صيد طائر البوم في سوريا: خرافة “الفأل السيّئ” والتفاخر يهدّدان المحاصيل الزراعية/ مودة بحاح وأحمد حاج حمدو

19.04.2025
يكشف هذا التحقيق عن خسائر فادحة مُني بها فلّاحون في معظم المناطق السورية، حتى بعد سقوط نظام الأسد في الثامن من كانون الأول/ ديسمبر 2024، بسبب استفحال الآفات والقوارض الزراعية، بسبب غياب صيّادها الماهر المتمثّل بطائر البوم، ما جعل المزارعين يخسرون جزءاً كبيراً من محاصيلهم، بل وأقلع بعضهم عن زراعة محاصيل استراتيجية مثل الحنطة والحمّص، كونها أصبحت ضحيّة للقوارض بشكل كامل.
يتفقّد إبراهيم زينو الأشجار في حقله في مدينة القدموس السورية في محافظة طرطوس الساحلية، باحثاً عن الثمار التالفة التي قضمتها الجرذان والفئران، إذ باتت هذه الحيوانات شريكة له في الرزق، بعدما زادت أعدادها بشكل كبير، منذ خمس سنوات.
هذه الزيادة فاقمت بدورها تضرّر المحاصيل الزراعية في أراضي كثير من الفلّاحين، في معظم أنحاء سوريا، ويعود ذلك لأسباب عدّة، لكن يأتي على رأسها تراجع أعداد طائر البوم الذي يلعب دوراً أساسياً في صيد القوارض الزراعية، كالفئران والجرذان، وحتى الأفاعي التي تُهاجم قطعان الماشية والدجاج في الحقول والمزارع.
نتيجة ذلك، تضرّر القطاع الزراعي الذي يعاني أصلاً بفعل النزاع المتواصل منذ سنوات في سوريا، مفاقماً بالتالي تفشّي الجوع في البلد الذي بات يحتلّ المرتبة السادسة عالمياً في انعدام الأمن الغذائي الحادّ، بحسب تقرير برنامج الأغذية العالمي العام 2024، مع وجود نحو 12 مليون سوري (نصف عدد السكّان) يعانون انعدام الأمن الغذائي.
وبعد سقوط نظام الأسد، وتصريحات الحكومة الجديدة عن تحسين واقع الزراعة ودعم الفلّاحين، تظهر إبادة طائر البوم كواحدة من العوائق التي تقف أمام تطوّر الزراعة السورية، التي عانت لسنوات من الحرب.
يُعرف طائر البوم في الثقافة العربية بأنه “فأل سيّئ ومصدر شؤم”، لكنه تحوّل إلى طائر زينة محبّب، تُدفع مقابله أموال ضخمة، إذ يبلغ سعر البومة غير المدرّبة أو الفرخ الصغير منها 200 ألف ليرة سورية، ويزداد السعر كلما زادت تدريبها ليبلغ نحو مليوني ليرة أو أكثر. هذه الأسعار شجّعت على صيده، لا سيّما في ظلّ ازدياد البطالة في البلاد نتيجة تآكل فرص العمل، وانعدام القوّة الشرائية.
ويتغذّى البوم بشكلٍ رئيسي على القوارض الزراعية، كالفئران والجرذان وغيرها، فهو صيّاد محترف لديه حواسّ تجعله قادراً على الفتك بهذه الآفات الزراعية، ما يجعله مهماً في التوازن البيولوجي وصديقاً للفلّاح.
صديق الفلّاح المهدّد
تستوطن في سوريا عدّة أنواع من طائر البوم، وفيما تختلف في ما بينها في الشكل إلى حدّ كبير، فإنها تشترك جميعها بكونها صديقة للفلّاح ومكافحة صامتة للقوارض.
وبحسب عامر كيخيا رئيس لجنة مربي طيور الزينة في غرفة زراعة اللاذقية، فإن “أكثر الأنواع المنتشرة في سوريا هي البومة البيضاء قلبية الوجه، وتُعرف أيضاً باسم بومة الحظائر، وتعيش قرب التجمّعات السكنية والأراضي الزراعية حيث تنتشر القوارض”.
“البوم من الطيور التي لها دور مهمّ في الطبيعة”، كما يؤكّد الدكتور وائل صالح متيني المتخصّص في المكافحة الحيوية والحشرات، فهي “تخلّصنا من القوارض التي تضرّ بالمزروعات مثل فئران الحقل والجرذان، وكذلك الأرانب”، موضحاً أنه “يتغذّى البوم في البادية على الأرانب البرّية والسحالي والضبّ والقنفذ والطيور والقوارض الصحراوية، وغياب هذا الطائر يعني بالضرورة ازدياد أعداد فرائسه”.
ويشرح متيني عن بقيّة أنواع البوم بأن “هناك البومة البيضاء قلبية الوجه، وهي الأكثر شعبية بسبب جمال شكلها، ولهذا تتعرّض للصيد الشديد وحتى سرقة الأعشاش، ولا تتوقّف تجارتها عند السوق المحلّية، بل يتمّ تهريبها إلى لبنان أيضاً”.
خسائر فادحة للمزارعين
باتت الأشجار في حقل ابراهيم زينو في القدموس ملأى بالثمار التالفة التي أبادتها القوارض، ويسير زينو كل يوم في حقله ويقتطع ثمار الرمان غير الصالحة، فيما يراقب مثيلاتها المتساقطة على الأرض من أشجار الجوز واللوز.
ومع التراجع الحادّ في حضور العدو الطبيعي لتلك القوارض، والمتمثّل بطائر البوم، يُضطرّ زينو وغيره من فلّاحي المنطقة إلى استخدام المواد الكيميائية لمكافحة القوارض، لكنها تبدو غير ذات نتيجة، لأن أعداد القوارض في ازدياد، ما يدلّ على أن تلك الموادّ مغشوشة، بحسب اعتقاد الفلّاحين الذي قابلناهم.
لم يكن زينو الوحيد الذي كانت أرضه الزراعية ضحيّة للقوارض. فخلال ثلاثة أشهر (بين آب/ أغسطس وتشرين الثاني/ نوفمبر 2024) أكّد لنا عشرة فلّاحين في مناطق سورية مختلفة، مثل ريفيْ حماة وطرطوس وفي السويداء والقنيطرة وريف دمشق، تعرّض أراضيهم للمشكلة نفسها، وجميعهم أرجعوا ازدياد القوارض الزراعية خلال السنوات الأخيرة إلى صيد طائر البوم، الذي يمتلك نظرات ثاقبة، ويُعتبر صيّاداً ماهراً للقوارض الزراعية.
ويقول وائل جمول، وهو مزارع أيضاً في القدموس: “المنطقة تعتمد على الحنطة في الزراعة، لكن في هذا العامّ اشترينا الحنطة من السوق، بعد خسارة غالبية الموسم، فبمجرّد أن تظهر السبلة (السنبلة) يأكلها الجربوع (الجرذ)”، مضيفاً: “نحن نضع مبيدات ولكن دون فائدة، والوضع يمضي من سيّئ إلى أسوأ، والسنة المقبلة ستكون أسوأ بالتأكيد”.
الصيّاد المحترف فريسة للصيد
يُوصف طائر البوم، بحسب الخبراء، بكونه صياداً ماهراً لا يشق له غبار، إذ من النادر أن تُفلت منه فريسة يستهدفها، يرجع ذلك إلى قدرته على الرؤية في الليل، كما أن عينيه الكبيرتين تركّزان على الفريسة، وكي يتأقلم مع هذا الوضع، فإنه يدور برأسه كي يرى حوله. ويوضّح منير أبي سعيد، وهو بروفسور في التنوّع البيولوجي في الجامعة اللبنانية، ورئيس “مركز التعرّف على الحياة البرّية” في منطقة عالية، أن “من صفات البوم الاستثنائية، طيرانه في الليل من دون إصدار أي صوت. إذ يمتلك جناحين يمتصّان الصوت، ما يمنع الفريسة من سماع حركته قبل الانقضاض عليها”.
ويمكن للبوم إمساك فأر من دون أن يراه، كما يشرح الخبير اللبناني “إذ يمتلك هذا الطائر أذناً عالية وأخرى منخفضة، وبمجرد سماعه الصوت، يُقدّر الوقت الذي يحتاجه الصوت ليصل من الأذن الأولى إلى الثانية”.
وعن كميّات الطعام التي يستهلكها البوم، يوضح البروفيسور أبي سعيد، أن “البوم عندما يأكل الفئران يرمي الفرو والعظام على شكل لقية، وهي عبارة عن كرة يُخرجها من فمه، وتحتوي على بقايا الفرائس التي أكلها، من وبر وعظام. وهي مختلفة عن البراز، وبخاصّة لقيات البومة البيضاء. وهو يرمي يومياً ما بين 2 و3 لقية. وفي تجربة نفّذها مركز التعرف على الحياة البرّية لتحديد مكوّنات اللقية، تبيّن أن الواحدة تضمّ ما معدّله ثلاثة فئران. وبالتالي، يأكل البوم 9-10 فئران يومياً”.
وأشارت نتائج دراسة سورية إلى أن لقيات البوم كشفت أن القوارض الصغيرة تشكّل الغذاء الرئيسي لهذه المفترسات، إضافة إلى تغذيتها على بعض آكلات الحشرات الصغيرة مثل ذبابات (Shrews) وعلى الخفاشيات بحالات استثنائية، كما الطيور والزواحف الصغيرة.
وبيّنت نتائج الدراسة، التي أُجريت على 283 لقية كاملة من لقيات البوم، أن عدد الفرائس التي تفترسه البومة البيضاء من الثدييات الصغيرة يتراوح بين 1 و7 في اللقية الواحدة. وأوضح معدّو الدراسة أن اللقيات التي احتوت أكثر من 5 جماجم، ضمّت جماجم فرائس صغيرة، مثل الفأر المنزلي والخفاشيات والذبابات. أما اللقيات التي احتوت ما يتراوح بين 1 و4 جماجم، فأظهرت أن البوم تغذّى على أفراد أنواع متوسّطة الحجم، مثل فأر الحقل الاجتماعي، أو أفراد صغيرة الحجم من الذبابات أو الفأر المنزلي.
وفي الحالات التي احتوت فيها اللقيات على جمجمتين، فإن البوم كان يتغذّى على الهامستر السوري الذهبي وفأر الحقل الاجتماعي. في حين دلّت اللقيات التي احتوت على جمجمة واحدة على أنها تغذّت على فرد كبير مثل جرذ الرمل.
ويلفت الباحث البيئي ورئيس جمعية “الجنوبيون الخضر” في لبنان هشام يونس، إلى أن “دراسات عدّة تناولت النظام الغذائي لبوم المخازن، من بينها دراسة أعدّتها جمعية الثدييات (Mammals Society) البريطانية، أظهرت أن طائر البوم البالغ، يتناول بين 3 و4 فئران يومياً (45% فأر الحقل، و15% فأر الخشب، و20% قارض الزبابة Sorex) أو ما يعادل ألفي فأر وقارض في العامّ للطائر الواحد. وهو ما يجعل بوم الحظائر يتصدّر، إلى جانب الكواسر والأفاعي والثعلب الأحمر والنمس من الحيوانات والطيور البرّية، قائمة مفترسات الفئران والقوارض. وهي بذلك تُعدّ مكافحاً بيولوجياً حيوياً”.
الصيد وأخطار أخرى
لطالما ارتبط البوم في المجتمعات الشرقية بالتشاؤم والرعب، فهو مبعث شؤم ونذير بالحظ السيّئ على المنازل. وهو ما يفسّره الدكتور متيني بكونه ناتجاً عن أقاويل قديمة مستمدّة من سلوك البوم، لأنه يعيش في المناطق المهجورة والمهملة، حيث يبني أعشاشه فيها ويُصدر أصواتاً حزينة بنغمة رعب، كما أن أعشاشه ملأى بعظام الفئران. وهو يطير ليلاً بطريقة غريبة من دون إحداث أي صوت، ما جعل الناس يشعرون أنه آت من عالم الأشباح وأنه يجلب الخراب، لكنّ الحقيقة غير ذلك.
وأوضح أن البوم “طائر خجول نادر الظهور وهادئ وغير مؤذ”، مردفاً: “يكفي أن نراقب طائراً واحداً في الطبيعة أو في الأسر، لنعرف كم هو هادئ وخجول”.
تلك السمعة السيّئة غير الصحيحة تسبّبت في الماضي بقتل البوم بشكل تعسفي، هرباً من الفأل السيّئ، أما اليوم، فربما تغيّرت السمعة، لكن الواقع السيّئ بقي نفسه.
ويلفت البروفيسور أبي سعيد إلى ازدياد صيد الطائر حياً، لأن الناس أحبّوا تربيته، خاصّة بعدما بدأ يظهر في الدراما.
وأماكن بيع البوم قد تكون الأماكن ذاتها المخصّصة لبيع الطيور الأخرى والحيوانات البرّية، بحسب الخبير البيئي سمير الصفدي، في كلّ المدن الكبرى في سورية مثل حلب ودمشق وحمص واللاذقية. وأحياناً لدى بعض مربّي طيور الزينة الذين يحاولون بيع البوم لأن شكله غريب ومختلف عن بقّية الطيور، وبعض الناس فضوليون يحبّون شراء هذا الصنف كونه مختلفاً، فيما قد يستخدمه البعض، أسوة بالزواحف والهدهد، في طقوس “السحر”.
في الوقت نفسه، نشطت أسواق ألكترونية عدّة تروّج لبيع البوم في سوريا، وأصبحت مواقع التواصل الاجتماعي أشبه بـ”بازار كبير” لبيع الطائر.
ومن أساليب الصيد المتّبعة، كما يوضح كيخيا، استخدام الشباك الهوائية. فلأنه طائر ليلي، يكون نظر البوم في النهار ضعيفاً، و”من يعثر عليه ينصب له شباكاً ثم يقوم بإخافته لمغادرة العشّ، وبمجرّد الطيران يعلق في الشباك”.
كذلك، هناك سرقة الأعشاش، إذ يقوم الصيّادون، بحسب كيخيا، بسرقة فراخ البوم وتربيتها لبعض الوقت، ثم عرضها على أنها مروّضة وأليفة.
ويتّسم الصيد الحاصل حالياً بأنه عشوائي لا يخضع لقواعد الصيد ويقوم به هواة، على ما يشرح الصفدي. علماً أن “البوم لا يُؤكل لحمه شرعاً كونه يأكل قوارض ولحوماً، وكمّية اللحم قليلة في جسمه لأن وزنه خفيف كي يساعده على الطيران والصيد”.
وحتى البوم المستخدم للزينة يكون مصيره الموت بعد فترة غير طويلة، كما يلفت البروفيسور أبي سعيد، لأنه غير معتاد على العيش في القفص، معرباً في الوقت ذاته عن استغرابه من الهواة الراغبين في تربية هذا الطائر كونه لا يحقّق الغاية المعروفة من اقتناء طيور الزينة، قائلًا: “البوم لا يتحرّك ولا يُصدر صوتاً جميلاً، ويعيش بين 7 و12 سنة حسب النوع”.
وإضافة إلى الصيد العشوائي الذي ساهم في تناقص أعداده، يواجه البوم في سوريا، مشكلة غياب الموائل وأماكن التعشيش، كما يُوضح الناشط البيئي علي إبراهيم، مبيّناً أن “معظم الأماكن التي يمكن للطائر التعشيش فيها قد وصلها البشر، بما في ذلك المغاور والأشجار”،كما أثّر على تعداد البوم في سوريا “استخدام المبيدات والمواد الكيميائية لمكافحة الحشرات والقوارض، إذ تنقل الموت للطائر عندما يأكلها”، وفق إبراهيم.
جهود إنقاذ فردية
مع استمرار الاستهداف الجائر لطائر البوم، يحاول ناشطون إنقاذ ما بقي بجهود فردية غالباً، سواء بمكافحة صيده، أو من خلال تصويب الأخطاء الشائعة عن كونه نذير شؤم، أو من حيث إعادة إطلاقه في الطبيعة.
وخلال زيارتنا منطقة القدموس استعنا بالناشط البيئي عرفان حيدر الذي اكتسب شهرة بين هواة البيئة بأنه أحد منقذي البوم في سورية، إذ حتى اليوم، أنقذ ثلاثة طيور من نوع بومة المخازن، وبومتين من نوع طويلة الأذن أو النسرية القزمية، كما أنقذ بومة نسرية ضخمة، وبومة أم قويق وثلاثة من البوم الهري، بالإضافة إلى بومتين من نوع السبج الأوروبي، كذلك، أشرف على أشخاص يربّون البوم لحين إطلاقه، ويفتخر بأنه تمكّن من إقناع عدّة أشخاص بإطلاق طيور البوم في البرّية بدلاً من تربيتها أسيرة.
ويحصل عرفان على طيور البوم، كما يذكر، من متطوعين يشترونها من الأسواق بهدف إطلاقها، فيعتني بها ويعالجها في حال كانت مصابة، وفي إحدى المرّات وصله طائر بوم من نوع أم قويق، كان بوضع مزر للغاية؛ إذ أمضى 10 أيام من دون أكل، فأطعمه بالإبرة لعدّة أيام حتى استعاد طاقته، ثم أطلقه في البرّية.
أيضاً “أحيانا يأتيني فرخ لا يعرف أصحابه التعامل معه بعد شرائه للزينة”، كما يقول، ويضيف “يصلني أحياناً بوم عالق على الدبق (لاصق لصيد الطيور) فقد جناحيه، وعندها انتظر عدّة أشهر كي يستعيدهما ثم أُطلقه”.
ومن تجاربه أيضاً، إنقاذه طائرا من نوع بوم الهري كان مصاباً في وجهه، إذ بقي عنده نحو شهر، كان يُطعمه خلاله من البرّية، فيصطاد له الطرائد. تالياً علمه الصيد، بوضع منصّة له لهذه الغاية، ثم أطلقه في الطبيعة.
ويروي الناشط البيئي حسن حسن أنه في العام 2018 خلال وجوده في القنيطرة في منطقة تل الشحم، كانت تُسمع أصوات مفزعة ليلاً، أثارت الذعر لدى بعض السكّان، وخلال بحثه عن مصدر الصوت وجد عشاً يضمّ ثمانية طيور بوم في خزان ماء قديم، وبدأ يعتني بها فترة من الزمن ويطعمها من مخلّفات المداجن ومحلّات الدجاج، وعندما اشتد عودها أطلقها في الطبيعة.
درج