جيجيك محيلاً السينما إلى الفلسفة، أو العكس/ سليم البيك

لعلّ أول ما يخطر في بال محب للسينما وقارئ لها ومُشاهد، في سؤاله عن كتاب مرجعي، هو كتاب “سينما” للفيلسوف الفرنسي جيل دولوز، بجزأيه: “الصورة – الحركة” و”الصورة – الزمن”. أما أوّل ما يميز الكتاب، ومزاياه كثيرة، فهي المقاربة الفلسفية التي تمنح للسينما أبعاداً تفوق الفلسفة والسينما معاً، فطريق الفيلسوف إلى الفيلم يمر، بالضرورة، بعلوم اجتماعية وإنسانية عدّة.
لا يبتعد المفكر السلوفيني سلافوي جيجيك كثيراً عن ذلك. فأول ما يخطر لأحدنا عند سؤاله عن برنامج تلفزيوني، قد يكون مرجعياً في السينما، هو برنامج جيجيك بجزأيه:
“دليل المنحرف إلى السينما”
https://www.youtube.com/watch?v=FYuI4SFw4g0&ab_channel=TheDude
و”دليل المنحرف إلى الإيديولوجيا”.
https://www.youtube.com/watch?v=YeMB-xQYPG0&ab_channel=AliNeruda
تكثر الكتب والبرامج المتناولة للسينما، نقداً وبحثاً وتأريخاً وغيرها، لكن يبقى للمقاربة الفلسفية فضاءاتها وإحالاتها غير المنتهية، مخرجةً السينما من معبدها، أو صالتها المظلمة، إلى عالم تتفاعل فيه العلوم والفنون. لا نرى ذلك في الحلقات التلفزيونية لجيجيك وحسب، بل في كتبه، ومنها “كريستوف كيشلوفسكي: بين النظرية وما بعد النظرية”، ونراها في مقالاته التي انتقى منها وترجمها حسام موصللي. هنا، في هذه المقالات، السينما كائن حيّ يقلّبه الفيلسوف الحامل على كفّة ستالين وعلى الأخرى لاكان، الشيوعي غريب الأطوار بأفكار تقارب مرّات كلام الفاشيين، يقلّبه بقراءات لا تخلو من السياسة والتاريخ، غير تارك لأحدنا مجالاً للاتفاق أو الاختلاف تماماً، فلا يسع قارئه أو مشاهده، سوى الجمع بين تناقضات الاختلاف والاتفاق مع هذا الكائن المثير للغضب والإعجاب معاً في الدقيقة ذاتها، وللضحك كأنه، كما يحمل السينما إلى عوالم أخرى، يحمل الأفكار مضموناً إلى كوميديا الستاندأب شكلاً.
جيجيك الغريب كأن يخصّص كتيّباً لفيلم عبثي وعظيم، هو “فن التفاهة الرفيعة: عن «طريق ضائع» لديفيد لينش”، جيجيك الذي لا يتوقع أحدنا منه أن يعجب جداً بمخرج تقليدي كألفرد هيتشكوك، لا يتورّع هنا في الكتابة عن فيلم “باربي” أو “آفاتار”، من دون أن يبتعد عن هوايته في التاريخ والسياسة فيتناول “حياة الآخرين”، ومنزلاً “حرب النجوم” إلى الأرض، ومستقدماً “آلام المسيح” إلى الحاضر و”ماتريكس” إلى الواقع.
قد يستغرب أحدنا من انحياز جيجيك إلى السينما الأمريكية، إن كان في حلقاته التلفزيونية أو في مقالاته هذه وغيرها، لكن اطلاعاً أساسياً إلى مبعث أي اهتمام لهذا الفيلسوف الماركسي، سيحيل إلى السينما لا بوصفها عملاً فنياً يميل الناقد السينمائي، مثلاً، إلى الأوروبي منها. السينما عنده مادة لدراسة التاريخ والأفكار والمجتمعات، وهذا يدل على السينما بوصفها صناعة إيديولوجية بدرجة عليا، أي استهلاكية، أي أن لها جانب اقتصادي مدموج بجانبها الفكري، هذا تماماً ملعب جيجيك، ما يذكّر بثيودور أدورنو في كتابه “مينيما موراليا: تأملات من حياة محطمة” أو هربارت ماركوز في كتابه “الإنسان ذو البعد الواحد”، أو فالتر بنيامين في تأملاته غير المنتهية. هؤلاء وآخرون، ومن منطلقات ماركسية دائماً، عبروا في كتاباتهم التخصصات، وفتحوا الفنون على الحياة اليومية، ونقلوا الأفكار إلى الممارسة الديمقراطية والشعبية.
لا يهم إن اتفقنا مع جيجيك في مقارباته أم اختلفنا، يكفيها توسعة المدارك والخروج عن المسلَّم به، وهذا عنصر جامع بين العبقرية والحمق. لم يبتعد جيجيك كثيراً في تناولاته السينمائية عما أرادته هذه الأسماء الكبرى من الفلسفة، بالمساهمة في إخراج حصرية السينما من النقاش النقدي. وهذا الكتاب، وبترجمته الممتازة، وكذلك اختياراته، إضافة ضرورية إلى الثقافة السينمائية العربية، لا لأنه كتاب في النقد السينمائي وحسب، بل لأنه، كذلك وبالدرجة ذاتها، كتاب في الفلسفة والتاريخ والسياسة والاجتماع. كتاب يقول إن السينما للجميع.
مقدّمة كتاب “صحراء الواقع… نهاية الخيال” (مقالات سينمائية مختارة لسلافوي جيجيك)
مجلة رمان