في استثنائية العادي وعادية الاستثنائي/ حسام الدين درويش

17 ابريل 2025
في زيارتي الدورية الأخيرة للعيادة الطبّية، لاحظتِ الطبيبة، بعد رؤيتها نتائجَ بعض الفحوص والاختبارات الطبيّة، أنّ ضغط الدم لديّ مرتفعٌ إلى ما فوق الحدِّ الطبيعي، فسألتني إن كنت أتعرّض في الفترة الحالية لتوتّرات غير عادية أو غير اعتيادية.
وجدت نفسي عاجزًا عن معرفة وتقديم الإجابة الصحيحة عن هذا السؤال الذي بدا أنّها تعدّه بسيطًا وسهل الإجابة عنه. ولم يكن عجزي ناتجًا (فقط) عن أنّني بدأت أطرح على نفسي أسئلة قد تبدو لكثيرين مجرّد فذلكة فلسفية لا ضرورة ولا معنى لها، ولا جدوى أو فائدة مُنتظرة من طرحها، في هذا السياق، مثل: “ما التوتّر، عمومًا، وما التوتّر غير العادي أو غير الاعتيادي، خصوصًا؟” وكيف لي أن أعلم؛ إن كان ما أتعرّض له هو توتّر استثنائي أو غير عادي؟ وما معيار العادية في هذا الخصوص؟ بل، كيف لي أن أعلم إن كان ما أتعرّض له وأشعر به هو توتّرٌ أصلًا، من منظور الطبيبة والطبّ عمومًا؟ أظن أنّ عجزي عن الإجابة عن السؤال المذكور كان ناتجًا عن اعتقادي أنّ التوتّر رفيقي الدائم.
كنت أفترض أنّ “عشرة العمر” مع هذه الرفقة أو الصحبة ستجعلها غير مؤذية لي، لكن تبيّن لي العكس، فقد أكّدت لي الطبيبة، بكلماتٍ تقنيّة وطبيّة أنّ التوتّر كائن سيئ الصحبة وخائن للعشرة، وأنّ سوء صحبته وخيانته للعشرة والصحبة يزدادان طردًا مع ازدياد طول مدّة تلك العشرة والصحبة. لا أدري إن كانت الطبيبة قد لاحظت حيرتي وتردّدي في الإجابة عن سؤالها، أو فهمت معنى ابتسامتي بعد طرحها لذلك السؤال، لكنها سارعت إلى القول: “في كلّ الأحوال، ينبغي لك أخذ حبّة كلّ يوم للتعامل مع آثار هذه المشكلة”. وعندما سألتها عن طريقة حلّ تلك المشكلة جذريًّا، ردّت عليّ بابتسامة وكلامٍ لست متأكّدًا من أنها تعنيه جدِّيًا بالفعل: “خفف قلقك وتوترك وتفكيرك”. وكان كلامها باعثًا عندي لقلقٍ وتوتّرٍ إضافيين، فقد رأيت أنّ أوامرها أو نصائحها لا يمكن أن تُطاع، لأنها لا تنتمي إلى دائرة المستطاع.
ولا أدري كيف أمكنها أن تقول ما قالته، رغم معرفتها أنني “سوري، آآآه يا نيالي”؛ لكنني تذكرت أنني وغيري كثراً، كنا نتلقى مثل هذه الطلبات التعجيزية من أطباء سوريين في سورية، فلا عتب على “الغريب”، إن كان هذا ما يفعله “القريب”. أما عن التفكير، فأحسب أنّه ملازم لوجود الإنسان، ليس من حيث إنه يفكّر فقط، بل من حيث إنه يُفكِّر أو يُتفكّر فيه ومعه، دائمًا، ومن دون استشارته، أيضًا.
ربما يكون في الحديث عن التلازم بين الوجود الإنساني والتفكير مبالغةٌ أو تعميم غير موضوعيٍّ. فقد يكون هناك اختلافات بين البشر، بحيث لا تكون تلك السمة أنطولوجية/ وجودية كما يعتقد أو يظن كثيرون، وأنا منهم. وأذكر أمرًا طبيًّا آخر كنت أعتقد أنّه “عاديٌّ” و”طبيعيٌّ” وموجود لدى كلّ إنسان، ثم تبيّن لي أنه استثنائيٌّ وغير عاديٍّ وغير طييعيٍّ. فمنذ عددِ سنوات لن أحدّده، لتجنّب الكشف عن عمري حاليًّا، كنت في زيارةٍ دوريةٍ لطبيب عيونٍ، وأثناء محادثةٍ عابرةٍ بيننا، أخبرته أنني أستطيع مضاعفة الصورة البصرية لأيّ شيء أراه. ويمكن أن أقوم، إراديًّا، بهذا الأمر، لكن يمكن له أن يحدث لي، بصورة لا إرادية، أيضًا، في حالات التعب والدوخة وما شابه.
أظهر الطبيب علامات الدهشة والصدمة وبعض الذعر، وبدا ذلك من جحوظ عينيه وارتفاع حاجبيه. ولم تخفت قوّة العلامات المذكورة (كثيرًا)، حتى بعد أن علم أنّ لديّ هذا الأمر أو تلك “القدرة منذ طفولتي، وربما “قبل ذلك”. وأكّد لي ضرورة إجراء “صورة رنين مغناطيسي” أو “فحص شعاعي” لمنطقة الرأس لدي، فورًا أو في أسرع وقتٍ ممكنٍ. وشرح لي أنّه لدي “حَوَلٌ عموديٌّ”، وأن مثل هذه الحالة استثنائية وليست موجودة إلا عند عددٍ محدودٍ من الناس، وأنها قد تكون نتيجةً لضربة ذات نتائج خطيرة على الرأس، وأنّه من الضروري إجراء الفحوصات للتأكّد. بناء على إلحاحه وإلحاحٍ أكبر من زوجتي، قمت بالفحوصات المطلوبة، وتبيّن أن “الحول المذكور”، “طبيعيٌّ”، و”عاديٌّ”، على الرغم من “استثنائيته” أو ندرة وجوده.
سبق أن أشرت في تدوينةٍ سابقةٍ إلى أنه، في كثيرٍ من الأوضاع والسياقات، أن يكون “الاستثناء هو القاعدة والنظام هو الفوضى”. وبهذا الكلام، لا أتبنى نسبويةً مطلقةً تنفي الحقيقة وتنكر الموضوعية المعرفية، لصالح رؤية ذاتية أو ذاتوية؛ بل الغرض منه موضوعية تأخذ في الحسبان الذاتية أو الذاتيات وتتكامل معها وتتأسّس عليها أيضًا. والربط بين الرؤية النسبية والمدرسة السفسطائية مشهور، ومعروفةٌ السمعة غير الحسنة (الظالمة وغير الموضوعية معرفيًّا وأخلاقيًّا) لكلّ ما يتعلّق بالسفسطائية، معنىً ومبنىً. ومن الأقوال السفسطائية المُناسب استحضارها، في هذا السياق، هو أنه ليس مناسبًا طرح سؤال حول ما إذا كان الجو باردًا أم لا. فالسؤال الأهم والأدق، في هذا السياق، هو مَن مِن الأشخاص الموجود في مكانٍ ما يشعر أو لا يشعر بالبرد. فقد يكون الجو باردًا عند بعض الأشخاص، وغير باردٍ عند بعضهم الآخر.
ينبغي أن يؤخذ ذلك الاختلاف بين البشر في الحسبان، في كثيرٍ من السياقات، إذا أريد للمعرفة والحقائق المتّصلة بها أن تكون موضوعيةً وإنسانيةً. وإذا كانت الذاتية شرط الموضوعية ومعبرها أو نفقها الضروري، في كلّ الأحوال، كما بين الفيلسوف الألماني هانز جورج غادامر، فإنّ (المعرفة) الموضوعية تكون هنا مطابقة، جزئيًّا على الأقل، ﻟ(المعرفة) الذاتية.
العربي الجديد