أبحاثسقوط بشار الأسد، الرئيس الفار والمخلوع

إرث نظام الأسد المتجدد.. كيف يتحول نقد السلطة إلى “خيانة”/ أغيد حجازي

20 أبريل 2025

ارتبط نظام الأسد بقمع الحريات واختطاف الأصوات المعارضة عبر آليات التخوين والعنف والسجن والقتل. وبعد سقوطه، كان الأمل معقود على أن تُفتح صفحة جديدة تُعلي صوت النقد البناء. لكن واقعًا مريرًا يطفو اليوم: فئةٌ جديدة تُنعت بـ”الشبيحة الجدد” ترفع شعارات الوطنية، لتحويل أي انتقاد للحكومة أو السلطة إلى “جريمة خيانة”، وكأن الوطن تحول إلى حقل ألغام تُحرم فيه الأسئلة.

النقد السياسي أو المجتمعي لم يكن يومًا ظاهرة مرحبًا بها في أنظمة الحكم الشمولية، لكن التجربة السورية تقدم نموذجًا متقدمًا لتحول النقد من أداة إصلاح إلى جريمة تُقابل بالتشهير والتخوين. ومع تغير بنية السلطة السياسية، لم تنته هذه الظاهرة، بل شهدت أشكالًا جديدة من قبل فئة من المجتمع السوري تتعامل مع الاختلاف في الرأي بوصفه تهديدًا ينبغي سحقه بدلًا من اعتباره ظاهرة صحية تدل على حيوية المجتمع.

استمرارية خطاب التخوين

يُعد التخوين من أبرز أدوات القمع التي استخدمها نظام الأسد، حيث أُقصي كل صوت معارض تحت تهم جاهزة مثل: “مندس”، “عميل”، أو “إرهابي”. لكن المثير للقلق أن هذا الخطاب لم ينته بسقوط النظام، بل تجدد بصيغ مختلفة.

يرى الناشط السوري أدهم تسون أن التحول السياسي لم يغير من جوهر الظاهرة، حيث استمرت أدوات التخوين وأُعيد إنتاجها من قبل فئات جديدة في المجتمع. ويقول: “عندما يتحول النقد البناء إلى “خيانة”، وعندما يُختزل في شتائم واتهامات جاهزة، فهذا ليس مؤشرًا على قوة الموقف الشعبي، بل على أزمة عميقة في الوعي السياسي الذي تُرك ليتشكل تحت وطأة خطاب أحادي لخمسة عقود.

ويتابع: “من الخطأ تفسير ظاهرة التخوين كمجرد انحراف على مواقع التواصل، أو أنها فقط تعبير عن الرأي، بل هي نتاج طبيعي لغياب الوعي السياسي، ولتحول الوطنية إلى طقس شعائري يُختبر بالولاء لا بالمساءلة”. ويقول: “لقد تم تسويق الفكرة لسنوات طويلة بأن الانتقاد يخدم الأعداء، فأصبح لدينا جيلٌ يعتقد أن الدولة صنمٌ يُقدس، لا مؤسسة تخطئ وتُحاسب”.

ويحذر تسون من أن “هذه الظاهرة تُنتج أوطانًا أحادية، فالسوري الذي يسب وينعت منتقدي الحكومة ويصفهم بـ”العملاء” لا يدافع عن سوريا الواقعية بكل مشاكلها، بل عن سوريا المثالية التي تختزل الوطن في السلطة التي تشبهه هو”. ويضيف: “إن هذا الانفصام بين الوطن ككيان مجرد والوطن كمساحة عيش مشترك هو ما يجعل التخوين لدى البعض أسهل من النقاش الواعي”.

ويقول تسون: “نحتاج أولًا إلى مجتمع يتقبل فكرة أن الولاء لا يعني التقديس، فالمعارضة الصحيحة ليست تلك التي تكره الدولة، بل تلك التي تُحبها بما يكفي لترفض أخطاءها وتتحدث عنها. فحين يرفض جزءٌ من المجتمع مجرد سماع انتقاد للحكومة أو مسؤول، فهذا يعني أننا حولنا الوطنية إلى دين طائفي، حيث “الكفر” (أي النقد) يُكفر صاحبه”.

وسائل التواصل الاجتماعي كمسرح للتخوين الرقمي

مع توسع استخدام وسائل التواصل الاجتماعي، انتقل التخوين إلى المجال الرقمي. وهذه المنصات لم تكرس دائمًا الحرية، بل تحولت أحيانًا إلى ساحة لمحاكمات علنية.

يؤكد تسون أن فئة جديدة ظهرت على المنصات الرقمية، تتبنى شعارات الوطنية لتجريم أي انتقاد للحكومة أو للمشهد السياسي الجديد. ويشير إلى أن هذه الفئة باتت تُنصب نفسها حارسة لأبواب الوطنية المزعومة، وتحول أي انتقاد إلى جريمة خيانة، وتستخدم الشتائم والاتهامات الجاهزة لإسكات المخالفين.

في محاولة لرصد نمط الردود المجتمعية على النقد السياسي والاجتماعي، تم تحليل مجموعة من المنشورات النقدية التي تناولت أداء الحكومة، بالإضافة إلى 100 تعليق عشوائي وردت على هذه المنشورات، باستخدام أدوات الذكاء الاصطناعي. أظهر التحليل أن الخطاب الطائفي والتخويني يظهر بشكل واضح وممنهج في الكثير من الردود، وكانت هذه نتائج التحليل:

1- خطاب تحريضي: رُصدت تعليقات ذات طابع تحريضي، تم فيها اتهام أصحاب الآراء النقدية بأنهم ينتمون إلى طوائف أو جهات معادية، وهو ما يكشف عن محاولات لشيطنة النقد وربطه بانقسامات الهوية لا بمضمونه الفعلي.

2- تكرار وتطابق في الصياغة: عدد كبير من التعليقات حمل مضامين متشابهة، تتضمن اتهامات جاهزة تعني “خائن” و”عميل” و”فلول” دون أي نقاش للأفكار المطروحة. هذا التكرار يثير احتمال وجود حملات منظمة، أو على الأقل نسخ آلي لردود محفوظة يتم تكرارها دون وعي.

3- عدم انسجام مع مضمون المنشورات: الكثير من التعليقات بدت غير منسجمة مع مضمون المنشور الأصلي، ما يعكس نمطًا من التفاعل الذي لا يهدف إلى النقاش بل إلى التشويش أو الترهيب.

يتضح أن وسائل التواصل الاجتماعي، بدلًا من أن تكون وسيلة لتحرير الكلمة، أصبحت في بعض السياقات أداة لإعادة إنتاج القمع بأساليب شعبية وتفاعلية.

تفسير سوسيولوجي لظاهرة التخوين

لمعالجة هذه الظاهرة من منظور علمي، نحتاج إلى فهم البنية الاجتماعية والنفسية التي تنتج هذا النمط من التفكير. فالتخوين ليس فقط خطابًا، بل يعكس أنماطًا معرفية راسخة في المجتمعات.

يشير المختص في علم الاجتماع، منير أحمد، إلى أن التحيز المعرفي هو نمط منهجي في التفكير أو عدم الإدراك يؤدي إلى استنتاجات غير دقيقة بسبب المعالجة غير المنطقية وغير الدقيقة للمعلومات، نتيجة قيود العقل البشري في التعامل مع الأفكار الجديدة، وتمسكه بالمعلومات السابقة التي هو متحيز لها.

ويضيف أن “هذا التحيز ناجم عن التشبث بالمعلومات السابقة، فكل مجتمع له سياق فكري ونمط معرفي خاص به، سواء أكان مجتمعًا صغيرًا أو كبيرًا، تُشكل طقوسه وقناعاته التي ترسخت مع الزمن منظومة معرفية يتمسك بها أفراده وتشكل لهم هويتهم الأساسية. لذلك فإن أي طرح جديد يُقابل بالرفض والدفاع عن الأفكار المترسخة، ليس بالضرورة لأنها صحيحة، بل لأنها مألوفة ومتكررة”.

ويتابع أحمد: “هذه الفئات تعتمد على الاستدلال التوافقي المعرفي، فعلى سبيل المثال، المؤيدون بشكل أعمى للنظام السابق كانوا يستدلون على فكرهم من خلال تجارب أنظمة أخرى سقطت وتحولت بلدانها إلى خراب، ويقيسون هذه النتيجة على الواقع السوري، مما يُعزز تحيزهم دون منح أي فرصة للتفكير بفعالية الخيارات البديلة، والضغط المجتمعي يلعب دورًا في انحياز الأفراد لأفكار جماعاتهم، إذ يخشى الكثيرون معارضة السياق العام خشية التهميش أو التنمر، ما يؤدي إلى امتناعهم عن طرح أفكار جديدة”.

يرى أحمد أن هذه الفئةً في المجتمع “تتعامل مع أفكارها باعتبارها جزءًا عضويًا من هويتها، ما يجعل أي طرح جديد يشكل – من وجهة نظرها – تهديدًا وجوديًا لتلك الهُوية يدفعها إلى مهاجمة كل محاولة لتجديد الخطاب الفكري أو مراجعته، عبر رفض قاطع لأية أفكار مغايرة، لا سيما وأن هذه الفئة تُصر على أن الأفكار الجديدة تحتاج إلى “اختبارات واقعية” لإثبات جدارتها، وهي اختباراتٌ تُرفض مسبقًا خوفًا من الفشل، أو هروبًا من مواجهة إمكانية أن تكون الأفكار القديمة غير صالحة”.

ويُرجع أحمد أهم أسباب بروز هذه الفئة إلى عاملين رئيسيين:

1. غياب الوعي المجتمعي بثقافة التغيير وقبول التنوع.

2. نقص التعليم القادر على تعزيز مهارات النقد البناء والحوار.

هذان العاملان – بحسب تحليله – يدفعان الأفراد إلى التكتل في مجموعات مُنغلقة تُحارب الرأي المخالف كآلية دفاع عن “هويتها المهددة”، حتى لو كان هذا الرأي يحمل بذور تطور إيجابي.

حلول مقترحة

ويؤكد منير أحمد أن حل هذه الإشكالية تبدأ عبر:

• بناء جسور الثقة بين أفراد المجتمع، عبر الاعتراف بأهمية الأفكار السائدة واحترامها، دون إلغاء حق الآخرين في طرح البدائل.

• تعزيز ثقافة التعلم عبر ورش عمل وندوات حوارية تشارك فيها جميع الأطياف، لتبني فكرة أن “التغيير ليس عدوانًا على الماضي، بل تطويرٌ لخدمة المستقبل”.

• التدرج في قبول الجديد، لأن الإصرار على التغيير الجذري يُنتج رفضًا عكسيًا، بينما التحول التدريجي يسمح بتهيئة الأفراد نفسيًا وفكريًا.

وينهي بالقول: “الرفض ليس دليلًا على التخلف دائمًا، فقد يكون تعبيرًا عن حاجة إلى مزيد من الشرح أو الوقت. مهمتنا أن نُحول الخوف من التغيير إلى فضول للمعرفة”.

أما أدهم تسون فيختم بالتأكيد على أهمية وجود أصوات حرة تُحب الوطن بما يكفي لتقول له حين يخطئ: “هذا ليس صحيحًا”. “لأن الوطن الحقيقي هو الذي يتسع لأسئلة أبنائه، لا الذي يُجبرهم على الهتاف فقط”.

الترا سوريا

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى