“ريفيّون” في دمشق/ فدوى العبود

الأحد 2025/04/20
تعكس الهشاشة التي يتسم بها الوضع السوري، خصوصاً عقب الانتهاكات في الساحل، فجوة ثقافية وسياسية بين السوريين، وهي ترتبط بلا شك بالشرخ الذي أحدثه نظام الأسد فانعكس تصدعاً لم ولن ترأبه إلا سنوات ربما توازي ثلاثة أضعاف فترة حكم الأب وابنه.
وإلى جانب هذا، ثمة صدع آخر، برز في الفترة الأخيرة على سطح الأحداث، وهو يظهر تعقيد المشكلة السورية. مثلاً، البث المباشر لسيدة دمشقية ترفع شكواها للإدارة، تطلب فيها إعادة “هؤلاء الذين لا يستحمون” إلى محافظاتهم. ومثال آخر، الصحافي الذي صرّح عبر التلفزيون بأن هؤلاء الريفيين القادمين من إدلب لا يجيدون التعامل مع دمشق. إضافة إلى فيديو يظهر فيها رجل من حي المزرعة يصرخ في وجه أحد عناصر القوات الحكومية الجديدة، ويبدو أن الأخير استفزّه بعبارة: نحن حررناكم. بدا الرجل غاضباً إذ شرح الضيم الذي عانته دمشق وراح يردد: أنت حررتني.
يبدو وكأن هناك لغتين، كأننا إزاء أهل بابل، حين طلب أحدهم حجراً فضربه الآخر بملاط، نتيجة قطيعة دامت 13 سنة بين المحرَّر أو الشمال وبين دمشق. برزت، هنا وهناك، سلوكيات تتنافى مع عادات أهل الشام، سلوكيات ذات طابع ديني حاد رفضها قسم كبير من السوريين، لكنها أظهرت أن الاختلاف قنبلة موقوتة بين طرفين لا يعرف بعضهما بعضاً.
لكن هذا ليس السبب الوحيد، بل هو في العمق، سياسي. ممارسات الأسد الأب وابنه أتت ثمارها، والغيوم التي تركاها أمطرت مياهاً كاوية على رؤوس السوريين ومواسم حياتهم. كما لا يخفى على أحد أن ما نراه هو نتيجة شرخ اقتصادي أيضاً.
أفقَر الأب، وابنه من بعده، الريف السوري ودمر استثماراته. إهمال القرى لا تغفله عَين، إذ يستطيع زائر الساحل مثلاً ملاحظة حجم الجور الذي لحق به، فأُهملت التنمية عمداً، كما تبين تقارير حديثة أن الحرائق التي انتشرت في الساحل السوري كانت مفتعلة وتهدف إلى تصحره، يضاف إليها إهمال الموانئ والتجارة. لم يعد شاطئ البحر في الساحل سوى استثمارات لعصابة الأسد.
وامتد الإهمال إلى التعليم، حتى أصبح الشاب، بمجرد إنهائه الثانوية، يتطوع في الكلية الحربية، ليتم ربطه بالقوات النظامية والمدافعين عن الأسد، ما اضطر أبناء الساحل إلى هجره إلى التطوع في الجيش والعمل في دمشق. فهؤلاء الذين هُمّشت قراهم، وفدوا ليحيطوا بالقصر الجمهوري. ولم يقتصر الزحف العشوائي على وسط المدينة التي توزّعتها بسطات (الدخان والمشروب والبسكويت) إضافة إلى الأكشاك (الكولبات) التابعة للقوات الأمنية. بل كانت المدينة في عهد الأسدَين، أيّ شيء سوى مدينة. تحولت إلى سجن كبير.
هذا الموقف من الريف وأبنائه جذّره الأسد. والشرخ الذي بدأ اقتصادياً، تحول قطيعة ثقافية. فصار يُنظر إلى ابن الريف باعتباره طارئاً على المدينة بعاداته وثقافته وسلوكياته، وسرعان ما تحول هذا الموقف سياسياً، وظهر في رفض القادمين، واصطدام ثقافات الناس ورؤاهم وتصوراتهم للحياة.
لكن الرفض هنا شديد التعقيد. فالرافضون أو المتوجسون من السلطة الجديدة، والتي حلّت كسلطة أمر واقع، يعتبرونها غير دستورية كونها غير منتخبة، وبعض قراراتها وأدائها وضع البلاد عند منعطف صعب، سواء في الحياة اليومية، أو في المصير السياسي والاقتصادي بعيد المدى، ناهيك عن مظاهر السلاح في أيدي أشخاص لا تُعرف لهم صفة رسمية محددة. ولعلهم، بازدراء الريفيين، يعبّرون عن خوفهم على “مدينتهم” من سلوكيات وافدين جدد عاشوا لسنوات في مناطق أقرب إلى اللون الواحد، دينياً وسياسياً وثقافياً، ويشكّك بعض أبناء العاصمة في أن يتمكن هؤلاء من إدارة مدينة عريقة وضخمة وفسيفسائية مثل دمشق.
أما المرحبون بالسلطة الجديدة، فرأوا في سلوكيات مهاجمي هؤلاء الريفيين القادمين، وقاحة وتعديًاً. إذ بدا الحارس الحكومي ضعيفاً وهو يحاول التهدئة، معتذراً عن عباراته التي انفلتت في لحظة غضب، حسب تعبيره. وبدا الرجل الآخر شرساً وموتوراً في رأي الكثير من المتابعين، فكتب أحدهم: “أي نعم نحنا حررناك، ولازم تحترم هالناس اللي بذلت أرواحها مشان يطلع صوتك”، وذكّر المعلق بأحداث مشابهة، كمديرة إحدى المدارس التي قالت “بدها تربي كل الطلاب القادمين من الشمال، بكفي استفزاز حتى ما تصير ردود الأفعال مؤلمة لكم”.
تنقسم الآراء بين الرافضين لسلطة الأسد الذي كان حكُمه، في جوهره، ريفياً، وجعل دمشق مدينة موتى ومرتعاً لرجال ضخام بلحى مخيفة يُعرفون بالشبيحة، ولغرباء يضربون أنفسهم حتى يسيل الدم من رؤوسهم وصدورهم… وبين الرافضين للسلطة الجديدة، الذين يرون في دوائرها غرباء آخرون يهددون روح المدينة والإسلام المعتدل، إذ أصبحنا نسمع بالأمير أو الشيخ في تكرار للمأساة ذاتها.
قبل تحرير دمشق، كانت هناك لوحة رخامية تلفت انتباه الزائر بقطعها السماوية ولونها الذهبي. بدت وكأنها تتحدى الزمن، إذ يقف فيها الأسد الأب محاطاً بالفلاحين وأطفالهم في حقول ذهبية ينظرون للأفق فرحين، يقبضون بأيديهم على حزمة من القمح الذهبي، بينما يلوح الأسد بيده: “دمشق ترحب بكم”.
ظلت هذه اللوحة برهاناً واضحاً على عمق الفجوة بين الكذبة وبين من يصدقها. لقد أفقر الأسد “راعي الفلاحين”، هؤلاء، وتركهم رهائن الفقر والفاقة ممهّداً الأرض لابنه الذي محا بيوتهم وبساتينهم بالبراميل التي ستلقى على أبنائهم بعد سنوات.
الأرجح أن لا ريف متخلّفاً بالضرورة، ولا مدينة متحضّرة بالتعريف. سوريا اليوم وريثة دمار أخلاقي وثقافي واقتصادي طاوَل الريف والمدينة معاً. ولطالما كانت الأرياف السورية، من الرستن وحتى دير الزور والساحل السوري، حواضر عِلم ومعرفة، فتحولت في عهد الأسدَين منبعاً للتطرف والجهل والدماء… والكل ينتظر ما سيحمله الغد.
المدن