة ان العدالة الجنائية ماهي الا تكريس للتنمية والحياة الكريمة للمواطنين وهي نقيض لكل الحرب وعدم تكراراها بغض النظر عن المبررات والتصنيفات واطرافها، وبغض النظر عن كل ذلك فهي تقضي على عدم تكرار حالة الخسائر في الأرواح والممتلكات مستقبلاً والحد من ظاهرة الإنفلات وانتشار الأسلحة واطلاق سراح السجناء والجناة المسببين لكل الدمار الحاصل والذي ولد تفشي الثقافة الناجمة سلوك استبدادي ومناخ منغلق بطريقة ممنهجة والذي ادى بدوره الى انهيار منظومة القيم والإنتهازية وتفشي الجشع والفساد والمحسوبية وغير ذلك من ممارسات الأنظمة الشمولية التي تشكل تهديداً صارخا لإعادة الانتهاكات في مجال حقوق الإنسان بصورة عامة.

على الرغم من كون مفهوم العدالة الإنتقالية حديثا نسبياً من حيث النظرية والتطبيق، الا ان هناك الكثير من الدراسات التي تناولت حيثياته سواء بصورة مباشرة أو غير مباشرة، أو من كان مهتم بها بالجانب النظري أو الذي أخذ نماذج محددة في دول معينة ودرس تجربتها من حيث الواقع العملي، وكما هو معهود في جميع المفاهيم التي ظهرت حديثاً وتم دراساتها من خلال تجارب الدول في موضوع البحث نجد ان هناك قصوراً ملحوظاً من قبل الكثير من الباحثين في هذا الشأن، ولربما هذا القصور ليس فقط يأتي من قبلهم بل من اشكالية الفهم والإختلاف في تطبيقه وتباين الرؤى الحاد في تبيان نمط وسلوكيات الأفراد والمختصين اثناء الولوج في موضوع البحث، من هذا كله سنتناول اهم الدراسات العربية والأجنبية التي بحثت في هذا الشأن، وكالآتي:

دراسة مهند الغصين بعنوان (العدالة الانتقالية دراسة نظرية – تطبيقية)

وتتناول هذه الدراسة المساعي العديدة من الدول لتطبيق العدالة الانتقالية خلال السنوات الماضية عن طريق التحول الديمقراطي في عدة دول، وذلك من اجل مواجهة تحديات انتهاكات حقوق الانسان وقد كان السؤال الإستفهامي الأساسي للدراسة يتمثل حول مدى ملائمة آليات العدالة الانتقالية مع خصائص وطبيعة السياق الانتقالي الذي تُستخدم فيه وما هي أهم محددات فاعلية العدالة الانتقالية؟، كما استخدم الباحث المنهج التاريخي، من اجل تحليل القضايا الاجتماعية موضوع البحث من خلال الرجوع للماضي، وايضاً استخدام المنهج القانوني المؤسساتي لأنه يركز في المؤسسات السياسية المكونة للأنظمة السياسية، وكذلك استخدم المنهج المقارن من اجل إبراز أوجه الشبه والإختلاف بين الظاهرة ذاتها خلال فترة زمنية معينة وكان من اهم تلك النتائج التي تم التوصل اليها هي معالجة سياسات العدالة الانتقالية وذلك من خلال محاولات تتبعها انتقالات المفهوم في مراحل متعددة، والذي ظهر فيه مفهوم العدالة الانتقالية انعكاساته وتحولاته على اراء مختلفة للعدالة الانتقالية وتوجهاتها، والتركيز علي العدالة الانتقالية بعدها تهدف الى بناء السلام واحترام القانون وتحقيق المصالحة الوطنية، كما يبين مجموعة من الخبرات المتعددة من أجل تطبيق نموذج العدالة الانتقالية، وقد كانت اوجه الاستفادة من تلك الدراسة والذي يتمثل بنا في تقديم تعريف للعدالة الانتقالية وآلياتها ومدى ارتباطها الأساسي بحقوق الانسان.

دراسة الحسين العويمر بعنوان (اسس جبر الاضرار في العدالة الانتقالية: قراءة في تجربة هيئة الانصاف والمصالحة)

يعد جبر الاضرار ذات أهمية واسعة النطاق في الدول التي حاولت تطبيق العدالة الإنتقالية، إذ يهتم بها القانون الدولي لحقوق الانسان بشكل خاص، اذ يعد جبر الاضرار افضل بديل للكشف عن الحقيقة وهنا استخدمت الدراسة المنهج التحليلي من بيان تعريف العدالة الانتقالية وبيان اهمية جبر الاضرار، وكان من بين اهم النتائج التي توصلت اليها تلك الدراسة والتي تتمثل في تشكيل تجربة المصالحة بعدها الاساس في جبر الاضرار ونقطة مهمة نحو التحول الديمقراطي وترسيخ دولة القانون، إذ اعطت اللجنة اهمية كبيرة لجبر الاضرار في التجارب الخاصة في لجان الحقيقة، كما استطاعت اللجنة من انصاف الضحايا بشكل مادي من خلال تمكين اقاربهم من تعويضات مالية، وكان الاستفادة من تلك الدراسة يتمثل في عمل اللجان في جبر الاضرار التي تعرضت للكثير من انتهاكات حقوق الانسان، إذ يجب على الدولة تعويض جميع الضحايا وبطرق متعددة.

دراسة هواري قادة بعنوان (العدالة الانتقالية.. الوجه الاخر للعدالة)

تقوم هذه الدراسة بتوضيح وبيان الانتهاكات الجسيمة لحقوق الانسان التي ما زالت موجودة في المجتمع الدولي وتعتبر العدالة الانتقالية احد الاوجه التي تتحقق به العدالة بعدم التأثر بالأشخاص والزمان والمكان، حيث ان العدالة الانتقالية اخذت نصيبها منذ فجر الاسلام والتي وضع بنيانها الرسول الأكرم، لذلك فقد ركزت تلك الدراسة على الاثار الايجابية التي تترتب على الدور الذي تؤديه لحماية حقوق الانسان، وكان السؤال الأهم المطروح هو في كيفية السبيل للهيئات القضائية وشبه القضائية لكي تعمل من اجل تخفيف حالات الشد والجذب التي تتبع انتهاء الصراع؟ وقد استخدم المنهج الوصفي لوصف تطور الظاهرة موضوع الدراسة، واستخدم المنهج التحليلي ايضاً، وكان من اهم النتائج التي تم التوصل اليها تتمثل في ان مسار العدالة الانتقالية يتجه بالاتجاه المرسوم له، كما ويوضح نجاح العدالة الانتقالية والذي يتمثل من خلال التنوع في الاجراءات الرسمية وغير الرسمية في تطبيق العدالة، وفتح باب المصارحة والمناقشة يرجع للدولة اموالا طائلة كانت في الأصل مهربة للخارج، كما اصبحت المجتمعات التي كانت ترزح تحت حروب اهلية وجرائم متنوعة تحتفظ بجزء كبير من الحقائق التي كانت غائبة، ولذلك كانت اوجه أهمية هذه الدراسة تتبلور في تعزيز دور المؤسسات الرسمية وغير الرسمية ومدى إلتزامها بالمهام المكلفة بها، والعمل من اجل ايجاد قنوات اتصال لتحديد الظاهرة المتعرضة للانتهاكات، وتحييد كل شخص يثبت تورطه في الأعمال المنافية ضد حقوق الانسان من مؤسسات الدولة، ودعوة جميع المختصين في حقوق الإنسان لا سيما مفوضية حقوق الانسان كفريق لتعزيز حقوق الانسان.

دراسة اسامة ابو العلا بعنوان (دور القضاء الدولي (المحاكم الجنائية الدولية-الامم المتحدة) في تحقيق العدالة الانتقالية)

انطلقت الدراسة من المشكلة البحثية الرئيسية والمتضمنة في وجود عدة عقبات تحول دون وجود عدالة انتقالية دولية صارمة تكفل عدم الافلات من العقاب على الجرائم، وبهذا فإن انشاء محكمة جنائية دولية تُعد خطوة مهمة بإتجاه دعم واحترام القانون والسلم الأهلي، وعلى الدولة ان تتبنى اصلاحات تشريعية وقانونية تحقق احترام حقوق الانسان، الا ان هناك جدل كبير بين الحرص على سيادة الدولة من جهة، والمحاولات الجادة في تطوير الضوابط الدولية القضائية على الممارسات التي تتجاوز مقتضيات القانون الدولي من جهة ثانية، كما انه لا يجوز للمحكمة الجنائية الدولية ان تمارس اختصاص متمماً على الجرائم الدولية، كما هناك اشكالية اخرى تعيق تحقيق العدالة الجنائية وهي مرتبطة بشكل مباشر بجريمة العدوان، حيث كان السؤال البحثي الرئيسي والمتمثل في: هل القضاء الدولي الجنائي يمكنه ان يؤدي دورا بارزاً في تحقيق العدالة الانتقالية والعدالة الجنائية؟ ام لا؟، وقد استعار الباحث بالمنهج المؤسساتي القانوني لأنه اول ما تم استخدامه في العلوم السياسية، إذ يهتم بدراسة الاجهزة والمؤسسات والعلاقة فيما بينهما، وتمخض عن ذلك كله، أنه من اهم النتائج التي تم التوصل اليها هي كون العدالة الانتقالية مقاربة لتحقيق العدالة في فترات النزاعات او قمع الدولة من خلال المحاسبة والتعويض عن جميع الضحايا، كما وان العدالة الانتقالية يجب ان تقدم اعترافا حقيقاً بحقوق الضحايا وتشجع الثقة المدنية وتقوية سيادة القانون والحقوق المترتبة على الديمقراطية، كما وتركز على مجموعة من الاسس المتمثلة في الحق في العدالة والمعرفة والتعويض والحق في ضمانات حقيقة في عدم العودة، كما ان العدالة الانتقالية من المواضيع الحديثة نسبيا ولكن في الوقت ذاته تاريخها واضح في مجموعة من دول امريكا اللاتينية واوروبا الشرقية، كما انها شجعت الامم المتحدة على نقض اي قرار بشأن العفو عن عمليات جرائم الحرب أو الإبادة الجماعية أو الجرائم ضد الانسانية، ولكن كان هناك اوجه استفادة متعددة من هذه الدراسة متمثلة في الاطلاع على التجارب المتعددة للعدالة الانتقالية في الكثير من الدول، وتقوية وتعزيز الحوار الوطني من اجل العدالة الانتقالية واعادة الثقة بين المواطن وبين المؤسسات المختلفة كالهيئات القضائية والامنية والرقابية وغيرها، كما ويجب البدء بإجراء المشاورات المتعلقة بالعدالة الانتقالية بطريقة شفافة توضح احترام كرامة الضحايا وغيرهم من المتضررين، ويجب الانتباه عن المخاطر التي ممكن ان تحدث في وقتها عند عزل احد من المناصب المهمة في الجيش او الشرطة وغيرها، ومن ثم على الامم المتحدة ان تستمر في سعيها في المساءلة عن انتهاكات حقوق الانسان.

دراسة هند ابو رية بعنوان (العدالة الانتقالية كآلية للإصلاح السياسي: المغرب نموذجا)

انطلقت هذه الدراسة من المشكلة البحثية المتمثلة في اهمية تحقيق العدالة الانتقالية لاسيما ما بعد فترة الثورات العربية، وكيف كانت المغرب من اولى الدول في تطبيق إجراءات العدالة الانتقالية منذ عام 2004 والاسباب الكامنة وراء احداث هيئة العدالة والانصاف كآلية من اجل تحقيق العدالة الانتقالية في المغرب، وانها كيف استطاعت التصالح مع الماضي واغلاق ملف انتهاكات حقوق الانسان في مرحلة حرجة من حياتها السياسية والإجتماعية، مما مهد لمجموعة كبيرة من الاصلاحات الواسعة، وقد كان السؤال البحثي الأهم في هذه الدراسة والمتمثل في لماذا لجأ النظام المغربي الى العدالة الانتقالية لمعالجة انتهاكات حقوق الانسان، ومن ثم كيف استطاع النظام السياسي المغربي من تصفية هذه الانتهاكات من خلال العدالة الانتقالية مع الاحتفاظ باستمرارية النظام؟ هذا وقد استخدم منهج التحليل النظمي بهدف تمكين البلاد من تحقيق الاهداف الاجتماعية والسياسية والاقتصادية بعيدة المدى والمراد تحقيقها، وذلك من خلال دراسة المدخلات والمخرجات وعملية التحويل والتغذية الاسترجاعية، كما اعتمدت الدراسة ايضا على المنهج القانوني المؤسساتي والتي تركز على المؤسسات السياسية، وكان من اهم تلك النتائج والتي استطاعت الدراسة ان تتوصل اليها وهو تقديم مفهوم مهم للعدالة الانتقالية، كما وضحت الدراسة في ان العدالة الانتقالية تهدف الى تقصي الحقائق لإنشاء سجل تاريخي مقبول حول احداث الماضي لما لحق بالضحايا والمتضررين، واستعادة ثقة الشعب في مؤسسات الدولة لاسيما بما يتعلق بالأجهزة الامنية وغيرها، واوضحت مجموعة من الاليات التي يجب ان تتبناها المجتمعات في المراحل الانتقالية بعضها قضائية وبعضها غير قضائية، ويمكن الاستفادة من هذه الدراسة في ان اجراء تشاورات موسعة في المجتمع والذي يجب ان يمر بمرحلة انتقالية امر بالغ في الاهمية للاستفادة من اجراءات العدالة الانتقالية، ومدى المساهمة الإقليمية والدولية والتدخل اللازم من اجل تسهيل الانجازات المهمة للعدالة في المجتمعات والتي تمر بمرحلة انتقالية.

دراسة فريدة روطان بعنوان (آليات العدالة الانتقالية في جمهورية الكونغو الديمقراطية)

وتستعرض هذه الدراسة الصراعات التي اندلعت في الجزء الشرقي من البلاد وبين الدولتين المجاورتين أوغندا ورواندا، إذ دخل أكثر من مليون لاجئ الى الكونغو الديمقراطية خلال فترة الابادة الجماعية في رواندا، ومن ثم امتد الصراع ليشمل بعد ذلك جمهورية الكونغو الديمقراطية، وادى ذلك الى ظهور انتفاضة التوتسي كما وظهر تمرد مدعوم من قبل رواندا وأوغندا ادى في نهاية المطاف الى الاطاحة بالحكومة الكونغولية، والذي ادى في النهاية ما يمكن تسميته بالحرب العالمية الافريقية والتي حدثت بين القوات الحكومية المدعومة من أنغولا وناميبيا وزيمبابوي والمتمردين المدعومين من اوغندا ورواندا، وادى هذا الصراع الى قتل ما يزيد عن 6 مليون، في ظل وجود صراعات داخلية والتي أدت الى تشكيل لجنة تقصي الحقائق والمصالحة من اجل تأمين العدالة الانتقالية في البلاد، ومن هنا كان السؤال البحثي الرئيسي والذي يتمثل حول ماهية الآليات التصالحية للعدالة الانتقالية في جمهورية الكونغو الديمقراطية؟، اذ استخدم الباحث منهج دراسة الحالة لأنه يتعمق بدراسة مرحلة معينة من تاريخ الوحدة أو دراسة جميع المراحل والتي مرت بها، كما انه يهتم بدراسة حالة واحدة وهي الكونغو، ليتم ابراز الأنماط والسلوكيات الخاصة بها وكان من أهم النتائج التي توصلت اليها الدراسة تتمثل فيما شهدته جمهورية الكونغو الديمقراطية من تلك الصراعات الداخلية ونتيجة مطامع الوصول للسلطة ورغبة الدول الغربية في استنزاف خيراتها وثرواتها، بالإضافة الى وجود مشكلات اثنية في الدول المجاورة مثل رواندا وبورندي وغيرهما، مما أدى الى زيادة الصراعات الداخلية، والواقع ان الصراع في الكونغو اخذ بعدا دوليا أخراً من بعد تدخل الامم المتحدة المتمثلة بقوات حفظ السلام وتدخل بعض المنظمات الاقليمية من خلال بعض المحادثات، مما ادى في النهاية الى رسم ملامح العدالة الانتقالية، وتأسيس لجنة الحقيقة والمصالحة لقمع تلك الانتهاكات في مجال حقوق الانسان، ومن بعد ذلك واجهت العدالة الانتقالية عدة مشكلات بسبب تدني مستوى النمو وغياب الاحترام الحقيقي لحقوق الانسان والقانون، وكان من أهم اوجه الاستفادة من هذه الدراسة في انه يجب على الدول التي تسعى لتحقيق العدالة ان تذهب في الطريق الصحيح وذلك من خلال تشكيل عدة لجان تقصي الحقائق ومراقبة كل ذلك، وعلى الدول ان تسعى جدياً لتجنب حدوث مثل تلك الصراعات بين اطياف المجتمع.

دراسة محمد عسكر بعنوان (المعايير الدولية للعدالة الانتقالية وآليات تطبيقها)

وتستعرض هذه الدراسة مفهوم العدالة الانتقالية ومدى التنوع الحاصل في تعريفاته، كما تناولت عدم اتمام الكثير من التجارب الخاصة في العدالة الانتقالية في كثير من الدول، مما يتطلب ذلك دراسة تفصيلية لأهم العوامل المؤثرة فيها، كما ان فكرة العدالة الانتقالية لم يتم تنظيمها بصورة قانونية بموجب اتفاقية دولية، وهذا يستلزم في حقيقة الأمر دراسة العديد من التجارب المختلفة ولكن بعضها غير مكتمل على ارض الواقع، واستخدم الباحث المنهج التحليلي والوصفي وكان من اهم النتائج التي توصل اليها تتمثل في أنه لا يستطيع اي مجتمع من المجتمعات ان يتجاوز بهذه السهولة ماضي الانتهاكات الجسيمة لحقوق الانسان الا بعد الانتهاء من ما تركته من آثار تسببت بالسلبيات التي هي عليها، كما وتختلف العدالة الانتقالية عن القواعد والقوانين الوطنية المحققة للعدالة ذاتها، واوضحت الامم المتحدة في هذا الصدد العديد من المعايير لتحقيق العدالة الانتقالية والتي تتمثل في سيادة القانون بشكل مباشر وتوسيع مهام نطاق المشاركة وتصميم آلياتها، وان الطريق الأمثل لتحقيق العدالة الانتقالية في التحول السياسي هي المحاكمات القضائية والطريقة الاخرى تتم عن طريق اللجان الوطنية المستقلة الخاصة بحقوق الانسان، كما وتعمل لجان تقصى الحقائق وفق المعايير الدولية التي يتم تحديدها من قبل الامم المتحدة، حيث ان اوجه الاستفادة في هذه الدراسة يتمثل في عملية تطوير منظومة العدالة فيما يتعلق بجميع الحقوق والحريات، ودراسة الواقع بشكل دقيق وتقييم الدولة التي تتطلب منها إجراء تغيير سياسي جذري، ويجب التعامل مع اليات العدالة الانتقالية كاستراتيجية متكاملة غير متجزئة، كما ويجب تفادي وجود اي غموض بشأن العدالة الانتقالية حتى لا ينقص من فاعليتها اثناء التطبيق.

دراسة حازم عوض بعنوان (العدالة الانتقالية معرفة الحقيقة واثرها في تحقيق المصالحة: دارفور نموذجا)

في هذه الدراسة يظهر المؤلف في ان الكثير من الدول ومنها السودان لا تعطى اي اهتمام لمعرفة الحقائق من خلال التجارب الخاصة بالعدالة الانتقالية حتى وان أبدوا اهتماماً منقطع النظير، الا انهم لم يشكلوا اي لجان تحقيقية وفقا للمعايير الدولية والمتبناة من قبل الأمم المتحدة، اذ وُجد انه من الضرورة بمكان الاهتمام بمعرفة الحقيقة حول الانتهاكات التي تمت في مجال حقوق الانسان لتحقيق المصالحة المستهدفة في اقليم دارفور، وكان السؤال البحثي الرئيسي في كل ذلك يتمثل في كون لماذا لا تعطى الدول اي اهتمام للجان الحقيقة لتحقيق العدالة الانتقالية؟، وقد استخدم الباحث المنهج المقارن، إذ تمت المقارنة بين العديد من الدول من اجل تحقيق العدالة الانتقالية وكان من اهم النتائج التي توصلت اليها الدراسة تتمثل في انه لا يمكن لأي تجربة اخرى ان تنجح ما لم يتم التوصل الى الانتهاكات التي حدثت في الماضي، والحق في معرفة الحقيقة هو حق قانوني اصيل لا يمكن التنازل عنه او حتى التفاوض فيه، الحق في الحقيقة هو لا يعني بالماضي فقط ولكن يرتبط بشكل مباشر بإدراك الحاضر للتهيئة في المستقبل، معرفة الحقيقة عن الانتهاكات التي سبقت من اجل منع المجتمعات من تكرار احداث متشابهة في المستقبل، وكانت اهم عوامل الإستفادة من الدراسة يتمثل في انه يجب على الاطراف التي تسببت في تلك الصراعات ان تقدم اعتذارات جدية للشعب، وعند التوصل الى تلك الحقيقة يجب البدء في تحقيق قانوني ونزيه حول جميع الانتهاكات حول حقوق الانسان، والتركيز على مسؤولية الأجهزة التي قامت بذلك وليس الافراد فقط.

دراسة اياد الصقلي بعنوان (العدالة الانتقالية: دراسة قانونية)

تناولت هذه الدراسة الحداثة في مفهوم العدالة الانتقالية ومدى تطورها وانتقالها الى احدى متطلبات القانون الدولي المعاصر، بالاضافة الى الاختلاف في تطبيق جوهر العدالة الانتقالية في البلاد والتي شهدت تجارب سابقة بعد فترات الصراعات، ومن هنا جاء سؤال الباحث الرئيسي حول ماهية المشكلات التي تواجه الشعوب والمجتمعات من انتهاكات خطيرة في حقوق الانسان، وتفرد الأنظمة الاستبدادية بالسلطة؟، هذا وقد اعتمدت الدراسة على المنهج التاريخي من اجل تأصيل بداية ظهور العدالة الانتقالية كما اعتمد ايضاً على المنهج العلمي الاستقرائي، واعتمد أخيراً على المنهج التحليلي المعتمد على تحليل النصوص القانونية والدستورية، إن من اهم النتائج التي توصلت اليها الدراسة ذلك ان العدالة الانتقالية كمفهوم لم يحظ بموافقة كل الدراسات الفقهية والقانونية، وعلى الرغم من حداثته كمصطلح الا ان جذوره قديمة، حيث اصبحت العلاقة بين العدالة الانتقالية متكاملة مع حقوق الانسان من حيث المفهوم، كما وان مصادر العدالة الانتقالية موجودة في المواثيق الدولية والمعاهدات والاتفاقيات، وايضاً ان المفهوم النسبي له يختلف بإختلاف دولة عن اخرى، كما ويجب ان تعمل الياتها بصورة متممة ومتكاملة من قبل لجان تقصى الحقائق ومن خلال المحاكمات وجبر الاضرار واصلاح المؤسسات والآليات الأخرى، وكانت من اهم اشكال الاستفادة من هذه الدراسة تتمثل بصورة مباشرة في انه يجب على الدول الخارجة من صراعات او ثورات التركيز على العدالة الانتقالية وتطبيقها مع الاخذ بنظر الإعتبار كيفية تحقيق اهدافها، وضرورة قيام الدول بالاشتراك مع المنظمات الإقليمية والدولية في اللجان الخاصة بتقصي الحقائق لضمان فاعليتها ونزاهتها، واعتماد السلطات التنفيذية في مسألة التعويض على التنوع، فلا يجب ان يكون فقط تعويضاً مادياً بل يجب ان يكون ايضا اعطائهم العديد من الخصوصية والمزايا واعطائهم فرص في التعيينات والبعثات وغيرها، والعمل على عقد محاكمات نزيهة وعادلة للجناة من اجل ان تتحقق العدالة الانتقالية بشكل قانوني وسليم.

دراسة المصطفى بو جعبوط بعنوان (تجربة العدالة الانتقالية في غواتيمالا)

استعرض الباحث في هذه الدراسة على اهم قضايا والإشكالات التي تتم اثناء الصراعات، كالانتهاكات والتجاوزات والحروب الاهلية في غواتيمالا خلال فترة الانقلابات العسكرية، لاسيما في الفترة ما بين عامي 1962- 1996، وهو السؤال الرئيسي الذي  يدور حوله موضوع البحث، حيث تم استخدام كان المنهج التحليلي وتحليل المضمون من خلال مضامين التي احتواها التقرير النهائي للجنة الحقيقة الغواتيمالية، حيث كان من أهم النتائج التي تمخضت عن الدراسة وتم التوصل إليها هي مدى أهمية العدالة الانتقالية للدول التي حرجت من الصراعات والحروب الأهلية لتحقيق الاستقرار المجتمعي والأهلي، إذ ان الصراعات والنزاعات نهاية مدمرة للبشرية على جميع المستويات لاسيما المستوي الداخلي، وتم القضاء على النظم المستبدة والسلطوية التي دامت على ما يقارب 36 عاما من خلال اتفاق السلام المبرم، واعادت للشعوب اعتبارها بعد ان تعرضوا لمجازر وتصفيات وحشية، وتم اثبات مدى مسؤولية القوات الحكومية والجماعات التمردية على اكثر ما يقارب من 90% من حالات الاعدام التعسفي والاختفاءات القسرية، وكما يمكن تحقيق الاستفادة من هذه الدراسة في ضوء تناولها للجنة الخاصة بتقصي الحقائق في معرفة الأفراد والجماعات المسؤولين عن الإبادات الجماعية التي تمت وغيرها كما تعرضت لأهم التطورات في عملية الانقلابات العسكرية منذ القدم.

دراسة (Noha Aboueldahab) بعنوان:

“Transitional Justice Policy in Authoritarian Contexts: The Case of Egypt”

تناول الباحث في هذه الدراسة حالة الشد والجذب والذي اسماه بالصراع بين العدالة الانتقالية والحكم الإستبدادي او السلطوي حيث يستعرض ان افتراض مجال العدالة الانتقالية تطبق في المجتمع الذي ينتقل من حكم استبدادي متسلط قائم على العنف الى مجتمع يحكمه نظاماً ليبرالياً ديمقراطياً، ويرجع بالقول الى ان مثل تلك المفاهيم (العدالة الانتقالية) لم تطبق في الحقيقة الا على جزءاً يسير من حالات العدالة الانتقالية والتي تم تطبيقها في السنوات الماضية، ويركز على ان العدالة الانتقالية تتوجه بتحقيق السعي الى الأخذ بالماضي بالاعتبار من اجل بناء مستقبلاً افضل، الا انها وسرعان ما تصطدم او تغفل عن الواقع الراهن.

وينقل الباحث على ان أطر العمل المقيد الخاص بالعمليات الانتقالية الذاهبة نحو الليبرالية له انعكاسات ذات اهمية بالغة على مجمل السياسات والأبحاث والممارسات المتعلقة بالعدالة الانتقالية، بغض النظر فيما اذا كان ضمن سياق العدالة الانتقالية أو التحول الديمقراطي، كما تواجه العدالة الانتقالية مجمل من التحديات والمواجهات ضدها في فترة معالجة الصراعات الهيكلية والتي تعود جذورها الى الجوع والفساد والفقر والفساد المالي والاداري ونهب ثروات وخيرات البلاد، حيث يعكس كل ذلك الميول في مجال العدالة الانتقالية حول التركيز على الانتهاكات في الحقوق السياسية والمدنية بنحو مبالغ فيها اكثر من التركيز على المظالم الإقتصادية والإجتماعية، حيث اخذ الباحث دولة مصر كأنموذجاً للحالة، التي تعد مبعثاً لإشكالية في تطبيق العدالة الانتقالية نتيجة للتغيرات السريعة منذ ثورة عام 2011 والتي انعكست على تطبيق العدالة الانتقالية واحداث تغييرات جوهرية فيها.

دراسة (Amanda C. Barrel) بعنوان:

“Moving beyond transitions towards transformation: The interaction between transitional justice & constitution –building”

تتمحور هذه الدراسة على اساس التفاعل بين اشكال التسويات السياسية والعدالة الانتقالية ومن ثم بناء الدستور وفق السياقات الانتقالية، وقد استعرض بعض من المفاهيم والأطر حول موضوع البحث واهم المقاربات المقارنة، مثل العدالة والحقيقة وجبر الضرر واخيراً ضمانات عدم التكرار، حيث يشهد الانتشار السريع والمتزايد لعمليات الإنتقال السياسي أعقاب فترة الصراعات الداخلية اهتماماً بالغ الأهمية لا سيما في ما يتعلق بالعدالة الانتقالية وكذلك بناء الدستور، اذ لم يتم اعطاء القدر الكبير من الإهتمام لقضية فهم مساهمة التفاعل بين المجالين سالفي الذكر في تحقيق الأهداف المرجوة منهما بشكل فاعل، اذا يرى الباحث ان تلك العمليتين يجب ان يحدثا معاً، وهما موجدان في ارض الواقع، لكن توجد حاجة ملحة للممارسين في كلا المجالين للمزية من الإدراك والفهم لهذا التعايش والنظر في اهم العوامل المؤثرة فيهما.

وكذلك توضح الدراسة القدرات الممكنة من اجل الجمع بين بناء الدستور والعدالة الانتقالية من اجل منع نشوب صراعات وتأثيرات عميقة في المسارات الخاصة بها وكذلك دعم وتعزيز السلام المستدام ، ومن ثم ينتقل بشكل تفصيلي الى اهم التحديات الملازمة لعملية الجمع بين تلك العمليتين، ومن دون اجابات محددة أو إقتراح نماذج معينة، وركز ايضاً على انه من المهم عد العدالة الانتقالية وبناء الدستور عمليتين متممتين الواحدة للأخرى وليس متنافستين أو متعارضتين، وتسع نطاق الفهم لهما بدعم كل عملية بمعزل عن الأخرى، فضلاً عن السبل الكفيلة والتي يمكن من خلالها ان تقدم مساعدة من اجل معالجة تلك التحديات الرئيسية التي تطرحها عمليات العدالة الانتقالية، حيث يتم كل ذلك من خلال التفكير المتناسق على مستوى السياسات العامة وتنسيق وتقديم الدعم والتفاعل بين العدالة الانتقالية وجميع هيئات صياغة الدستور، ووجوب ان تكون هناك لجان تقصي حقائق أكثر تخصصاً وأكثر وضوحاً وبصراحة أكثر فيما يخص الإصلاح المؤسساتي والدستوري.

تتميز هذه الدراسة عن الدراسات السابقة بأنها مراحل تطور العدالة الانتقالية والآثار السلبية لتطبيق العدالة الانتقالية في التجارب السابقة والتمايز الطبقي والعقائدي في تطبيقها، كما تميزت الدراسة عن تناول العدالة الانتقالية في العراق واشكالياتها مابعد عراق 2003، كما تناولت الدراسة اهم السبل والطرق في انشاء مؤسسات حقيقية تتبنى فكرة الدولة بمؤسساتها واعادة الثقة بتلك المؤسسات واصلحها وتشكيل لجان متخصصة في ذلك الشأن وهذا من أهم ما ميز هذه الدراسة، حيث تعد هذه الدراسة من أحدث الدراسات الموجودة في اللغة العربية في هذا المجال وفي ظل الكثير من المتغيرات.

وبناء على كل ما ذكر، تتميز الدراسة بأنها ستقدم نتائج وتوصيات يمكن ان تستند عليها الكثير من الدراسات والابحاث الاستشرافية والمستقبلية، وبما ان الدراسات السابقة قد قدمت نماذج في تحقيق العدالة الانتقالية في شكلها وجوهرها وايجابياتها وسلبياتها فإن النموذج الذي قدمته هذه الدراسة هو نموذج حديث ومن أولى التجارب على مستوى المنطقة تقريباً، مع العرض ان العراق في تجربة العدالة الانتقالية لم يعرفها من قبل.

مفهوم العدالة الانتقالية

تعني العدالة الانتقالية لغةً على انه يتكون من كلمتين (العدالة والانتقالية)، حيث ان معنى العدالة في اللغة من العدل والذي هو (ما قام في النفوس أمه مستقيم حيث انه ضد الجور، والأصل فيه عدل الحاكم في الحكم، يعدل عدلاً وهو عادل من قوم عدول، وعدل عليه في القضية فهو عادل، وبسط الوالي عدله ومعدلته، والعدل: هو الذي لا يميل به الهوى فيجور في الحكم، والعدل: الحكم بالحق، فيقال: هو يقضي بالحق ويعدل، وهو حاكم عادل ذو معدلة في حكمه، والعدل من الناس المرضي قوله وحكمه). أما ما يخص لفظ الانتقالية من الأصل اللغوي للفعل (نقل) والذي يعني (تحويل الشيء من موضع الى موضع، نقلة ينقله نقلاً فأنتقل، والتنقل هو التحول، ونقله تنقيلاً اذا كثر نقله، والنقلة: الاسم من انتقال القوم من موضع الى موضع، والنقيل ضرباً من السير وهو المداومة عليه، ويقال: إنتقل سار سيراً سريعاً).

والعدالة الانتقالية من حيث الاصطلاح، لا يوجد اتفاقاً نظراً لوجود تباين ما يتضمنه من مجموعة من الإختلاف في الأليات والخصائص وكذلك ايضاً الاستراتيجيات، وبهذا تعد العدالة الانتقالية من مقاربات جديدة والتي تهتم بمسألة الإنتقال الديمقراطي من خلال طرق سلمية، من خلال ايجاد مخرج قانوني وسياسي للتعامل مع نتاجات العنف السياسي للأنظمة السلطوية، حيث يعتبر مفهوم العدالة الانتقالية من المفاهيم الحديثة ليس فقط على المستوى الوطني انما كذلك على المستوى الدولي حيث لا يمكن ادراجه ضمن فقه العلوم السياسية تحديداً بصورة خاصة وانما ضمن الدراسات الخاصة بحقوق الإنسان، ويرى الكثيرون ان العدالة الانتقالية إحدى فروع القانون الدولي، على هذا كله نجد انه حظي بإهتمام صناع القرار السياسي والكثير من الأكاديميين، كما على شأنه في مجالي القانون والسياسة لا سيما في المجتمعات الانتقالية.

يذهب مفهوم العدالة الانتقالية على أنها عملية الإستجابة للانتهاكات بطريقة ممنهجة أو الموسعة  في نطاق حقوق الإنسان بهدف التحقق من اعتراف بمعاناة الضحايا من انتهاكات وقعت بحقهم، وايضاً تعزيز إمكانية تحقيق المصالحة والسلام والديمقراطية، اي يمكن عدها على انها عملية تكييف لتطبيق العدالة بالشكل الذي يلائم المجتمعات التي تخوض مرحلة التحولات الديمقراطية في اعقاب فترة من توسع وانتشار الانتهاكات في مجال حقوق الانسان، سواء كانت عملية التحولات انفة الذكر حدثت على المدى الطويل أو بصورة مفاجئة، بتقديم آخر يعبر مفهوم العدالة الانتقالية يرتبط بين المصطلحين (العدالة والانتقال)، بحيث يعطيان معنى مباشر في تحقيق العدالة خلال المرحلة الانتقالية التي بها اي مجتمع أو اي دولة في اي وقت من الأوقات.

كما يمكن ان تعرف العدالة الانتقالية على انها (كامل نطاق العمليات والآليات المرتبطة بالمحاولات التي بذلها المجتمع لتفهم تركته من تجاوزات الماضي الواسعة النطاق بغية كفالة المساءلة وإقامة العدالة وتحقيق المصالحة، وقد تشمل هذه الآليات القضائية وغير القضائية على حد سواء، مع تفاوت مستويات المشاركة الدولية ومحاكمات الأفراد، التعويض، تقصي الحقائق، الإصلاح الدستوري، فحص السجل الشخصي للكشف عن التجاوزات والفصل أو إقترانهما معاً).

مراحل تطور العدالة الانتقالية

في الحقيقة، مر مفهوم العدالة الانتقالية بمراحل ثلاث رئيسية نلخصها فيما يلي، مع الوضع في الاعتبار أن تجارب العدالة الانتقالية ومراحلها ليست منفصلة بالكلية، وأن كل مرحلة بما فيها من تجارب استفادت وتأثرت بشكل أو بآخر مما سبقها ( الديب، محمد، 2015: 2-3) ، وكالآتي:

المرحلة الأولى:

ظهرت مع نهاية الحرب العالمية الثانية، حيث أنشأت محاكمة بمدينة نورمبرج الألمانية عام 1945، لمحاكمة القادة الألمان على ما ارتكبوه من جرائم أثناء الحرب، وعلى مدار أربع سنوات عُقدت ثلاث عشرة محاكمة في المدينة التي كان ينظم فيها الحزب النازي اجتماعاته، وتمحورت هذه المرحلة بشكل عام حول التجريم والمحاكمات الدولية التي ترتبت عليها.

المرحلة الثانية:

بدأت مع انهيار الاتحاد السوفيتي، وما أعقبها من تغييرات سياسية مختلفة في دول أوربا الشرقية، وكذلك التجربة الأرجنتينية، وظهرت آليات أخرى مثل لجان الحقيقة والتعويضات.

المرحلة الثالثة:

وتعتبر تجربة دولة جنوب أفريقيا من خلال لجنة (الحقيقة والمصالحة) الشهيرة في 1995 التي تشكلت للتعامل مع قضايا الانتهاكات الجسيمة التي تعرض لها السكان السود في جنوب إفريقيا في فترة التمييز العنصري مثالاً على هذه المرحلة، وكذلك تجربة هيئة الإنصاف والمصالحة في المغرب.

————————

إعداد موقعنا “صفحات سورية”

خارطة طريق لبرنامج العدالة الانتقالية والمصالحة: نحو عودة اللاجئين وبناء السلم الأهلي في سورية/ طلال المصطفى و محمد السكري

مثّل سقوط نظام الأسد في 8 كانون الثاني/ ديسمبر 2024، على يد إدارة العمليات العسكرية السورية، نقطة تحوّل في تاريخ سورية المعاصر من أجل بناء دولة مواطنة بعد استبداد دام لعقود طويلة، غير أن تحقيق السلام والاستقرار المستدامين يتطلب جهودًا متكاملة لمعالجة التداعيات وإعادة ترميم النسيج الاجتماعي السوري، الذي يعتبر من تركة نظام الأسد. فعلى الرغم من المخاوف التي سبقت سقوط نظام الأسد، حول احتمال اندلاع مواجهات طائفية أو ارتكاب أعمال انتقامية واسعة النطاق، فإن حدوث شيء من هذا القبيل وارد، كما حصل في المواجهات العسكرية مع الفلول العسكرية للنظام الأسدي في الساحل السوري بشكل محدود. حيث ظلت تلك المواجهات محصورة في جبهات الميليشيات العسكرية المتصارعة مع محاولة تجاوز أي تداعيات طائفية من قبل الحكومة السورية على مستوى الخطاب والسياسات في مناطق الساحل السوري.

يُعدّ هذا النهج مؤشرًا يمكن البناء عليه في تهيئة الظروف الملائمة لبناء الثقة ما بين السوريين بعد سقوط نظام الأسد؛ شريطة الحد من التدخلات الإقليمية أو التجاوزات الفردية، وإخراج جميع الميليشيات الأجنبية، وإنشاء منظومة قضائية وأمنية حديثة قادرة على تحقيق العدالة الانتقالية، ومحاسبة مرتكبي الجرائم، وإنصاف الضحايا. ويتطلب ذلك، بناء نهج تكاملي إحدى قوامه تحقيق المصالحة الوطنية عبر إجراءات شفافة تضمن المساءلة والمصارحة المجتمعية والاعتراف والاعتذار، مستفيدةً من تجارب الدول التي مرّت بظروف مشابهة، بهدف توفير بيئة آمنة ومستقرة لجميع السوريين.

أما في ما يتعلق بملف اللاجئين والنازحين، فإن عودة ملايين السوريين إلى ديارهم تتطلب ضمانات حقيقية للأمن والمصالحة. فيمكن تسهيل عودتهم مما يسهم في إعادة بناء مجتمعاتهم وتعزيز التماسك الاجتماعي عبر تهيئة بيئة مناسبة وآمنة تتسم بالاستقرار، مما يساعد على الاستفادة بالحد المقبول من رأس مال اجتماعي وطني وسوري كبير أو ما يسمّى “هجرة العقول”  شريطة تحقيق التدرج في ملفات التعافي ضمن سياق إعادة الاعمار المجتمعي السوري.

تحميل الموضوع

مركز حرمون

——————————-

 رحلة رواندا من آلام الإبادة الجماعية إلى تجربة المصالحة والعدالة الانتقالية/ عماد ناصف

بينما كان رئيسُ رواندا “بول كاجامي” وزوجتُه “جانيت” يضيئانِ شعلةَ إحياءِ الذكرى الثلاثين للإبادةِ الجماعية في رواندا في السابع من أبريل 2024 كانت “نورا” تجلس في بيتها مع صديقتَيها يشاهِدْن الاحتفالَ على التلفاز كما اعتَدْن كلَّ عام. تتذكر نورا “أيام الدم” عندما هاجمَها وعائلتَها مئاتٌ من قبيلة “الهوتو” حاملِين السكاكين والمناجل والعصيّ، لكنها نجت مع خالتها “أوتشي” في رحلة هروبٍ مريرةٍ تعيش قسوةَ ذكراها كلَّ عام. تقول أوتشي: “نجوتُ من المجزرة مع ابنة شقيقتي نورا … فقدتُ في ليلةٍ واحدةٍ كلَّ عائلتي وشاهدتُ دفنَ أمي وشقيقتي وأخي في مشهدٍ لم يفارق ذاكرتي لحظة”. لم تعثرْ أوتشى على باقي عائلتِها فقد اختفت جثامينُهم مع مئات الآلاف من قبيلتها “التوتسي”. نظرةُ طفلَيها الأخيرةِ اختفت مع عيون مئاتِ الأطفال الآخَرين في حرب إبادةٍ جماعيةٍ عصفَت برواندا “بلد الألف تلّ”.

في دراسةٍ أعدَدْتُها سنة 2018 عن إعلام الموت عنوانها “مليون قتيل والفاعل معلوم”، عن المذابح التي ارتُكِبَت بحقّ الروهينجا في بورما، عرّجتُ على التجربة الرواندية نموذجاً للقتل الجماعي. ومع الذكرى الثلاثين للإبادة الجماعية أَقتربُ أكثر من الحكاية لأرويَ تفاصيلَ أُخرى من القاهرة بمعيّةِ صديقٍ سودانيٍ يعيش في رواندا فضّل حجبَ اسمِه، ساعَدَني على الترجمة في تواصلي الهاتفي مع أبطال القصة. أعيدُ رسمَ صورةِ ما حدث برواية هؤلاء الأبطال والوثائق الرسمية. فببذرةِ فُرقةٍ زرَعَها الاستعمارُ الألماني ثم البلجيكي، وبأخطاءِ المجتمع الدولي، وبتحريضٍ إعلاميٍ شرسٍ، انقلبَ الوطنُ الروانديُ وحشاً على نفسه. فالْتَهمَ أبناؤه بعضَهم وقُتِل مليونُ إنسانٍ في مئةِ يوم، وعُدَّت من أَسوأِ جرائم الإبادة في التاريخ الحديث. اليومَ وقد مرّت ثلاثونَ سنةً على المجزرة، تجاوزَ كثيرٌ من الروانديين تِلالَ الألمِ ليعيدوا تشكيلَ بلادِهم في تجربةٍ فريدةٍ انتقَلوا بها من الدم إلى المصالحة، تعافت رواندا على إثرها وتغيّر وضعُها من أفقرِ دول إفريقيا وقتَ الإبادة إلى أكثرِها نموّاً اليوم.

في القرن التاسع عشر وفي ظلِّ حُكمٍ ملكيٍ، سادَ رواندا نظامٌ عشائريٌ من عدّة قبائلَ أكبرُها التوتسي والهوتو. كانت الطبقاتُ العليا في البلاد من التوتسي وتعملُ في رعاية الماشية، بينما عمل الهوتو في الزراعة وهُم الطبقاتُ الدنيا. أحكمََ الاستعمارُ الألماني قبضَته على رواندا إبان الحرب العالمية الأولى ثم انتقل الإقليمُ بعدها لسيطرة البلجيكيين الذين عدّوا التوتسي متفوقين عرقياً على الهوتو فحظوا بالوظائفِ وفرصِ التعليم. عمّقت المفاضلةُ العرقيةُ حنقَ الهوتو ثم ما لبث أن تحول هذا الحنقُ لأعمال عنفٍ ضد التوتسي سنة 1959. عبَرَ التوتسي الحقولَ والغاباتِ والتلالَ هاربين وقُتِلَ الآلافُ منهم، بينما وصل آخَرون بوروندي وتنزانيا والكونغو بعد مطاردات دامية، وقد استقبلت أوغندا أكثرَهم.

في سنة 1961 استقلّت رواندا وتولّى رئاستها في صيف العام التالي غريغوري كابيندا، الذي بدأ حياتَه المهنيةَ صحفياً في صحيفة “كينا ماكيتا” التي كان لها بعد ذلك شأنٌ في التحريض. بدأ كابيندا حُكمَه على نهج المستعمرين الألمان والبلجيكيين بالتقسيم والتفريق مشجِعاً الهوتو على حرب التوتسي، وكان أولَ من شبّهَ التوتسي بالثعابين. لتشهد رواندا في 1963 و 1964 أحداثَ عنفٍ جديدةً طالت التوتسي، ففرَّ بعضُهم إلى دول الجوار مجدداً.

“اذهبوا إلى المستنقعات، مكانُكم هنا” هكذا كتبَت صحيفةُ كينا ماكيتا وردّدت إذاعةُ رواندا في خطابٍ موجّهٍ إلى التوتسي.

لم تكُن أوتشي قد وُلدَت عندما فرّ عشراتٌ من جيرانها مع آلافٍ من التوتسي في المرة الأولى بعد أن أحرَقَ الهوتو بيوتَهم وأبقارَهم ومزارعَهم وطارَدوهم في كلّ مكان. لكنها كانت في الخامسة من عمرِها عندما رأت مئاتٍ من قبيلتها يُطرَدون جماعياً للمرة الثانية، يسوقهم الدَرَكُ – وهُم قوّةٌ أمنيةٌ شبهُ عسكرية – ومئاتٌ من الهوتو إلى الغابات على حدود رواندا.

تُعلِّقُ نورا أن معلمتها في المدرسة قالت لها إن الاستعمار البلجيكي أكملَ مسيرةَ العصفِ برواندا وبدأ الوقيعةَ بين قبائلها. فحرَّضوا الهوتو على التوتسي. لم تسمع أوتشي ولا نورا عن الاعتذار الذي قدّمَته بلجيكا قبل أربعة أعوامٍ على لسانِ رئيسِ وزرائِها تشارلي ميشيل عن بعض صورِ العنصرية أيامَ الحقبةِ الاستعمارية في إفريقيا، ولا عن اعتذارِ الكنيسة الكاثوليكية سنة 2016 عن الفظائع المرتكَبة في تلك الحقبة.

استمراراً في التصدعات بين أبناء الوطن الواحد، قاد جوفينال هايباريمانا من الهوتو سنة 1973 انقلاباً عسكرياً سيطرَ فيه على مفاصل السلطة في البلاد. وعلى إثر ذلك شكّلَ لاجئو التوتسي بقيادة بول كاغامي الجبهةَ الوطنيةَ الروانديةَ في نهاية الثمانينيات، لتبدأَ الجبهةُ حرباً أهليةً ضدّ حكومة هايباريمانا في 1990. ثم تبعَها وساطاتٌ دوليةٌ للسلام انتهت بتوقيع اتفاقِ “أروشا” في تنزانيا بين الحكومة والجبهة الوطنية. لكن الاتفاقَ فشلَ ممهّداً الطريقَ لكارثة الإبادة في 1994.

وصلَت التراكماتُ التاريخيةُ ذروتَها المرعبةَ بعد سويعاتٍ من إعلانِ سقوطِ طائرةِ الرئيسِ الرواندي هابياريمانا في مساء السادس من أبريل سنة 1994 في ظروفٍ لا تزال غامضة. بدأتْ عملياتُ قتلٍ منظّمةٌ استهدفَت التوتسي والقليلَ من الهوتو المعتدلين، خاصّةً في العاصمة كيجالي. في فجرِ اليوم التالي توسّعَتْ دائرةُ البطشِ فأقيمَت الحواجز على الطُرقِ وبدأَ التفتيشُ على الهوية وانتشر القتلُ الجماعيُ بالفؤوسُ والمناجلِ والأسلحة النارية. مع نهايةِ الأسبوع الأول باشرَ الهوتو استهدافَ النساءِ والأطفالِ وكبارِ السن، وأصبحَت المدارسُ والكنائسُ والطرقاتُ والحقولُ مسارحَ للقتل. استمرَّت الفاجعةُ مئةَ يومٍ حتى التاسع عشر من يوليو مُخلِّفةً عشراتِ المقابرِ الجماعيةِ في جميع أنحاء البلاد. ناهيك من آلاف الجثث التي أُلقيَت في الأنهار، خاصةً نهر نيابا رونجو (النهر الأسود) الذي حملَ الجثث إلى بحيرة فيكتوريا. آلافٌ أُخرى من الجثث أُلقيَ بها في الطُرقات والحقول، غير مئاتٍ أُحرقَت.

يتذكر “أوبنجو” أحدُ المشاركين في الإبادة الجماعية ما حدثَ بعد عشرين عاماً من اندلاع شرارة الموت. وفي واحدةٍ من مئات جلسات الصفح والمصالحة التي عقدَتها جمعياتٌ ومنظماتُ مجتمعٍ مدنيٍ أُسِّسَتْ لهذا الغرض سنة 2014 قال: “كنتُ أمسك بالمنجل وأَقتلُ كأنني أطارد الثعابين، قتلتُ الأولَ والثانيَ ولم أكترث، كنت شَرِهاً للذبح … كلُّنا الهوتو نمسك بالسكاكين والمناجل والعُصيّ نَهِمِين للدم. إنهم صراصيرُ عفنةٌ تستحق الموتَ، هكذا كنا نطاردهم تحت المطر في كل مكان”. يستطرد: “صدقَ نيلسون مانديلا؛ إن الإبادة الجماعية في رواندا وصمةُ عارٍ على جبينِ البشرية”.

كان أوبنجو واحداً من مئات الآلاف يحملون المناجل والسكاكين والعُصيّ ويحزّون الرؤوس في كل مكانٍ في رواندا، في العاصمة كيجالي وفي القرى والغابات والكنائس والمدارس وحتى الحقول.

ولكن ما الذي حدثَ لينفجرَ بركانُ الكراهية هكذا؟ ألان ميلي صحفيٌ عاصَرَ الإبادةَ، قال في ندوةٍ عُقِدَت في العاصمة الرواندية عن أثر الإعلام في الإبادة الجماعية بمناسبة مرور ثلاثين عاماً على الكارثة: “لقد كان لوسائلِ الإعلام أثرٌ مهمٌ في التحريض على الإبادة الجماعية في رواندا”. أوبنجو يعترف: “تحوّلتُ إلى إنسانٍ وحشيٍ من الدعاية التي كنا نسمعها في إذاعةِ الألفِ تلّ … كنا نَقتلُ بحماسةٍ وجنونٍ، كأننا نَقتلُ الصراصيرَ أو الثعابين”. كانت إذاعةُ الألفِ تلٍّ والمعروفةُ محلّياً بـ “أر تى أل أم” قد دُشِّنَت قبل تسعةِ أشهُرٍ من حمْلةِ الإبادة وأُغلقَتْ بانتهائها. نُسبَ إليها قدرٌ كبيرٌ من التحريض واعتُبِرَت الذراعَ الإعلاميَ غيرَ الرسميَّ للحكومة ولبعض رجال الأعمال من الهوتو. في بداية يونيو 2024 عقدتُ استطلاعاً للرأي لأسبابٍ تدريبيةٍ على هامش ورشةِ عملٍ لصحفيين من اتحاد الإعلاميين الأفارقة والآسيويين في القاهرة، ضمَّ اثنين وأربعين صحفياً فيهم عشرون صحفياً إفريقياً، رأى 85 في المئة أن الإعلام كان مسؤولاً مباشراً عن الإبادة، في حينِ رأى 15 في المئة أن الإعلامَ كان مسؤولاً غيرَ مباشر.

وفي مقابلةٍ هاتفيةٍ سألتُ رئيسةَ الاتحاد الدولي للصحفيات العاملات بالإذاعة والتلفزيون جولا ديونز مامنجون عن مسؤوليةِ الإعلام في رواندا عن عمليات الإبادة الجماعية. قَرنتُ سؤالي بتسجيلٍ صوتيٍ لإذاعة الألفِ تلٍّ قُبَيْلَ المجازرِ وحينَها جاء فيه: “هؤلاء القوم قذرون”، “علينا أن نُبيدَهم، يجب علينا التخلصُ منهم، هؤلاء الصراصيرُ متى سيرحلون؟” وتسجيلٍ ثانٍ بعد أغنيةٍ ألحانُها وكلماتُها مثل طبولِ الحرب: “علينا أن نُبيدَ الصراصير، لو أَبدناهم سنكون المنتصرين”. أجابتني السيدةُ مامنجون: “الإعلام وفي القلب منه الإذاعةُ كان سبباً مباشراً لما حدث. عملُ الإعلامِ منعُ الكراهيةِ لا نشرُها، نشرُ ثقافةِ التسامح والإخاء والتعاون في المجتمعات لا الحضُّ على القتل والعنف، نشرُ الطمأنينةِ في المجتمع لا إشاعةُ الخوف والفزع”. استطردَت: “تركَ الإعلامُ الميكروفونَ وأمسكَ بالسكين، واستبدلَ الصحفيُّ المنجلَ بالقلمِ وسارَ خلفَه مئاتُ الآلاف. أشرفتُ على تجاربَ إذاعيةٍ في العالم. ولنا في الاتحاد الدولي للصحفيات العاملات بالإذاعة والتلفزيون في إفريقيا فروعٌ. ونعرفُ تأثيرَ الإذاعة في الجمهور خاصةً إذا كان لا يجيد القراءةَ والكتابةَ كما كان الجمهورُ الرواندي حينئذٍ قبيلَ جرائم الإبادة المرعبة”.

انتهجَتْ إذاعةُ الألفِ تلٍّ نشرَ ثقافةِ الكراهيةِ بفجاجةٍ مع بدءِ مفاوضاتِ أروشا للسلام في 1993. بدأت المفاوضاتُ في تنزانيا وكان الهدفُ وضعَ حدٍ لصراعٍ مسلحٍ مستمرٍ منذ أكتوبر 1990 بين الجبهة الوطنية الرواندية في أوغندا والحكومة الرواندية والهوتو. كانت الأممُ المتحدةُ حاضرةً في المفاوضات، وكذلك قواتُ حفظِ السلام والفرقاءُ والمعارضةُ المعتدلةُ من الهوتو. جاء الاتفاقُ في الرابع من أغسطس سنة 1993 على ترتيباتٍ لتقاسم السلطة وإنشاءِ حكومةٍ انتقاليةٍ وجمعيةٍ وطنيةٍ وجيشٍ روانديٍ موحّدٍ بنسبة ستين إلى أربعين بين القوات الحكومية والجبهة الوطنية الرواندية.

كان السلام قريباً وباليدِ منعُ الكارثةِ، لكن المفاوضاتِ فشلَت. رصدَ اللواءُ روميو دالير، قائدُ قوةِ حفظ السلام في رواندا التابعةِ للأمم المتحدة، ما حدثَ بقوله: “كان في التواصل خللٌ حتى داخل المؤسسة الواحدة، بين مجلس الأمن والأمانة العامة للأمم المتحدة … بل داخل مكتب الأمين العام للأمم المتحدة بطرس غالي وإدارة عمليات حفظ السلام”. ويقولُ مايكل باريب ممثلُ الولايات المتحدة في بعثة الأمم المتحدة في رواندا زمنَ الإبادة، إن المفاوضاتِ في أروشا كانت “بيتاً مِن ورق … الدبلوماسيون كانوا وكأنهم سَلّموا قنبلةً موقوتةً للأمم المتحدة”.

ضاعفَ الإعلامُ فرصَ فشلِ الاتفاق مع هذه التجاذبات الدبلوماسية بين الأطراف. كانت المفاوضاتُ في تنزانيا ولكن لم يكن أحدٌ في رواندا يعلمُ عنها شيئاً، فلم يكتفِ الإعلامُ بالحضِّ على الكراهية، بل صمتَ ولم يُذِعْ أيَّ خبرٍ عن مفاوضات السلام في أروشا. “كلاهما خطأٌ فادحٌ … التحريضُ والتعتيم” هذا ما قالته لي د. عبير سعدي الباحثةُ في جامعة دورتموند الألمانية، والتي درّبَت كثيراً من الصحفيين في إفريقيا. أضافت: “لو تابَعَ الجمهورُ الروانديُ مفاوضاتِ السلام التي كانت تضم كافةَ الأطراف المتصارعة بمشاركة الأمم المتحدة، ولو استقبلَ الجمهورُ الرسالةَ الإعلامية التي تنقل صورةً إيجابيةً للواقع في أروشا بدلاً من سماع رسالةٍ إعلاميةٍ سلبيةٍ تدعو إلى القتل والدم لكانت النتيجةُ حتماً ستختلف”. الاستنتاجُ ذاتُه وصلَت إليه فينوس نستمانا، وهي مسؤولةٌ إعلاميةٌ للأمم المتحدة في رواندا وقتَ المفاوضات، فقد صرّحَت أمام مؤتمر صُنعِ القرار الدولي في عصر الإبادة: “الإعلامُ لم يقدّم سوى القليل جداً من المعلومات إلى الشعب الرواندي عن مفاوضات السلام. وأيضاً الصراعُ المعلوماتي مَكّنَ مُتطرفي الهوتو من العمل بحُريةٍ لتنفيذ مخطط القتل”.

كان أوبنجو حينها يتابعُ الإذاعةَ بحماسٍ مثل جموع الهوتو، وأوتشي تتابعها بخوفٍ مثل باقي التوتسي، مستذكرةً ما حدث لقومها من تنكيلٍ وتهجيرٍ في العقود السابقة. كانت إذاعة الألف تلٍّ تحثُ الهوتو على عمليات القتل ليس بالتحريض المباشر فقط بل بإمدادهم بالمعلومات عن عناوين التوتسي وبياناتهم تسهيلاً لاستهدافهم. كان المذيع يصرخُ في نشوةٍ حتى مع بداية اليوم الأوّل للدم: “دعونا نغنّي، دعونا نفرح أيها الأصدقاء … الصراصير ليسوا كثيرين”. ووصفُ الصراصير له دلالتُه الشعبيةُ في العرف الاجتماعي، فالفردُ الرواندي يقدّر الحليبَ وأكثرُ ما يكدّره سقوطُ صرصارٍ فيه، فكان يعمد إلى قتله حيثما وُجد.

بالتوازي مع تلك الكراهية المحمولة على موجاتِ الأثيرِ كانت صحيفةُ كينا ماكيتا تحرّض على الكراهية كتابةً ومعها أكثرُ من عشرين صحيفةً صدرت ما بين أعوام 1991 و1993 في زمنٍ عرف بـ”فوضى الحريات” بدأ في أول التسعينيات مع الضغوط الدولية من أجل التحول الديمقراطي. فقد خُفّفت القيودُ على حرية التعبير وظهر عددٌ لم يسبقه مثيلٌ في رواندا من الصحف. كان المعلَن أنها مستقلةٌ ولكن الواقع أن معظمَها كانت تتحدث بِاسم الحكومة وبِاسم متنفّذين من الهوتو مثل صحيفة كينا ماكيتا. من الصحف التي ظهرَت حينها أومليزا (الصاعقة) وأموسيسو (الضوء أو الشروق)، وكانجورا (استيقظوا)، وهي الأجرأُ في التحريض فقد نشرَت غيرَ مرّةٍ رسوماً للتوتسي على هيئة ثعابين مُعَلِّقةً: “ثعابينُ تستحقّ القتلَ”. دُمّرَت مقارُّ هذه الصحف بعد الإبادة الجماعية.

ترى عبير سعدي أن خطورةَ الرسالة هنا أنها موجّهةٌ إلى جمهورٍ يرى أن إعلامَه هو الحقيقةُ. فلم يكن الجمهور متعلماً أو مثقفاً، بل كان يتلقى الرسالةَ وينفّذها موقِناً أنها الصواب. سألتُ سعدي: هل أَسهمَ الإعلامُ في عملية الإبادة الجماعية في رواندا؟ فأجابت: “نعم بالقَطع، أَسهمَ الإعلامُ وبقوةٍ وبدرجةٍ غيرِ معقولة”.

أَصدرَت المحكمةُ الجنائيةُ الدوليةُ حُكماً على أربعةٍ وثلاثين من مهندسي الإبادة الجماعية، بينهم صحفِيّان. الأوّل حسن نجيزي، مؤسسٌ وناشرٌ ومحررٌ في صحيفة كانجورا، وهو أوّل من وَصَفَ التوتسي بالصراصير وجرّدَهم من إنسانيتهم في عشرات المقالات. والثاني فرديناند ناهيمانا مذيعُ الألفِ تلّ. وقد أُدينَ كلاهما بالتحريض المباشر والعلني في وسائل الإعلام على الإبادة الجماعية. لم يكن العمل الصحفي والإعلامي مهنياً في رواندا حينها، بل يمكن لأيّ شخصٍ أن يكتب ما يريد طالما كان تحريضاً على التوتسي. فحسن نجيزي كان مثل غيره من زملاء المهنة حينها غيرَ مُدرَّب. قال عند محاكمته أمام محكمة الجنايات إنه إنما كان “ولد شوارع”.

اعترفَ سيرج دو يوسى، المدعي العام للمحكمة الجنائية الدولية في تصريحٍ له سنة 2016 :”لَم يُحاسَبْ كلُّ المسؤولين عن الإبادة الجماعية في رواندا”. ما زالت المقابرُ الجماعية تُكتشَف كلَّ يومٍ لضحايا الإبادة الجماعية، وآخِرُها مقبرةٌ تحوي مئةً وتسع عشرة جثةٍ اكتُشفَت وقتَ الاحتفال بالذكرى الثلاثين أسفل أحد المنازل في قرية نوكبا في جنوب شرق رواندا.

يُصرُّ الروانديون مع ذلك على استكمال الطريق، فكان “كويوكا 30” وهو مسمّى إحياء الذكرى. وكيوكا تعني في اللغة المحلية “التذكّر” تعبيراً عن أهوال الإبادة التي يجب أن لا تُنسَى لئلّا تتكرّر. وعلى درب “التذكّر” أعلنَت مديرةُ اليونيسكو أودري أوزلاي على هامش إحياء الذكرى الثلاثين للإبادة الجماعية إدراجَ أربعةِ نُصُبٍ تذكاريةٍ تضمّ رفاتَ مئاتِ الآلاف من الضحايا على قائمة التراث العالمي، وهم “نياماتا” و”مورامي” و”جيسوري” و”بيسيسرو”. لكلٍّ منها قصصٌ وحكاياتٌ مزلزلةٌ نقترب منها عند معرفة معاني أسماء النُصُب. فنياماتا في شمال رواندا يعني “أعطهم الكرامة” ودُفِنَ فيه أكثر من أربعين ألف ضحية. ومورامي في العاصمة كيجالي يعني “تذكّرني”، ودُفنَ فيه عشراتُ الآلاف من الضحايا. جيسوري في جنوب رواندا يعني “لا تنسَ أبداً”، دعوةً إلى العالَم أن لا ينسى ما حدث. وفي شرق رواندا الرابع بيسيسرو يعني “الأمل”، ورسالته أن الحياة مستمرةٌ مع رفاتِ أكثر من خمسين ألف ضحيةٍ بين جانبيه.

ما كان للذكرى أن يكونَ لها صدىً ذو معنىً إلّا بإقرار نظامٍ للعدالة الآنيّة والانتقالية، يعاقَب فيها المجرمون والمتورطون في الإبادة ويُعوَّض الضحايا عن آلامِهم وفقدِهم. بعد الإبادة، أَطبقَت يدُ العدالة على ما يقاربُ مئةً وعشرين ألف شخص. وأمام هذا العدد من القضايا، قُسّمَت الإجراءاتُ القضائيةُ لثلاثة مستويات. الأولُ هو المحكمة الجنائية الدولية لرواندا، وهي جهةٌ محسوبةٌ على الأمم المتحدة أُنشئَت بعد عمليات الإبادة مباشرةً في نهاية 1994. تكفّلَت المحكمةُ بملاحقة الشخصيات البارزة المسؤولة عن القتل، ومنها رئيس الوزراء “جان كامباندا” فترةَ المجزرةِ الذي أُدينَ بجريمة الإبادة الجماعية وحُكمَ عليه بالسَجن المؤبَّد. مَثَّلَت المحاكمُ الحكومية لرواندا المستوى الثاني وتولّت قضايا المخطّطين للإبادة والقادةِ ممّن ارتكبوا أعمالَ قتلٍ جماعية. بحلول 2006، حُوكم عشرةُ آلاف شخصٍ بالسجن أو السجن المؤبد أو الإعدام، وإن كانت الحكومةُ الرواندية قد أَلغَت عقوبةَ الإعدام في 2007.

أقرّت الحكومةُ ما سُمّيَ “لجنة الوحدة والمصالحة الوطنية” ومهمّتها التصالح والتسامح، لأن العدالةَ القادمةَ من الأعلى – محاكم دولية أو محلية – لا تكفي لرأبِ الصدوعِ في جسمِ المجتمع الرواندي من الداخل وتوحيدِ عناصره. ثم برزَ نظامٌ تشاركيٌ يمثل المستوى الثالثَ للعدالة ويسمّى محاكم “جاكاكا”، وهو نموذجٌ فريدٌ ومميزٌ أُنشئ في 2001 وفُعّلَ في العام الذي يليه. “جاكاكا” يعني “العشب القصير”، واستُدعيَ هذا النموذجُ من التاريخ الرواندي القديم، فكانت في رواندا محاكمُ تقليديةٌ تعتمد على العرف وتستهدفُ تحقيقَ العدالة السريعة للتعافي المجتمعي. تشجعُ هذه المحاكمُ على المواجهة بالحوار بين الجاني وذوي الضحايا، وقُضاتُها من شيوخ القرية أو المجتمع. يفترش القضاةُ الأرضَ في الساحات العُشبية يستمعون لذوي الضحايا وأقوال الجناة. حاكمَت الجاكاكا المتورطين في أعمال القتل والإبادة وصنّفتهم ثلاثَ فئات: الأولى مَن شارَكوا في عمليات القتل الفردي والشروع فيه والأذى الجسدي. والثانية مَن تورّطوا باعتداءاتٍ على الآخَرين وممتلكاتهم دون النيّة أو التسبّب في القتل. أما الفئةُ الأخيرةُ فلجرائم النهب والتهريب. تدرّجَت العقوباتُ في الجاكاكا تنازلياً: خمسٌ وعشرون أو ثلاثون سنة سجنٍ لأصحاب الفئة الأولى، وخمسُ سنواتٍ أو سبعٌ للثانية، بينما حَكمَت على المُدانين من الفئة الثالثة بتقديم خدماتٍ اجتماعية. خُفّفَت أحكامُ مَن اعترفَ بجُرمه قبل مُثوله أمام القضاة.

حُوكِمَ أوبنجو أمام الجاكاكا وكان من الفئة الأولى وعوقب بالسجن. كان قد أقرّ بجُرمه وندمَ وطلبَ الصفحَ من أوتشي بعدما لقيَها مصادفةً في أحد برامج المصالحة فتصافحا وتعاهدا على الغفران. ولكن نورا ما زالت حزينةً كما تقول خالتُها أوتشي. تتذكر أوتشي كلماتِ رئيس أساقفة جنوب إفريقيا ديزموند توتو: “الغفرانُ ليس نسيانَ ما حدثَ بل هو رفضُ السماح لما حدثَ أن يدمّرَ حياتَنا”.

أوجزَت أجاثا أزهيانا وزيرةُ العدل في رواندا قصةَ العدالة في تصريحٍ لها بقولها: “لقد تعلّمنا من دروسِ الإبادة الجماعية في رواندا “. هو المعنى ذاتُه الذي سمعته من دان موينوزا، سفيرِ رواندا في مصر، في تصريحٍ في الاحتفال بالذكرى الثلاثين لعملية الإبادة الجماعية بالسفارة الرواندية بالقاهرة في أبريل 2024 قال فيه: “لقد أعدنا البناءَ من الصفر، فالدرسُ الأولُ أننا كنّا وحدَنا”.

فَعّلَت رواندا مبادراتِ تسامحٍ كثيرةً بعد نجاحها في ترسيةِ مبادئَ عدالةٍ راسخة. منها مبادرةُ “غرنيكا” والاسمُ مأخوذٌ من اسم اللوحة التجريدية الشهيرة للفنان العالمي بابلو بيكاسو التي رسمَها سنة 1937 بتكليفٍ من الحكومة الإسبانية، وهي جداريةٌ تصوّرُ أهوالَ الحرب أُعيدَ استخدامُها مبادرةً تستهدف بناءَ السلام الأهلي. مبادرةٌ ثانيةٌ سمّيَت “بقرة من أجل السلام” مستدعيةً ثقافةً قديمةً من التراث الرواندي سمّيَت بـ”غوتاتغا إينكا”، وتعني “إبرام عقد صداقة”، يُهدي فيها الشخصُ بقرةً لشخصٍ آخَرَ تعبيراً عن الاحترام أو الصداقة أو الامتنان أو مهراً للزواج. تُمنَحُ البقرةُ لمن عقدوا العزمَ سلفاً على التصالح مع الماضي وتربطُ المانحَ والممنوحَ، الجانيَ والضحيةَ، برباطِ صداقةٍ ومصلحةٍ قد يحول دون تكرارِ المأساة مستقبلاً. انتشرت هذه المبادراتُ في كلّ قريةٍ وكلّ حيٍّ في رواندا، يجتمع فيه الروانديون من ذوي الضحايا والجناة. قال فيها توني بلير رئيسُ وزراء بريطانيا الأسبقُ في مقالةٍ في “الغارديان” عنوانها “رواندا أصبحَت منارةً للأمل”: “الروانديون هُم أنفسُهم من أسهَموا في صياغة السياسة اللازمة لشفاءِ بلدِهم، لتصبحَ رواندا بتجربتِها في التسامح والعدالة منارةَ الأمل”.

وصفَ الأمينُ العام للأمم المتحدة كوفي عنان ما حدثَ في رواندا أنه “كان إبادةً للروح الإنسانية”. تُرِكَ الروانديون وحدَهم فانقلبَ وطنُهم على نفسِه وبات مسرحاً لواحدةٍ من أبشع مشاهد الإبادة الجماعية في التاريخ الحديث. فالعالم زمنَ الإبادة “كان نائماً في جميع أنحائه … وهناك أشخاصٌ مثلي يجلسون في مكاتبهم يوماً بعد يومٍ ولَم يفعلوا شيئاً”، والقولُ هنا للرئيس الأمريكي الأسبق بيل كلينتون. وعن هذا العبءِ قال روميو دالير قائدُ قوة الأمم المتحدة لحفظ السلام في رواندا وقتَ الإبادة: “لقد خَذَلْنا شعبَ رواندا …”.

وفّرَت الجهودُ الذاتية سُبلَ العدالةِ والعدالةِ الانتقاليةِ والمصالحةِ الأهليةِ فانتشلَت كثيراً من الروانديين مثل أوتشا وأوبنجو من متاهات الماضي ومآسيه، ممهدةً الطريقَ لبلدِ الألف تلٍّ لينفضَ الغبارَ عن نفسه ويسيرَ للأمام. تتصدر رواندا اليوم دولَ إفريقيا في معدلات النمو بالغة 8 في المئة سنوياً في العقدين الأخيرين، أي أعلى أربعَ مرّاتٍ من حقبة ما قبل الإبادة. برزت رواندا مؤخّراً سوقاً صاعدةً إفريقياً في التقنية الحاسوبية المتقدمة. وشهدَ البلدُ انخفاضاً لافتاً في معدّلات الفقر وموت الأطفال، وارتفاعاً ملحوظاً في المعدّل العامّ لعمر الفرد. وتشهد اليومَ النسبةَ الأعلى عالمياً في تمثيل النساء في الجهات التشريعية للدولة.

برأيِ بعضِ من حادثتُهم، يُخيّمُ مستقبلُ السلام في هذا القُطر الإفريقي على مخيالِ كثيرين داخل رواندا وخارجها، خاصةً الجيل الجديد من الروانديين الذين وُلدَ أكثرُهم بعد فاجعةِ الإبادة الجماعية قبل ثلاثين عاماً. متسائلين هل ستبقى رائحةُ أشجار الليمون وعطر الورود أَمْ ستَخرجُ شياطينُ من تحت الأرض بلونِ الدمِ مِن جديد.

كاتب صحفي مصري

الفراتس

——————————

العدالة الانتقالية.. خطوات لنزع الفتيل/ خالد الجرعتلي | جنى العيسى | علي درويش | حسن إبراهيم

سقط نظام الأسد، لكن عمليات المحاسبة التي انتظرها السوريون على مدار سنوات، لم تطل رجالاته المعروفين بارتكاب انتهاكات وجرائم بحق السوريين وثقتها منظمات وجهات دولية، وأخرى محلية.

ضباط وعسكريون من خلفيات مدنية، شكلوا عماد آلة النظام المخلوع العسكرية، وكانوا يده الضاربة في محاولات إخماد حراك السوريين على مدى 14 عامًا، لا يزال جزء منهم طلقاء إما في سوريا، أو في دول الجوار التي هربوا إليها مع هرب الأسد نحو موسكو.

الرئيس السوري في المرحلة الانتقالية، أحمد الشرع، قال في مناسبات مختلفة، إنه عازم على إطلاق مسار عدالة انتقالية، يهدف لمحاسبة كبار مرتكبي جرائم الحرب في سوريا، لكن هذا المسار لم تتكشف ملامحه حتى اليوم.

وفي وقت لا تزال تحركات حكومة دمشق المؤقتة خجولة في هذا الإطار، تستمر المطالبة بمحاسبة مرتكبي الجرائم من نظام الأسد المخلوع، وتذهب بعيدًا في بعض الأحيان، حتى تطالب بمحاسبة الإعلاميين الحربيين، وأساتذة في الجامعات، ونافذين في النظام المخلوع.

وعود حكومية ومطالب بالتهدئة

زاد الشحن والمطالب بمحاسبة مرتكبي الجرائم نتيجة عدة أحداث برزت مؤخرًا، الأول ظهور عدد من رجال النظام السابق في تسجيلات مصورة يهددون بتنفيذ عمليات استهداف للقيادة الأمنية والعسكرية، وهو ما تُرجم على الأرض بمقتل عدد من عناصر “إدارة الأمن العام” و”إدارة العمليات العسكرية” عبر كمائن نفذها فلول النظام السابق.

أبرز الشخصيات التي أججت الشارع المطالب بالمحاسبة ووجهت تهديدات للسوريين هي العنصر السابق في “الحرس الجمهوري” مقداد فتيحة، الذي أعلن، في 6 من شباط الحالي، عن تأسيس “لواء درع الساحل” في جبال اللاذقية، متوعدًا بشن عمليات عسكرية ضد “إدارة العمليات العسكرية” و”إدارة الأمن العام”.

الحدث الثاني ظهور قادة في النظام السابق بأماكن ارتكبوا فيها مجازر بحق المدنيين. في 7 من شباط، خرجت مظاهرات في حي التضامن جنوبي دمشق، بعد زيارة فادي أحمد المعروف باسم “فادي صقر” للحي، وهو أحد المسؤولين عن مجزرة “التضامن”.

وما زاد من احتقان الأهالي هو توارد أنباء عن إجراء فادي صقر “تسوية” مع السلطات الجديدة، وأنه أحد أعضاء لجنة “السلم الأهلي”، لكن لم تستطع عنب بلدي التحقق من صحة هذه الأنباء.

طالب المتظاهرون القيادة الأمنية والعسكرية في حكومة دمشق المؤقتة باعتقال فادي ومحاسبته على الجرائم التي ارتكبها خلال السنوات الماضية.

فادي كان قائد “الدفاع الوطني” في التضامن ثم في دمشق، وكان أحد المسؤولين عن ملف المصالحات في عهد النظام السابق، وهو ملف يضم عددًا من الشخصيات للتفاوض مع مقاتلي المعارضة في المناطق المحاصرة من قبل الجيش والميليشيات الرديفة، وتنتهي بتهجير المقاتلين إلى جانب عائلات من أبناء هذه المناطق.

الحدث الثالث، ظهور مسؤولين في نظام الأسد شاركوا بالانتهاكات ضد السوريين، وإعلاميين كانوا يرافقون قوات الأسد والميليشيات الرديفة في عملياتهم العسكرية، بمقابلات إعلامية بوتيرة متزايدة.

وتمحورت بعض المقابلات حول تبرير المسؤولين السابقين موقفهم المؤيد للنظام السابق، أو لنفي ضلوعهم في انتهاكات أو معرفته بما كان يحصل من تعذيب وقتل لمدنيين في السجون.

وزير الداخلية في حكومة الأسد المخلوع، محمد الشعار، سلم نفسه للقوى الأمنية طواعية، وخرج في مقابلة مع قناة “العربية” نفى فيها ارتكابه فعلًا يعاقب عليه القانون، علمًا أنه شارك في ارتكاب جرائم في سوريا ولبنان وفق ما وثقته مراكز حقوقية.

الأمر الآخر، هو إدارة عناصر وقادة من فلول النظام السابق على منصات التواصل حملات تحريض قائمة على أساس طائفي وعرقي.

هذه الحالة خلقت جوًا مشحونًا واستفزازًا في أوساط الشارع السوري، الذي يرفض أن يرى جلاديه يسيرون في أحيائه وبين أبنائه.

بينما قلل وزير الدفاع السوري، مرهف أبو قصرة، من خطر البؤر التي يتنشر فيها فلول النظام السابق، مشيرًا إلى أنه يتم التعامل معها وخطرها يتراجع.

الحكومة.. حملات ووعود

في كلمته التي وجهها للشعب السوري، عقب تنصيبه رئيسًا للمرحلة الانتقالية، ركّز أحمد الشرع على ضمان السلم الأهلي والعدالة الانتقالية وبناء مؤسسات الدولة، والمشاركة في المرحلة الانتقالية من خلال تشكيل حكومة شاملة ومجلس تشريعي مصغر وإطلاق مؤتمر حوار وطني.

وقال إنه يركز في الفترة المقبلة على رسم الأولويات، من بينها تحقيق السلم الأهلي، وملاحقة المجرمين الذين ولغوا في الدم السوري وارتكبوا بحق الشعب المجازر والجرائم سواء ممن اختبؤوا داخل البلاد أو فروا خارجها عبر “عدالة انتقالية حقيقية”.

وعن شكل العدالة الانتقالية في سوريا، قال الشرع في مقابلة لاحقة، إن هناك خيطًا رفيعًا مهمًا جدًا بين العدالة الانتقالية والسلم الأهلي، و”إن فرطنا في حقوق الناس، هذا سيؤثر على السلم الأهلي، وإن تشددنا بالمطالبة في حقوق الناس، أيضًا سيؤثر على السلم الأهلي، وستحصل حالة من الفزع”.

وقال الشرع إنه منذ إطلاق العمليات العسكرية، لم يصدر “عفو” عمن ارتكب جرائم منظّمة، وسط استمرار بملاحقة “الرؤوس الكبيرة المجرمة”، مستصعبًا الذهاب إلى كل جزئية حدثت في الـ60 سنة الماضية، معتبرًا أنه يجب أن يتسامى الناس عن بعض الحقوق، مع التركيز على الحقوق ذات الجرائم المنظمة، و”هذا هو الخيط الذي يحافظ على العدالة الانتقالية والسلم الأهلي”.

كما ربط تحسن الوضع الاقتصادي ونشاط أي استثمار اقتصادي في سوريا بوجود قضاء منصف وتوفر حالة استقرار أمنية، معتبرًا أن وجود اقتصاد ناجح، يتطلب إصلاح مؤسسات كثيرة.

الشرع وبعد يومين من سقوط النظام ووجود انتقادات حول مسألة الصفح عن عناصر النظام السابق وخاصة مرتكبي الجرائم، توعد بالإعلان عن القائمة “رقم 1” التي تتضمن أسماء كبار المتورطين في تعذيب الشعب السوري.

وقال الشرع، “لن نتوانى عن محاسبة المجرمين والقتلة وضباط الأمن والجيش المتورطين في تعذيب الشعب السوري. سوف نلاحق مجرمي الحرب ونطلبهم من الدول التي فروا إليها حتى ينالوا جزاءهم العادل”.

وتحدث عن عزم الإدارة الجديدة على تقديم مكافآت لمن يدلي بمعلومات عن كبار ضباط الجيش والأمن المتورطين في جرائم حرب، مضيفًا، “أكدنا التزامنا بالتسامح مع من لم تتلطخ أيديهم بدماء الشعب السوري، ومنحنا العفو لمن كان ضمن الخدمة الإلزامية، إن دماء الشهداء الأبرياء وحقوق المعتقلين أمانة لن نسمح أن تهدر أو تنسى”.

وبحسب ما تحدث به وزير الدفاع، مرهف أبو قصرة، في لقاء مع التلفزيون “العربي”، فإن التسويات لا تلغي عملية المحاسبة القانونية اللاحقة، وهي لضبط الأوضاع وعدم السماح بالفوضى وتثبيت الوضع الحالي ريثما يتم التعاطي مع هؤلاء الأشخاص عن طريق السلطات المختصة، ومن عليه قضايا جنائية أو تعذيب يجب أن تتم محاسبتهم عن طريق المؤسسات القضائية.

لكن حتى الآن لم يصدر أي حكم قضائي يخص محاسبة قادة النظام السابق ممن تم إلقاء القبض عليهم أو أجروا “تسويات”، ولعل أبرز الشخصيات التي أجرت “تسوية”، القائد السابق لـ”الحرس الجمهوري” طلال مخلوف.

ومع بداية الثورة السورية كان مخلوف قائدًا لـ”اللواء 105″، وفي عام 2016 عيّن قائدًا لـ”الحرس الجمهوري”، وخلال هذه السنوات شارك “الحرس الجمهوري” في قمع المظاهرات السلمية وقصف واقتحام المدن، خاصة في الغوطة الشرقية وأحياء حلب الشرقية.

وطرحت عنب بلدي مجموعة من الأسئلة على وزارة العدل في حكومة دمشق المؤقتة، استفسرت فيها عن القائمة “رقم 1” ومتى ستصدر، وهل يوجد تعاون أو تنسيق مع دول أخرى لتسليم المطلوبين، وما الخطوات التي تجريها وزارة العدل في مسار العدالة الانتقالية وما طبيعتها.

ورفضت الوزارة من جانبها الإجابة عن جميع هذه الأسئلة.

ما العدالة التي تحتاج إليها سوريا

تأتي أهمية تطبيق العدالة الانتقالية في سوريا من كونها البديل المتوازن عن عمليتين “شديدتي الخطورة”، هما طي الماضي كليًا، وتجاهل إرث الانتهاكات، وهو شيء مستحيل عمليًا لأن آثار الانتهاكات مستمرة وحاضرة، والثانية هي التوجه نحو الانتقام الفردي أو الجماعي الذي قد يؤدي لإسقاط فكرة الدولة والغوص في دوامة الفوضى والعنف، وفق ما يراه الحقوقي والباحث في مركز “الحوار السوري” نورس العبد الله.

الباحث قال لعنب بلدي، إن منظومة العدالة الانتقالية، وبمقاربة ليست نظرية، تسمح بالموازنة بين الاستجابة لآثار الماضي، وتسويته بشكل صحيح، إلى جانب التفاعل مع متطلبات الحاضر والتأسيس للمستقبل.

تكمن أهمية تطبيق العدالة الانتقالية في سوريا بأنها البديل المتوازن عن عمليتين شديدتي الخطورة، هما طي الماضي كليًا وتجاهل إرث الانتهاكات، وهو شيء مستحيل عمليًا، لأن آثار الانتهاكات مستمرة وحاضرة، والثانية هي التوجه نحو الانتقام الفردي أو الجماعي ما يعني إسقاط فكرة الدولة والغوص في دوامة الفوضى والعنف.

من جانب آخر، يرى العبد الله أن تطبيق العدالة الانتقالية من حيث المبدأ وبغض النظر عن عشرات التفاصيل يسمح ببناء دولة جديدة تضمن عدم تكرار ما حصل سابقًا، وتسمح ببناء “هوية وطنية سورية حقيقية”.

يبدأ مسار العدالة في سوريا أو كما عرف مؤخرًا باسم “مرحلة العدالة الانتقالية” بقيادة هيئة عدالة انتقالية تتشكل عبر مشاورات مجتمعية ونقاشات تفضي للتوافق على أشخاص ينضمون لهذه الهيئة، وفق ما يراه مدير “الشبكة السورية لحقوق الإنسان”، فضل عبد الغني، بشرط أن يكون أعضاء هذه الهيئة خبراء في قضايا العدالة الانتقالية والقانون الدولي، وبملف توثيق الانتهاكات، إضافة إلى منظمات مجتمع مدني حقوقية، وروابط الضحايا، وبالاشتراك والتنسيق مع الحكومة.

فضل عبد الغني أضاف، لعنب بلدي، أن الهيئة لا تُشكل من قبل الحكومة، ومن الخطأ الاعتقاد أن “هيئة العدالة الانتقالية” هي جهة محسوبة على الحكومة، ولا يجب أن تكون كذلك، بل تتشكل عبر مسار مجتمعي ترعاه الحكومة.

وتشرف هذه الهيئة على عملية تنسيق تقود الدولة لمسار العدالة، وعبر مؤسسات الدولة نفسها، لكن باستقلالية تامة عن الدولة، إذ يرتبط عملها بالمحاسبة وهو مسار قضائي يسري عبر المحاكم.

وتتحمل هيئة العدالة الانتقالية ضمن ركن المحاسبة مسؤولية نقل الأفراد إلى المحاكمات تمهيدًا لمحاسبتهم، وتلعب الهيئة في هذه المرحلة دورًا يشبه مهمة الادعاء العام، وفق عبد الغني، وهو ما يجعل من الضروري جعل مسار عملها مستقلًا عن الدولة.

مدير “الشبكة السورية لحقوق الإنسان” أضاف خلال حديثه لعنب بلدي، أن مفهوم العدالة الانتقالية يهدف بشكل أساسي إلى “تطبيق العدالة في مرحلة انتقالية”، خصوصًا أنه في هذه المرحلة يمكن أن ينعكس النزاع نفسه، خصوصًا في الحالة السورية مع وجود طرفين، الأول مرتكب الانتهاكات، الذي انتقل للمرحلة الانتقالية، وطرف ثانٍ وقع عليه الانتهاك، ويطالب الطرف الأول بالمضي قدمًا، بينما يطالب الثاني بالمحاسبة، ما يولد حالة نزاع بين الطرفين خلال هذه المرحلة.

وتهدف فلسفة العدالة الانتقالية لتجنب الوقوع بين هذه الأطراف خلال المرحلة التي تشهد فيها البلاد انتقالًا، مع وجود هذه الأطراف نفسها، وفق عبد الغني.

ثلاثة تحديات كبرى

تواجه المرحلة عقبات عديدة تتشابه في السياقات، وفق ما يراه الباحث نورس العبد الله، الذي حدد من وجهة نظره ثلاثة تحديات كبرى تواجه المرحلة.

وقال الباحث لعنب بلدي، إن التحدي الأول هو بناء “التوافقات الوطنية الكبرى” حول فلسفة العدالة الانتقالية، ومدى تركيزها على الآليات القضائية وغير القضائية، فعلى الرغم من التحضيرات الاستثنائية في السياق السوري على صعيد التوعية والدراسات والنقاشات والإجراءات المختلفة لتطبيق العدالة الانتقالية، توجد عشرات الأطروحات، كل منها صحيح في جانب، وهذا بحد نفسه تحدٍ يواجه المرحلة.

وأضاف أن الموازنة بين الاستقرار والخدمات خلال المرحلة الحالية، وبين إطلاق مسار متكامل للعدالة الانتقالية، هو تحدٍ آخر، إذ يمكن الوقوف على عدد مرتكبي الانتهاكات في سوريا وانتشار السلاح وضعف المؤسسات التي يجب أن تلعب أدوارًا رئيسة في القضاء وأجهزة إنفاذ القانون وغيرها، وهي تحديات أخرى.

واعتبر الباحث والحقوقي أن الجانب الاقتصادي والظروف السياسية الإقليمية والدولية تشكل عقبات أمام مرحلة عدالة انتقالية سلسة، إذ تفرض هذه الجوانب أحكامها على منطق العدالة الانتقالية في سوريا وعادة ما تكون عوامل سلبية وليست إيجابية.

وفيما يخص الجدول الزمني للبدء بمسار عدالة انتقالية على الصعيد العملي، قال العبد الله، إن المسار انطلق بالفعل مع حل المؤسسات الأمنية واعتقال بعض الشخصيات المتورطة وحل أحزاب “الجبهة الوطنية”، وغيرها من الخطوات، وإن كانت هذه الإجراءات تعد تدابير أولية وترتبط بترتيب المشهد الحالي أكثر من كونها قائمة على الاستجابة لمنطق تطبيق العدالة، معتبرًا أن ذلك “أمر طبيعي”، فمسارات العدالة الانتقالية عمليًا ليست كتلة واحدة يتم تطبيقها كمشروع له بداية ونهاية ولا يمكن النظر إليه بهذه الطريقة.

ولفت الباحث إلى أهمية الحذر من المضي بإجراءات جزئية ومنفردة من السلطة الانتقالية دون حشد أكبر قدر ممكن من التوافقات على محددات العدالة الانتقالية المطلوبة وآلياتها، وحوكمة ذلك، من خلال النص والهياكل الرسمية كإحداث وزارة أو هيئة للعدالة الانتقالية لضمان مشاركة فاعلة من كل القوى الداعمة للعدالة الانتقالية.

واعتبر العبد الله أنه من الناحية النظرية، تعتبر العدالة الانتقالية شاملة لجميع الأطراف، لكن هذا النهج “نظري محض”، فالتجارب العملية في دول مختلفة تكشف عن الأثر الواقعي لطريقة التحول على منطق العدالة الانتقالية، لذلك يمكن التفكير بمنطق “جبر ضرر جميع الضحايا” بعد حسم تعريف الضحية أصلًا، وعدم التوجه للتمسك النظري بفكرة المحاسبة الشاملة لأنها تؤدي لتفجير الواقع، وهذه النقطة بحد ذاتها هي من القضايا الجدلية، وفق الباحث.

ولفت إلى ضرورة فهم واستيعاب الدروس المستفادة من التجارب المختلفة في إنتاج مقاربة سورية للعدالة الانتقالية، التي لن تكون محل إجماع بأي حال من الأحوال، وسيستمر الجدل حولها كما حصل في كل مكان.

خطوات متوقعة

توقع مدير “الشبكة السورية لحقوق الإنسان”، فضل عبد الغني، خلال حديثه لعنب بلدي سير عملية العدالة الانتقالية في سوريا ضمن جدول عملي مقسم على صعد مختلفة، تبدأ من محاسبة المتورطين بالانتهاكات، وتقسم هذه العملية على قسمين، الأول جنائي والثاني غير جنائي، ويستهدف الأول من ارتكب جرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية، أو تورطوا فيها وفق آليات جنائية يحال بموجبها إلى المحاكمات ويستهدف بشكل أساسي الصفوف العليا، أو أبرز المسؤولين عن الانتهاكات مثل قادة الصف الأول والثاني، وكون الحالة السورية تشمل “أعدادًا هائلة” من مرتكبي الجرائم، وفق عبد العني، تقارب 16200 شخص ارتكبوا جرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية عند النظام السوري، يتطلب وجود معايير من نوع ثانٍ للمحاسبة.

وقال مدير “الشبكة”، إن الحالة السورية لا تدعم محاكمة الـ16 ألف شخص من مرتكبي الجرائم، ما يتطلب وجود معايير تبنى عليها آلية المحاكمة، والمضي قدمًا، لذلك تستهدف الهيئات القضائية نسبًا مئوية من الأطراف العسكرية في سوريا، مثلًا 90% من قوات النظام وتحديدًا قادة الصفوف الأولى، بينما تستهدف المحاسبة غير الجنائية الصفوف الأقل مثل قادة الصف الثالث، والرابع، والخامس، والسادس، وتشمل الـ10% الأخرى بقية أطراف الصراع في سوريا.

المحاكم غير الجنائية، تستهدفها جهة يطلق عليها، وفق عبد الغني، “لجان الحقيقة والمصالحة” التي تستدعي قادة الصفوف المتدنية وتطلب منهم الاعتراف بانتهاكاتهم ومواجهة ضحاياهم الذين عذبوهم وقتلوا أهلهم وشردوهم، وتطلب منهم الاعتذار والاعتراف، وأن يدفعوا تعويضات للضحايا.

ولا ترتبط المحاكمات الجنائية بالجانب العسكري من قادة النظام السوري المخلوع، إذ قد تطال رجال الأعمال الذين أسهموا بدعم النظام اقتصاديًا، إلى جانب قادة الصفوف السياسية.

والخطوة الثانية أطلق عليها عبد الغني اسم “جبر الضرر”، وهو ما تشرف عليه “لجان الحقيقة والمصالحة”، وترتبط بدفع التعويضات المالية، واعتراف مرتكبي الانتهاكات بجرائمهم، ثم الانتقال إلى خطوة “تخليد الذكرى” ويقصد بها الأفراد الذين تعرضوا لانتهاكات على مر السنوات الماضية.

ولفت إلى ضرورة النظر في مسار التعويضات، إذ لا بديل عنه، ما يعني ضرورة وجود لجنة للتقييم، والنظر في إعطاء الأولوية للضحايا الأكثر تضررًا، لذلك تعتبر هذه اللجان مستقلة بشكل أساسي، حتى لا تخضع للتأثير، وترتبط بمعايير واضحة لإجراء هذه العملية.

تعود أسباب تعدد المسارات في العدالة الانتقالية بسوريا إلى وجود كم هائل من الانتهاكات، ما يجعل من المسار شاقًا ومعقدًا ومتداخلًا بالنسبة للمحاكم التي ستضم العديد من المسارات، بدءًا من المحاكم الدولية، ووصولًا للمحلية.

عبد الغني أرجع أسباب تعدد المسارات في العدالة الانتقالية بسوريا إلى وجود “كم هائل” من الانتهاكات، معتبرًا أن المسار سيكون شاقًا ومعقدًا ومتداخلًا بالنسبة للمحاكم أيضًا التي ستضم العديد من المسارات، بدءًا من المحاكم الدولية، ووصولًا للمحلية.

    لا تعليق أممي

    صرح المبعوث الأممي إلى سوريا، غير بيدرسون، في أكثر من مناسبة أن ملف العدالة الانتقالية من أبرز ملفات سوريا الملحّة في هذه المرحلة، دون أن يوضح دور الأمم المتحدة في هذا الملف، وهل ستشارك أم أنها ستكون جهة تضغط نحو تحقيق العدالة الانتقالية فقط.

    حول هذا الدور تواصلت عنب بلدي مع المتحدثة باسم المكتب الصحفي للمبعوث الأممي، جينيفر فانتون، إلا أنها لم تستطع الحصول على تعليق محدد حول الدور الأممي المرتقب في هذا الملف، واكتفت فانتون بقولها، إن بيدرسون أطلع مجلس الأمن على مجريات الأمور في سوريا، وهو أشار إليه في إحاطته الشهرية.

    بيدرسون قال في أحدث إحاطة له أمام مجلس الأمن، في 12 من شباط الحالي، إنه أوضح للسلطات المؤقتة في دمشق أن بعثته مستعدة لتقديم المشورة والدعم في مختلف المجالات، والتزمت السلطات حتى الآن بالتشاور الوثيق مع بيدرسون بشأن جميع خطوات الانتقال السياسي بقيادة وملكية سورية.

    المبعوث الأممي أشار في أكثر من مكان إلى أن من مسؤولية السلطات العمل على إطار شامل لإحقاق عدالة انتقالية في سوريا.

التأخر ينذر بالفوضى

يثير تأخر تطبيق العدالة الانتقالية في سوريا المخاوف بشأن أثر ذلك على السوريين، خاصة الضحايا ممن تضرروا في عهد النظام ويبحثون عن عدالة تخفف من حجم معاناتهم وترد إليهم جزءًا من حقوقهم.

عملية العدالة الانتقالية طويلة ومعقدة، إذ ترتبط بالنفس الطويل، وتحتاج إلى مدة زمنية لإطلاق المسارات التي تأتي تباعًا، كما تحتاج إلى فترات زمنية للإنجاز، وغالبًا ما تكون فجوة الإنجازات حاضرة، إذ تكون الإنجازات نسبية، مع وجود سمات مميزة لكل تجربة من تجارب العدالة وإسهامات نوعية عبر إعمال التفكير الإبداعي قانونيًا وسياسيًا واجتماعيًا، بحسب ما ذكره تقرير صادر عن مركز “الحوار السوري“، في 11 من شباط الحالي.

وحتى لا يتعرض الضحايا وذووهم في الحالة السورية لخيبات أمل واسعة تفقدهم الإصرار على تطبيق العدالة، فإن من المهم معرفة نسبية الإنجازات المتاحة، وتشجيعهم على طرح مبادرات وأفكار إبداعية للتعامل مع إرث الماضي، وفق التقرير.

وفق التقرير الذي استعرض تجارب العدالة الانتقالية في مختلف البلدان، تشير التجارب المقارنة إلى أن أنصار الاستبداد في المجتمع (قد يكونون الأغلبية، خصوصًا في بعض المناطق ومن طوائف محددة وغير ذلك) يهاجمون بشدة إجراءات العدالة الانتقالية، حتى وإن كانت بالحد الأدنى، مثل المطالبة بالاعتذار، أو الحكم بالسجن لفترات قصيرة، ويتهمونها بأنها إقصائية وانتقامية وانتقائية وتسبب الانقسام المجتمعي.

في حين يرى مناصرو التغيير والضحايا أنها لا تلبي الطموحات، وتعفو عن القتلة والمجرمين، وتسمح بتكرار الانتهاكات في المستقبل، وسيستمر هذا الجدل طوال فترة التغيير، وسيستمر طويلًا حتى يتم تغيير عقلية الأجيال.

في الحالة السورية، من الأفضل تشجيع السوريين على فهم الموازنة بين الطرحين، وأنه لا يوجد حلّ مثالي يُجمع عليه جميع السوريين، وإنما الهدف الوصول إلى مقاربة في العدالة الانتقالية تحظى بأكبر قدر ممكن من التوافق، بغض النظر عن مضمون هذه المقاربة، وفق ما أوصى التقرير.

الضحايا والديمقراطية متأثران

يترتب على تأخر انطلاق مسار العدالة الانتقالية عدة آثار في الحالة السورية، وفق ما يراه القاضي السوري أنور مجني، أبرزها إضعاف الثقة لدى المجتمع وبشكل خاص الضحايا من وجود القدرة والرغبة لدى السلطة بإطلاق هذا المسار.

ويرى القاضي السوري، في حديث إلى عنب بلدي، أن تحقيق الانتقال الديمقراطي يتطلب إطلاق برنامج العدالة الانتقالية، وأي تأخير يعني بالضرورة تأخرًا في مسار الانتقال الديمقراطي، ما يعزز المخاوف بجدية السلطة بتحقيق هذا الانتقال.

قد يؤدي تأخر إطلاق مسار العدالة الانتقالية إلى استمرار الانقسام في المجتمع، ويمكن أن يؤدي إلى حالات انتقام فردي، بسبب الشعور بعدم رغبة السلطة بالمحاسبة، وقد يعني أيضًا تأجيل العديد من الملفات المرتبطة بالعدالة الانتقالية وخاصة لجهة جبر الضرر بما يتضمن رد الممتلكات، والإصلاح المؤسساتي، وبالتالي ضعف الرغبة لدى المهجرين بالعودة.

من جانبه، اعتبر المحامي عارف الشعال، أن تسريع إطلاق عملية العدالة الانتقالية يبرد قلوب الضحايا وذويهم، ويؤدي إلى استقرار المجتمع، إلا أن هذا أمر صعب المنال، إذ تعد عملية العدالة، بغض النظر عن نوعها، عملية بطيئة وتحتاج إلى وقت لضمان محاكمات عادلة.

    بيئة قانونية

    حول إمكانية أن تلائم القوانين السورية تطبيق العدالة الانتقالية، أو إشراك جهات دولية في ذلك، يرى القاضي أنور مجني، أن القوانين السورية الأساسية تشكل أرضية مهمة، لكن المنظومة القانونية المحلية تتضمن عدة قوانين استثنائية لا تتوافق مع المرحلة المقبلة، ما يفرض الحاجة اليوم إلى جهة تشريعية تلغي القوانين الاستثنائية خاصة المتعلقة بالحقوق والحريات، إضافة إلى ضرورة إصدار قوانين مكمّلة تسهم في تعزيز مسار العدالة الانتقالية.

    أما لجهة إشراك جهات دولية، فيرى أنور مجني أن هذا الإشراك مهم، ليس في عملية صياغة القوانين، وإنما في تفعيل مسارات العدالة الانتقالية، على أن يكون هذا الدور استشاريًا لتقديم الخبرات، دون أن يكون جزءًا من العملية الوطنية للعدالة الانتقالية.

    المحامي عارف الشعال، قال خلال حديثه لعنب بلدي، إن القوانين السورية تلائم تطبيق العدالة، إذ توجد في سوريا منظومة قضائية جيدة، يمكن العمل من خلالها على إنشاء محاكم خاصة تتشكل من قضاة طبيعيين لضمان المحاكمة العدالة، وحقوق الدفاع، وعلنية المحاكمة، والطعن بأي حكم يصدر عنها.

    ويرى الشعال أن ما تحتاج إليه سوريا من القانون الدولي، الانضمام إلى اتفاقية “روما” أو طلب تشميل جرائم الحرب والجرائم ضد الإنسانية التي ارتكبت في سوريا منذ آذار 2011 إلى الآن، بسبب الحاجة له في نواحٍ تقنية، منها أن تشمل من أعطى الأمر والرؤساء وليس منفذي الجريمة فقط.

    كما تحتاج سوريا من المجتمع الدولي إلى المساعدة التقنية والمادية في مسألة كشف مصير المفقودين، وإنجاز التحقيقات حول المقابر الجماعية التي تحتاج إلى كوادر كبيرة وأجهزة تقنية غير متوفرة بمعظمها في سوريا.

    من جانبه، قال مدير “الشبكة السورية لحقوق الإنسان”، فضل عبد الغني، إن من الضروري إدخال محاكم الجنايات الدولية إلى سوريا، لكي تعمل ضمن اختصاصها، وتحاكم بضعة أشخاص فقط (خمسة أو ستة أشخاص)، معتبرًا أن هذا المسار مهم، ويجب على الحكومة السورية الجديدة المساهمة بالسماح للمحاكم الدولية بدخول سوريا، للاستفادة من الخبرات التي توفرها، وإصلاح الهيكل القضائي في سوريا.

    ولفت أيضًا إلى الحاجة للقيام بتدريب واسع للمحامين والقضاة على التعامل مع هذه الجرائم وبناء ملفات فيها، معتبرًا أنه لا بديل عن المحاكم الوطنية التي ستحاسب الأعداد الأكبر، وبالتالي نحن بحاجة إلى عدد كبير من القضاة والمحامين وتدريبهم، ما يعني ضرورة إصلاح المؤسسة القضائية.

تجنب الفراغ والفوضى

تجسد العدالة الانتقالية مفهومًا ديناميكيًا وغير جامد، بمعنى أنه ليس وصفة جاهزة للتطبيق في كل مكان وزمان وبذات الطريقة والمقاييس، ولذلك لا يمكن استنساخ تجربة من هنا أو هناك لتطبيقها في دول أخرى خارجة من حالات نزاع مع أنظمة استبدادية، بحسب ما ذكره تقرير صادر عن مركز “الحوار السوري” تحت عنوان “العدالة الانتقالية وأهمية إنضاج المقاربة السورية”.

لخص التقرير مجموعة من الأسباب التي تدفع السوريين لإنضاج مقاربتهم الخاصة للعدالة الانتقالية بأسرع ما يمكن وهي:

    على الرغم من وجود غنى في المستوى النظري والمعرفي وكذلك طيف واسع من التجارب، من الضروري أن يؤسس السوريون لمبادئ أساسية حاكمة لمنظومة العدالة الانتقالية وبأسرع وقت ممكن، إذ يؤدي الغنى السابق إلى تنوّع شديد في الآراء.

    يؤدي التأخر في حسم الإجابات الأساسية إلى نشوء مسارات مبعثرة تؤدي إلى تناقضات عديدة لمنطق العدالة الكلي، كخضوع بعض الأشخاص للمساءلة القضائية في الفترة القريبة وإفلات البعض منها بناء على قانون لاحق، من جانب آخر فإن التأخر في وضع قواعد أساسية للعملية يؤدي إلى فقدان الثقة لدى كثير من ضحايا انتهاكات نظام الأسد بالتحول الحاصل، ويعزز من الانتقام الفردي ويؤدي إلى دوامة من العنف.

    ضرورة تفويت الفرصة أمام خلط الأوراق بحيث يبدأ أنصار النظام البائد في المجتمع وبشكل سريع بمحاولة إعادة إنتاجه وأفكاره بطرق وأساليب شتى، ويجمعهم في ذلك على تنوعهم الكره الشديد للثورة والسعي لإحباطها عبر إعادة التموضع في الهياكل الجديدة.

    شهدت الحالة السورية انقسامات حادة وعلى مختلف الصعد، لذلك فإن التأسيس السريع لقواعد العدالة الانتقالية الكبرى يسهم في استقرار المجتمع نسبيًا بحيث تحسم قضية المجرم والضحية ومحددات العفو ومواصفات أركان النظام البائد التي لا يجب أن تتسلل للنظام الجديد.

عنب بلدي

———————————-

 العدالة الانتقالية: المسار والدلالات.. نقاش مفتوح مع خبراء ومختصين

15 يونيو، 2021

0 47 دقائق

فيسبوك ‫X مشاركة عبر البريد

    – فضل عبد الغني: محدودية مبدأ الولاية القضائية العالمية في خدمة مسار المحاسبة

    – يوسف وهبه: الحق في الانتصاف الفعال كمسار “للعدالة” بمفهومها المتداول

    – إبراهيم القاسم: العدالة حق لكل الضحايا وليست انتقامًا

    – سيما نصار: فشل المعارضة في توظيف الإنجازات الحقوقية سياسيا

    – وائل السواح: هدف العدالة الانتقالية الأخير هو إطلاق مصالحة مجتمعية شاملة

    – ياسمين مشعان: الأولوية لمعرفة مصير المعتقلين والمفقودين

    – حسان الأسود: محدودية الجهود السورية بطبيعتها ونطاقها وتأثيراتها المحتملة على مجمل مسار العدالة

    – غزوان قرنفل: الحاجة لبرنامج وطني للعدالة الانتقالية يأخذ على عاتقه إعادة بناء المؤسسات..

    – إدوار حشوة: التفاوض يحمل معه منطق التنازلات

    – إبراهيم ملكي: العدالة والمساءلة من أوليات الانتقال السياسي في سورية

في الذكرى العاشرة للثورة السورية، يفتح مركز حرمون للدراسات المعاصرة ملفًا خاصًا لمناقشة مسار العدالة الانتقالية ودلالاته لملاحقة مرتكبي جرائم الحرب والجرائم ضدّ الإنسانية في سورية، مع عدد من الخبراء والمختصين الحقوقيين، تطلعًا لفتح آفاق جديدة تخدم مسار العدالة في سورية، وتنير دروب الساعين إلى صناعة غدٍ سوريٍ مشرق نحو دولة القانون والمواطنة والديمقراطية والعدالة، بعد عقدٍ دامٍ مارس فيه نظام بشار الأسد سادية غير مسبوقة في تاريخ البشرية، في الإذلال وأشكال التعذيب الجسدي والنفسي والإعدامات والقتل قصفًا بالمدفعية والصواريخ الغبية والذكية، ورميًا بالبراميل المتفجرة والأسلحة المحرمة دوليًا تجاه أبناء وبنات شعبه من كل الأديان والطوائف والمكونات السورية.

جرائم وحشية سقط ضحيتها عشرات الآلاف من السوريين والسوريات على مدار نحو خمسة عقود من تاريخ الهمجية في (سوريا الأسد)، وهي جرائم لن تسقط بالتقادم، وموثقة بالتفصيل من قبل منظمات وهيئات ومؤسسات ومراكز حقوقية وإنسانية محلية ووطنية ودولية، ليس أكثرها خطورة تقرير منظمة العفو الدولية “أمنستي” في شباط/ فبراير 2017، الذي كشف أن ثلاثة عشر ألف سوري لقوا حتفهم في سجن صيدنايا (المسلخ البشري) فقط، بين عامي 2011 و2015.

ولم تكن الصور التي سرّبها قيصر (سيزر)، العسكري السابق الذي انشق عن نظام الأسد بعد 13 عامًا من الخدمة، واستطاع أن يهرّب عشرات آلاف الصور لضحايا التعذيب المدنيين السوريين -بعد نشرها للعيان في عام 2015- إلا إبادة منهجية للسوريين الذين تجرؤوا على التفكير في معارضة النظام الاستبدادي الوحشي الطائفي الفاسد الذي جعل كل سورية “غرفة تعذيب، ومكانًا للرعب الوحشي والظلم المطلق”. وهو ما أكدته قناة (سي بي أس) نيوز الأميركية بعد الكشف، في شباط/ فبراير الماضي، عن تسريب آلاف الوثائق الحكومية إلى خارج سورية، تحتوي على “أدلة قوية تؤكد تورط النظام السوري، وعلى رأسه بشار الأسد، بارتكاب جرائم حرب ضد الشعب السوري”، وتولت أرشفتها “لجنة العدل والمساءلة الدولية” الممولة جزئيًا من قبل الولايات المتحدة وسوريين. ومنذ آذار/ مارس 2011 حتى يومنا هذا، ذاق السوريون الويلات تعذيبًا واغتصابًا وتنكيلًا وذبحًا وتهجيرًا وحصارًا وتجويعًا وتفقيرًا وقهرًا وخذلانًا.

وللوقوف على ما آلت إليه الجهود السورية والدولية المبذولة لتحقيق العدالة الانتقالية ومحاسبة مرتكبي جرائم الحرب والجرائم ضد الإنسانية في سورية، توجّه مركز حرمون للمساهمين في هذا الملف بالأسئلة التالية: بعد البدء في مسار المطالبة بتحقيق العدالة الانتقالية، برأيكم ما السبيل إلى تفعيل وسائل دولية أكثر للمساءلة والمحاسبة عن جرائم الحرب والجرائم ضد الإنسانية التي ارتُكبت في سورية، خاصة في ظل ما توفره الولاية القضائية العالمية كوسيلة للعدالة في الجرائم الدولية المرتكبة من قبل نظام الأسد وعصابته المجرمة ممن ارتكبوا جرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية؟ وكيف يمكن وضع أصوات الناجين السوريين في مركز الحوار حول سورية، وفتح مسارات جديدة للناجين أكبر للمشاركة والوصول إلى عمليات صنع القرار السياسي والعدالة بشأن المستقبل السوري؟

ونسأل إلى أين وصلت جهود العدالة القضائية الأوروبية، بعد كل ما بُذل من جهود من قِبل مراكز وهيئات ومنظمات حقوقية سورية لمحاسبة الجناة حتى لا يفلتوا من العقاب؟ ومن ثم، ما هي دلالات صدور أحكام قضائية ضد مرتكبي الجرائم من ضباط النظام؟

وفي هذا السياق؛ هناك تساؤلات تُطرح حاليًا حول الفرق بين الانتقام والعدالة، وهل يمكن النظر إلى الحكم الصادر ضد (إياد غريب) صّف الضابط في جهاز المخابرات السورية المنشق، في مدينة كوبلنز الألمانية، كخطوة أولى نحو العدالة؟

أسئلةٌ تُشرع الباب لأسئلة أخرى في قضية وطنية لن تُغلق أو تُعلق إلا بسقوط نظام بشار الأسد ومحاكمته مع كل الجناة من أركان حكمه، وكل من يثبت ارتكابه لجرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية بحق السوريين والسوريات.

هنا نصّ الملف:

فضل عبد الغني (مؤسس ورئيس الشبكة السورية لحقوق الإنسان): محدودية مبدأ الولاية القضائية العالمية في خدمة مسار المحاسبة وعدم مقدرته غالبًا على محاكمة الصفوف الأولى أو الثانية.

نصّت كل من اتفاقيات جنيف لعام 1949 [1]، واتفاقية مناهضة التعذيب لعام 1984 [2]، والاتفاقية الدولية لحماية جميع الأشخاص من الاختفاء القسري لعام 2006 [3]، على مبدأ الولاية القضائية العالمية [4]، ويمكّن هذا المبدأ هيئات الادعاء المحلية من ملاحقة المتورطين في الجرائم الفظيعة مثل جرائم الحرب [5] والجرائم ضد الإنسانية[6]، الإرهاب، التعذيب، وإن لم تُرتكب على أراضي الدولة، وإن لم يكن مرتكبها أو الضحايا من مواطني الدولة، وقد جرى في السنوات الثلاث الأخيرة عمليات تهويل ومبالغة ضخمة جدًا للدور المحصور الذي بإمكان الولاية القضائية العالمية أن تؤديه. إن تطبيق هذا المبدأ يعني أن القضاء الوطني في الدولة التي ارتكب فيها الانتهاك قد فشل، والقضاء الجنائي الدولي ممثلًا بالمحكمة الجنائية الدولية، أو تأسيس محكمة دولية خاصة قد فشل أيضًا.

إن المهمة التي بإمكان الولاية القضائية العالمية أن تؤديها ضيقة ومحاطة بالعديد من التعقيدات والصعوبات [7] النابعة من طبيعة هذا المبدأ نفسه، ومن رغبة دول العالم في التفاعل معه ثانيًا. نعم، بكل تأكيد، إنه أحد أدوات تحقيق المحاسبة، لكنها أداة بسيطة في ماهيتها، لأسباب عدة، لعل أبرزها أن قوانين أغلب الدول تشترط وجود مرتكب الجريمة ضمن إقليم الدولة، ولا أعتقد أن أحدًا من الصف الأول أو الثاني من مرتكبي الانتهاكات في النظام السوري سوف يسافر إلى إحدى الدول التي يمارس قضاؤها مبدأ الولاية القضائية، لهذا نجد أن جميع القضايا التي رُفعت كانت ضد أشخاص منخفضي الرتبة، وغالبيتهم ليسوا من صناع القرار، وقد يكون ترتيبهم في الصف التاسع أو العاشر، إذا افترضنا أن هناك عشرة صفوف، ومن ناحية أخرى، هناك إشكاليات قانونية عديدة في إجراء محاكمات غيابية. وأخيرًا، لن تقوم الدول الحليفة للنظام السوري، مثل روسيا، إيران، الصين، فنزويلا، ولبنان، بتسليم المجرمين إلى الادعاء العام الألماني أو الفرنسي أو السويدي حتى في حال صدور مذكرات حكم بحقهم ومطالبة الادعاء العام بتسليمهم، وهذا لا يعني مطلقًا ألا يتم العمل على إصدار مذكرات اعتقال بحق كبار المتورطين في صفوف النظام السوري وفي صفوف بقية الجهات، لكن مذكرات الحكم لن تؤدي غالبًا إلى اعتقالهم ومحاكمتهم.

وكنت قد تحدثت في مقر الأمم المتحدة في نيويورك، في حزيران/ يونيو 2016، بحضور ثلاثة من سفراء أبرز الدول الفاعلة في مجال الاختصاص العالمي، السويد، ألمانيا، فرنسا، في مداخلة منشورة على قناتنا في “يوتيوب”، عن محدودية الاختصاص القضائي العالمي.

الغالبية العظمى من الشكاوى أو القضايا التي رُفعت وحُكم بها، أو ما زالت قيد التحقيق، ليست ضد النظام السوري:

إن النظام السوري هو المرتكب الأساسي لمختلف أنماط الانتهاكات التي يبلغ بعضها مستوى جرائم ضد الإنسانية وجرائم حرب، بنسبة تصل وفق بيانات الشبكة السورية لحقوق الإنسان إلى ما بين 85 إلى 90 % من إجمالي الانتهاكات، فيما ارتكبت بقية أطراف النزاع كلها ما بين 10 إلى 15 %، وهذا واضح في جميع تقارير لجنة التحقيق الدولية المستقلة [8] التي وصفت العديد من انتهاكات النظام السوري بأنها جرائم ضد الإنسانية، بمعنى أنها منهجية وواسعة النطاق، فيما وصفت انتهاكات بقية أطراف النزاع بأنها جرائم حرب (فضلًا عن جرائم التعذيب لدى تنظيم داعش)، ولدى حديثنا مع أغلب اللاجئين، تبيّن أنهم متضررون بالمقام الأول من انتهاكات النظام السوري، لكن الغالبية العظمى من الشكاوى أو القضايا التي رُفعت وحُكم بها، أو ما زالت قيد التحقيق، ليست ضد النظام السوري بل ضد كلّ من تنظيم داعش، وجبهة النصرة، وأحرار الشام، وعناصر الجيش الحر (فصائل في المعارضة المسلحة)، وهذا ما أكده الزملاء في “هيومن رايتس ووتش”، في تقريريهم الموسع عن هذا الموضوع، في 3 تشرين الأول/ أكتوبر 2017، تحت عنوان “هذه هي الجرائم التي نفرُ منها”، حيث جاء في التقرير: “حتى كتابة هذه السطور، كانت المحاكمات الوحيدة المتصلة بسورية والخاصة بالجرائم الدولية الخطيرة في البلدين كلها تقريبًا ضد عناصر ذوي رتب متدنية من داعش وجبهة النصرة والجيش السوري الحر ومجموعات أخرى غير تابعة للدولة، مُعارضة للحكومة السورية، وتمت الملاحقة في قضية واحدة بحق عنصر ذي رتبة متدنية في الجيش السوري” [9].

والسبب الرئيس وراء ذلك محاكمة المنتسبين إلى التنظيمات المتطرفة، وفقًا لقانون الإرهاب، وإن كانت في الأغلب جرائم حرب، وإطار قانون الإرهاب في بعض الدول واسع (أشار تقرير “هيومن رايتس ووتش” السابق إلى القانون الألماني على سبيل المثال [10])، ويحاسب على الانضمام إلى تنظيم مصنّف “إرهابيًا”، بتقديم دعم أو مساعدة، وبكل تأكيد لا يعكس هذا طبيعة الوضع في سورية، وقد فسّر كثير من السوريين محاكمة الأطراف الأخرى بشكلٍ أوسع من النظام السوري على أنه سياسة دول.

https://bit.ly/2SbGiGn

https://bit.ly/3dXlU4b

بكل تأكيد، هناك العديد من النقاط الأخرى، لكنها برأيي ثانوية مقارنة مع ما سبق، مثل استمرار النزاع في سورية، وبالتالي عدم قدرة المحققين على زيارة موقع الجريمة، ومحدودية الحصول على الأدلة، والنظام السوري لن يتعاون مع أي من القضايا، سواء كانت ضده أم ضد مجموعات معارضة أو تنظيمات إسلامية متطرفة، وصحيح أن هناك مئات الآلاف من اللاجئين في أوروبا، وهم مصدر أساسي للمعلومات، لكن كثيرًا منهم يرفضون التعاون خشية من انتقام النظام السوري، لأن لديهم أقرباء وأصدقاء في سورية.

محاكمة كوبلنز [11]:

لا تخرج محاكمة كوبلنز عن السقف الذي رُسم سابقًا، وقد سمع كثير من السوريين عن مبدأ الاختصاص القضائي العالمي، وأن هناك محاكمات تجري في أوروبا بسبب هذه المحاكمة تحديدًا، على الرغم من أنها قد بدأت في النزاع السوري فعليًا منذ عام 2015 [12]، وصدر أول حكم لأول قضية بحق (مهند د.) من عناصر المعارضة المسلحة، بالسجن 8 سنوات أمام محكمة الاستئناف في السويد، في آب/ أغسطس 2016 [13].

تنبع أهمية محاكمة كوبلنز واستثنائيتها من أنها محاكمة لأشخاص كانوا يعملون مع النظام السوري، وصحيح أنهم قد انشقوا عنه، لكن محاسبتهم تتم على الانتهاكات التي مارسوها خلال حقبة عملهم معه، وقياسًا على ما أشرنا إليه سابقًا، فإن كًلا من (إياد غريب) و(أنور رسلان) من الصفوف المنخفضة جدًا في هيكلية النظام السوري، ولن تؤدي هذه المحاكمة إلى خلق حالة من الذعر لدى النظام السوري أو إيقاف التعذيب، وقد فقدَ النظام السوري العشرات من ضباطه وعناصره من الصف الأول والثاني، لكن ذلك لم يمنعه عن الاستمرار في عمليات القتل والقصف، ولو افترضنا جدلًا أنه قد تم تسليم أحد أعضاء النظام من الصف الأول إلى إحدى المحاكم الأوروبية، فإن ذلك أيضًا لن يردع النظام، وسوف يستمر في ممارسة التعذيب والقتل تحت التعذيب، ولن يتأثر كثيرًا بفقد بضعة أشخاص، وسوف يقوم بتوظيف من يتولى مهامهم من بعدهم، وهذا ما حصل على مدى السنوات العشر الماضية.

يجب علينا دائمًا أن نضبط سقف التوقعات، فالخيار الوحيد المتاح أمامنا حاليًا لمحاسبة مرتكبي الانتهاكات جنائيًا هو عبر الاختصاص القضائي العالمي (لعلنا نتحدث في مادة أخرى عن خطوة المحاسبة الجارية عبر محكمة العدل الدولية) وهو غالبًا لن يتمكن من محاكمة الصفوف الأولى، لكن هذا لا يعني ألا نمضي في هذا الخيار، فهو يشتمل على كثير من الإيجابيات في حال الابتعاد عن التهويل والمبالغة، فهي وإن كانت تحاكم أفرادًا مثل (إياد)، و(أنور)، فإن هؤلاء الأفراد هم جزء صغير من منظومة أمنية متوحشة لدى النظام السوري، وقد كشفت محاكمتهما عن ممارسات تعذيب بربرية مارسها النظام السوري، وحظيت على تغطية إعلامية واسعة، وهذا أسهم في مزيد من تعرية وفضح جرائم النظام السوري أمام الرأي العام الألماني والأوروبي والعالمي، وهذا إنجاز جبّار على صعيد مناصرة قضية المعتقلين وما يتعرضون له من تعذيب، ومناصرة قضية السوريين ككل، وحقهم في المطالبة بالتخلص من هكذا نظام يمارس أبشع الأساليب بحق معارضيه السياسيين، وأدرك كثير من الأوروبيين أن السوريين لم يهربوا فقط من القتل والقصف، بل خوفًا من الاعتقال وما سوف يتعرضون له من تعذيب وحشي، وهذا كان له أثرٌ على صعيد تغيير الرأي العام تجاه اللاجئين السوريين وإعادتهم.

أخيرًا، هذه المحاكمات كلها تؤكد توجّه السوريين المؤمنين بالتغيير الديمقراطي نحو كل محاولة، مهما كانت ضئيلة، من أجل إنهاء ثقافة الإفلات من العقاب، وتُظهر توقهم لإحقاق العدالة للجميع حتى خصومهم، وتطلعهم نحو ممارسة كل ما اكتسبوه من خبرات في مسار العدالة الانتقالية الذي يتضمن محاسبة أكبر قدر ممكن من مرتكبي الانتهاكات.

يوسف وهبه (مدير وحدة الدعم بالقانون الدولي – البرنامج السوري للتطوير القانوني): الحق في الانتصاف الفعال كمسار “للعدالة” بمفهومها المتداول

شهد الربع الأول من هذا العام ثلاثة أحداث حقوقية بالغة الأهمية، بالإضافة إلى قرار محكمة كوبلنز الألمانية. وقبل التطرق إلى هذه الأحداث الثلاثة، من الضروري الإشارة إلى أن هذه الأحداث لم يتم تناولها بالاهتمام والتحليل والتقييم الكافي والمطلوب، من وجهة نظري، وذلك لسبب جوهري -بالإضافة إلى أسباب أخرى- وهو الفرض المتعمد أو غير المتعمد لمفهوم العدالة الجنائية كمسار وحيد للعدالة، وهو المفهوم الذي سيتم تناوله في السياق أدناه.

نُشِرت، في كانون الثاني/ يناير 2021، على موقع الإجراءات الخاصة لمجلس حقوق الإنسان، المراسلة الأولى من نوعها عبر سنوات الثورة السورية موجهة من المقرر الخاص المعني بالحقيقة والعدالة والجبر وضمانات عدم التكرار (العدالة الانتقالية اختصارًا) -ومجموعة من الإجراءات الخاصة الأخرى- “للحكومة السورية”.[14] فما المميز بمثل هذه المراسلة؟ ولماذا أعتبرها حدثًا حقوقيًا مهمًا، بالرغم من كونها غير ملزمة وفق القانون الدولي؟

في اجتماع في أيلول/ سبتمبر 2019، أكد المقرر الخاص المعني بالعدالة الانتقالية لعددٍ من المنظمات الحقوقية السورية أنه كان يجابَه باعتراضات شديدة من ممثل “الحكومة السورية وحلفائها” في مجلس حقوق الإنسان، كلّما أراد تناول الوضع في سورية، حيث كانوا دومًا ينكرون انطباق اختصاصه. وأضاف أنه مقتنع تمامًا أن المرحلة تتطلب تدخلًا جوهريًا منه لضمان أن مستقبل سورية لا يتم تشكيله حصرًا على أساس المساومات العسكرية والسياسية. كان المقرر الخاص يبحث عن مبادرة من المنظمات الحقوقية السورية ليوظفها في فرض اختصاصه.

أخذ البرنامج السوري للتطوير القانوني، وبعض شركائه من المنظمات الحقوقية، وروابط الضحايا والعائلات المبادرة، وتمت مراسلة المقرر الخاص بخصوص تغييب أي مكون للنقاش والتخطيط للعدالة الانتقالية في المسارات التفاوضية القائمة، عدا عن التغييب الكامل لدور الضحايا والعائلات. وعلى هذا الأساس، اتخذ المقرر الخاص مدعومًا من آخرين من الإجراءات الخاصة القرار بطرح هذا الموضوع على الطاولة، وبالتالي، تأكيد محورية دور الضحايا والعائلات، وخطورة تغييب أو تأجيل مناقشة مكونات العدالة الانتقالية لوقت غير معلوم.

يمكننا الخروج بمجموعة من الاستنتاجات من هذا الحدث:

أولًا، إن الموقف الرافض للنظام وحلفائه لتفعيل اختصاص يتعلق بمكونات العدالة الانتقالية يتناسب طردًا، مع ضرورة دعم هذا الاختصاص وإيلائه أهمية استثنائية. المنتهكون والمجرمون يدركون جيدًا أثر تجريدهم من أدواتهم المفضلة لاستمراريتهم وهي العسكرة والسياسة، ويعلمون تمامًا خطورة المفاهيم والمسارات الحقوقية، وأهمها على الإطلاق التحضير للعدالة الانتقالية، من خلال مكونات الانتصاف الفعال، على مركزهم ومصيرهم.

ثانيًا، كرّس المقرر الخاص أن الحلّ في سورية ليس قائمًا حصرًا على تسويات سياسية و/أو عسكرية، فقد عنوَن مراسلته بالتركيز على غياب مكونات العدالة الانتقالية، لتناول انتهاكات القانون الدولي الإنساني والقانون الدولي حقوق الإنسان في المفاوضات السياسية، وكذلك التغييب الكلي للضحايا والنساء والنازحين داخليًا.

ثالثًا، وحده النهج المرتكز على الضحايا هو الكفيل بضمان مستقبل مستقر لسورية، لا تتكرر فيه الجرائم والانتهاكات الجسيمة.

رابعًا وأخيرًا، لم تُوجِد الأمم المتحدة إجراءً خاصًا بالعدالة الجنائية منعزلةً على سبيل المثال، ولكنها أنشأت اختصاصًا يتناول حزمة من الإجراءات والمكونات، ومن ضمنها العدالة الجنائية، وهي مجتمعة تشكل أساس العدالة الانتقالية، وتعتبر أساس الحق في الانتصاف الفعال المكفول في القانون الدولي [15] كما ورد في قرار الجمعية العامة للأمم المتحدة ٦٠/١٤٧ لعام 2005 [16].

قبل الخوض في بعض تفاصيل مفهومي العدالة والانتصاف الفعال، لا بدّ من التوقف عند ميثاق الحقيقة والعدالة [17] الذي أطلقته خمس مجموعات للضحايا/ الناجين والعائلات، في شباط/ فبراير الماضي.

تسعى المجموعات من خلال هذا الميثاق إلى تثبيت “خارطة طريق” شاملة لمسار العدالة، ولمستقبل سورية، وهي قائمة على النهج المرتكز على الضحايا، فبدلًا من أن يتصدى كل طرف منخرط بالشأن السوري لمفاهيم ومطالب “المحاسبة” و”العدالة” من وجهة نظره، وربما بحسب تصوراته وأحيانًا مصالحه، قدمت المجموعات الخمسة توجهًا عمليًا وشاملًا، يمكن لجميع المعنيين تبنيه وتضمينه في إستراتيجياتهم وجهودهم.

هذا النهج ينطلق من المفهوم الأشمل للحق في الانتصاف الفعال، الذي يتعامل مع الانتهاكات الجسيمة والجرائم الدولية من منظور ينطلق من ويرتكز على الضحايا وليس الجناة فقط.

يؤكد هذا الحق أن العدالة الجنائية يجب أن تكون أحد مكونات حق الضحايا والعائلات في الانتصاف الفعال، ويجب أن تكون -حُكمًا- مراعية لحاجاتهم ومطالبهم، والأهم من ذلك ألا تنفصل أبدًا عن إجراءات جبر ضررهم وفقًا لمعايير القانون الدولي أولًا [18]، وحسب ما يقررونه بأنفسهم، أو على أقل تقدير، يشاركون بشكلٍ محوري في تصميمه.

عادة ما يُنظر إلى مفاهيم مثل جبر الضرر وضمانات عدم التكرار كمحتوى أكاديمي مرتبط بنقاشات العدالة الانتقالية فقط، وبالتالي نرى كثيرًا من الأطراف لا تولي الأمر أهمية -بقصد أو من دون قصد- وتُبقي التركيز على العدالة الجنائية بشكلها المتمثل في إجراءات المحاكم وما ينتج عنها من أحكام بحق من تثبت إدانته. ولكنّ الحقيقة أن حق الضحايا وعائلاتهم بالانتصاف الفعال (العدالة وجبر الضرر بمكوناته، والحق في معرفة الحقيقة) ليس قضية تقبل التأجيل، وليس مرتبطًا حصرًا وشرطًا بمفهوم العدالة الانتقالية، بل هو جوهر “العدالة” بمفهومها العام الذي يطالب به السوريون، وبدونه يُوضَع الضحايا والعائلات ومستقبل سورية كاملًا أمام سؤال مصيري: هل يتلخص مطلب “العدالة” للسوريين في وضع المجرمين وراء القضبان فحسب، وهو النتيجة الحتمية الوحيدة لإجراءات العدالة الجنائية؟ لا يمكن لإجراءات العدالة الجنائية، بحكم طبيعتها التقنية قبل أي شيء، أن تنظر إلى الانتهاك من زاوية الضحايا، ولكنها ترتكز على الجاني باعتباره قد انتهك حقًا أو قيمة مجتمعية. إضافة إلى أن مسار جبر الضرر بمكوناته مرتبط بتحميل “الدولة” مسؤوليتها الفورية تجاه الانتهاكات الواقعة على الأفراد [19].

استدركت محكمة الجنايات الدولية الفجوة التي انتُقِدت لأجلها محكمتا يوغوسلافيا ورواندا في ما يتعلق بتغييب الضحايا من إجراءاتهما ونتائجهما، واقتصار دورهم على التعامل معهم كشهود بأفضل الأحوال. ولذلك، تتعامل محكمة الجنايات الدولية مع أي جريمة قيد النظر من منظور ثلاثي: الادعاء؛ المشتبه به؛ الضحايا كطرف أساسي في القضايا. تركز المحكمة على مبدأ العدالة التصحيحية، الذي يهتم بإعادة الوضع إلى ما كان عليه قبل حدوث الانتهاك، وهذا يعني التعامل مع الجرائم من منظور الضحية وليس الجاني ومجرد عقابه [20]. وما دامت محكمة الجنايات الدولية لا تمارس اختصاصها بعد على سورية، فضلًا عن أنها لن تكون قادرة في حال تفعيلها على محاكمة كل الذين يدانون بارتكاب جرائم، يجب ألا يسقط من حساباتنا جميعًا أن مساعي المحاسبة و”العدالة”، بالمفهوم العام المتداول، يجب أن ترتكز على حق الضحايا بالانتصاف الفعال.

مع مرور الزمن وإهمال هذا الحق الأصيل، فإن الضحايا وعائلاتهم مهددون بفقدان حقوقهم للأبد. والمطلوب تكثيف كل الجهود ذات الصلة بالاستناد إلى والانطلاق من ميثاق الحقيقة والعدالة، باعتباره تصورًا يمكن أن يعمم أولًا لتناول شؤون المحاسبة والعدالة من وجهة نظر الضحايا، وثانيًا لأنها وجهة نظر تترجم الحق في الانتصاف الفعال، وليست مجرد عدالة جنائية ذات طابع تقني في نهاية الأمر، على الرغم من أهميتها ودورها وكونها أحد مكونات الانتصاف الفعال.

كان قرار مجلس حقوق الإنسان في آذار/ مارس الماضي [21] سابقة قانونية وحقوقية بالغة الأهمية، لأنه  يشير بصراحة -للمرة الأولى- إلى الدور المحوري للضحايا والعائلات في أي عملية محاسبة وعدالة. هذا الحدث الثالث في قائمتنا، حتى الآن، لم يشكل محور اهتمامٍ كافٍ عند كثير من الجهات الحقوقية المعنية بالشأن السوري. تترجم هذه السابقة جهدًا حثيثًا قامت به مجموعات الميثاق الخمسة، وبعض شركائها، لدفع أعضاء المجلس لتبني هذا النص، وتعكس التفسير العملي للحق في الانتصاف الفعال، وأظن أن على الجهات الحقوقية الفاعلة الاستثمار في هذا القرار لفرض رؤية الضحايا وعائلاتهم في كل المسارات القائمة حاليًا والممكنة مستقبلًا.

ختامًا، يحتاج السوريون إلى حوار منهجي ومعمق بخصوص مفاهيم المحاسبة والعدالة والانتصاف الفعال والعدالة الانتقالية. هذا الحوار يجب أن ينطلق من رؤى الضحايا والعائلات، وإلا فسنبقى في دائرة الفردانية ووجهات النظر الشخصية أو “المنظماتية” بأحسن الأحوال. إن الاستمرار في جهود “المحاسبة” و”العدالة” حصرًا، وفق المسارات القائمة حاليًا، يكرّس مفاهيم محدودة لهذه المصطلحات ومكوناتها، وهي على الأغلب مفاهيم ترتكز على إجراءات العدالة الجنائية (المحاكم التي، لأسباب قانونية وتقنية، تنظر إلى القضايا بالارتكاز على الجناة لا على الضحايا) إن هذا التكريس، مصحوبًا بخطابات تعميمية تتحدث بأن المدخل الوحيد “للعدالة” في سورية هو المحاكم الجنائية حصرًا، وتتحدث عن حقوق الضحايا من منطلق ما يصدر من أحكام على المجرمين، بناءً على اقتصار دور هؤلاء الضحايا على ما يدلون به من شهادات، يجرّد كلّ الضحايا والعائلات من حقهم في الانتصاف الفعال الذي يجب أن يتضمن قبل أي شيء مشاركتهم الفعالة والحقيقية في تقرير وتخطيط مسارات المحاسبة والعدالة، بالإضافة إلى شمولية هذه المسارات -كمكونات ليست اختيارية- مطالب ومكونات الحقيقة وجبر الضرر، وضمانات عدم التكرار.

المحامي إبراهيم القاسم (مدير مجموعة ملفات قيصر) [22]

العدالة حقّ لكل الضحايا وليست انتقامًا

تمركز السلطات في سورية بيد النظام السوري، وسيطرته التامة عليها، ومنها السلطتان التشريعية والتنفيذية، أدى إلى حمايته لنفسه بتشريعات تضمن إفلاته من العقاب، بالإضافة إلى القصور التشريعي والقضائي عن ملاحقة مرتكبي الجرائم الدولية في سورية طوال عقود. بعد الثورة السورية استمر النظام في النهج نفسه، مستغلًا عدم وجود رغبة دولية -في ظل الفيتو الروسي والصيني[23]– في التوجه للمحكمة الجنائية الدولية، أو تشكيل محكمة دولية خاصة في سورية لملاحقة مرتكبي هذه الجرائم.

كل هذا جعل من الخيارات المتاحة أمام الضحايا محدودة جدًا في الوصول إلى حقوقها، وكانت النافذة الوحيدة هي اللجوء إلى المحاكم الوطنية الأوروبية ذات الولاية القضائية العالمية الشاملة [24]، التي تنص على أن القضاء في هذه الدول له صلاحية النظر في الجرائم الدولية التي تُرتكب خارج اختصاصها الإقليمي والموضوعي والشخصي، أي إذا تم ارتكاب الجريمة خارج أراضيها على أشخاص من قِبل آخرين (الجاني والضحية) لا يحملون جنسيتها.

يمكن النظر إلى هذه الولاية القضائية من نواحي إيجابية وسلبية أيضًا، فالتقاضي الإستراتيجي الذي يتمثل في هذه الولاية من غير المتوقع أن يكون الحل الأمثل لملاحقة مرتكبي الجرائم الدولية في سورية، لأن الأصل في الاختصاص هو للمحاكم المحلية، أمّا القضاء الدولي فهو تكميلي وتبعي [25]، لذلك يجب العمل على توفير كل الشروط اللازمة للقيام بهذه الإجراءات أمام القضاء السوري مستقبلًا، مثل تعديل التشريعات، وتدريب الأطر والكوادر، وتوفير البيئة الأمنة لمثل هذه الإجراءات [26].

من جهة أخرى، ما تزال الإجراءات التي تتم أمام المحاكم الأوروبية بموجب الاختصاص العالمي لا ترقى إلى طموح الضحايا وحجم الانتهاكات وجسامتها، والأهمّ من ذلك كله عدم توفر الحماية الكافية للضحايا والشهود وذويهم من عمليات انتقامية قد تتم ضدهم بسبب اتخاذهم سبيل المحاسبة.

كل هذه النواحي ظهرت منذ بداية عام 2016، عندما بدأت عملية الإجراءات القضائية ضد أجهزة النظام السوري، كونها اقتصرت سابقًا على التحقيقات الهيكلية، وملاحقة المتهمين بارتكاب جرائم دولية من أطراف النزاع المسلح الأخرى، كمقاتلي تنظيم داعش أو مقاتلي المعارضة المسلحة باختلاف أطيافها، فتمت إقامة بضعة شكاوى جنائية في ألمانيا [27] ودول مثل السويد والنرويج والنمسا وفرنسا. هذه الإجراءات استمرت سنوات عدة حتى شهر شباط/ فبراير عام 2019 عندما ألقت السلطات المختصة الألمانية القبض على ضابط وصف ضابط عملا سابقًا في “فرع الخطيب” (251) التابع لإدارة المخابرات العامة، وتم إلقاء القبض على آخر في فرنسا في الوقت نفسه[28]، لكن أُخلي سبيله بعد عام كامل لعدم توفر الأدلة الكافية ضده. واستمرت إجراءات هذه القضية أمام المحكمة الإقليمية في مدينة كوبلنز الألمانية، وفي 24 شباط/ فبراير الماضي، صدر حكم بحق صف الضابط (إياد غريب) بسجنه أربع سنوات ونصف، بتهمة التدخل في التعذيب وحجز الحرية. أما الضابط (أنور رسلان) فتستمر الإجراءات بحقه بشكلٍ منفصل، ومن المتوقع أن يتم إصدار الحكم بحقه في الخريف القادم [29].

هذه المحاكمة خلفت العديد من الآراء والمواقف المتباينة بين السوريين، فمقابل الصمت من جهة النظام السوري، تعالت الأصوات الأخرى، خاصة بعد الحكم على (إياد)، التي تشجب محاكمة (إياد) و(أنور) بحجة انشقاقهما عن النظام السوري تواليًا في بداية ونهاية عام 2012، ونادى البعض الآخر بتشديد العقوبة، بينما رآى آخرون أنها بالمحصلة لا تعني شيئًا، ما دامت لا تستهدف رأس النظام السوري والصف الأول منه.

باعتقادي، يمكن تقسيم هذه الأصوات بين أربع فئات: الأولى هي عائلة المحكوم (إياد) التي تُوقع منها التعاطف بشكلٍ طبيعي معه؛ والفئة الثانية من المنشقين الذين يخشون أن يلقوا المصير نفسه، والفئة الثالثة من السوريين الذين قاموا بحمل السلاح في سبيل الدفاع عن أنفسهم والحصول على حريتهم، والفئة الأخيرة (وكان موقفها مستغربًا) هي فئة بعض منظمات المجتمع المدني وبعض الناشطين والساسة الذين كان موقفهم أن المنشقين لا يجب محاكمتهم، إنما نكتفي بانشقاقهم وإعطاء المعلومات فقط، وأرى أن ذلك مستهجن، لأن هذا الموقف يُبنى على حساب الضحايا وذويهم فقط. لذلك يبدو الحل الأمثل، من وجهة نظري، دعم حقوق الضحايا دومًا وبشكلٍ مطلق، من دون إهمال حق المتهمين بارتكاب الجرائم في ضمان معايير المحاكمة العادلة والظروف المخففة في حال توفرها لصالحهم وفق القوانين الدولية، كما الحال في حالة (إياد غريب) الذي تم تخفيف عقوبته بسبب تقديمه معلومات. وبذلك لا يمكن لأحد وصف حق الضحايا في الوصول إلى العدالة على أنه إجراء انتقامي.

في النهاية، لا يمكن اختصار العدالة في سورية بالعدالة القضائية فقط، فالعدالة الانتقالية يجب أن تتضمن بقية أشكال وأنواع العدالة، كالعدالة الاجتماعية التي تشتمل على العدالة الاقتصادية أيضًا.

أما مفهوم العدالة التصالحية الذي يتم الترويج لها -بشكلٍ خاطئ- على أنها مسامحة الضحايا للجناة، فالمقصود فيه المصالحة بين مؤسسات الدولة والمواطنين/ات في سورية، لأن هذه المؤسسات لم تقصّر في الإقرار بحقوق المواطنين وضمان التمتع بها، بل كانت المسببة أو على الأقل، أداة لانتهاك حقوق جميع السوريين، وأدى ذلك إلى افتقاد الثقة بينهم وبين مؤسسات الدولة. أما التسامح بين الضحايا والجناة، فلا يجب أن يكون شرطًا لتحقيق العدالة، بل يجب التعامل معه على أنه حق للضحية يتمتع به وقتما شاء، في ظل عقد اجتماعي جديد يضمن الحقوق ويحميها ويمنع مزيدًا من الانتهاكات.

سيما نصار (مؤسسة مشاركة لمنظمة “أورنامو” وشبكة “WE” للمدافعات عن حقوق الإنسان في الشرق الأوسط وشمال أفريقيا):

    – في توظيف الإنجازات الحقوقية سياسيًا

عرّف المركز الدولي للعدالة الانتقالية، وكذلك مفوضية الأمم المتحدة، العدالة الانتقالية بأنها مجموعة من التدابير القضائية وغير القضائية التي قامت بتطبيقها دول مختلفة، من أجل معالجة إرث كبير من الانتهاكات الجسيمة لحقوق الإنسان، وتشمل هذه التدابير الملاحقات القضائية، ولجان الحقيقة، وبرامج جبر الضرر وغيرها من الآليات التي تضمن إصلاح المؤسسات وتعيد الثقة بين مختلف فئات المجتمع.

العدالة الانتقالية عملية متكاملة: سياسية؛ اجتماعية؛ اقتصادية. وفي الحالة السورية، لا يمكن تحقيق عدالة تنصف جميع الأطراف من دون انتقال سياسي؛ إذ يستحيل الانخراط بتدابير العدالة الانتقالية من دون إشراك كل من الحكومة ومؤسسات المجتمع المدني بالذات، تلك المؤسسات التي استجابت لاحتياجات الضحايا، وعملت على رصد وتوثيق الانتهاكات الجسيمة المرتكبة بحق الأفراد والجماعات منذ البداية، والآثار المجحفة للانتهاكات، وكذلك الأضرار والخسائر التي لحقت بمختلف فئات الشعب، ويناط بها توظيف هذه التوثيقات لدعم إجراءات العدالة الانتقالية. فإذا كانت الحكومة السورية هي المسؤول الرئيسي عن ارتكاب الانتهاكات وتتنصل من مسؤوليتها، وتمنع منظمات المجتمع المدني من العمل على أراضيها، إضافة إلى أن القضاء السوري غير نزيه وغير مستقل، ويخضع مباشرة للسلطة التنفيذية، فكيف يمكن أن تنخرط بمسار العدالة الانتقالية؟

شهدت المناطق التي استعادت الحكومة السيطرة عليها ممارسات مسيئة بحق السكان المدنيين، واستمرارًا لارتكاب انتهاكات غايتها امتهان كرامة الضحايا وسحق إنسانيتهم بدلًا من السعي للتكفير عن الأخطاء وتعويضهم، وبناء على ذلك، لا يمكن أن تكون الحكومة القائمة الآن شريكًا في إنفاذ آليات العدالة الانتقالية، إذ لا يمكن الثقة بهذه الحكومة. إن جوهر العدالة الانتقالية هو إعادة الثقة بين مؤسسات الدولة والمجتمع عبر محاسبة المجرمين، والاعتراف بهذه الجرائم والاعتذار عنها، وضمان عدم تكرارها، وتعويض المتضررين، والاعتراف بكرامة المواطنين، وإلغاء الحسابات السياسية، لصالح تأسيس دولة القانون.

أما عن طرق تحقيق العدالة المنشودة، خاصة في ظل ما توفره الولاية القضائية العالمية كوسيلة للعدالة في الجرائم الدولية المرتكبة في سورية من قبل نظام الأسد وعصابته المجرمة ممن ارتكبوا جرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية، فأشير إلى أن مبدأ الولاية القضائية ينصّ على أن الجرائم ضد الإنسانية وجرائم الحرب يمكن التحقيق فيها ومقاضاة مرتكبيها من قبل كل الدول، لكونها جرائم ضد الإنسانية، وهذا يعني أن الإنسانية جمعاء معنية بالتصدي لها. ولأن سبل العدالة غير متاحة في سورية، تعاملت الجهات الدولية والمنظمات الحقوقية السورية مع هذه الحقيقة، وتعاونت فيما بينها لجمع المعلومات والأدلة، بحيث تمكنهم من دعم المساعي لتحقيق العدالة.

تتضح هذه الجهود في ما تقدّمه هيئات الأمم المتحدة من أدواتٍ للتحقيق وتقصي الحقائق، منحتها تفويضًا علنيًا لجمع الأدلة الملائمة للاستخدام في الملاحقات الجنائية، گ [(IIIM) الآلية الدولية المحايدة والمستقلة للمساعدة في التحقيق والملاحقة القضائية للأشخاص المسؤولين عن الجرائم الأشد خطورة، وفق تصنيف القانون الدولي، والمرتكبة في الجمهورية العربية السورية منذ آذار/ مارس 2011، و(COI) لجنة التحقيق الدولية المستقلة بشأن الجمهورية العربية السورية، و(FFM) منظمة حظر الأسلحة الكيميائية لتقصي الحقائق، وفي ما تقوم به مجموعة من الدول من استحداث وحدات وطنية متخصصة لممارسة الولاية القضائية العالمية على الجرائم المروعة، وأخيرًا النشاط الحثيث للمنظمات غير الحكومية في جلب الشهود وجمع الأدلة لاستخدامها في الملاحقات الجنائية في أوروبا على أساس الولاية القضائية العالمية.

ويطمح العاملون في ميدان حقوق الإنسان إلى الوصول إلى محكمة دولية خاصة بسورية، على غرار ما حصل في رواندا أو يوغسلافيا السابقة، سعيًا لتوقيف المتهمين وجلبهم للعدالة، أو لإحالة ملف سورية إلى محكمة الجنايات الدولية، وهذا الأمر لا تتوفر مقوماته في الوقت الحالي، وهنا نعود إلى الحسابات السياسية، فلو تم تجاوز الفيتو الروسي والصيني، فمن الصعوبة بمكان أن يتوافق القادة السياسيون للدول التي من الممكن أن يوجد على أرضها مجرمون، على التعاون لإنفاذ آليات العدالة وتسليم المتهمين، والمثل الصارخ هو رئيس السودان عمر البشير، الذي صدرت بحقه مذكرة توقيف من قبل محكمة الجنايات الدولية، ومع ذلك لم تتعاون الدول لتوقيفه ليصار لمحاسبته، فالأمر منوط دائمًا وأبدًا بالإرادة السياسية للدول.

وإذ تعتبر الولاية القضائية العالمية وسيلة مهمة جدًا، لا يخفى انسجامها مع مصالح الدول الإستراتيجية كمكافحة الإرهاب، والتعامل مع أسرى الجماعات المتطرفة، لذا نجد العديد من أعضاء هذه الجماعات مُضمنًا في حالات الولاية القضائية العالمية في الاتحاد الأوروبي، ومع أشد التقدير للجهد الكبير المبذول من قبل الأفراد والمنظمات السورية والدولية والمراكز التي قدمت وتقدم كل الدعم للوصول إلى ما تم الوصول إليه.

جوابًا على سؤالكم: هل هذه هي العدالة المنشودة التي تنصف الضحايا؟ وأين هي من مسار العدالة الانتقالية؟ وما انعكاسها على واقع السوريين في الداخل؟، أتساءل بدوري: السوريون في الداخل وكذلك في الخارج، ومنهم الأشخاص المنخرطون بمسار العدالة، والمشاركون برفع هذه الدعاوى القضائية، هل ينصفهم إصدار مذكرة توقيف بحق جميل الحسن أو  بشار الأسد؟ هل سيكفيهم هذا، في الوقت الذي ما يزال المجرمون موغلين في انتهاكاتهم بحق وطن هم مبعدون عنه؟ قد يكون الأمر مختلفًا مع ضحايا المجرمين الموجودين في أوروبا، وستتم محاسبتهم عمليًا، وهنا يظهر بعض القصور في الولاية العالمية -على أهميتها- وهو ما أشرت إليه في البحث الذي قمت به مع خبير من بلاد البلقان في كلية لندن للاقتصاد والعلوم السياسية حول توثيق انتهاكات حقوق الإنسان والعدالة الانتقالية في سورية: الثغرات وسبل معالجتها، وقد أظهر أن عدد الذين سيشعرون بالانتصاف هو عدد محدد وقليل جدًا في الغالب.

إن ما تحقق حتى الآن هو خطوة صغيرة جدًا على الطريق الطويل، وبالرغم من كونها تأتي في إطار محاسبة الجناة، أعتقد أنها تخدم سردية الضحايا، وتمنحهم الاعتراف بروايتهم، من قبل قضاء مستقل محايد ونزيه، عن حصول هذا الانتهاك وعدم التشكيك بما حصل، أكثر من أي شيء آخر. وكان، لمجرد تسمية المحاكمة في كوبلنز بـ “المحاكمة عن جرائم التعذيب في سورية”، أثر إيجابي كبير لدى الناجين من هذا الانتهاك في سورية.

وعن وضع أصوات الناجين السوريين في مركز الحوار حول سورية، وفتح مسارات جديدة وأكبر للناجين من أجل المشاركة والوصول إلى عمليات صنع القرار السياسي والعدالة بشأن المستقبل السوري، أرى أن هناك خطوات عملاقة تمت في هذا الإطار خلال السنوات الأخيرة؛ إذ بادر عدد من الناجين وأسر الضحايا لتأسيس روابط وحركات للدفاع عن قضاياهم وطرح رؤيتهم، ولم تعد أصوات الناجين وأسرهم مغيبة عن أي حدث يتعلق بالعدالة، فهي ممثلة دائمًا عبر هذه الروابط والحركات كـ (حركة عائلات من أجل الحرية)، و(مبادرة تعافي)، و(رابطة معتقلي ومفقودي سجن صيدنايا)، و(تحالف أسر الأشخاص المختطفين لدى تنظيم داعش)، و(رابطة عائلات قيصر)، وغيرها، ويجدر بالذكر الإشارة إلى الدور الكبير الذي أدته المنظمات النسوية في دعم هذه الحركات والروابط والمبادرات، التي توجت جهودها بداية العام الحالي بإصدار “ميثاق الحقيقة والعدالة”، الذي يسعى لتقديم رؤية شاملة لموقف ضحايا الاعتقال التعسفي، والاختفاء القسري، والتعذيب، من القضايا السورية المرتبطة بقضيتهم ورؤيتهم لمستقبلها، ومواقفهم في العمل عليها، وتحديد مطالب الضحايا في هذا الإطار.

وفي دورة مجلس حقوق الإنسان التي عقدت في آذار/ مارس الماضي، أصدرت الأمم المتحدة أول قرار على الإطلاق منذ 2011 ينصّ على مشاركة هادفة للضحايا في عمليات المحاسبة والعدالة الانتقالية، وهو ما يؤكد أهمية مشاركة الضحايا/ الناجين في عمليات المساءلة، وهذا حصل لكون هذه الروابط والحركات والمبادرات قد أخذت مكانها المحوري في هذا العمل.

ويشمل القرار بنودًا عدة: أهمية إدراج وجهات نظر الضحايا ومطالبهم المتعلقة بالحقيقة والعدالة في جهود المجتمع الدولي في سورية (الديباجة فقرة 9)؛ المشاركة الهادفة من جانب الضحايا في عمليات المحاسبة والعدالة الانتقالية (فقرة 7)؛ الترحيب بالمبادرات التي تقودها الضحايا عن الحقيقة والعدالة ومساهمتهم المهمة في ضمان العدالة بسورية (فقرة 7). وهو ما يجب أن يكون البوصلة التي توجه كل الجهات والمنظمات والائتلافات وهيئات التفاوض واللجان الدستورية.. إلخ.

ووصلت جهود العدالة القضائية الأوروبية بعد محاولات المحاسبة والمساءلة الدولية حتى الآن إلى ما يلي:

    – تقديم شكوى جنائية أمام قضاة التحقيق في فرنسا بشأن الهجمات بالأسلحة الكيميائية على مدينة دوما والغوطة الشرقية في آب/ أغسطس لعام 2013.

    – تقديم شكوى جنائية في موسكو ضد مقاتلي مجموعة “فاغنر” شبه العسكرية، نيابة عن ضحية سوري.

    – حملت كل من حكومة كندا وهولندا الحكومة السورية المسؤولية عن انتهاكات حقوق الإنسان، وتحديدًا مسؤولية التعذيب بموجب اتفاقية الأمم المتحدة لمناهضة التعذيب. وأرسلت هولندا مذكرة دبلوماسية للمضي قدمًا باتخاذ إجراء قانوني بموجب اتفاقية مناهضة التعذيب، وإحالة سورية إلى محكمة العدل الدولية.

    – إصدار أول حكم على متهم بارتكاب جرائم تعذيب في سورية.

    – قبل المدعي العام الألماني القضية المقدمة لاعتبار العنف الجنسي والعنف المبني على النوع الاجتماعي كجريمة ضد الإنسانية.

وهذا ما يعني أن لائحة الانتهاكات سنة 2021 قد اتسعت بشكلٍ أكبر لتتجاوز التعذيب. وتجدر الإشارة هنا إلى الفشل في توظيف هذه الإنجازات بالمسار السياسي والاستثمار فيه، وعدم انعكاسها على واقع السوريين على الأرض، فلم تغيّر منظومة العنف، ولم تُسهم في عدم إفلات المجرمين من العقاب. ولم نرَ أيضًا أنها قد دفعت حكومة دولة (حتى ألمانيا) إلى العمل لاتخاذ خطوات أكثر فاعلية بما يتعلق بالقضية السورية، بل أسهمت حقيقة في كمّ أفواه المدافعين عن حقوق الإنسان، واعتبار هذه المحاكمات هي أقصى ما يمكن فعله بالملف السوري.

وعن دلالات صدور أحكام قضائية على ضد مرتكبي الجرائم من ضباط النظام، أكرر ما ذكرته سابقًا، هو مجرد انتصار صغير لضحايا التعذيب في سورية، وحفظ سرديتهم، وأكبر بقليل للمتضررين المباشرين للجاني. لكن، ومع كل الأسف، لا يمكنني اعتبار هذا الحكم مؤشرًا حقيقيًا لنجاح الجهود في دعم عدم إفلات المجرمين من العقاب. وأنا شخصيًا، لا أرى رابطًا بين صدور الحكم ضد (إياد غريب) والخلط بين الانتقام والعدالة.

إن هدف العدالة تصحيح الخطأ، فهي تعني اتخاذ إجراءات عقابية تتناسب مع الجرم مستندة على إجراءات قانونية، وهي أمر منطقي وقانوني وأخلاقي، ترتبط بمعايير الإنصاف والمساواة الثقافية أو المجتمعية، وتفضي إلى الشعور بالراحة والسلام. أما الانتقام فهو إلحاق الأذى بشخص ما لإشفاء الغليل، ولا يمكن أن يكون الانتقام هدفًا لهذه المحكمة، والمتهمون في هذه المحاكمات لا يتلقون معاملة بمثل ما عاملوا بهم ضحاياهم سابقًا، ولا حتى تقترب منها. التعذيب أمرٌ مروع، وجريمة لا تسقط بالتقادم، ولا يمكن التساهل مع مرتكبيها لمجرد إعلانهم الانشقاق من دون وضع المعلومات التي لديهم، والتي قد تفيد مسار العدالة في خدمة القانون والضحايا، ومن دون إبدائهم استعدادهم الكامل للاعتذار والاعتراف وخدمة العدالة. ودائمًا للضحية/الناجي الحقّ باتخاذ الإجراءات المتاحة وفق القانون، التي يعتقد أنها قد تنصفه.

وائل السواح (معتقل سياسي سابق، والمدير التنفيذي لمنظمة “مع العدالة”):

من المهم أن نميّز الفرق الكبير بين العدالة الانتقالية والعدالة التقليدية، فالأولى تتجاوز الثانية وتمضي بعيدًا وراءها. العدالة التقليدية غالبًا ما تكون عمياء أو معصوبة العينين، كما يصورها التمثال الإغريقي الشهير. العدالة الانتقالية هي العدالة الممكنة في بلدٍ أنهكته الحروب أو الدكتاتورية، ويريد أن يطوي مرحلة ليبدأ مرحلة جديدة. ولا يمكن لمسار حقيقي للعدالة الانتقالية أن يتم إلا بعد انتقال سياسي حقيقي، فأي عدالة تتم في ظل الطغيان أو الحرب الأهلية أو الثورة هي عدالة منقوصة. وتختلف العدالة الانتقالية عما تم التعارف عليه في الماضي بالعدالة الثورية في أنها عدالة لا تبحث عن الثأر، إنما عن إحقاق الحقيقة، فهي إذًا ليست انتقامًا في أي حال، لكنها أيضًا لا تدير خدها الأيسر حين تلطم على الأيمن.

تسعى العدالة الانتقالية إذن إلى طيّ صفحة وبدء صفحة، وهي العدالة الوحيدة الممكنة في بعض الحالات. لنأخذ سورية على سبيل المثال: إذا أردنا محاسبة جميع منتهكي حقوق الإنسان، فإننا نحتاج إلى جيش من القضاة، وجيش من المحامين، وملايين الشهود، وآلاف القاعات.. إلخ، وهذا مستحيل. العدالة الانتقالية تحلّ الأمر، من خلال محاسبة كبار المنتهكين -أولئك الذين أمروا بارتكاب الجرائم أو كان بإمكانهم وقفها ولم يفعلوا- وتحميلهم مسؤولية أعمالهم كاملة، ثم تأتي لجان الحقيقة والإنصاف، لتبحث عن الانتهاكات وتوثق الضحايا وتقوم بجبر الضرر، بينما تلعب آليات الاعتذار والغفران دورًا مكملًا للمساءلة.

العدالة الانتقالية في سورية ستكون بديلًا لعدالة المنتصر، فقد علّمنا التاريخ أن محاكم ما بعد الحرب هي مجرد تمثيليات يعاقب فيها الفائزون الخاسرين على الأضرار والمعاناة التي سببتها الحرب. والعدالة الانتقالية تقوم بدلًا عن ذلك بإحقاق الحق لكل الضحايا الذين قُتلوا واعتقلوا وجُرحوا في سياق أحداث الثورة، ومعهم أيضًا الجنود وضباط الأمن الذين أُجبروا على المشاركة في قمع الشعب.

لذلك ما يجري في أوروبا من محاكمات لبعض مجرمي الحرب -على أهميتها الرمزية البالغة- ليست عدالة انتقالية. إنها عدالة تقليدية تحاكم مجرمًا على جريمته. ولو تمكنا من استصدار قرار من مجلس الأمن بتفعيل محكمة الجنايات الدولية، فإن مهمتها تظل مقتصرة على محاكمة حفنة صغيرة من مجرمي الحرب، ولن يحقق ذلك العدالة الحقيقية. العدالة الانتقالية تقوم على إيجاد وسائل خلاقة لمواجهة إرث انتهاكات حقوق الإنسان، لتجاوز تلك الفترة من طريق محاسبة المسؤولين الفعليين، والبحث عن الحقيقة، والإقرار بالذنب، وجبر الضرر المادي والمعنوي، والمصالحة الشاملة. وهي تستند في تحقيق ذلك إلى آليات باتت معروفة ومختبرة في كثير من البلدان والمناطق، منها المحاكمات، سواء كانت محلية أم دولية؛ والبحث عن الحقيقة من جانب الحكومات المنتخبة ديمقراطيًا والمجتمع المدني والمنظمات الدولية؛ والإقرار بالجريمة من جانب المنفذين في الدرجات الدنيا، بخاصة الذين أُجبِروا على تنفيذ ما ارتكبوه؛ وجبر الضرر عن طريق التعويض المادي أو المعنوي؛ والإصلاح المؤسسي، ومن ذلك إصلاح المؤسسة الأمنية؛ وتأسيس ذاكرة جماعية من خلال افتتاح المتاحف وإقامة المناسبات والنصب التذكارية لضحايا تلك الفترة. ولا ننسى أن الهدف الأخير للعدالة الانتقالية هو إطلاق مصالحة مجتمعية شاملة، لكي تتمتع الأجيال المقبلة ببيئة اجتماعية وأخلاقية سليمة وغير مشوهة بأحقاد أو مساعٍ للثأر، وأنها المدخل اللازم لتعزيز النظام الديمقراطي السليم والاعتراف بضحايا الفترة السابقة، ولمنع تكرار ما حدث.

من اصدارات منظمة (مع العدالة)

في سورية، نجادل بأن مسار العدالة والمساءلة ليس في مصلحة الضحايا المفترضين في جانب الثورة والمعارضة والمدنيين الذين قتلتهم آلة النظام ودمّرت بيوتهم، وألقت بهم إلى البطالة والتشرد فحسب، بل إنها أيضًا في مصلحة الشريحة الكبرى من آلة القمع ذاتها، بخاصة تلك التي لم تكن مقتنعة بكل ما ارتكبته من جرائم وأفعال منكرة.

إن العدالة الانتقالية هي في مصلحة الذين كانوا جزءًا من النظام، كما هي في مصلحة الضحايا المدنيين والمجتمع بأسره، فتحقيق هذه العدالة قمين بإعادة دمج هؤلاء الأفراد بمجتمعهم، واعترافهم بأفعالهم يساعدهم في إعادة احترامهم لنفسهم، وقبولهم بالعقوبة في حال وقوعها سيمكنهم من التحرر من العبء الهائل الذي سيحملونه إلى آخر العمر. وأخيرًا، فإن مصالحة حقيقية مع المجتمع ستنهي عقودًا من القمع والاضطهاد والخوف.

باختصار: إن بناء مجتمع سليم ومنتج ومعافى يحتاج إلى العدالة أولًا، ولا بدّ من مساءلة من أمر بالحرب وأراق الدماء وأمر بالسجن والتعذيب والاختطاف ولم يمارس سلطته في وقف ذلك حين كان قادرًا عليها. ولكن هذا يعني الاكتفاء بالأفراد الذين يتربعون على رأس الأجهزة والمؤسسات العسكرية والأمنية وقادة الميليشيات والساديين من السجانين والجلادين. مثلًا، أنا أؤيد محاكمة (أنور رسلان)، لأنه ارتكب وأمر بارتكاب فظائع بسبب منصبه، ولكنني أرى في محاكمة (إياد غريب) أمرًا نافلًا، لأن هنالك آلافًا مثله لن نستطيع محاكمتهم أبدًا، ولذلك تبدو محاكمة (إياد) وكأنها استفراد بشخص وقع في أيدينا مصادفة.

الناشطة ياسمين مشعان (مسؤولة التواصل والتنسيق الداخلي في رابطة عائلات قيصر): الأولوية لمعرفة مصير المعتقلين والمفقودين

تبدأ مسيرة السلام وإعادة الإعمار في سورية، من أجل كل السوريين، بمعرفة الحقيقة وتحقيق العدالة لضحايا الانتهاكات الجسيمة، فلا يمكن أن تنجح محادثات السلام وسبل التفاوض في ظل حرمان عائلات الضحايا من معرفة مصير المعتقلين والمفقودين منهم، وفي ظل غياب إجراءات بناء الثقة التي نص عليها القرار 2254، ومن دون التطرق إلى قضية الاعتقال والإخفاء القسري باعتبارها مسائل ذات أولوية قصوى. إن الوصول إلى عدالة شاملة تلبّي احتياجات وتطلعات الناجين والناجيات والضحايا وأفراد أسرهم هي عملية طويلة الأمد ستشمل مراحل تراكمية. كل هذه المراحل ضرورية، لكننا، بصفتنا ضحايا، نرى أن بعض العناصر ملحّة جدًا، في حين أن البعض الآخر قد يستغرق وقتًا أطول لتحقيقه. لذلك نفرق بين عدالة قصيرة الأمد، وعدالة طويلة الأمد. على المدى القصير، هناك إجراءات فورية لا بدّ من اتخاذها لوقف الانتهاكات المستمرة، والتخفيف من معاناة الناجين والناجيات والضحايا وعائلاتهم. أما على المدى المتوسط إلى الطويل، فلدينا مطالب إضافية لضمان العدالة الشاملة ومنع تكرار الجرائم التي عانينا وما زلنا نعاني منها.

ولتحقيق العدالة يجب أن تتحقق المطالب التالية:

    الإفراج الفوري عن المعتقلات والمعتقلين، وكشف مصير المغيبين والمخفيين قسرًا.

    الوقف الفوري للتعذيب والمعاملة اللاإنسانية والجرائم الجنسية في المعتقلات والسجون.

    تسليم رفات المتوفين لإعادة دفنهم بطريقة لائقة حسب الشعائر المتبعة لدى ذويهم، واعتبارهم شهداء لا مجرمين كما يروّج النظام ومثلما فعل في ثمانينيات القرن الماضي.

    يجب ألا يكون الإفراج عن المعتقلين والمعتقلات، والكشف عن مصير المختفين قسرًا، مرهونًا بالمفاوضات أو باتفاقيات تبادل الأسرى، فهذه القضية تحديدًا ليست موضع تفاوض، وهي تسمو فوق كل المفاوضات برأينا.

    إلغاء المحاكم الميدانية والاستثنائية.

    توفير محاكم عادلة مدنية مستقلة تراعي المعايير الدولية.

    ضمان التعويض المناسب وجبر الضرر.

    الاعتراف بحقيقة ما حدث بشكلٍ رسمي.

    إجراء إصلاحات كبيرة على صعيد المؤسسات الأمنية والقضائية، مع مراجعة كاملة للمؤسسات التابعة لها.

    التأكد أن مرتكبي الجرائم لن يكونوا جزءًا من أي مؤسسة مكلفة بإقامة العدالة والمحاسبة.

ولضمان عدم الإفلات من العقاب، يجب اتخاذ الخطوات التالية:

    تشكيل آلية محاسبة عادلة بضمانات دولية من دون حصانة للجناة.

    على جميع الدول تحمّل مسؤولياتها القانونية والإنسانية في إحالة الملف إلى محكمة الجنايات الدولية.

    التعاون الكامل مع الآلية الدولية المحايدة والمستقلة، وتعزيز قدراتها ومواردها.

وبالنسبة إلى موضوع الولاية القضائية وما تحققه، هناك أمور عديدة:

أولًا: يجب الاستمرار في عمليات التقاضي على مبدأ الولاية القضائية وملاحقة جميع المنتهكين في الخارج، إضافة إلى استمرار رفع الشكاوى في الدول التي تسمح بذلك، وذلك لسببين أساسيين: الأول أن استمرار إبراز القضية السورية على الساحة الدولية، وإبقاء الضوء عليها، يساعد في تشكيل أداة ضغط على جميع هذه الدول للتحرك لإيجاد حل للوضع السوري، وإنهاء الحالة التي نعيشها بما يتوافق مع رؤيتنا بصفتنا سوريين، وتحقيقًا لأهداف الثورة، وليس حلًا يخدم مصالح النظام؛ والثاني أننا نعرف جميعًا أن هناك كثيرًا من مرتكبي الجرائم وصلوا إلى بلدان اللجوء، وتتم حاليًا ملاحقتهم بشكلٍ أكبر، أو على الأقل خفت حدة تشبيحهم وترويعهم للاجئين الذين هربوا من بطش النظام.

نعم، قد يجد البعض أن العملية طويلة وغير مجدية، لكننا نرى أنها تراكمية، ولا بد أن يأتي اليوم الذي يتحقق فيه ولو جزء مما نصبو إليه.

ثانيًا: اتخذت بعض الدول قرارات بمساءلة سورية (النظام) لارتكابها جرائم التعذيب والقتل في مراكز الاحتجاز لديها، مثل (هولندا وكندا، وهناك احتمال بأن تتبعهما سويسرا)، وذلك أمام محكمة العدل الدولية. وفي الآونة الأخيرة، وافق النظام على الجلوس إلى طاولة المساءلة، ويجب أن يقدم أدلة تنفي ضلوعه بهذه الجرائم. وهنا يأتي دور الضحايا وذويهم بتثبيت ضلوعه بارتكاب هذه الجرائم، وبالتحديد، نجد أن أهالي الضحايا في صور (قيصر) سيكون لهم دور بارز هنا.

هذه المبادرات من هذه الدول جاءت نتيجة جهود كبيرة بذلتها المنظمات الحقوقية والروابط والحركات والمبادرات، ونتيجة استمراريتهم في العمل المتواصل من أجل قضية العدالة والمساءلة.

وعن محاكمة كوبلنز والحكم على (إياد غريب)، نرى أن الحكم على شخص (إياد) لم يكن يستهدفه وحده، إنما كان يستهدف منظومة كاملة تم تجريمها، وهذا الحكم سوف يؤخذ بعين الاعتبار بكل قضية تُرفع ضد النظام، وسوف يُبنى عليها بإدانة كثير من المنتهكين. وبالنسبة لـ (إياد)، كشخص انشق مبكرًا، أتعاطف معه وأشكره أيضًا لانشقاقه، وأتمنى أن تكون هذه السنوات هي كفّارة ذنبه (تخيّل أن أحد الذين اعتقلهم مات تحت التعذيب!!) في الحقيقة، لا يمكن أن ننكر جرائمه.

أخيرًا: إن الجهود التي تبذلها روابط الضحايا والحركات والمبادرات والمراكز والهيئات والمنظمات الحقوقية السورية في الساحة الأوروبية، والتي أدت إلى إطلاق “ميثاق الحقيقة والعدالة”، أثمرت أولًا إيصال صوتنا إلى جميع صناع القرار، وهو ما أدى في الآونة الأخيرة إلى إصدار قرار من مجلس حقوق الإنسان، حول “مركزية دور الضحايا في صنع السلام بمستقبل سورية”؛ سلامٌ يُبنى على تحقيق العدالة، ومنع الإفلات من العقاب، وليس على الانتقام، وأدى إلى إصدارهم تصريحات توافق رؤيتنا حول “إنشاء آلية للكشف عن مصير المختفين والمغيبين قسرًا”.

المحامي حسان الأسود (المؤسس والمدير السابق للهيئة السورية للعدالة والمحاسبة المسجلة في لاهاي): محدودية الجهود السورية بطبيعتها ونطاقها وتأثيراتها المحتملة على مجمل مسار العدالة

ليست العدالة الانتقالية مجموعة من التوصيات التي يمكن الأخذ بها لمعالجة أزمة عابرة، إنها مسار متكامل ذو أبعاد متشعبة، سياسية واجتماعية وفكرية، يظهر بأشكال قانونية وقضائية وإدارية متعددة. ولكل بلد مرّ بأطوار من النزاعات خلفت جراحًا وتمزقات في بنية المجتمع وفي نفسيات المواطنين، مسارٌ خاص يتناسب مع واقعه. صحيح أن الخطوط العريضة تتشابه، لكن الجزئيات هي التي تخلق الفروق الواضحة في مقاييس النجاح والفشل، وهي التي تعطي كل تجربة علاماتها الفارقة.

الحالة السورية

غالبًا ما كان التحضير لمسارات العدالة الانتقالية يبدأ بعد انتهاء الأزمات أو الثورات أو الحروب الأهلية، وبعد أو بالتزامن مع عمليات الانتقال السياسي. لكن في الحالة السورية، ولاعتبارات كثيرة لا مجال لمناقشتها الآن، بدأت عمليات التحضير لهذا المسار باكرًا منذ الأشهر الأولى للثورة، على الأقل من خلال عمليات توثيق الانتهاكات. ولا يمكن بكل الأحوال تجاهل الجهود المبذولة نظريًا من قبل العديد من الأشخاص والجهات المهتمة بهذا الشأن.

الخيارات المحلية

لا شك في أن الخيارات المحلية أو الوطنية السورية ليست متاحة الآن، فمع انعدام وجود دولة مستقرة ذات أجهزة قادرة على التعامل مع هذا الحجم الهائل من الانتهاكات، ومع غياب وجود نظام حكم ديمقراطي شامل الجميع، لا يمكن تصور البدء بأكثر مفردات العدالة الانتقالية أهمية، أي الملاحقات الجنائية، وتعويض الضحايا، ولجان الحقيقة والمصالحة، وإجراءات إصلاح مؤسسات الدولة.

الخيارات الخارجية أو الدولية

مع غياب احتمالات العمل الداخلية التقليدية، كان لا بد من اللجوء إلى البدائل المتاحة دوليًا. تبنت المنظمات الدولية الرسمية سياسة واضحة في ملف العدالة الجنائية، كإحدى مفردات التعامل مع الأزمة السورية، وبنت لذلك إستراتيجية واضحة من خلال بناء مؤسسات لجمع الأدلة وإدارتها، مثل لجنة التحقيق الدولية المستقلة بشأن الجمهورية العربية السورية، والآلية الدولية المحايدة والمستقلة (IIIM). وباعتبار أن الملاحقات الجنائية ليست سوى جزءٍ بسيط من أي مسار للعدالة الانتقالية، فإن هذه المقاربات ستبقى قاصرة وغير كافية للإحاطة بهذا الملف الشائك، مهما كانت الجهود المبولة فيها كبيرة واحترافية.

الولاية القضائية العالمية

كانت الملاحقات الجارية وفق مبدأ الولاية القضائية العالمية منفذًا جيدًا ضمن حالة الإغلاق والتعطيل التي واجهت إمكانية إحالة الملف السوري للمحكمة الجنائية الدولية، أو من خلال إنشاء محكمة جنائية خاصة بسورية. لكن هذه الأداة ستبقى قاصرة عن أداء أي دور في مسار العدالة الانتقالية السورية لأسباب كثيرة جدًا، سنورد أهمها فيما يلي:

    لأنه لم يسبق للمنظمات العاملة في الشأن السوري أن أجرت مشاورات حقيقية مسبقة قبل فتح هذا الملف، ولم تتوصل إلى بناء إستراتيجية واضحة للتعامل مع هذه الملاحقات.

    لأن هذا الطريق محدود بحكم طبيعته، فأغلب الدول التي تجري أو يمكن أن تجري فيها الملاحقات المذكورة، لا تأخذ بمبدأ الولاية القضائية العالمية الشاملة، فباستثناء ألمانيا، لا نجد أي دولة أخرى يمكن أن تتم فيها ملاحقة المتهمين بهذه السهولة النسبية، وكذلك لا يمكن، على سبيل المثال، ملاحقة كبار المسؤولين السياسيين مثل رأس النظام، بسبب تمتعهم بالحصانة بحكم وظائفهم أو مناصبهم الرسمية.

    لأن الأثر المترتب على هذه الملاحقات لا يمكن قياسه بشكلٍ دقيق على مجمل الحالة السورية، ولا يمكن بكل الأحوال تحديد طبيعة تأثيره في القوى المتصارعة على الأرض من جهة، ولا في القوى المجتمعية الخاضعة للضغوطات، والواقعة تحت هذه الانتهاكات من جهة أخرى.

إن الملاحقات الجنائية الجارية، وفقًا لمبدأ الولاية القضائية العالمية، لا يمكن أن تعتبر جزءًا من مسار العدالة الانتقالية في سورية، ولا حتى ضمن الحيز الخاص بالجانب الجنائي من هذا المسار. وإن حجم الانتهاكات الجارية في سورية كبير وهائل لدرجة يعجز عن القيام بها أي قضاء أجنبي، ولا بدّ من التحلي بالواقعية عند الحديث عن المساهمات الأجنبية في هذا الخصوص. سيكون على الدولة السورية الجديدة بذل كثير من الجهود لتطوير البنى والمؤسسات القانونية والإدارية لخوض هذا الاستحقاق الكبير، كما سيكون على الشعب السوري تحمّل كلف عالية جدًا، إذ أراد أن يبدأ بشكلٍ صحيح يوصله إلى سلام أهلي ومواطنة متساوية واستقرار اجتماعي ونهوض اقتصادي أكيد.

الضحايا والإمكانات البديلة

يمكن لهذا الملفّ أن يعمل بشكلٍ فعال في مجال آخر قريب من مجال الملاحقات القضائية، ومستقلّ عنه نسبيًا، هذا المجال هو المتعلق بضحايا الانتهاكات. والإمكانات المتاحة كثيرة من الناحية النظرية، فيمكن على سبيل المثال البدء بعمليات إنشاء قاعدة بيانات موحدة لإحصاء الضحايا، ومن ثم فرزهم وتصنيفهم حسب نوع الانتهاك الواقع بحقهم إلى آخر ما هناك من متعلقات بهذا الشأن، ثم يمكن العمل على بناء روابط قوية بين الناجيات والناجين منهم، وبين أسرهم أيضًا، لاستكمال حلقات التعارف واللقاء والنقاش، ويمكن القيام بدورات تدريبية للضحايا، عن كيفية تجاوز آثار الانتهاكات، وكذلك عن آليات التأقلم مع المجتمعات الجديدة التي انتقلوا إليها، كذلك، يمكن العمل على الترويج لفكرة إنشاء حافظة أو صندوق مالي وطني لدعم الضحايا وتعويضهم.

إن مشاركة الناجيات والناجين في النقاشات العلنية حول مستقبل سورية، وتمكين الفئات المؤهلة منهم من المساهمة في عمليات التغيير السياسي وإعادة هيكلة مؤسسات الدولة، سيؤدي بكل تأكيد إلى توسيع دائرة المشاركة الشعبية من جهة، وتحصين المجتمع والدولة في وجه إمكانيات إعادة تكرار تجارب الماضي وإعادة ارتكاب الانتهاكات أو السماح بها.

جهود العدالة القضائية الأوروبية

حتى نكون منصفين، يجب التأكيد على أن جهود إحقاق العدالة الجنائية أو الانتقالية في سورية ليست من مهمات عمل الجهات القضائية الأوروبية، ولا هي معدّة أساسًا للقيام بمثل هذه المهمات. لكن، يجب أخذها على محمل الجد والاحترام، مع عدم توقع إحداث أي فارق نوعي نتيجة لهذا الجهود، سواءٌ على الواقع في سورية أم على الضحايا، أو حتى المرتكبين المحتملين للانتهاكات.

إن احتمال ملاحقة جميع مرتكبي الانتهاكات الموجودين في أوروبا أمرٌ ضعيف جدًا، وهو بحاجة إلى عمليات مركزة ومنهجية تخرج عن قدرات وطاقات المراكز السورية العاملة بهذا الشأن. ليس لدى المراكز السورية -حتى الآن على الأقل- محاميات ومحامون متخصصون بهذه القضايا وفق القوانين الوطنية الأوروبية، وبالتالي؛ فإن جل اعتمادهم ينصبّ على الشراكات مع المنظمات الأوروبية للقيام بهذه المهمة. إضافة إلى عدم وجود إستراتيجية واضحة للمقاضاة، ولا تخطيط واضح لأولويات الملاحقة الجنائية. كذلك، هناك ضعف واضح بعمليات التنسيق والتعاون بين المنظمات السورية العاملة في هذا المجال، وهو بكل الأحوال مرض السوريين المزمن.

محاكمة كوبلنز

على أهميتها، لا يمكن أن تكون محاكمة (إياد غريب) ولا (أنور رسلان) خطوة كبيرة في مجال تحقيق العدالة، فهي، وإن كانت قد أجرت استعراضًا شاملًا للوضع السوري، وإن كانت قد استقرأت واقع انتهاكات حقوق الإنسان ضمن فترة الحكم الديكتاتوري الطويلة، لم تضع سوى حجر واحد ضمن مداميك العدالة الجنائية، والعدالة الانتقالية في سورية، ويمكن تشبيه هذا الجهد بحجر واحد من بين ملايين الأحجار في سور الصين العظيم. وفي كل الأحوال، هناك كثير مما يمكن قوله بخصوص هذا المحاكمات، ويمكن سوق كثير من الحجج حول أهميتها أو عكس ذلك. لكن، يبقى من الأهمية بمكان الإشارة إلى أن هذه الجهود تبقى محدودة بطبيعتها وبنطاقها وبتأثيراتها المحتملة على مجمل مسار العدالة في سورية.

المحامي غزوان قرنفل (مدير تجمع المحامين السوريين/ منظمة حقوقية مرخصة في تركيا): نحتاج إلى برنامج وطني للعدالة الانتقالية يأخذ على عاتقه إعادة بناء المؤسسات

في الحاجة إلى العدالة الانتقالية:

ليست العدالة الانتقالية مطلبًا مُلِحًّا لضحايا الانتهاكات والفظاعات المرتكبة في سورية وذويهم فحسب، بل حاجة مجتمعية سورية لنقل المجتمع السوري من ضفة الاحتراب والصراع إلى ضفة السلامة الوطنية.  ذلك لأن حجم وهول الجرائم والانتهاكات المرتكبة بحقّ سوريين آمنوا أن الحق بالحرية هو حق أصيل للإنسان، وأن عليهم أن يحصلوا عليه وينعموا به، خلّف تصدعًا مجتمعيًا كبيرًا، خاصة بعد أن تم إلباس الصراع لبوسًا طائفية ودينية، وهذا يزيد حاجة السوريين أكثر إلى برنامج وطني للعدالة الانتقالية، يأخذ على عاتقه إعادة بناء المؤسسات التي ضلعت في ارتكاب الجرائم والانتهاكات، أو سكتت عنها، لتتمكن من إدارة الحريات بدلًا من قمعها، وحماية الحقوق بدلًا من استلابها، كما يأخذ على عاتقه أيضًا، وقبل تعويض الضحايا، محاسبة كبار المسؤولين عن ارتكاب الفظاعات والانتهاكات والقتل المنهجي للسوريين، ذلك لأن ترميم المجتمع لا يكون برضوخ الضحايا لجلاديهم، وكأن شيئًا لم يكن ولم يحصل، ولا يكون بكنس القمامة ووضعها تحت السجاد، بل بتنظيف البيت السوري ووضع القمامة حيث يجب أن توضع. من هنا تأتي مسألة المحاسبة والمساءلة في مقدمة احتياجات المجتمع حتى يستطيع أن يعالج جراحه، ويرمم آدميته، ويطوي تلك المرحلة من حياته، ليؤسس لمرحلة مغايرة، أساسها القطع مع الماضي الاستبدادي، وتعزيز قيم حقوق الإنسان.

لكن المشكلة التي سيواجهها السوريون أن صناع الحل السياسي -وهم بطبيعة الحال أطراف الصراع أو ممثلون عنهم- لن يكون لهم مصلحة بإقرار قضية المساءلة كجزء من برنامج العدالة الانتقالية ضمن أي اتفاق سياسي يبرمونه، لكونها، غالبًا، ستشمل شخصيات ورموزًا منهم، وسيستغلون الامتداد الزمني الطويل لهذا الصراع مع ما يحمله ذلك من مزيد تداعيات مجتمعية كارثية للمقايضة بين (السلام وإعادة الإعمار) على العدالة والمحاسبة، وسيكون على القوى المجتمعية المدنية المختلفة، ومنظمات المجتمع المدني، ومنها منظمات الضحايا والمنظمات الحقوقية، العمل معًا بدأب لمواجهة ذلك، ورفض تلك المقايضة، ذلك لأن سلامًا بلا عدالة يبقى سلامًا هشًا وعرضة للاهتزاز والفشل، ما لم يتأسس على أرض صلبة قوام صلابتها العدل وإنصاف الضحايا.

  هل من مسار دولي للمحاسبة؟

حتى الآن، لا يلوح في الأفق أي أمل بإحالة ملف الجرائم والانتهاكات المرتكبة في سورية إلى محكمة الجنايات الدولية، عبر قرار من مجلس الأمن الدولي (وهو السبيل الوحيد باعتبار سورية ليست من الدول الموقعة على ميثاق روما المنشئ لتلك المحكمة)، بسبب إجهاض هذا المسعى من قبل روسيا عبر استخدامها حق النقض (الفيتو) 15 مرة للحؤول دون ذلك، بل للحؤول أحيانًا دون إصدار قرارات تتضمن إدانة واضحة للنظام السوري على جرائمه، وهي حالة غير طبيعية لم تحصل من قبل قط، وهو ما يعكس فشل الأسرة الدولية في التعاطي مع هذا الملف بما هو متوجب قيميًا وقانونيًا، وهو أيضًا يعكس حجم الإصرار الروسي على دعم طغمة عسكرية وأمنية أقلوية لاستمرار حكم سورية، خلافًا لإرادة السوريين في العمل على بناء دولة مدنية قوامها المواطنة المتساوية، وسيادة القانون، وتكريس مفهوم التداول السلمي للسلطة، إذ عبّرت روسيا عن ذلك بتصريح وزير خارجيتها سيرجي لافروف، في 27 آذار/ مارس 2012، أي بعد سنة من اندلاع الثورة، وقبل ظهور قوى إسلاموية متطرفة، بأنه “لن يسمح للسنّة بحكم سورية”، وأعقبه، في 29 كانون الثاني/ يناير 2013، تصريح لرئيس الوزراء الروسي آنذاك، ديمتري ميدفيدف، بأنه “يجب منع أهل السنّة في سورية من الوصول إلى الحكم”.

ما البدائل إذًا عن محكمة الجنايات الدولية؟ وهل يمكن اللجوء إلى الجمعية العامة للأمم المتحدة لاجتراح خيار آخر؟ باعتقادي، إن توفرت الرغبة والإرادة حقًا لدى الدول الكبرى، فإن اللجوء إلى الجمعية العامة للأمم المتحدة، لاتخاذ قرار أممي بإنشاء محكمة دولية خاصة لمحاكمة مرتكبي جرائم الحرب والجرائم ضد الإنسانية في سورية، يبدو خيارًا ممكنًا بالرغم من صعوبته، فحشد الأصوات لصالح مثل هذا القرار ليس مستحيلًا، وإمكانية تأمين الدعم المالي لكلفة المحكمة ونفقاتها ممكنة، وقد سبق للجمعية العمومية أن اتخذت قرارًا مهما في هذا السياق برقم 248/71، تاريخ 21/ 12/ 2016، وأنشأت بموجبه (الآلية الدولية المحايدة والمستقلة للمساعدة في التحقيق والملاحقة القضائية للأشخاص المسؤولين عن الجرائم الأشد خطورة وفق تصنيف القانون الدولي والمرتكبة في سورية منذ آذار/ مارس 2011) وهي مؤسسة مهمة لخدمة قضية العدالة والمساءلة في سورية، ويمكن القول إنها مرحلة قضائية إجرائية وتمهيدية تسبق المحاكمات، وبالتالي، فإن إنشاء محكمة دولية خاصة للنظر إلى الجرائم المرتكبة في سورية، عبر قرار من الجمعية العامة للأمم المتحدة، يبدو خيارًا ممكنًا ومغريًا. لكن، في ظل المشهد الحالي والسلوك الدولي إزاء هذا الصراع،  لا شيء يشي بتوفر الرغبة ولا الإرادة لفعل ذلك، دون إغفال وجوب العمل على هذا المسار من قبل قوى المعارضة بدأب وبلا كلل، فكمّ الجرائم وفظاعتها يوجب ذلك. ويبقى التعويل المتاح هو على برنامج وطني سوري للعدالة الانتقالية يأخذ في الحسبان قضية المساءلة والمحاسبة ضمن حيز متشعب أوسع منها، يشتمل على معرفة الحقيقة، وإصلاح المؤسسات، وتعويض الضحايا، فذلك وحده من شأنه أن يرمم بنية المجتمع وينقله إلى ضفة السلامة الوطنية.

محاكمة الجناة وفق مبدأ الولاية العالمية

مع انسداد أفق المحاسبة، ومحاولة كثير من الدول الفاعلة بالملف السوري الوصول إلى حلّ سياسي، ظهر هناك اتجاه لتنحية مسألة المحاسبة والمساءلة جانبًا، حتى لا تكون معوقًا لهذا الحل وفق رؤية المبعوث الدولي السابق ستيفان ديمستورا، التي عبّر عنها في أكثر من لقاء مع ممثلي منظمات المجتمع المدني السوري خلال اجتماعات (غرفة المجتمع المدني)، ومن باب الأمانة، فإن معظم المنظمات، وخاصة الحقوقية منها، كانت ترفض هذا الأمر، وترى أن سلامًا مستدامًا في سورية يقتضي بالضرورة عدالة ومحاسبة. ومع تطور أداء المنظمات الحقوقية السورية، واكتسابها خبرات مهمة، وتوسع نطاق علاقاتها مع مؤسسات حقوقية دولية، وتوفر سبل محاسبة الجناة أمام محاكم وطنية أوروبية تنص قوانينها على مبدأ الولاية القضائية العالمية في ما يتعلق بجرائم الحرب والإبادة والجرائم ضد الإنسانية، وبالنظر لضخامة التوثيقات والأدلة المتوفرة على ارتكاب تلك الجرائم، وتوفر الضحايا (الناجين والشهود الذين وصلوا إلى البر الأوروبي عقب التدفق الهائل للاجئين السوريين عام 2015)، فإن اللجوء إلى القضاء الأوروبي صار خيارًا أخلاقيًا وقانونيًا ممكنًا وضروريًا، ليس لإنصاف الضحايا فحسب، بل لرفض تكريس ثقافة الإفلات من العقاب، والإبقاء على قضية المحاسبة والمساءلة ماثلة للعيان أمام المجتمع الدولي، بوصفها ضرورة قيمية وقانونية لوأد فكرة وفرص الانتقام، والتأسيس لثقافة سيادة القانون. وهذا ما حصل فعلًا، حيث أُقيمت العديد من الدعاوى (التي اكتملت ملفاتها وتوفرت عناصر نجاحها) في ألمانيا والنمسا والسويد وسويسرا وفرنسا، وما تزال هذه الدعاوى قيد النظر.

في هذا السياق، إن التعريج على قضية المدعو (إياد غريب) الذي انشق عن أجهزة النظام مبكرًا، يبدو ضروريًا، بسبب ما أُثير حولها من لغط ربما أسهمت فيه بعض التصريحات الإعلامية المتسرعة والغوغائية، التي جعلته ضحية أكثر مما أظهرته متهمًا، والحقيقة أنه لا يوجد ادعاء شخصي بحق (إياد)، لكن النائب العام الألماني، في معرض تحقيقه بقضية (أنور رسلان)، تبين له أن (إياد) أيضًا ارتكب جرائم قبل انشقاقه، والنائب العام ملزم -بموجب القانون الألماني- أن يحرك الدعوى العامة على (إياد)، وهذا ما كان، وتمت محاكمته على هذا الأساس، وصدر بحقه حكمٌ مخففٌ لأجل ذلك. إن المسألة برمتها ليست انتقامًا، وليست محاكمات تستهدف منشقين، إنما محاكمات تستهدف متهمين بجرائم ارتكبوها بحق السوريين، من دون النظر إلى أي ضفة من ضفاف هذا الصراع ينتمون، ولو صحت نظرية الانتقام المزعومة لما كانت هناك دعوى أسبق أقيمت بحق قادة أمنيين كبار كـ (علي مملوك وجميل حسن وعبد السلام محمود) بجرائم التعذيب والقتل تحت التعذيب، وصدرت مذكرات توقيف دولية بحقهم، كما هو معلوم. وما يجدر التنبيه إليه في هذا السياق أن تلك المحاكمات لا علاقة لها بالعدالة الانتقالية التي يريدها السوريون، لأن ما يحتاج إليه السوريون ليتمكنوا من طي صفحة الماضي والتوجه لبناء مستقبل مختلف هو أوسع وأشمل من قضية المحاكمات.

الناجون.. دورهم وأصواتهم

إنتجربة المنظمات الحقوقية السورية في مجال توثيق الجرائم والانتهاكات أكثر تطورًا ونضجًا ومردودية على مستوى التجارب العالمية قاطبة، في الدول التي عانت صراعات مسلحة، ويمكننا القول أيضًا -بلا ادعاء- إن تجربتها متميزة في مجال أصوات الضحايا، ومبادراتها الفعالة لتشكيل مؤسسات معبرة عن هؤلاء الضحايا ومظلوميتهم وحقوقهم ومطالبهم. ولعل مراجعة متأنية لكل التجارب السابقة لدى الشعوب التي مرت بهذا الامتحان العصيب تثبت ذلك.

مبكرًا أيضًا، بادر معتقلات ومعتقلون سابقون -بدعم من مؤسسات ومجموعات حقوقية مختلفة- للتعبير عن أنفسهم بمنظمات كانت صوتًا عاليا لهم، وتمكنوا من مخاطبة المجتمع الدولي ومؤسساته كما المنظمات والمؤسسات الحقوقية الدولية، وحضروا وانخرطوا في أنشطة ومؤتمرات دولية، وقدّموا لهم مطالبهم، وكانوا الصوت العالي المجسد لضحايا الاعتقال التعسفي والاختفاء القسري والقتل خارج نطاق القانون والتعذيب والعنف الجنسي، منها على سبيل المثال لا الحصر (رابطة معتقلي ومفقودي سجن صيدنايا، ورابطة عائلات قيصر، وحركة عائلات من أجل الحرية، وصوت المعتقلين، والهيئة الوطنية للدفاع عن المعتقلين والمفقودين، ومبادرة تعافي، وتحالف أسر الأشخاص المختفين لدى داعش).

وقد أطلقت بعض تلك المنظمات حديثًا (ميثاق الحقيقة والعدالة) وهو يُعدّ خطوة مهمة بالاتجاه الصحيح في ما يتعلق بعمل تلك المنظمات على ملفات المعتقلين والمختفين قسريًا والمخطوفين، ويسعى الميثاق، كما عبّر عنه مطلقوه، (إلى رؤية شاملة لموقف ضحايا الاعتقال التعسفي والاختفاء القسري والتعذيب، من القضايا السورية المرتبطة بقضيتهم، ورؤيتهم لمستقبلها، ومواقفهم من العمل عليها، وتحديد مطالب الضحايا).وهذا يعني أنمشاركة أو إشراك الضحايا في ملفّ العدالة الانتقالية ليس أمرًا حيويًا ومهمًا فحسب، بوصفهم من دفع الثمن الأكبر والأكثر إيلامًا في مواجهة الانتهاكات والجرائم واسعة الطيف لحقوق الإنسان، بل يضمن أيضًا حقّهم في التعبير عن معاناتهم، فضلًا عن حقهم بالإنصاف وبالعدالة وبالتعويض الملائم.

الكاتب والسياسي المحامي إدوار حشوة (عضو اللجنة الدستورية وكبير المستشارين فيها): التفاوض يحمل معه منطق التنازلات

العدالة الانتقالية هي أسلوب قانوني لمعاقبة مجرمي الحرب. في الحرب التي يحسمها طرف لصالحه، تصبح العدالة موجهة ضد الخصم المهزوم، وتعلنه مسؤولًا عن الوحشية والخراب، وتستخدم منصة القضاء الداخلي الموجه لإعدام كثيرين، وسجنهم، وفرض العزل السياسي عليهم. وفي الحرب التي لا ينتصر فيها طرف على آخر، ويذهب الطرفان للتفاوض، لا بدّ أن تكون العدالة بندًا من بنود التفاوض. هذه العدالة إما أن تكون موزعة مناصفة، وإما موزعة بنسبة ما لهما من سيادة على أرض الحرب. وهذه العدالة الانتقالية على أنواع، حين يتفق الطرفان على نقل السلطة إلى أمراء الحرب، فإن الصيغة ستكون لا غالب ولا مغلوب، ويحكمها عفو عام عن جرائم الحرب (حرب 1975 في لبنان مثلًا).

وفي حال الاتفاق على نقل السلطة إلى طرف ثالث محايد عبر حل سياسي، فإن العدالة الانتقالية ستكون على الشكل التالي (العقوبات على قيادات وحشية في الطرفين تعتبر مسؤولة، ومساحة واسعة للعفو عن كل أدوات التنفيذ). هذه العدالة كلما كانت محدودة بأصحاب القرار وقليلة العدد كانت أفضل، وكلما كانت واسعة وتشمل كل أدوات التنفيذ كانت أحسن، (وهذا هو اقتراحنا في مفاوضات جنيف).

في حرب لبنان 1958، كان الحل سياسيًّا في شتورا، بين جمال عبد الناصر وفؤاد شهاب، وانتهى إلى تعهد لبنان بعدم الانضمام إلى حلف بغداد، وإلى عفو شامل للجميع. العدالة الانتقالية الدولية تختلف، لأنها تصدر عن مجلس الأمن لمعاقبة مسببي الفتن والجرائم ضد الإنسانية، وتُحال العقوبة فيها إلى محكمة الجنايات الدولية (اغتيال رفيق الحريري في لبنان، وجرائم الصرب في البوسنة)، وكل منهما تمت إحالتهما للجنائية بقرار جماعي.

وما يعطل العدالة ويمنع الإحالة للجنائية الدولية هو ممارسة أحد الأعضاء الدائمين في مجلس الأمن للفيتو (حصل هذا مرارًا بعد استعمال السلاح الكيمياوي وغيره من قبل بشار الأسد وشبكته بالفيتو الروسي المتكرر). هذا الاستعصاء جعل الدول تجنح إلى قوانينها الخاصة لمعاقبة المجرمين، بدلًا من الجنائية الدولية، فالأميركيون استعملوا قانون (قيصر) لفرض عقوبات اقتصادية اعتبروها عادلة وضرورية لردع الوحشية بعقوبات اقتصادية، بدلًا من الحسم العسكري. في حين محاكم أوروبية حاكمت أشخاصًا مقيمين فيها على جرائم التعذيب، بناء على ادعاءات شخصية (محاكمة إياد غريب وأنور رسلان في ألمانيا)، ويمثل ذلك بديلًا عن التدخل العسكري. من كل هذا، نعتقد أن المسألة السورية، إذا نجح الحل السياسي الدولي لها عبر القرار 2254، فإن العدالة الانتقالية فيها ستكون محدودة بأصحاب القرار من طرفي الحرب، وستكون واسعة جدًا فيما عدا ذلك، مع بقاء الحقوق الشخصية للناس، التي تنصرف إلى طلب التعويض المالي فقط. ولا بدّ أيضًا من تفعيل العقوبات على أعمال الثأر خارج القانون والقضاء، لكيلا تتجدد الحرب. مثل هذه العدالة المحدودة قد تغضب كثيرين، من الذين، بسبب فظاعة المجازر، يريدونها واسعة جدًا وتقترب من الاجتثاث والثأر الجماعي، لكن ذلك غير واقعي، لأن التفاوض يحمل معه منطق التنازلات، ولا معنى لأي تفاوض من دون الموافقة على بند التنازلات المتقابلة، ولا يمكن لأي طرف أن يحصل بالتفاوض على كل ما لم يتمكن من الحصول عليه بالحرب، وإذا لم يقبل بمبدأ التنازل، فعليه ألا يذهب للتفاوض، والمفاوض الذكي هو الذي يحصل على تنازلات أقلّ من الطرف الآخر.

أهم شيء أمام المفاوضين أن الشعب السوري -وأكثريته ضحية مدنية من الحرب- فقد صبره، ويريد استئناف دورة الحياة ويضع الماضي خلفه ويستفيد من دروسه، وهو لا يرغب في أن يعيش على أحقاده، وهذا يساعد في إعادة التعايش، ويقلل من حجم العدالة الانتقالية وامتداداتها، ويحبط بعض الرغبات الثأرية.

المحامي والناشط الحقوقي إبراهيم ملكي: العدالة والمساءلة من أوليات الانتقال السياسي في سورية

لسان حال ضحايا القمع والعنف السلطوي من السوريين يقول: “نحن لا نريد الثأر ولا الانتقام، نحن نطلب العدالة والمساءلة، ولو كانت ناقصة فهي خير من اللاعدالة”.

أعتقد أن تداخل عناصر القوة وتنوع تأثيراتها السلبية عقدا إمكانية تحقيق العدالة، بشكلها الانتقالي الذي يعني جبر الضرر والمساءلة والمصالحة، ثم المسامحة بعد الاعتراف بالذنب تجاه الضحايا بشفافية من قبل الجاني، وإحالة الأكثر إجرامًا وخطورة كفعل جرمي إلى محاكم جنايات دولية أو محاكم وطنية تبعًا للانتهاك وجسامته، فاللاعقلانية التي سادت في القضية السورية صعّبت إمكانية تحقيق العدالة بالشروط المقبولة والمرضية، وهي ليست العدالة المنتظرة من قبل الضحايا. وقد ننتظر إلى ما بعد سقوط الطاغية بشار الأسد.

إن الانتهاكات في سورية جاءت من أطراف متعددة متدخلة في الملف السوري، ويتحمّل أغلبها النظام وأجهزته القمعية، وهي ترتقي إلى جرائم ضد الإنسانية وجرائم حرب وإبادة، وهي جرائم تدخل في اختصاص المحكمة الجنائية الدولية، وقانون روما الأساسي، أي انتهاكات للقانون الدولي الإنساني. وكذلك روسيا وإيران مارسوا انتهاكات فظيعة، كقصف المشافي والمدارس والمدن والمدنيين والتجمعات والأسواق، وأيضًا، هناك مجموعات مسلحة وميليشيات طائفية متورطة، كـ (حزب الله) اللبناني، وغير ذلك من الفصائل الإسلامية المتطرفة كتنظيم (داعش)، وأيضًا، هناك مجموعات أخرى لا مرجعية قانونية لها لمحاسبتها لاحقًا، وقد تحاسب كأفراد عندما يلقى القبض عليها بموجب الولاية القضائية الدولية، كما حدث للناطق الرسمي لجيش الإسلام في الغوطة (مجدي نعمة الملقب بـ “إسلام علوش”)، الموقوف حاليًا على خلفية ممارسة العنف والقتل والتعذيب في منطقة دوما في الغوطة الشرقية. لذلك سنناقش الأدوات المتاحة للمساءلة وعدم الإفلات من العقاب:

مبدأ الولاية القضائية الدولية:

هي أداة دولية قضائية تُستعمل للحدّ ولمنع الانتهاكات للقانون الدولي الإنساني، ولتجريم مرتكبيها ومعاقبة الأفراد مرتكبي هذه الجرائم الخطيرة، وهو مبدأ أخذت به الجمعية العامة للأمم المتحدة، وتأخذ به أغلب دول العالم التي يدخل القانون الدولي الإنساني في تشريعاتها وفقًا لمبادئ حقوق الإنسان، وهو ما طبقته فعليًّا خمس دول حيث قامت بتفعيل هذا المبدأ، وهي (فرنسا؛ ألمانيا؛ إسبانيا؛ النروج؛ السويد)، تبعًا للعائدية والاختصاص. وقد تم تحريك ملفات عدة بحق متهمين سوريين لارتكابهم انتهاكات في سورية (ما سمي بمحاكمة كوبلنز الألمانية التي أقامها المركز السوري للدراسات والأبحاث القانونية بحق العقيد أنور رسلان وإياد غريب)، وصدر حكمٌ بحق الأخير بسجنه أربع سنوات عن المحكمة الألمانية، لكونه متهمًا على خلفية الاعتقال والتوقيف التعسفي لأشخاص متظاهرين سلميين في دوما، لصالح الفرع الأمني (251)، ونُسب إلى العقيد رسلان جرائم ترقى إلى جرائم ضد الإنسانية وقد تكون عقوبته أشد قسوة.

وسبق لمحكمة فرنسية أن أصدرت حكمًا غيابيًا بحق ثلاثة ضباط (علي مملوك، جميل حسن، عبد السلام محمود)، بعد أن قام مواطن سوري من أهالي الضحايا -تم توقيف شقيقه وابنه في سورية على خلفية الأحداث لدى المخابرات الجوية وتُوفيا تحت التعذيب- برفع دعوى قضائية ضدهم في فرنسا، لكونه يحمل الجنسية الفرنسية، وهذا ما يجعل اختصاص المحاكم الجنائية الفرنسية تبعًا للتبعية والاختصاص. وحُرّكت أيضًا ملفات جنائية بحق رفعت الأسد بكل من إسبانيا؛ سويسرا؛ فرنسا، على خلفية ارتكابه انتهاكات جسيمة لحقوق الإنسان في ثمانينيات القرن الماضي، كجريمة سجن تدمر وقتل سجناء يقدر عددهم بـ 1200 سجين أعزل، وكذلك مجزرة مدينة حماة، وتدمير المدينة عام 1982، إضافة إلى اختلاس أموال وفساد، وهي جرائم تدخل ضمن اختصاص المحاكم الجنائية الدولية، ولن تسقط بالتقادم، وتُعَد من الجرائم الدولية، وهي جنائية الوصف، وتدخل ضمن الولاية القضائية الدولية.

وكما ذكرت آنفًا، اعتقل العام الماضي في فرنسا الناطق الرسمي باسم جيش الإسلام (مجدي نعمة الملقب بـ “إسلام علوش”)، وجيش الإسلام فصيل إسلامي متطرف كان مسيطرًا على منطقة دوما، ومارس فيها انتهاكات خطيرة بحق السكان المدنيين في الغوطة، من قتل واعتقال وتعذيب وخطف وإخفاء قسري، وكل هذه التهم تدخل في اختصاص القضاء الجزائي الدولي، وفق قانون روما الأساسي لعام 1998، وقد تابع المركز السوري للإعلام وحرية التعبير السوري هذا الملف قضائيًا. وهناك ملفات عديدة تُحضر في أوروبا من قِبل هيئات حقوقية سورية، بالتعاون مع مراكز قانونية أوروبية، في ملاحقة المجرمين بحق الشعب السوري من أي جهة كانت، فالعدالة هي العدالة، والمحاسبة والمساءلة تشمل كل من ارتكب جرمًا في حق أشخاص سوريين منذ عام 2011. ومن مبادئ الولاية القضائية الدولية توفّر شرطين أساسيين للملاحقة: الأول أن تعلم الدولة أن الشخص مرتكب الانتهاكات لحقوق الإنسان موجودٌ على أراضيها أو على إقليمها، وخاضع لولايتها القضائية؛ والثاني وجود الضحية أو ذويه على أراضيها، أو أن يحمل جنسية الدولة (حالة رفعت الأسد في فرنسا).

وتستطيع تقارير وتوثيقات مراكز حقوقية وقانونية ومنظمات دولية إحالة ملف انتهاكات حقوق الإنسان في سورية للمساءلة والمحاسبة إلى الجنائية الدولية، كمنظمة حظر الأسلحة الكيمياوية، عبر الأمين العام للأمم المتحدة (جرائم إلقاء الغازات السامة على خان شيخون نيسان/ أبريل 2017، وجريمة غاز الكلور)، من دون العودة إلى مجلس الأمن، لكون النظام السوري عضوًا في منظمة حظر الأسلحة الكيميائية من جهة، ولكونها أحد منظمات الأمم المتحدة، وبالتالي؛ يستطيع النائب العام وضع يده على الملفّ بعيدًا عن مجلس الأمن، خاصة تقريرها المؤرخ في 12 نيسان/ أبريل عام 2021. وأيضًا، هناك مؤسسة غرينيكا للعدالة الدولية، وهي منظمة دولية قدمت ملفًا قانونيًا كاملًا إلى المدعي العام لدى المحكمة الجنائية الدولية، بخصوص انتهاكات النظام السوري لحقوق الإنسان بقضية المهجرين قسريًّا إلى الأردن، وهي جريمة ضد الإنسانية، وتدخل ضمن اختصاص المحكمة الجنائية، لكون الأردن دولة عضوًا في المحكمة الجنائية الدولية، مستندة إلى حالة مماثلة لمهجري قبائل الروهينغا في بنغلادش، وهذا كان مدخلًا لمؤسسة غرينيكا لإحالة ملف السوريين المهجرين قسريًّا إلى الأردن، وفقًا لهذه الحجة إلى النائب العام لدى المحكمة.

نحن نرى أن موضوع المحاسبة والمساءلة وعدم الإفلات من العقاب قادم، وقد وُضع على صفيح ساخن في الأمم المتحدة ودوليًّا، بعد صدور اتهام صريح وواضح للنظام السوري ولرأس النظام شخصيًّا، لأنه هو من أصدر الأوامر بإلقاء الغازات السامة على بلدة سراقب عام 2018، التي راح ضحيتها تسعة أشخاص. وتعدّ العدالة والمساءلة من أوليات الانتقال السياسي في سورية، وتبدأ أولًا بمساءلة بشار الأسد شخصيًّا (من الأعلى الى الأسفل)، ثم دائرته ومحيطه وعائلته وكبار معاونيه. وتعدّ المساءلة من أولويات العدالة، وهي ضرورة ملحة لوضع حد للانتهاكات التي ارتُكبت في سورية، وإحساس الضحايا بأن العدالة والمساءلة قادمة قد يردّ الاعتبار للضحية. ونعتقد أن محاكمة المجرمين في سورية ستتم عبر ثلاثة أنواع من المحاكم:

     تقديم الأسد وشقيقه ماهر وضباط الحلقة الأولى إلى محكمة الجنايات الدولية في لاهاي بهولندا، لأن أفعالهم هي الأخطر، كما في جرائم إلقاء المواد السامة على المدن السورية (تقرير منظمة حظر الأسلحة الكيميائية الصادر في 12 نيسان/ أبريل 2021، وفيه حقائق تُظهر من هو الفاعل ومن أصدر الأوامر، وأدلة يقينية بتحديد المسؤولية، وفيه إدانة صريحة للنظام السوري ولبشار الأسد).

    محاكم مختلطة سورية – أممية، تكون تحت إشراف الأمم المتحدة، وتحاكم كبار الضباط والمجرمين الذين مارسوا انتهاكات خطيرة بحق السوريين.

    محاكم وطنية بمعايير دولية، تراعي وتأخذ بالقوانين الدولية والتشريعات المعنية بحقوق الإنسان، مثل إلغاء عقوبة الإعدام من تشريعات كثير من الدول، وفق نص المادة 49 من معاهدات جنيف الأربعة وبروتوكولاتها لعام 1977، مع وجود إرادة دولية ودعم مالي ومعنوي وحقوقي وبخبراء.

السؤال: هل القضاء الجنائي الدولي يمكن أن يؤدي إلى تحقيق العدالة القضائية ومحاسبة المجرمين وفقًا لمبدأ الولاية القضائية الدولية، بدلًا من المحكمة الجنائية الدولية التي عطّل عملها الفيتو الروسي لأكثر من 15 مرة؟ الجواب: نعم، ولكن بعد توفر الإرادة الدولية، ولو تأخرت قليلًا. مع العلم أن جرائم كهذه لا تسقط بالتقادم، ولا يشملها عفو، ولا تحميها أي حصانة (محاكمة بينوشيه في تشيلي، ومحاكمات قيادات النازية في نورم بيرغ عام 1945)، فالعدالة تقدّم اعترافًا بحقوق الضحايا، كما حدث في جنوب أفريقيا في عهد نيلسون مانديلا عام 1992، وتعيد الثقة لذوي الضحايا، وتدعم دولة القانون والديمقراطية، وتعطي دفعًا قويًّا لمبدأ العدالة بالسير نحو المصالحة واستقرار المجتمع بعد الحرب. ونعتقد أن الملف الحقوقي هو أقوى الملفات بيد القوى السورية المعارضة، لأن ملفّ العدالة والمساءلة أسقط النظام أخلاقيًّا ودوليًّا وعرّاه تمامًا، وأظهر للعالم الانتهاكات الخطيرة التي مورست على شعب أعزل.

نقترح وضع إستراتيجية لمشاريع قانونية لتطبيق العدالة، وهذا يحتاج إلى تشبيك وتنسيق وتعاون مع كل الأطراف الدولية، إلى جانب الأمم المتحدة، لتطبيق مبدأ المحاسبة والمساءلة وملاحقة المجرمين وتقديمهم للمحاكم الجنائية الدولية، ولاحقًا إلى المحاكم الوطنية، وتحضير وتجهيز الملفات بحق الأفراد والأشخاص، لكون الجانب القانوني والقضائي في العدالة الانتقالية هو من يشرف على مسار العدالة في سورية، إلى جانب لجان تحقيق محلية وطنية بمختلف مستوياتها ومراحلها، عبر تفكيك منظومة الاستبداد، وتأمين الأمن والاستقرار للإنسان السوري، وجبر الضرر، ورد الاعتبار للضحايا، والاعتذار منهم، وإنصافهم وضمان عدم تكرار ما حدث من انتهاكات، بشكلٍ علني وبكل شفافية.

[1] اللجنة الدولية للصليب الأحمر، اتفاقيات جنيف 1949 وبروتوكولاتها الإضافية، https://bit.ly/3vxrkc5

[2] مفوضية الأمم المتحدة السامية لحقوق الإنسان، اتفاقية مناهضة التعذيب وغيره من ضروب المعاملة أو العقوبة القاسية أو اللاإنسانية أو المهينة، https://bit.ly/334MH8l

[3] مفوضية الأمم المتحدة السامية لحقوق الإنسان، الاتفاقية الدولية لحماية جميع الأشخاص من الاختفاء القسري، https://bit.ly/3vBe3PV

[4] اللجنة الدولية للصليب الأحمر، نطاق مبدأ الولاية القضائية العالمية وتطبيقه: بيان اللجنة الدولية للصليب الأحمر للأمم المتحدة، 2015، https://cutt.ly/ovxMQA3

[5] المحكمة الجنائية الدولية، نظام روما الأساسي، المادة (8)، https://bit.ly/333Kmuo

[6] المحكمة الجنائية الدولية، نظام روما الأساسي، المادة (7)، https://bit.ly/333Kmuo

[7] هيومن رايتس ووتش، أولى الخطوات نحو المساءلة في سوريا والعراق، 20 تشرين الأول/ أكتوبر 2016، https://bit.ly/2Sgwfjn

[8] مفوضية الأمم المتحدة السامية لحقوق الإنسان، لجنة التحقيق الدولية المستقلة بشأن الجمهورية العربية السورية، قائمة التقارير والتحديثات والبيانات والقرارات الصادرة عن أو المتعلقة بلجنة التحقيق الدولية المستقلة بشأن الجمهورية العربية السورية، https://bit.ly/3e3W5Q4

[9] هيومن رايتس ووتش، “هذه هي الجرائم التي نفرُ منها”، ص33، 3 تشرين الأول/ أكتوبر 2017، https://bit.ly/2SbGiGn

[10] المصدر السابق، ص22.

[11] رويترز، أول محاكمة بشأن عمليات التعذيب في سوريا تبدأ في ألمانيا الخميس، 22 نيسان/ أبريل 2020، https://reut.rs/3tblpYt

[12] البي بي سي، حبس مواطن سوري في السويد بسبب فيديو يعرض مشاهد ضرب، 11 أيار/ مايو 2016، https://bbc.in/3uaZQJ1

[13] هيومن رايتس ووتش، “هذه هي الجرائم التي نفرُ منها”، ص31، مصدر سبق ذكره.

[14] مكتب المفوض السامي لحقوق الإنسان للأمم المتحدة، مراسلات الإجراءات الخاصة لمجلس حقوق الإنسان، سوريا، متوفر باللغة الإنكليزية هنا: https://bit.ly/3nzYRzy

[15] انظر على سبيل المثال، الإعلان العالمي لحقوق الإنسان (المادتين ٨ و١٠)، العهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية (المادة ٢(٣))، الاتفاقية الدولية للقضاء على التمييز العنصري بكافة أشكاله (المادة ٦)، وغيرها.

[16] الجمعية العامة للأمم المتحدة، القرار ٦٠/١٤٧، المبـادئ الأساسـية والمبـادئ التوجيهيـة بشـأن الحـق في الانتصـاف والجــبر لضــحايا الانتــهاكات الجســيمة للقــانون الــدولي لحقــوق الإنسان والانتهاكات الخطيرة للقانون الإنساني الدولي، ١٦ كانون الأول/ ديسمبر ٢٠٠٥: https://bit.ly/3eOZKAy

[17] رابطة عائلات قيصر، تحالف أسر المختطفين لدى داعش (مسار)، مبادرة تعافي، عائلات من أجل الحرية، ورابطة معتقلي ومفقودي سجن صيدنايا، ميثاق الحقيقة والعدالة: https://bit.ly/3gSrkzs

[18] من المتعارف عليه أن القانون الدولي يشترط العناصر التالية مجتمعة لأي عملية جبر ضرر في سياق الانتصاف الفعال: رد الحقوق، التعويض، إعادة التأهيل، الرضا، وضمانات عدم التكرار.

[19] انظر على سبيل المثال، لجنة القانون الدولي، مسؤولية الدول عن الأفعال الخاطئة دوليا ٢٠٠١، المواد ٣٠، ٣٣، ٣٤، ٣٦، و٣٧: https://bit.ly/3vv3qxL ، وانظر أيضًا، محكمة العدل الدولية، رأي استشاري بخصوص التبعات القانونية لتشييد الجدار في الأراضي الفلسطينية ٢٠٠٤، الفقرات ١٤٥، ١٥٢، و١٥٣: https://bit.ly/3aNwp8c

[20] ميثاق روما المؤسس لمحكمة الجنايات الدولية ١٩٩٨، المادتان ٦٨ و٧٥ على سبيل المثال: https://bit.ly/3eHs0VE

كما يمكن مراجعة قواعد الإجراءات والأدلة هنا: https://bit.ly/3xAMGXY ومزيد من المعلومات حول الضحايا ودورهم هنا: https://bit.ly/3vA3n3J

[21] مجلس حقوق الإنسان، الدورة ٤٦، القرار A/HRC/46/L.24، ١٧ آذار/ مارس ٢٠٢١: https://bit.ly/3vzUXt8

[22]– https://bit.ly/3t9JsXQ

[23] – https://bit.ly/3vsHpQn  & https://undocs.org/ar/S/2014/348

[24]–https://bit.ly/2RgUEVh

[25]– https://bit.ly/3u6K7KV

[26]– سلسلة دراسات “المدرسة الصيفية في القانون والنزاعات المسلحة” – المجلد الرابع عام 2014-2015- عدم الإفلات من العقاب في سوريا- المحامي إبراهيم القاسم -جامعة الحكمة اللبنانية – مؤسسة عامل الدولية.

[27]– https://bit.ly/3nIdpNO

[28]– https://f24.my/4Q71

[29]– https://bit.ly/3u933bY


إعداد موقعنا “صفحات سورية”

 

” بناء المستقبل بعد الاستبداد.. تحديات وآفاق #العدالة_الانتقالية في #سورية “

مركز حرمون للدراسات المعاصرة

——————————–

ندوة حوارية: أثر غياب أدوات العدالة الانتقالية على السلم الأهلي في سوريا مع الحقوقي أنور البني

————————————-

بيان خاص بالعدالة الانتقالية من نقابة الفنانين السوريين

في مواجهة سنواتٍ من القمع الممنهج، والانتهاكات الجسيمة لحقوق الإنسان، والتمادي في إفلات الجناة من العقاب، تبرز حاجة السوريين الماسة إلى دولة العدالة والقانون.

إننا، إذ نرفع صوتنا، لا نفعل ذلك إلا من أجل مصلحة السلم الأهلي، وتأكيداً على دور الفن في رأب الصدع بين أبناء شعبنا السوري العظيم، والمناشدة بإسم الضحايا، بإسم الحقيقة، وبإسم المستقبل المنشود المبني على أسس القانون والعدالة والسلم الأهلي.

العدالة الانتقالية ليست ترفاً قانونياً، وليست بنداً اختيارياً في أجندة التسويات السياسية؛ إنها أساس الكرامة التي يمثل جبر الضرر حدها الأدنى. خطوة تجاه بناء الدولة المنشودة.هي الجسر الوحيد بين جرحٍ لم يُعالج بعد، وسلامٍ لا يمكن أن يُبنى على الرمال.

نؤكد على أن العدالة الانتقالية هي حجر الأساس للسلم الأهلي، وأن تشكيل هيئة وطنية مستقلة للعدالة الانتقالية ذات شفافية تضم خبراء حقوقيين مشهود لهم بالكفاءة والاستقلالية بات ضرورة أكثر من أي وقت مضى منعاً للنزعات الانتقامية.

نؤكد على أن المجرم لا يمثل سوى نفسه، ولا يجوز بأي حال من الأحوال أن تتحمل عائلته أو بيئته المحلية تبعات أفعاله وبما يتناسب مع أحكام القانون.

إن تأخير إطلاق مسار العدالة الانتقالية يحمل في طياته ألغاماً مدمرة على استقرار البلاد ومستقبلها. إن انعدام المساءلة واستمرار الإفلات من العقاب قد يؤدي إلى موجات جديدة من العنف وعدم الثقة، مما يعرقل الجهود لإعادة بناء الدولة والمجتمع.

ونحن كفنانين إذ نتعهد القيام بواجبنا في المشاركة بعملية العدالة الانتقالية من خلال حفظ وتوثيق ذاكرة المتضررين، وتثبيت روايتهم، فإننا لن نألو جهداً في دعم كل المسارات المفضية إلى دولة المواطنة والديمقراطية.

ختامًا نطالب الحكومة السورية أن تتخذ خطوات جادة وعاجلة في هذا الاتجاه، إيمانًا منا بأن العدالة ليست فقط حقًا للضحايا، بل هي أيضًا الضمانة الوحيدة لتأسيس دولة عصرية.

أعضاء نقابة الفنانين الموقعون:

مازن الناطور

عبد الحكيم قطيفان

سمر سامي

فارس الحلو

يارا صبري

جمال سليمان

كاريس بشار

جهاد عبده

شفيع بدر الدين

واحة الراهب

مأمون البني

سلافة عويشق

سميح شقير

سمر كوكش

ماهر صليبي

محمد آل رشي

رشا رزق

غطفان غنوم

سامر إسماعيل

جمال قبش

علياء سعيد

فايزة الشاويش

جلال الطويل

حلا عمران

هزار الحرك

رمزي شقير

رغدة الخطيب

لؤي حناوي

فرح الدبيات

لمى هاشم

رولا ذبيان

علياء خاشوق

حنان شقير

بثينة شيا

أيمن السالك

فارس الذهبي

ناندا محمد

محمد ملص

أحمد ملص

سليم سروة

يارا أبو فخر

فراس حسن

سيف أبو أسعد

ناظم بدر الدين

رامي بسيسة

شادي هلال

أحمد دندشي

كفاح بدر الدين

ليلى محمود

ميس حرب

صلاح طعمة

إيناس حقي

بسام قطيفان

محمود حسن

أيمن قطان

بسام داوود

علي سفر

غزوان قهوجي

جابر الجوخدار

عجاج سليم الحفيري

نهاد عاصي

عبد الحميد خليفة

مؤمن الملا

أسامة حلال

أمل حويجة

بسام ناصر

ليندا الأحمد

رافي وهبي

ماجدة الحرك

علي القاسم

حسام الشاه

رمضان حمود

نجاة سليمان

أكرم الحلبي

زياد كلثوم

بشار زرقان

أمين الحلو

رندي الحلبي

عمرو الطباع

الفرزدق ديوب

سيرينا محمد

ريمي سرميني

حافظ قرقوط

أسامة برو

فهد واوية

صفاء مهنا

———————————————

إعداد موقعنا “صفحات سورية”

=======================

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى