شعر

مختارات فلاديمير هولان

-1-

مساء مبكر ….

مقبرة

والريح حادة مثل نثير العظام على وضم.

الصدأ يهز انموذجه من الشكل المعذب

وفوق هذا كله ،

فوق دموع العار

تكاد النجمة تعترف

لم لا نفهم البساطة إلا حين تنكسر قلوبنا ؟

ونمسي، بغتة، وحيدين، ضائعين….

-2-

اليوم ثمة في أعماقكَ نبعٌ

لم يمضِ على جفافه أمدٌ طويل

لكن ما اسرع امتلاءه بالدمع

اليوم ثمة في اعماقك مطار

لم يمر على تركه امد  طويل

لكن ما اسرع اكتساءه بالعشب

عليك الآن ان تترجل

وتمضِ

ونبع الأسى في داخلك

لكنك تقف متجمداً برداً

بينما الصراصير تعبر الشارع امامك

منتقلة من الجزار إلى الخباز

-3-

أحقاً، أنا وحيد ثانية

أحب قليلاً

واضل صامتاً قليلاً

أعاني قليلاً

واضن نفسي حراً لأنيي لم احقق البتة مصيري؟

ألستُ افهمُ ان المرء لا يعطي

إلا لأنه يحتاج؟

أكنتُ مفعماً بتلك الرايات المتباهية

التي تضايق النور الفارغ إلى ان يبهتها؟

حتى الفن حيث الإحساس للنبض

مثل المصباح لمنضد الحروف

———————————

 قصائد مختارة -فلاديمير هولان-ترجمة سعدي يوسف

دائماً

ليست المسألة أنني لا أريد أن أحيا

لكن الحياة كاذبة

إلى حد أنني حتى لو كنت محقاً

فعليَّ أن ألتمس الحقيقة في الموت.

وهذا ما أفعله الآن.

————————————–

الموت

منذ سنين وسنين، أبعدته عنك

أغلقتَ المكان، وحاولت أن تنسى

عرفتَ أنه ليس في الموسيقى، فغنَّيت

عرفتَ أنه ليس في الصمت، فهدأت

عرفتَ أنه ليس في العزلة، فانفردت

لكن… هل حدث اليوم ما يفزعك

مثل من رأى، بغتة، في الليل

خيط نورٍ أسفل باب الحجرة المجاورة…

الحجرة التي لم يسكنها أحدٌ منذ سنين؟

———————————

ساءلتك

فتاة ساءلتك:

ما هو الشعر؟

أردت أن تقول لها:

أنت أيضاً، نعم، أنت

في خوف المعجزة ودهشتها

أغار من نضج جمالك

ولأنني لا أستطيع أن أقبلك

أو أضاجعك…

ولأنني لا أملك شيئاً

ولأنَّ من لا يملك ما يهديه، يجب أن يغني…

لكنك لم تقل، كنت صامتاً.

وهي لم تسمع الأغنية.

———————————–

ميراث

يغادر الشعراءُ

ويُخلِّفون، دوماً، فيما يُخلِّفون

شيئاً أرهقه الزمن والخطيئة والمنفى

أصدَقُهم

وأقلُّهم شهرةً

وأهدأهم

وأكثرُهم حباً

لا يقحم عليك شيئاً: حتى بصورته

بهزئه، أو بعزائه

بل حتى بحبه

هو حاضر، غائب

وبيكاسو وهو يصنع رجل ثلج

فهم جيداً

إن خلودَ الفن هو في الزمن، والخطيئة، والمنفى

التي على الشمس أن تفتديها

بالدمع

والنبع

والنهر

والبحر

والعدم.

——————————-

نزف

أمرٌ رَهيْبٌ أن تحيا

في هذه السَّنواتِ

المنتحرُ وحدهُ يظنُّ أنه يستطيعُ المغادرة

من البابِ، الذي هو مجرَّدُ رسمٍ على الجدار

ليس ثمة أقل إشارة

عن قدومِ الرُّوح القُدْس.

في قلبي، ينزف الشعر.

———————————

بروج

مساء مبكر..مقبرة

والريح حادة مثل نثير العظام على وَضَم

الصدأ يهز نموذجه من الشكل المعذب

وفوق هذا كله، فوق دموع العار

تكاد النجمة تعترف..

لم لا نفهم البساطة إلا حين تنكسر قلوبنا؟

ونمسي،بغتة،وحيدين، ضائعين

———————————

العصفور

طائراً فرَّ من غصن ثلجي

هزَّهُ خفيفاً

وأومأ برفضه الإحساس الأعمى.

ثلجٌ قليلٌ، سقط من الغصن.

لن يمرَّ وقتٌ طويلٌ حتى يأتي الانهيار.

——————————

الفرح

ما قلتُهُ، فعشته

كان للموتى…

الفرحُ وحده، هو الموجود حقاً

في أوانه،

لأنَّهُ وحده، الفوري.

الأكثرُ حُضوراً، الأكثر زوالاً.

———————————

اليوم ثمة

اليوم, ثمة في أعماقك نبع

لم يمض على جفافه أمد طويل…

لكن…ما أسرع امتلاءه بالدمع!

اليوم, ثمة في أعماقك مطار

لم يمر على تركه أمد طويل…

لكن…ما أسرع اكتساءه بالعشب!

عليك الآن أن تترجل, وتمضي, ونبع الأسى في

داخلك.

لكنك تقف متجمداً برداً

بينما الصراصير تعبر الشارع أمامكَ

منتقلة من الجزار إلى الخبّاز.

—————————————

بين

بين الفكرة والكلمة

أكثر مما نستطيع فهمه.

ثمة أفكار يمكن أن نجد لها كلمات.

الفكرة الضائعة

في عيني أحاديّ القرن

تظهر, ثانيةً, في ضحكة كلب.

———————————

مواجهة

أوقفتني امرأة

عند أبواب بلدة مجهولة.

سألتها: دعيني أمر

فأنا أدخل وأخرج, فقط

وأدخل وأخرج, ثانيةً,

لأنني مثل كل رجل أخاف الظلام.

لكنها قالت لي:

لقد أبقيت النور مشتعلاً!

 فلاديمير هولان: من أين يأتي هذا الطريق؟

نصوص

محمد رضا

21-أبريل-2021

فلاديمير هولان (1905 – 1980)

فلاديمير هولان (1905 – 1980) شاعر تشيكيّ، ولد في براغ وتلقى علومه الأولى فيها ثم غادرها إلى فرنسا ليتوّج مسيرته العلميّة. انخرط في النّضال الثوريّ المناهض للنازيّة في شبابه، التحق بالحزب الشيوعي في العام 1946 وسرعان ما تمّ استبعاده منه بعد أربع سنوات. أغلق على نفسه، واختار عزلة طوعيّة، تليق بمغامراته وخيبات أمله، عززتها مراقبة السلطات آنذاك ومنعه من النّشر، ليعتكف فيها طويلًا، متواريًا عن الأنظار حتى الستينيات إلى أن أمسى “شاعر الظلمة والتهلكة” على حدّ تعبيره.

توفت ابنته كاترينا في العام 1977، ولم يلبث أن أصيب بجلطة دماغية، شلّته جزئيا وتركته غير قادرٍ على الكتابة كليًا، إلى أن وافته المنيّة بعدها بثلاث سنوات، أي في العام 1980.

ترجمت أعماله إلى لغات كثيرة، على الرّغم من منفاه، وكانت الفرنسية أولى اللغات التي احتضنته تحت جناحها في ترجمة قدّم لها آراغون، معرفًا الشاعر إلى الجمهور الفرنسي على أنه “الرّجل المحاط بسمعة الظلّ، وعيناه تعكسان البرق بشكل طبيعيّ”.

أشهر مؤلفاته: ليلة مع هاملت، هاوية الهاوية، ألم.

——————————–

ألم

ليس لديكَ أية فكرةٍ من أين يأتي هذا الطريق

الذي لن يقودك إلى أيّ مكان

لكن ما يهمّك

أنه كان طافحًا بالسحر، بالنساء، بالمعجزات

بالرغبات والحريّة

————————-

رأيت، مثل رجلٍ كان يمكن أن ينفقَ تحت ملاك

الملاكَ الذي هرب على أقدامه

شاقًا طريقَ نسيان الذات

ولم تلتفت إلّا لاحقًا

لألم الرجل

وألم اللّه نفسه، الذي يرنو إلى السعادة

اللّه

هذا العاشق التعِس

*

نافقةٌ هي اللّغة، الموسيقى، الأغنيات، الضحك والصمت، أمام زئير العالم

*

ماذا كانَت حياتك؟

تولّيت عن المعلوم إلى ما لا يُدرك.

وقدرُك؟

لم يبتسم من أجلك سوى مرّة واحدة وحسب

ولم تكُن حاضرًا.

*

حتّى لو لم يوجد اللّه

من “ليلة مع هاملت”

حتى لو لم يوجد اللّه، والروح هي أيضًا

حتى لو وجدت الروح وكانت هالكة

حتى لو لم يكن ثمة بعث

حتى لو لم يتبقَ شيء بعده،

لا شيء

الدور الذي كان يمكن أن نتخذّه في كوميديا مماثلة

إذًا

لم يكن ليعدو كونه شفقة، شفقة على هذه الحياة،

التي ليست سوى شهقة وعطش وجوع

وتزواج ومرض وتأوّهات

ذات يوم وبينما كنت أشق طريقي بين ورود الخلنج

سمعت سؤال طفل ما: لماذا؟

ولم أركن إلى إجابته، ولم أستطع حتى اليوم وبعد سنوات مديدة أن أجيبه

أن القمر في منتصفه

لأنه للطفل دومًا ما تكون الإجابة ناقصة عن التعبير

بالدرجة عينها، للسؤال بالنسبة إلى الرجل.

حين تعود طفولتي لتتمظهر وتمسكني من يدي بلطف

أشرع في الغناء

وحين أفكر في إكليل شوكِ المسيح

يطرقني الذعر

وحين تحط نظراتي على شجر العلّيق

وأرى إلى عشّ الطائر فيها

أتسمّر هناك، لأنصت

لكني مذ عرفتُ بني البشر

وأنا أنتحب

*

———————————————

الطّفل

طفلٌ، أذنه مضغوطة إلى ناحية سكة الحديد

ينصت لقدوم القطار

ضائعًا في الموسيقى الطاغية

لا يهمّه إلاّ قليلًا

بحقّ

ما إذا كانَ القطار مصافحًا أو مودعًا

لكن أنت

انتظرت دومًا شخصًا ما

نطقت دومًا بكلمة وداعٍ لأحدهم

حتّى عثرت على نفسك

وأبدًا

لم تكن حالًّا في أي مكان.

———————————-

للتحميل

قصائد مختارة لفلاديمير هولان

—————————————

قصائد لفلاديمير هولان

الجدار الذي يشيّد نفسه لمعان مشتت، غيوم مفرطة، من ثم، في الأسفل، الأرض التي تذهلها الريح. لكن في المكان الأكثر استقبالا ينتصب جدار يُشيّد نفسه بنفسه، وبطريقة لا فكاك منها. لا يتجنب الشكوك التي ستنهال عليه في الزمن الآتي، صوب الإهمال غير المتوقع حتى أنه لا يعارض أن يبقى هنا لغاية التعب… لكن كم من أبواق سرية للكائنات التي تقاعد مصيرها. البيوت للبيوت ذات الأقدام المتعبة الكثير من السلالم لم تعد البيوت ذات الأيادي المتشنجة تملك درابزينا للبيوت ذات العيون التي تتعامى الكثير من الأنوار البيوت ذات القلوب التي تتشظى موجودة في القمة. لبيوت الموت البطيء ملهى ليليّ عند المدخل. هناك الجحيم، أم الحاضر؟ وما كان هناك قبلاً؟ أيستمر ذلك بسببنا نحن؟ أم ليس هناك سوى جنون جماعي، لغاية لذة تدمير متعدّد الأشكال؟ كم من أفعى تمنع لقاءنا في الرماد، في رمال الصحراء وغبارها، أيّ منها سيكبر بلا يقين مكتمل؟ آه ليس إلا في البحر ما تمّ البكاء عليه طويلاً مستمراً في ذرف الدموع… سيدة جميلة بدون شفقة مَن سخر منك؟ »لم أعد أذكر ذلك«. من صرخ بوجهك بعد ذلك؟ »لا أستطيع أن أتذكره«. من سأل عن أخبارك؟ »لو كنت أعرف«. من توجّه إليك بالكلام؟ » لا فكرة لي عن ذلك مطلقاً«. من كلّمك بصوت خفيض؟ »من الصعب معرفته«. مَن قاسمك صمتك؟ »هي!« عصر بقوة الصور لا زلنا داخل العصر. لكن اليوم، وقبل أن يخطو الزارع خطوة واحدة كان الحصاد هنا. يتراءى جيداً أنه لن يكون هناك لا أموات ولا أحياء… ترجمة/ ا . ح

———————————

فلاديمير، شعره يبدأ من اللغة الخام إلى حدود الرعب من اللغة

فردريك هولانضمن سلسلتها الشهيرة (شعر) أعادت دار غاليمار الفرنسية إصدار طبعة جديدة من ديوان الشاعر التشيكي فلاديمير هولان، (التي كانت أصدرته في ستينيات القرن المنصرم)، (ليلة مع هاملت)، الذي نقله إلى الفرنسية الشاعر الفرنسي دومينيك غراندمون وكتب له مقدّمته يومها الشاعر لوي أراغون. الكتاب صدر في نهاية العام الماضي لمناسبة المئوية الأولى على ميلاد هولان في العام 1905 والذي توفى العام 1980، أي صادفت الذكرى أيضاً مرور ربع قرن على رحيله.

يُعتبر هولان من أشهر شعراء تشيكيا في القرن العشرين، وأحد أبرز مناهضي النازية والستالينية، تعرّض للقهر ومنع من النشر، فانعزل قسماً كبيراً من حياته في منزله، ولم ينشر حقاً إلا في الفترة القليلة التي عرفت باسم ربيع براغ.

انطلاقاً من هذا الكتاب، هذا (البورتريه) للشاعر (وهو مُعَدّ من مصادر عدة).

(في هذه المَطيَرة الملعونة التي هي بوهيميا

كان يرمي قصائده بازدراء

كما لو أنها قطع لحم دامية)

ياروسلاف سيفيرت، من قصيدة تحية (على فلاديمير هولان)

(ما الذي كانت عليه حياتك؟ غادرت المعلوم لأجل المجهول

وقدرك؟ لم يبتسم لك إلا مرة واحدة

ولم تكن هنا…)

لقد عاش فلاديمير هولان (الشاعر التشيكي) في العزلة والانتفاء الطوعي. قارب حافة الهاوية: هاوية الرعب الذي لم يبنه إلا البشر. لذلك أيضاً، شاهد تلك الجدران التي شيّدها هؤلاء، فلم يكن أمامه، إلاّ أن يشيد جداراً في داخله، وأن يشيد واحداً آخر، حوله. إزاء ذلك، إن كان ثمة شخص قد استطاع، في هذا القرن المنصرم، أن يمس بإصبعه، مأساة الحياة والعالم، فإننا نجد هذا الشاعر الذي عرف كيف يتحدث، من قلب هاويته، عن هذه الهاويات الأخرى المحيطة به. كان يحمل (حصته من الظلام) فوق كتفيه، أما في صوته، فكان الغضب والتضرع. هو واحد من تلك الأشجار الكبيرة والغامقة التي تنتصب كشواهد على طول طريق الإنسانية، حين يرغب البشر في أن يرفعوا رؤوسهم حقاً. لقد سكن (مملكة ألمه السوداء)؛ لأن ذلك، كان بالنسبة إليه، أفضل بكثير من أن (يهرب إلى الأمام أو إلى الوراء). عاش بعيداً عن هذا الواقع التافه، بعيداً عن هذه الأشياء التي تلفنا، بكراهية.

(الإنسانية ليست شيئا، بالنسبة إلي

عشت للإنسان

لمأساته).

فكمواطنيه دفوراك وياناشيك وسميتانا، حمل فلاديمير هولان، في داخله هذه الحرقة، المتعذر تخطيها، حرقة فقدان ابنته كاتارينا، التي توفيت العام 1977. كذلك حمل موت الأمة التشيكية التي تخلّت عنها أوروبا الغربية للسوفيات، لذلك لم يسامح جبنهم طيلة حياته.

(ما إن أتعرّف على الإنسان

حتى أبدأ بالنحيب…).

الصمت المرعب

من هنا يقول عنه الكاتب الفرنسي نيكولا بوفييه بأنه وجد فيه أخ روحه. في مذكرات هذا الأخير نقرأ التالي: (…عائدا من رحلة طويلة، وبينما كنت أتهيأ لأستعيد حياتي الحضرية، وقعت على ديوان (ألم)، وبخاصة على هذه الجملة: (ها جاءت اللحظة التي تجمد فيها النهر بدءا من ضفتيه/ والإنسان انطلاقا من قلبه) (من قصيدة (فجر)). لم أكن بحاجة إلى أكثر من هذا الوقت لأعرف فيه بأن هذا الكتاب الصغير، ذا اللمعان المعتم والأخوي جداً، سيكون بالنسبة إليّ رفيق حياتي بأسرها، دليلا روحيا لهذا الشاب الذي كنته، الدرس اللاعقلاني الذي كنت بحاجة إليه، هذه الأخلاق عن الفشل الذي يدندنه رجل كان يعرف كمثل حكيم ياباني بشكل أفضل من غيره، بأن الشعر يستطيع حقا أن يصيب قلب الهدف وبأن العالم سيندثر والنجوم ستنطفئ مثلما ننفخ على شمعدانات).

بدوره حيّاه الشاعر الفرنسي لوي أراغون في المقدمة التي كتبها لديوان هولان (ليلة مع هاملت):

( في مكان ما في جبال بوهيميا، في قلب أوروبا هذا، يحيا رجل تلفه شهرة من الظلال. الشعراء هم مثل الجياد، يملكون عزة النفس عينها. من سألتم هناك عن فلاديمير هولان يعرف بأنه أعلى شجرة من أشجار الغابة التشيكية، تلك الشجرة الأقرب إلى العاصفة حيث تعكس عيناه البرق بشكل طبيعي).

كان هولان شخص (براغي) (من براغ) بشكل كامل. ولد فيها في 16 أيلول من العام 1905. كانت فترة الحرب الروسية اليابانية، فأعطته أمه اسم فلاديمير تعاطفاً مع روسيا. لكنه تعلّم كيف يكره الروس واسمه. توفي في 31 آذار من العام 1980، أي بعد ثلاث سنوات من رحيل ابنته. بالتأكيد لم يكن لحظتها، متصالحاً لا مع الحياة ولا مع نفسه. كان يشعر بأنه غريب في بلده، (غريب الغربة) في هذا الخواء المنظم الذي أصبحت عليه (تشيكوسلوفاكيا) في تلك الفترة، فعاش (خاملاً) في سنوات الحديد السوداء التي أعقبت الحرب العالمية، ليعتاش من الترجمات وليبتلع الذل في صمت كلماته. لكن، شيئاً فشيئاً، بدأت الدائرة التي يحيا فيها تتسع تدريجياً، إذ كان من المستحيل على كل ستائر العالم الحديدية أن تُبقي هذه العبارة الجميلة، سجينة داخل جدرانها. في العام 1967، تُرجم للمرة الأولى إلى الفرنسية من قبل الشاعر الفرنسي دومينيك غراندمون لتعقبها في السنة اللاحقة ترجمة (هاملت). وكانت الصدمة الصاعقة بالنسبة إلى الجمهور الفرنسي الذي اكتشف فيه شاعراً كبيراً. وانتهى الأمر بعمله الشعري، الذي يتطلع نحو الكوني، بأن يفيض من على جوانب كل حواجز الرقابة والمنع التي تعرّض لها. ثمة هالة بدأت تتراكم من حوله لتشيد نصبها وبخاصة عبر هذه القراءات المقدسة والسرية التي يقوم بها قراؤه في تلك السراديب الموجودة في أعماق المدن، وهي أشبه بتلك السراديب التي عرفتها روما زمن المسيحية الأول، لكنها سرعان ما توسعت وتفتتت لتنتشر في العالم بأسره.

جاءت أحداث (ربيع براغ) القصيرة في العام 1968 لتجعل منه شاعراً قومياً ووطنياً، لتجعل منه صوت المقاومة ضد الغزاة والطغاة السوفيات. لتبدأ (أعماله الكاملة) بالصدور ولتجد عدداً غير متوقع من القراء. ربما تأخّر الوقت بالنسبة إلى هولان إذ لم يكن يميل إلى الشهرة كثيراً ولا إلى المجد. وحين يحدثونه عن إمكانية حصوله على جائزة نوبل كان يغرق في صمت عميق إذ لم يكن يصدّق أن ثمة أملاً بالخروج من هذا النفق المظلم الذي شيّده الشيوعيون. لقد تعرّض لذل (النازية السوداء والشيوعية الحمراء). من هنا كان يكره كل الإيديولوجيات. إذ كان يرى أن المعرفة غير موجودة، وأننا لا نعيش سوى الوهم.

( اللامبالاة ذاتها

قد تبدأ بالأمل

في هذه الرجفة التافهة).

%من قصيدة (الستار الذي يقع).

لم يكن هولان يرغب في أن يشهد على طريقة غروسمان أو على طريقة سولجنتسين. لذلك كان صمته أكثر رعباً بالنسبة إلى النظام. أكان صمتاً اختيارياً أو مدفوعاً إليه، لا يبدو أن الأهمية تكمن في معرفة هذا. لقد مُنع من التعبير لمدة عشرين سنة وهو يحيا في هذه المدينة (الأشبه بجزيرة). ربما لذلك وجد الوقت لكي يتمّم عملاً أدبياً مسكوناً باليأس والحاجة و(زيارة الجنون). عاش منزوياً في بيته الواقع في جزيرة (كامبا) منذ الخمسينيات ولم يغادرها مطلقاً. كان (يرمي قصائده فوق المدينة مثل طيور سوداء خطرة). إذ بقي هذا الصوت، الذي لم يرغب في الانطفاء، يسبب برعشة في ظهر المرء، لأنه حاول أن يقول (المَطهَر اليومي) على الرغم من أن يديّ الأمل والرجاء قد قطعتا.

فخارج هذا العالم الضّاج، وتقريباً مثلما كان يفعل بيير ريفردي (الشاعر الفرنسي) لأسباب ذاتية، كانت محاولة مساءلة السماء بالنسبة إلى فلاديمير هولان، بمثابة استعادة لغياب الإيمان الذي فرض عليه. وعلى الرغم من أن اسمه طرح مراراً كأحد مرشحي نوبل، إلا أنه قطع الجسور مع الجميع ليبدأ بترجمة الشعراء الصينيين الذين عاشوا في حقبة سلالة سونغ. واستمرّ ابتعاده عن الجميع ليغرق في صمت مطبق، ولينعزل عن العالم في جزيرته الملجأ (كامبا) (القريبة من براغ). أصبح أكثر سواداً من الليل. وكتاباته الأخيرة تبدو كتابات شخص مجرد من الروح والكلمات. كأنه كان يحفر الخواء والليل، الميتافيزيقيا والمبتذل. ثمة شكوك كبيرة بدأت تغطيه بأكمله:

( إن لم يكن الله بحاجة إلى شيء، وليس بحاجة إلينا، فإنه ليس بحاجة إلى نفسه)..

لقد (مضغ) هولان هذه الكلمات مراراً قبل أن يدخلها في قلب الفعل الشعري: (الواقع بأسره ضروري ليصبح الفعل صورة). وكان يحمل هذا الواقع بشكل أليم. ليعبر عنه عبر كلمات بسيطة جداً؛ لكنها منحوتة بالرياح التي تنهض وسط لياليه. كلمات تتحول إلى بلورات متفرقة تكتب هذه الكارثة المظلمة. غالبية قصائد هولان هي قصائد ملمومة، وجيزة، مقتضبة، قصيرة مثل هذا التنفس الذي يكتشف أنه ينقصه. بهذا المعنى تبدو كتابة فلاديمير هولان، كتابة من غرانيت، كتابة أساسية، لأن شعره ليس سوى تساؤل دائم مع العلم أنه لا ينتظر أي جواب في المقابل. من هنا تبدو جملة الشاعر الفرنسي دومينيك غراندمون (مترجم شعر هولان إلى الفرنسية) دقيقة وصائبة: (لم تكن عبارته إلا الجزء المنبثق من صمته، كانت جمرته الداخلية). لقد دحرج هذا السيزيف المتعَب كتلة كلماته المسنونة، المثقلة بالليالي الشاحبة، المثقلة بالوحدة المرعبة:

(لديّ، في وحدتي المختلة، قطعة أرض جيدة، لأستقبل عليها ولأعيش كل رعب العصور).

مجرد وواضح

تبدو كتابة هولان غريبة بعض الشيء إذ يمزج فيها حكاية كل يوم بيومه مع الماوراء. قصائد مشدودة إلى أقصى درجاتها لكنها هشة وقابلة للانكسار في الوقت عينه. أحياناً تبدو ككتلة تجريدية هائلة، وأحياناً تذهب إلى آخر درجات الغنائية. ليس شعره إلا حركة، تجولاً وكأنه يرغب في أن يهرب من مستنقعات عصره. تتقابل فيه أشياء الحياة الأكثر رضى مع تجريديته: الحجر مع اليومي الذي يطرق… شعره ضغط كبير، تأكيدات قاسية وشكوك فاغرة. (أفوريسمات) على طريقة رينيه شار؛ لكنه أبقاها على درجة كبيرة من الوضوح. كتابة مجردة وواضحة. لم يكن يرغب في أن يصبح البشير الكبير عبر (شعر كبير) بل بقي، هذا الشعر، تلقائي على مستوى الإنسان.

قصائد تخرج من طين الأيام. إنها كتابة شخص وحيد يغور طوعياً في الصمت، لكنه صوت لا يعزّيه في أي شيء: (للصمت نفسه شيء ينبغي أن يخفيه). بهذا المعنى كان هولان يمارس هذه الظاهرة الثابتة في الثقافة التشيكية: السخرية المتوحشة التي تبدو بمثابة رقية وحجاب ضد الكاتب نفسه، تماماً كما عند كافكا أو حتى عند سيفيرت. شعره أكثر راديكالية. وليشهد على كل التناقضات يستعمل هولان (لغات مختلفة) بدءاً من (الفظاظة) وحتى حدود (الرعب من اللغة): كلمات في حالاتها الخام، كلمات (سحرية) قد تظهر كلها دفعة واحدة. إنه شاعر (يفلح) بغضب هذه اللغة التشيكية، ليحفرها مراراً ومراراً كما لو أنه يحفر قبراً ما.

يدعونا فلاديمير هولان إلى شعر يملك جميع أنواع الغموض. شعره مرير بشكل عميق، حيث تمطر فيه (الشتائم) ويسيل فيه (اليأس) بغزارة، وحيث تتحول فيه الدماء إلى دخان.

( كيف نحيا، كيف نكون بسطاء ولا تنقصنا العبارة؟

لا أفعل شيئاً إلا بالبحث عن الكلمة

التي لم تقل سوى مرة واحدة،

إن لم تكن الكلمة التي لم تقل أبداً لغاية الآن.

كان عليّ أن أبحث عن كلمات كل يوم.

حتى على النبيذ غير المعروف

لا نستطيع زيادة أي شيء)…

أو:

(الحياة كلعبة قاسية؟

لن تكون ممكنة

إلا في أن تصبح السخرية

أقوى من القدر؟).

من دون شك، نستطيع أن نعتبر أن أفضل أعمال فلاديمير هولان الشعرية هي كتاب (ألم) الذي عكف على تأليفه مدة ست سنوات، وهي السنوات التي عرف فيها ضغوطاً هائلة وآلاماً كبيرة وحميمة (حين منع من النشر، ولادة طفولته المنغولية، فكرة الانتحار التي راودته مراراً) كما ديوان (ليلة مع هاملت) (وهي قصيدة طويلة، كبيرة، لم تظهر نسختها النهائية إلا في العام 1960)، الذي كان سبب شهرته في (الغرب) والذي أمّن له التخفيف من وطأة الاضطهادات الستالينية. لقد حمل شعره بأسره، ندوب الحرب العالمية الثانية كما ندوب الاحتلال الشيوعي لبلاده. وهما أمران لم يشفَ منهما أبداً.

( أقل من أن أتحدث

وأن أسكت من أجل لا شيء

هذا ما ينتظرنا)…

يقال إن آخر الكلمات التي تفوه بها قبل موته كانت: (ستختفي اللغة، الموسيقى، النشيد الضحك، الصمت إزاء زئير العالم). كان يعرف ذلك ملياً، لقد عرف ذلك وشاهده، وهذا ما كتبه في مختلف قصائده.

(أحياناً يقول نيكولا بوفييه عن هولان وكما في لعبة الأطفال هذه، حيث يصرخون فيها: (برد، حر، تشتعل)، تلامس قصائد هولان هذه الأعجوبة التي تتلخص في كون أن إحدى قدميه لا تزال في الكلمات بينما الثانية فموجودة في الصمت).

كيف سينتبه المرء للأعجوبة من دون أن ينزع نفسه عن نفسه؟ ربما أجاب هولان بالقول: (تعيد كل قصيدة إلى النار ما ينتزعه النور من الشعلة)، ولربما وجدنا أيضاً في ما كتبه أراغون جواباً آخر: (يحيا رجل في مكان ما، في شق من شقوق الأرض. يكتب هذه الأشياء الجميلة والمريرة. أطلب منكم الاستماع إليه حتى وإن لم تسمعوه. أما كل الذين يؤمنون بأنهم يستطيعون أن يتحدثوا ليلاً بصوت خفيض فسيقولون بأنه عبقري… وسيشيحون أبصارهم).


ملف من اعداد موقعنا “صفحات سورية”

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى