إن كان البيت الفرنسي من زجاج…/ سلام الكواكبي

الإثنين 2025/04/21
يعبر البحث العلمي في العلوم الإنسانية أسوأ أيامه، في الدول الأوروبية عموماً وفي فرنسا خصوصاً. منذ سنوات قليلة، ومع تطرف التوجهات النيو ليبرالية، اتجهت الخيارات الرسمية كما الاقتصادية والمالية إلى تعزيز الرهان وحصره بالحقل العلمي التطبيقي. وابتعدت المؤسسات العامة العاملة في تمويل المشاريع الإنمائية عن الانخراط في دعم الأبحاث المتعلقة بالعلوم الإنسانية. فصار من الطبيعي، بل من الواجب، أن تتوجه المخابر العلمية ومخابر التفكير والوحدات البحثية المختلفة للتركيز على محاولة الحصول على تمويل برامجها من أصحاب الثروات الكبيرة، ضمن مفهوم المسؤولية الاجتماعية.
إن ظاهرة تراجع التمويل الحكومي للبحث العلمي في أوروبا، وخصوصًا في فرنسا، أصبحت قضية بارزة تُثير الكثير من النقاشات بين الأكاديميين والباحثين وصنّاع السياسات. ففي في السنوات الأخيرة، وفي ظل تقليص الإنفاق العام بسبب التراجع الاقتصادي الحاد في الدول الغربية والضغوط المالية وتفاقم الدين العام، تراجعت بحدة الميزانيات المخصصة للبحث العلمي.
وعلى الرغم من التصريحات الرسمية المتكررة حول ضرورة الاهتمام بـ”اقتصاد المعرفة” والعمل على تشجيع “الابتكار”، فإن الواقع يشير إلى تباين كبير بين القول والفعل. وفي ظلّ وجود تمويل أوروبي يغطي الدول الأعضاء في الاتحاد الأوروبي للأبحاث العلمية، إلا أنه لا يمكن أن يحل مكان الدعم والتمويل الوطني. وما زالت بعض الدول في شمال أوروبا تستثمر بكثافة، لكن دولًا أخرى تعاني من تقلبات واضحة. تودي في أغلب الأحيان إلى تراجعات حادة في تمويل ودعم البحث العلمي.
أيضاً، وعلى الرغم من أن البحث العلمي يُعدّ في فرنسا كجزء محوري من الهوية الوطنية، لكن تبين، خصوصاً في العقد الأخير، ظهور تراجعات حادة في هذا الحيّز. وقد ظهر هذا تراجع بقوة في مجال التمويل العام للبحوث العلمية. وعلى الرغم من تعهد الدولة الفرنسية برفع نسبة الإنفاق على البحث والتطوير العلميين إلى ما يقارب 3% من الناتج المحلي الإجمالي كما تنص عليه توصيات وأهداف الاتحاد الأوروبي، إلا أن الرقم الحقيقي لا يتجاوز 2.2%. ومع تراجع الدعم الحكومي، فإن نسبة كبيرة من هذا التمويل تتأتى من القطاع الخاص. وسجل الإنفاق الحكومي مقابل الخاص تراجعاً نسبياً واضحاً. وبعيداً عن مراكز البحث العلمي، فإن الجامعات تعاني من نقص حاد في ميزانيتها. ومن المطلوب منها أن تسعى لتحصيل مصادر تمويل من خارج الإطار الحكومي وبجهود ذاتية. ويؤدي ذلك إلى نقصان حاد في الميزانيات التشغيلية، وبالتالي تتقادم المعدات وتضعف فرص تمويل المشاريع الجديدة. يضاف إلى ذلك كله زيادة البيروقراطية المعمول بها. ومن أهم من نتائج هذا الخلل في مسار الدعم والتمويل بروز ظاهرة مغادرة الباحثين والباحثات إلى دول تتوفر فيها بيئة بحثية أكثر ترحيباً. وكذلك تتوفر على تمويل أكثر استقراراً. وكانت كندا تشكل حيز استقطاب مميز لما يمكن أن نسميه بهجرة العقول الفرنسية.
ومن المؤكد أن الأمر يختلف بين تمويل البحث العلمي في العلوم الإنسانية وبين تمويل البحث العلمي في العلوم التطبيقية. فمع التوجه نحو المال الخاص، والذي تشجع الدولة على تبنيه، فسيكون للعلوم التطبيقية والتجارب التطبيقية حصة الأسد منه. فمن النادر أن يشجع الرأسمال على القيام بدراسة اجتماعية معمقة تركز على فهم الإنسان والثقافة والسلوك المجتمعي، أو بتحليل السياسات الإقليمية أو بالوقوف أمامه التحديات الدولية. إن العلوم الإنسانية التي تعتمد غالباً على التحليل النوعي والتأمل النقدي والمقاربات النظرية، لا تحتاج إلى مختبرات أو أجهزة مكلفة، كما أن نتائجها غير قابلة للقياس الكمي بدقة. إن مخابر الفيزياء والكيمياء كما الرياضيات، أي القطاعات ذات القيمة العالية، والتي تؤدي نتائج أبحاثها غالباً إلى مردود ملموس، من تطوير أو من اختراعات، فهي ستحظى باهتمام ودعم وتشجيع المال الخاص. وبالنتيجة فإن الجامعات والمراكز البحثية الفرنسية تتراجع في التصنيفات العالمية. كما تؤدي هذه الظاهرة إلى إضعاف الابتكار الوطني في كافة المجالات. ويزداد الشعور لدى الأكاديميين بأن البحث العلمي لا يعد أولوية وطنية البتة. كما تترسخ ظاهرة تآكل الثقة بين العاملين في البحث العلمي وخصوصاً في العلوم الإنسانية من جهة، وبين الحكومة والقائمين على السياسات العامة من جهة أخرى.
صناع القرار يرون أن العلوم الإنسانية والاستثمار فيها هو جهد غير منتج اقتصاديا بالمقارنة بالعلوم التطبيقية. وعلى الرغم من أن تكاليف مشاريعها البحثية أقل من تكاليف المشاريع البحثية في العلوم التطبيقية لكنها تلقى صعوبة أكبر في إثبات عوائدها الاقتصادية المباشرة. وبالتالي، فإن تراجع التمويل الحكومي يؤثر على حقل الأبحاث في العلوم الإنسانية بقوة، لأن تمويلها أصغر أصلاً، وهو يعتمد غالبا على الحكومة.
منذ عدة أيام، دعا الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون إلى فتح باب اللجوء العلمي للباحثين والباحثات من الولايات المتحدة الأميركية، والذين يعانون من سياسات الرئيس الأميركي دونالد ترامب المعادية للجامعات وللبحث العلمي. معتبرًا بأن فرنسا مستعدة لاستقبالهم وتأمين فرص عمل لهم واستمرارهم في أبحاثهم العلمية في المجالات كافة. معتبراً بذلك بأن البحث العلمي يتعرض لإفقار اقتصادي ولقمع سياسي في المشهد الأميركي. ويبدو أنه قد غاب عن الرئيس الفرنسي تعرض حقل البحث العلمي الفرنسي نفسه لإفقار اقتصادي إن لم يكن تطبيقياً وذا نتائج مباشرة يمكن تقييمها بالأرقام. كما يتعرض البحث العلمي في العلوم الإنسانية إلى تضييقات سياسية تصل إلى حد إعادة إنتاج المكارثية التي عرفتها أميركا في خمسينات القرن الماضي.
وفي حين يدعو ماكرون إلى استقبال “اللاجئين” الأميركيين في حقل البحث العلمي الفرنسي، يشهد هذا الأخير تراجعاً بنيوياً كبيراً، في الجانب المالي والتمويلي، وكذلك في هامش الحريات الأكاديمية الذي يضيق أكثر فأكثر، وخصوصا في العلوم الإنسانية. وسيكون المجتمع العلمي الفرنسي على موعد بعد يومين مع محاكمة الأستاذ الجامعي المعروف فرانسوا بورغا، المتخصص في العلوم السياسية للمجتمعات الاسلامية، وذلك بتهمة التحريض على العنف والإرهاب لمجرد تعبيره عن رأيه فيما يحصل من مقتلة وإبادة جماعية في عزة.
من الأجدر على الرئيس ماكرون وقبل دعوته للباحثين الأميركيين إلى اللجوء إلى بلده أن يدافع عن حريات باحثي بلده.
المدن