الناستشكيل الحكومة السورية الجديدةسقوط بشار الأسد، الرئيس الفار والمخلوع

ميلاد سورية الجديدة يبدأ من التعليم/ غيث مكتبي

18 ابريل 2025

لطالما كان التعليم في قلب مشاريع إعادة الإعمار بعد الحروب والكوارث الجماعية. فهو لا يقتصر على نقل المعرفة، بل يتحوّل في مراحل ما بعد الأزمات إلى أداة وطنية شاملة لإعادة بناء الإنسان، وترميم المجتمع، واستعادة دور الدولة ومشروعها المدني. ويُعدّ التعليم، في هذه السياقات، رافعة استراتيجية لإعادة إنتاج الدولة على أسس أكثر عدالة واستقرارًا، وأداة لإصلاح ما نتج عن سنوات الفساد والنزاع من قيم مشتركة وتوازنات مجتمعية.

التعليم بعد الأزمات: دروس من العالم

أظهرت تجارب عالمية رائدة كيف أنّ إصلاح التعليم شكّل نقطة تحوّل نحو النهوض والتنمية. بعد الحرب العالمية الثانية، أعادت ألمانيا الغربية بناء نظامها التعليمي بتوجيه من قوات الاحتلال الغربية، حيث أُلغيت المناهج النازية، واستُبدلت بمحتوى يُعلي من قيم الديمقراطية والتفكير النقدي، ما ساهم في تأسيس مجتمع مدني قوي أعاد الثقة بين الدولة والمواطن. كذلك فعلت اليابان، حين ألغت التلقين العسكري وأعادت الاعتبار للعلوم والرياضيات، فمهّدت بذلك طريقها إلى نهضتها التكنولوجية والصناعية المذهلة.

كوريا الجنوبية، التي خرجت من الحرب (1950–1953) بنسبة أميّة مرتفعة، أطلقت مشاريع تعليمية وطنية لربط التعليم بالتصنيع، مع تشجيع البحث العلمي والابتكار، فأصبحت بحلول التسعينيات من أكثر دول العالم تقدّمًا في التعليم الجامعي والتكنولوجيا. أما رواندا، التي كانت شاهدة على واحدة من أسوأ الإبادات الجماعية في التاريخ المعاصر، فقد اختارت أن تجعل من التعليم أداة للعدالة الانتقالية والمصالحة الوطنية. أعادت صياغة المناهج بما يعزّز الهوية الجامعة، ويقوّي منطق التعايش، ويمنح الفئات المهمّشة موقعًا حقيقيًا داخل المجتمع.

هذه النماذج توضّح أنّ التعليم ما بعد الأزمات لا ينبغي أن يعيد إنتاج ما كان، بل أن يُعاد تصميمه من جديد ليعالج جذور الصراع، ويؤسّس لمجتمع أكثر تماسكًا وانفتاحًا، ويمنح المواطنين أدوات للتفكير المستقل، والمشاركة، والمساءلة.

سورية.. تحديات التعليم وأفق إعادة البناء

مرّت سورية خلال العقد الماضي بواحدة من أعقد الأزمات في التاريخ الحديث، أدّت إلى تدمير أجزاء واسعة من البنية التحتية، بما في ذلك المؤسّسات التعليمية. وفقًا لتقارير الأمم المتحدة ويونيسف، جرى تدمير أو إلحاق الضرر بأكثر من 7 آلاف مدرسة، وتسرّب ما يزيد عن مليوني طفل من مقاعد الدراسة، وفقد النظام التربوي آلاف المعلمين المؤهلين بسبب النزوح أو الأوضاع الأمنية أو الاقتصادية. هذا الانهيار في قطاع التعليم لا يعني فقط خسارة جيل، بل تهديدًا مباشرًا لقدرة الدولة على النهوض مستقبلًا.

ومع ذلك، يبقى التعليم في سورية أحد المجالات القليلة التي يمكن أن تشكّل قاعدة جامعة ورافعة للعبور نحو المستقبل. فبينما تبقى السياسة ساحة للصراع والدبلوماسية، يظلّ التعليم مساحة لبناء التوافق وإعادة الاعتبار للمصلحة العامة. ومن هنا، يصبح إصلاح التعليم مشروعًا وطنيًا لا غنى عنه لإعادة بناء الدولة والمجتمع. ولتحقيق ذلك، لا بد من تفعيل جملة من السياسات العملية؛ إصلاح المناهج التعليمية لتكريس قيم الحوار، والمواطنة، والتفكير النقدي، مع إزالة أيّ محتوى يعزّز الانقسام أو العنف.

أما آليات تحقيق ذلك، فتكمن في تشكيل لجنة وطنية متعدّدة التخصّصات لمراجعة وتحديث المناهج وفق معايير تربوية معاصرة، ودمج التربية المدنية، وثقافة حقوق الإنسان، والتسامح، في كافة المستويات الدراسية، ومراجعة السرديات التاريخية والدينية لتكون شاملة وعادلة وموحّدة الرؤية الوطنية، وإدخال استراتيجيات تعليمية تعزّز التفكير النقدي والتحليل بدلًا من الحفظ والتلقين، وصبغ المنهج التعليمي بجوانب التراث الثقافي السوري المتعددة بآلية أكاديمية.

وأما في ما يخصّ تأهيل المعلمين نفسيًا ومهنيًا لأداء دورهم التربوي والوطني في بيئات ما بعد النزاع، فآلياته تكمن في إطلاق برامج دعم نفسي جماعية للمعلمين، خاصة في المناطق المتضررة، وتنفيذ تدريبات دورية في أساليب التعليم الحديث، وإدارة الصفوف في حالات الطوارئ، ووضع خطط لإعادة دمج المعلمين النازحين في المؤسّسات التربوية، وتوفير حوافز مادية ومعنوية للمعلمين لضمان الاستقرار الوظيفي والتحفيز المهني.

وأما في ما يخصّ دعم التعليم الفني والمهني لربط النظام التعليمي بسوق العمل واستعادة ثقة الشباب بمستقبلهم، فآلياته تتم من خلال إعادة هيكلة المعاهد التقنية وربطها بحاجات الاقتصاد المحلي والإقليمي، ودعم التعاون بين وزارة التربية ومؤسّسات القطاع الخاص لتوفير تدريب عملي، وإطلاق حملات توعية حول أهمية التعليم المهني مصدرًا للاستقلالية الاقتصادية، وتقديم قروض صغيرة أو حوافز للخريجين لتأسيس مشاريع صغيرة مدرّة للدخل.

وأما مسألة تعزيز البيئات التعليمية الآمنة وتكافؤ الفرص لضمان حقّ كلّ طفل سوري بالتعليم، سواء داخل البلاد أو في دول اللجوء، فتتم من خلال ترميم المدارس المتضرّرة وإعادة فتحها تدريجيًا بالتنسيق مع المجتمع المحلي، وتوفير وسائل نقل وأدوات مدرسية مجانية في المناطق الفقيرة والمهمّشة، ودعم التعليم غير النظامي والتعليم المسرّع للأطفال الذين انقطعوا طويلًا عن الدراسة، وتنسيق الجهود مع الدول المضيفة ومنظمات المجتمع المدني لضمان إدماج الأطفال اللاجئين في الأنظمة التعليمية المضيفة.

التعليم مشروعاً وطنياً لبناء الدولة السورية

في مرحلة ما بعد الحرب، لا بدّ أن يُعاد التفكير بالتعليم في سورية بوصفه مشروعًا وطنيًا يعكس هُويّة الدولة السورية المنشودة، مشروعًا لا يكتفي بإعادة الأطفال إلى المدارس، بل يصوغ تصوّرًا جديدًا للمواطنة، والعدالة، والعيش المشترك. فالتعليم هو الحقل الذي تُزرع فيه قيم المستقبل، ومنه تنبثق البنية الأخلاقية والمؤسّساتية للدولة الحديثة، بالإضافة إلى أنه الاستثمار الوطني الحقيقي الذي يضمن واقعًا مستقبليًا مختلفًا على كافة جوانب الحياة المؤسساتية والاجتماعية السورية.

توجيه الإرادة السياسية نحو هذا المسار يتطلّب رؤية استراتيجية واضحة، وتنسيقًا بين مختلف الفاعلين، الدولة والمجتمع المدني والشركاء الدوليين. كما يستلزم استثمارًا طويل الأمد في رأس المال البشري باعتباره المورد الأهم في أيّ عملية إعادة بناء. ويتحقّق هذا الأمر بفريق عمل بتنسيق مباشر مع الوزارات.

من خلال التعليم تُصاغ القيم المشتركة، وتُبنى مؤسسات أكثر كفاءة وعدالة، ويُرسّخ الانتماء، وتُستعاد الثقة بالدولة والمستقبل. التعليم هو الأرض الصلبة التي تُبنى عليها سورية القادمة؛ دولة تعدّدية، آمنة، ومنفتحة على العالم، تنتمي إلى العصر، وتؤمن بأبنائها.

العربي الجديد

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى