مهام العدالة الانتقالية وشروطها المادية في سوريا/ عبد الحي سيد

العدالة لكل السوريين قبل أن ينفد الوقت
15-04-2025
بعد أن سقط الأبد، وتحرر البلد من طغيان الأسد، لا يوجد أي وقت يمكن إضاعته اليوم في سورية لإحلال عدالة انتقالية لكل السوريين. ففي اللحظة التي بدأ فيها البلد بالكاد يخرج من فترة طغت عليها أكثر من خمسين سنة من الاستبداد، تأتي الأحداث المأساوية التي شهدتها جبال الساحل في مطلع آذار (مارس) 2025 لتُذكّر بقسوة، وبشكل لا لبس فيه، إلى أي مدى يمكن لخطابات الكراهية أن تعيد، في غضون أيام معدودة فقط، إنتاج فظائع جماعية بحق المدنيين، في وقت لم يبدأ فيه السوريون بعد حتى أولى خطوات الترميم والشفاء بالعدالة.
في السادس من آذار (مارس) 2025 شنَّ عناصر سابقون في قوات بشار الأسد هجوماً مُنسَّقاً استهدف عدداً من الحواجز والمواقع، وأسفر عن خسائر كبيرة في صفوف قوى الأمن التابعة للسلطات الجديدة. شارك في هذا الهجوم أفراد من الفرقة الرابعة في جيش النظام السابق وتشكيلات أخرى، جميعها متّهمة بارتكاب انتهاكات جسيمة بحق المدنيين طيلة عقدين من حكم الأسد. وفي ردّ فعل سريع على هذا الهجوم، أطلقت السلطات الجديدة عملية مضادة شاركت فيها جميع التشكيلات الأمنية والعسكرية التابعة لها، بما في ذلك ألوية اشتهرت سابقاً بتجاوزاتها وافتقارها للانضباط.
في هذا المناخ المشحون بالتوتر، تم إعلان نفير عام واندلعت موجات تحريض واسعة استهدفت قرى الساحل السوري، سواء عبر بعض المنابر الدينية أو من خلال وسائل التواصل الاجتماعي. ولم تمضِ سوى ساعات قليلة حتى أسفر هذا التحريض عن مجازر طالت أسراً بأكملها في قرى ذات غالبية علوية، حيث وقعت إعدامات جماعية مروعة. وقد تفاوتت تقديرات عدد الضحايا، بحسب ما جاء في مذكرة موجزة صادرة عن منظمة العفو الدولية بتاريخ 3 نيسان (أبريل) 2025. وإزاء فداحة المأساة، أعلنت السلطات السورية الجديدة في 9 آذار (مارس) عن تشكيل لجنة وطنية مستقلة للتحقيق، وكلَّفتها بإعداد تقرير مفصل خلال شهر واحد من تاريخ إنشائها. وبتاريخ 10 نيسان (أبريل) 2025 تم تمديد عملها بقرار رئاسي لمدة ثلاثة أشهر أخرى غير قابلة للتمديد. وقد باشرت اللجنة الوطنية المستقلة مهامها على الفور، وبدأت بالتنسيق مع لجنة التحقيق التابعة للأمم المتحدة المعنية بسورية، التي كان مجلس حقوق الإنسان قد أنشأها عام 2011. ومع ذلك، واصلت منظمات حقوق الإنسان الإبلاغ عن انتهاكات يومية تُرتكب بحق المدنيين في قرى الساحل، في ظل أجواء يسودها الخوف والرعب، وبعد أن جرى تسريح عشرات الآلاف من الموظفين الحكوميين في تلك المناطق من وظائفهم.
إن سرعة تحوّل خطاب الكراهية إلى جريمة جماعية ضد المدنيين تُعيد إلى الأذهان بشكل مأساوي التحريضات التي سبقت أو رافقت مجازر حماة عام 1982، والحولة عام 2012، والبيضا ورأس النبع (بانياس) عام 2013، وحي التضامن، فضلاً عن مئات المجازر الأخرى التي ارتكبتها قوات الأسد خلال الحرب.
لذلك، يصعب فصل هذه الأحداث عن حقيقة أنّ سورية كانت، طيلة عقود، أرضاً للإفلات من العقاب، حتى بات هذا الإفلات سمة تكوينية لهويات قاتلة وشرعيات سياسية، ما أفرز شعوراً عميقاً بالمظلومية المتبادلة بين مختلف الأطراف.
حين يغيب القانون عن واقع اجتماعي، تترسّخ المظلومية. والمظلومية هنا تتغذى من خوف جماعي من الآخر، وشعور مستمر بالاستهداف كضحية، ورغبة دائمة في الانتقام باعتباره شكلاً من أشكال ردِّ الاعتبار.
لطالما غذّى نظام الأسد في نفوس المواطنين العلويين شعوراً بالتهديد والخوف من الآخر. كان تاريخ الجبال الساحلية الاجتماعي والاقتصادي معقداً ومؤلماً، كما هو حال تاريخ العديد من المناطق السورية. لم تُتِح السلطات السورية للسوريين فرصة معرفة تاريخهم بحلوه ومره أو الحديث عنه في الجامعات أو المدارس بشكل هادئ على مدى عقود، بل اعتُبِرَ أي حديث فيه من التابوهات.
ثم جاء توحّش نظام الأسد، الذي بلغ ذروته خلال السنوات الأربع عشرة الماضية، مستهدفاً الإنسان والعمران على حدّ سواء، ما زادَ من مشاعر الغضب واليأس، وأجّجَ شعوراً عميقاً بالمظلومية لدى فئة عريضة من السوريين باتت تُعرِّف نفسها اليوم بأنها «أهل السنة والجماعة» – لا بوصفها وسطاً اجتماعياً واسعاً يكتنفه الإسلام الوسطي والمتسامح، بل كجماعة يلفُّها الشعور بالغبن وتسكنها رغبة في الاقتصاص. ومع تَعمُّق هذا الوعي وتَقدُّمه إلى واجهة الخطاب العام، بات من الممكن القول إن المظلوميات المتنازعة – المتغذّية من الألم والتهميش وسرديات الخوف – أصبحت المحرّك الخفي لتاريخ سوريا الحديث، تدفعه في مسارات متشابكة ومفتوحة على احتمالات قاتمة.
في ظل شعور المظلومية، لا تُرى الانتهاكات المرتكبة بحق «الآخر» بوصفها جرائم تستحق الإدانة، بل يغدو الانتقام مقبولاً، ومُبرَّراً أخلاقياً أحياناً، على أنه وسيلة للخلاص أو استرداد للحق. وهكذا تدور عجلة العنف في حلقة قاتلة، تتغذى على المظلومية وتكرّس الإفلات من العقاب، في دورة يبدو أنه لا نهاية لها. في هذا السياق، يبرز سؤال بالغ الإلحاح: أيُّ عدالة يمكن أن تضع حداً لهذه الحلقة المفرغة؟ وأيُّ عدالة قادرة على كسر هذا المنطق المسموم الذي يبرّر الجريمة باسم المظلومية؟
نعلم أن العدالة، في أحد أوجهها، تتجلى في بُعدها الرسمي والعقابي، من خلال محاكمات تُجرَى بحق من ارتكبوا جرائم حرب، أو جرائم ضد الإنسانية، أو جرائم إبادة جماعية، أو فساداً ممنهجاً ونهباً للمال العام. لكن جوهر العدالة الحقيقي لا يتوقف عند العقاب، بل يتجاوزه نحو ما هو أعمق وأبقى: إنها عملية اجتماعية تهدف إلى كشف الحقيقة، لا للثأر بل للشفاء، وإلى إتاحة الفرصة للسوريين كي يضمّدوا جراحهم، ويعيدوا ترميم وطنهم الممزق قبل أن يتفكك نهائياً. فالعدالة المنشودة ليست عدالة المُغالبة والتمكين لطائفة منصورة، بل عدالة تُمكِّنُ السوريين جميعاً، بمختلف انتماءاتهم، من تجاوز مظلومياتهم المتخيلة والموروثة، ومن سرد حكايات آلامهم، واستعادة روابط الأُخوّة التي مزّقتها سنوات العنف والكراهية.
عدالة بثلاث مهام أساسية
في ضوء هذا التصور الموسَّع للعدالة، أطرحُ ثلاث مهام جوهرية تبدو لي ضرورية لسورية اليوم:
أولاً، لا يمكن للعدالة أن تكون أحادية الجانب. فلا عدالة حقيقية إن كانت «عدالة المنتصر». لكننا نرى اليوم أن السلطات الجديدة تسعى لتكريس شرعية لها من خلال «انتصار الثورة»، وتسعى لمحاولة مُماهاة السلطة مع تمكين مظلوميةٍ على حساب أخرى. في هذا السياق، نُظِّمَ «مؤتمر النصر» في 29 كانون الثاني (يناير) 2025، الذي شكّل بدوره اللحظة التأسيسية للدولة الجديدة التي ينبثق منها كل شيء.
وهناك من يذهب إلى حدّ اقتراح حصر العدالة الانتقالية في «محاكم ثورية». إلا أن ذلك لن يفي بما يتطلع إليه كل السوريين، لا سيما وأنه، في الحقيقة، لا وجود لمنتصر فعلي. لقد سقطت وحشية الأسد، لكنها تركت مجتمعاً مدمّراً بأكمله. وهنا تبرز الوظيفة الاجتماعية للعدالة: فلا يمكن الحديث عن منتصرين في حين أن المجتمع السوري بأسره هو الضحية.
هل يمكن تَصوُّر عدالة للجميع؟ عدالة تُميّز بوضوح بين من ارتكب الجرائم ومن لم يرتكبها، دون النظر إلى انتماءاتهم، سواء كانوا من صفوف المنتصرين أم المنهزمين؟
يكمن الشرط السياسي لقيام عدالة كهذه في بناء نظام دستوري لا يستند إلى شرعية ثورية مُفترَضة ولا إلى تركيز السلطة بيد زعيم كاريزمي – كما توحي بذلك الصيغة الحالية للإعلان الدستوري الذي صدر بتاريخ 13 آذار 2025 – بل إلى شرعية انتخابية ديمقراطية تعددية. وحدها مشروعية الانتخابات يمكن أن تضمن مجالاً عاماً لكل السوريين تُحترَم فيه الحريات الأساسية، وتُصان فيه حقوق المواطنة، ويُمكِّنُ من قيام عدالة مُنصِفة تشمل كل السوريين.
في هذا السياق، يتمثّلُ الامتحان الحقيقي للعدالة في مدى قدرة السلطات الجديدة على ملاحقة جميع الجرائم دون استثناء، بالتوازي مع محاسبة مجرمي النظام السابق. وتكتسب نتائج لجنة التحقيق في مجازر آذار 2025 أهمية حاسمة على هذا الصعيد. فإن أفضت أعمال اللجنة إلى محاكمات فعلية تطال كلّ من تورّطَ في انتهاكات ضد المدنيين، بغضّ النظر عن هويتهم أو انتمائهم، فإن ذلك سيشكّل إعلاناً صريحاً بإمكانية تحقيق عدالة غير منحازة في سورية، قادرة على احتضان الحقيقة كاملة، بما يشمل الجرائم المرتكبة من قِبل كافة أطراف الصراع، سواء من جانب نظام الأسد، أو الجماعات التي كانت معارضة في السابق وأصبحت اليوم جزءاً من السلطة الجديدة.
وتبرز في هذا السياق مسؤولية كبيرة على عاتق لجنة التحقيق، وتحديداً في رفضها لتكرار الرواية التي تتداولها بعض وسائل الإعلام، والتي تُصوِّرُ ما جرى في الساحل على أنه مجرد ردود فعل غير منضبطة على الاستهداف الذي تعرّضت له قوات الأمن العام، أو تحاول إظهار نوع من المساواة أو حتى المبالغة في ما لحق بتلك القوات. فهذه الانتهاكات، وإن كانت خطيرة وقد أودت بحياة العشرات من الأبرياء المُكلَّفين بحفظ الأمن العام، لا يمكن أن تُبرَّر أو تُقابَل بانتهاك مماثل ضد المدنيين. المسألة ليست في موازنة ضحية بأخرى، بل في التشديد على مبدأ حُرمة دم المدني الأعزل، وعدم جواز المساس به تحت أي ظرف. فلا مساواة، وفق أحكام القانون الدولي الإنساني، بين مدني لا يحمل سلاحاً وعنصر مسلح يشارك في القتال. ومن هنا، تترتّب على اللجنة مسؤولية جليلة في أن تؤكّد، من خلال نتائج تحقيقها، على حماية المدنيين في كل الأحوال، التزاماً بالقواعد الأساسية للقانون الدولي الإنساني.
وقد نصَّ الإعلان الدستوري في مادته 48 على إدراج العدالة الانتقالية ضمن القيم الدستورية الحاكمة. من هنا، فإن أعمال لجنة التحقيق المستقلة في مجازر الجبال الساحلية تمثّل مختبراً حقيقياً، واختباراً مفصلياً لطبيعة العدالة التي نص عليها هذا الإعلان الدستوري، ولما إذا كانت البلاد تتجه حقاً نحو قطيعة مع منطق الإفلات من العقاب، أم أنها ستُعيد إنتاجه بثوب جديد.
ثانياً، يجب أن تتيح العدالة فهم الجريمة المُرتَكبة من قبل مؤسسة الدولة وكذلك تَجذُّر الجريمة في المجتمع. وهذا بدوره يتضمن بُعدين رئيسيين:
يشمل البُعد الأول الجريمةَ المُرتكَبة من قبل مؤسسة الدولة السورية نفسها – حيث ينبغي فهم الكيفية التي حوّلَ بها توحّش نظام الأسد جهاز الدولة إلى أداة قمع وعنف ممنهج ضد المجتمع على مدى أكثر من خمسين عاماً. تُحاكِم العدالة الجنائية الأفراد، لكنها لا تُخضِع المؤسسة ذاتها للمحاسبة. من الضروري أن يفهم السوريون كيف ولماذا تحول جهاز الدولة، الذي بدا ذات يوم محكوماً بقواعد دستورية، إلى آلة عمياء للعنف. لا يعني ذلك أن كل العاملين في بيروقراطية الدولة كانوا متواطئين؛ فكثير منهم مارس مقاومة صامتة بدافع من قناعاتهم الشخصية. لكن يجب تسليط الضوء على التحولات العميقة في بنية الدولة التي جعلت منها أداة عنف محض ضد الأفراد.
وفي هذا السياق، تبرز أهمية الدعوى المرفوعة حالياً أمام محكمة العدل الدولية من قبل هولندا وكندا ضد الدولة السورية بتهمة انتهاك اتفاقية مناهضة التعذيب من قبل نظام الأسد البائد. لا تستهدف هذه الدعوى أفراداً بل الدولة السورية كمؤسسة، وقد تؤدي إلى إدانة رسمية لمنظومة الدولة برمتها وفق أحكام المسؤولية الدولية في القانون الدولي، وهي التي سمحت بالتبرير الرسمي والتغطية وتسهيل ارتكاب جرائم التعذيب على نطاق واسع ومنهجي وعلى مدى عقود ضد السوريين. وإذا صدر حكم يُقرّ بمسؤولية الدولة، فسيُتيح للسوريين إدراك الكيفية التي تحوّلت بها الدولة إلى أداة إجرام مؤسسي، وسيُمهّد الطريق أمام بناء ضمانات حقيقية تحول دون تكرار هذا النمط المدمر في المستقبل.
أما البُعد الثاني فيتعلّق بتلك الشروط الاجتماعية والثقافية التي سمحت بتجذُّر الجريمة في المجتمع، سواء على مستوى الفكر أو السلوك. ينبغي أن يمتلك السوريون الشجاعة للنظر إلى أنفسهم في المرآة، وأن يواجهوا الخطابات والممارسات التي شكلت وعيهم خلال العقود الخمسة الماضية، والتي بُنيت على مظلومية مُتخيَّلة وتحوّلت إلى مبرّر لتجريم الآخر، والتحريض عليه، بل والاحتفال بموته وإقصائه. هذه الخطابات لم تقتصر على النخب أو المؤسسات الرسمية، بل سرت في كل الأوساط: في الإعلام، ووسائل التواصل الاجتماعي، والمدارس، وحتى في أماكن العبادة. لقد شاركنا جميعاً بدرجات متفاوتة في صناعة خزيٍ جماعي لا يمكن تجاوزه دون مواجهته بصدق. علينا أن نسأل أنفسنا بصراحة: لماذا ما تزال رواسب المظلومية تسكن وعينا؟ ولماذا نستلهم منها حتى اليوم نزعات الانتقام، ومشاعر الحقد، وتبريرات الإقصاء؟ إن العدالة التي لا تنبش هذا الخلل العميق، ولا تفتح المجال لمساءلة الذات المجتمعية، ستبقى ناقصة، وعاجزة عن إرساء مصالحة حقيقية أو تأسيس مستقبل مختلف.
ثالثاً، ينبغي للعدالة أن تقترب، ما أمكن، من تجربة الضحايا، لا بوصفهم أرقاماً في سجلّات المحاكم، بل باعتبارهم شهوداً أحياء على انهيار الوطن في أجسادهم وأرواحهم. فالضحايا لا يحملون في ذاكرتهم آثار العنف فقط، بل يختزنون في أجسادهم الصدمة الكبرى لانهيار المعنى، وانكسار الحماية، واهتزاز الشعور بالانتماء على مدى أكثر من خمسين عاماً. يكاد لا يوجد سوري واحد لم تُصِبه المحنة، مهما كانت طائفته أو منطقته. صحيح أن الأحكام القضائية قد تُرضي مقتضيات العدالة الرسمية وتُعيد شيئاً من النظام العام، لكنها تبقى عاجزة، وحدها، عن تضميد الجراح، أو عن التخفيف من مشاعر الغبن والسخط والمرارة التي تسكن قلوب الضحايا وتطبع تفاصيل حياتهم اليومية.
يبقى السؤال مفتوحاً: كيف يمكن في سورية أن نؤسِّسَ لعدالة تُرمّم الأرواح وتُعيد لُحمة ما انكسر في النفس الجماعية؟ عدالة لا تهدف إلى تثبيت الضحايا في موقع الضحية، بل إلى مرافقتهم في عبور المحنة، ومساعدتهم على استيعاب كيف انهار الوطن بكامله فوق رؤوسهم وبيوتهم وأحلامهم. عدالة تحفظ الذاكرة، لا لتأجيج الماضي، بل لمنع تكراره. عدالة تُنطِقُ الجراح، لا لتثبيتها، بل لتجاوزها بكرامة وصدق. عدالة تُمكِّنُ السوريين، أخيراً، من القول بكل يقين: لن يحدث هذا مرة أخرى.
الشروط المادية لتحقيق العدالة
لكي تكون هذه العدالة بمفهومها الواسع الاجتماعي ممكنة، لا بد من اتخاذ تدابير ملموسة دون تأخير.
أولاً، يُعدُّ حفظ أرشيف النظام أولوية لا تحتمل التأجيل، لما تحمله وثائقه من قيمة استثنائية في توثيق مسار طويل من القمع والانتهاك. فهذه الوثائق – من قوائم المعتقلين، وتقارير التحقيق، إلى الأوامر الصادرة عن الأجهزة الأمنية – لا تقتصر أهميتها على مرحلة ما بعد عام 2011، بل تمتد جذورها إلى أكثر من خمسة عقود من حكم تأسَّسَ على الرقابة الممنهجة للأفراد، وعلى العنف المُنظَّم بحق المجتمع بأسره.
واليوم، ومع تَشتُّت هذا الأرشيف، ومحاولات بعض المنظمات غير الحكومية الاستفراد بأجزائه أو احتكاره، تتزايد الحاجة الملحّة إلى إطلاق عملية مركزية، شفافة، ومؤسساتية، تضمن حفظ هذه الوثائق بشكل آمن، وتكفل الوصول المفتوح إليها أمام الباحثين، والمؤرخين، والهيئات القضائية على حد سواء. ينبغي أن تتحول هذه الوثائق إلى نواة حقيقية لذاكرة وطنية مشتركة، لا بهدف الثأر أو الانتقام، بل في خدمة العدالة، وحق الضحايا في الحقيقة، وواجب المجتمع في الفهم والتوثيق.
ثانياً، تُعَدّ استعادة الفضاء العام ركيزة أساسية في بناء عدالة حقيقية ومجتمع متماسك. فقد حرص نظام الأسد، على مدى عقود، على تدمير كل المساحات التي كان السوريون يجتمعون فيها للحوار، والتنظيم، والعمل الجماعي. لم تسلم أي ساحة من التدمير المادي أو الرمزي، لا تلك التي احتضنت الهتافات الأولى من أجل الحرية والكرامة والوحدة، ولا تلك التي شكّلت يوماً نواة لحياة مدنية نشطة. فقد سعى النظام إلى خنق المجال العام، وتحويله إلى فراغ خاضع للرقابة والخوف.
لكن منذ سقوط النظام، بدأ المواطنون، بعفوية وإصرار، في إحياء هذه الفضاءات، تعبيراً عن توقهم العميق إلى حياة عامة حرّة، وتعدّدية، وديمقراطية. من هنا، لا بد من دعم هذا الحراك الطبيعي نحو استعادة الساحات العامة، والنقابات المهنية المستقلة، ومنتديات الحوار، لتعود إلى لعب دورها كحاضنات لثقافة المواطنة، ومختبرات للتعدُّد والاختلاف، وضمانات حية لعدم انزلاق العدالة إلى منطق الأحادية أو الانتقائية.
إن الفضاء العام ليس مجرد مكان، بل هو شرط وجودي لأي مشروع عدالة شامل. من دونه، لن يكون هناك مصالحة. ومن دونه، ستظلُّ العدالة الشاملة مجرد خطاب أجوف، لا يسنده واقع حي ودينامية مجتمعية فاعلة.
ثالثاً، يعاني الجهاز القضائي السوري من إنهاك عميق ومتراكم، نتيجة عقود من غياب الاستقلالية، وهيمنة السلطة التنفيذية، واستشراء الفساد والمحسوبية. وعلى الرغم من وجود قلّةٍ من القضاة الذين حافظوا على نزاهتهم وسط هذا الواقع، فإن جهودهم الفردية، مهما كانت مخلصة، تظل غير كافية لمواجهة حجم التحديات المطروحة على العدالة في المرحلة الانتقالية. فالنظام القضائي، كما هو اليوم، يفتقر إلى البنية المؤسساتية والأدوات القانونية الضرورية لملاحقة مرتكبي جرائم الحرب والجرائم ضد الإنسانية على نحو فعّال وعادل.
ومع أن هذا النقص قد يدفع البعض إلى المطالبة بتدويل شامل لمسار المحاسبة، إلا أنني لا أتبنى هذا التوجّه. بل على العكس، فإن الوظيفة الاجتماعية للعدالة – بما تعنيه من ترميم للثقة العامة، وفتحٍ لمساحات النقاش والمصالحة – لا يمكن أن تُحقق إلا إذا جرت المحاكمات داخل سورية نفسها، وضمن نظام قضائي مستقل بحق يستعيد مشروعية دولة القانون. ومن هنا، تبرز الحاجة المُلحّة إلى دعم تقني دولي مباشر وفوري، يشمل تدريب القضاة والمحققين، وتوفير الخبرات، وإطلاق إصلاح جذري للمنظومة القضائية. وفي هذا المجال، يتحمّل المجتمع الدولي مسؤولية أساسية، ليس فقط في التمويل، بل في تقديم الدعم المؤسسي والفني طويل الأمد.
وفي هذا الاتجاه، يُعَدُّ التصديق على نظام روما الأساسي للمحكمة الجنائية الدولية خطوة لا بد منها. على سورية أن تصادق عليه، وأن تُرفِقَ هذا التصديق بإعلان خاص يوسّع اختصاص المحكمة الزمني ليشمل الجرائم المرتكبة قبل دخول النظام الأساسي حيّز النفاذ على أراضيها. فولاية المحكمة قائمة على مبدأ التكامل، أي أنها لا تتدخل إلا عندما تعجز الدولة عن القيام بواجبها، أو تمتنع عنه عمداً. وبالتالي، فإن التصديق على نظام روما لا يُقصي القضاء الوطني، بل يعزّز مكانته، ويوفّر له سنداً دولياً ومعنوياً.
ورغم أن الأولوية يجب أن تُمنَح للمحاكمات الوطنية، فإن التصديق على نظام روما سيرسل إشارة واضحة بأن أية سلطة سورية مستقبلية ستُحاسَب على أفعالها، ولن تتمكن من التحصّن خلف جدران الإفلات من العقاب. كما سيفتح هذا التصديق المجال أمام المحكمة الجنائية الدولية للنظر في الجرائم المرتكبة من جميع الأطراف، دون تمييز أو استثناء.
وقد شهدت الفترة الأخيرة مؤشرات مشجّعة في هذا المسار، إذ قام المدعي العام للمحكمة الجنائية الدولية بزيارة إلى سورية، التقى خلالها بالسلطات الجديدة، في حين أجرى وزير الخارجية السوري زيارة بروتوكولية مقابلة إلى لاهاي. ويُؤمَلُ ألّا تبقى هذه اللقاءات محض مناسبات رمزية، بل أن تمهّد الطريق أمام التزام سياسي وقانوني واضح، يُترجم إلى تصديق فعلي على نظام روما، بوصفه مدخلاً لا غنى عنه لإرساء عدالة ذات صدقية ومفعول دائم.
أخيراً، تبقى قضية المختفين قسرياً من بين أكثر الملفات إيلاماً وتعقيداً في مسار العدالة الانتقالية في سورية. فهذه الجريمة لا تطمس الأجساد فحسب، بل تمزق حياة الأسر، وتعلّقها في حالة انتظار لا نهاية لها. ومن أجل مقاربة هذه المأساة بما تستحقه من جدّية ومسؤولية، لا بد من الحفاظ على المقابر الجماعية المنتشرة في مختلف المناطق السورية، باعتبارها أدلة مادية لا تُقدّر بثمن، والشروع في جمع وتحليل عينات الحمض النووي، وحفظ الأرشيف المتعلق بحالات الإخفاء، وإنشاء قواعد بيانات موثوقة تُدار بشفافية وبما يضمن كرامة الضحايا وحقوق ذويهم.
لكن الجهد التقني لا يكفي وحده. فلكي تتجلى الحقيقة ويُعترَف بالوجع، يجب أن تُدرَج جريمة الإخفاء القسري في التشريع السوري، وأن يُعترَف بها قانونياً على أنها جريمة جسيمة لا تسقط بالتقادم، ولا يمكن التهاون معها. الاعتراف القانوني شرط لا غنى عنه لكسر الصمت الرسمي، ولفتح المجال أمام الملاحقات، وأيضاَ أمام الاعتراف الرمزي بما تعرّضَ له عشرات الآلاف من السوريين.
وهنا، كما في ملفات أخرى، يبقى دعم آليات الأمم المتحدة أساسياً، سواء من حيث الخبرات أو المرافقة الفنية، أو من حيث بناء ثقة الضحايا وذويهم في مسار يستحق أن يُسمّى عدالة.
الخاتمة
في بلد مزّقته المجازر، وأثقل كاهله تاريخ طويل من الظلم والإفلات من العقاب، لا يجوز أن تُختزَلَ العدالة في مجرد العقاب. العدالة في سورية اليوم مدعوة إلى ما هو أعمق: إلى الإصلاح، إلى سرد الحقيقة، إلى إعادة المعنى لما جرى، وإلى بناء ضمانات حقيقية لئلا يتكرر ما حدث. قد تكون هذه اللحظة، رغم كل جراحها، الفرصة الأخيرة لإعادة ترميم مجتمع متصدّع، ولمساعدة السوريين على الالتقاء مجددًا، لا كمظلوميات متقابلة، بل كمواطنين متساوين يتشاركون وطنًا ومستقبلًا.
العدالة الانتقالية ليست مجرد ملف قانوني أو إجراء فني يُدار في دهاليز القضاء، بل هي حاجة سياسية ومجتمعية عميقة، تقع في صميم مشروع إعادة بناء الدولة على أسس جديدة من الحق والمساءلة. إنها الأداة التي يمكن أن تحوّل الذاكرة من عبء ثقيل يشلّ الحاضر إلى طاقة حيّة تدفع نحو الكرامة والمصالحة.
لكن هذه العدالة لن تولد من تلقاء نفسها. إنها تتطلّب إرادة سياسية لا تتهرّب من المواجهة، وعملاً مؤسسياً دؤوباً، وفضاءً عاماً حيّاً يُدرك أن مستقبلاً مختلفاً لا يُصنَع بالكراهية أو بالإنكار. لا عدالة ممكنة ما لم نتجاوز المظلوميات القاتلة، ومنطق الانتقام، والقراءات الأحادية للتاريخ. فلا يمكن اختزال المعاناة في سردية واحدة، ولا تحميل جماعة بأكملها مسؤولية ما ارتكبه أفراد منها. إذ متى كانت وازرةٌ تَزِرُ وِزرَ أخرى؟
لسنا مطالبين باختراع عدالة مثالية، ولا بإعادة ابتكار ما ثبتت جدواه. يكفينا أن نَصوغَ عدالة واقعية، تستلهم من تجارب شعوب أخرى عبرت المحنة، وتنبع في الوقت نفسه من خصوصية التجربة السورية. عدالة تُنصف من دون أن تُذِلّ، تعيد للضحايا صوتهم من دون أن تُبقيهم أسرى الماضي، تقول الحقيقة من دون أن تُشعِلَ نيران الحقد، وتُوفّق بين الإنصاف والمصالحة، وبين المحاسبة والصفح.
سورية لا يمكن أن تُبنى على عدالة شكلية تُجمِّلُ الواجهة وتُخفي الشقوق العميقة. إنها تحتاج إلى عدالة جامعة، تستعيد من خلالها قدرتها على رؤية ذاتها بكل أطيافها، بكل تناقضاتها، بكل معاناتها. ما دامت لم تُصغِ إلى كل صوت، ولم تعترف بكل وجع، ولم تضمن لكل من بقي حيّاً حقه في حياة عادلة، فستظل سجينة ماضيها، تدور في حلقاته المفرغة.
وحدها العدالة، إذا جاءت كاملة في بُعدها الأخلاقي والحقوقي، قادرة على فتح الطريق نحو سلام مستدام – لا سلام الصمت والنسيان، بل سلام يستند إلى القانون، ويحتضن الذاكرة، ويُبنى على الاعتراف المتبادل، والعيش المشترك.
قبل أن ينفد الوقت…
* * * * *
يُنشر هذا النص بتصرف بالتزامن مع نشره بالفرنسية في مجلة كونترتان الفرنسية، العدد 65 (نيسان 2025).
موقع الجمهورية