في الحاجة الملحّة إلى السياسة/ حسان الأسود

21 ابريل 2025
لطالما كان الناس خارج إطار السياسة بمفهومها المباشر، فلم يكن للرعايا حقوق المشاركة في صناعة المسار واتخاذ القرار، طوال عشرات القرون الماضية من عُمر البشرية. دخل الناس السياسة من بابها الضيّق مع التغيّرات الاجتماعية الكُبرى، التي أفرزتها الثورة الصناعية، فكان أن سُمح لهم بالمشاركة في التصويت من خلال الانتخابات، لأنّها تخدم الهدف النهائي لكسر احتكار الإقطاع وسائلَ الإنتاج. كانت المكاسب الحقوقية والسياسية انعكاساً لحاجة رأس المال دخول الأفراد معترك الشأن العام، ولم يكن هذا الأمر كرمَ أخلاقٍ من الفئات التي احتكرت السياسة، بل حاجةً ملحّةً لتنظيم المجتمعات التي خرجت من القرى وفكّت ارتباطاتها بالبيئة الزراعية وانتقلت إلى المدن، وبات لديها علاقات جديدة مختلفة من حيث المصالح والتبعيّة. عندما انتظم العمّال في جمعيات محلّية بسيطة للدفاع عن مصالحهم، وعندما تحوّلت الجمعيات هذه إلى نقابات كبيرة وقويّة، وبعد أن انتقلت الكنيسة وراء رعاياها للبقاء على مقربة منهم والاستمرار في التواصل معهم، ازداد الشعور بالقوّة الجماعية، فكان هذا أحد أسباب فتح ثغرة في جدار المشاركة السياسية لاحقاً، التي أخذت بالتوسّع المستمرّ، حتى وصلت إلى ما نعرفه الآن، بعد أن تحوّل الرعايا مواطنين.
تراكمت المكتسبات العامّة للأفراد في الغرب عندما بدأ التزاوج بين الديمقراطية والليبرالية، فالمشاركة في الشأن العام اقترنت بتوسّع دائرة الحقوق والحرّيات. ومع مرور الزمن، أصبح من المستحيل الفصل بين المفهومين. لكنّ الأمر لم يسرِ في هذا النهج في بلدان العالم الثالث، والتي انتقلت إليها الديمقراطية والحرّيات عبر التأثر بالغرب من خلال الاستعمار المباشر أو بالتبعيّة الثقافية. وُلدت الديمقراطية عرجاء في هذه البلدان، فكانت غطاءً شكلياً لاستئثار الحكّام الديكتاتوريين بالسلطة في الجمهوريات المختلفة، كما هو الحال في روسيا وإيران، وجمهوريات الموز في الشرق الأوسط وآسيا وأفريقيا. أمّا الحقوق والحرّيات فبقيت سجينةً في سطور الدساتير والقوانين، ولم تخرج منها إلى ساحات الممارسة الفعليّة ضمن مؤسّسات الدولة أو ضمن الحيّزَين الاجتماعي والثقافي لهذه البلدان. الخطير في التحوّلات الماضية، التي يشهدها العالم منذ إعلان عصر الحرب على الإرهاب بعد أحداث “11 سبتمبر” (2001)، هو توسيع مساحة الممارسة الديمقراطية شكلاً وتضييق مساحة الحرّيات موضوعاً، حتى في الدول الغربية المصنّفة ديمقراطيةً عتيقةً، فيها رسوخٌ واضح لقيمها ولقيم الحرّيات والحقوق تقليدياً. يتجلّى هذا اقتصادياً في حالات الإفقار المتزايدة للطبقات المتوسّطة، وسياسياً بارتفاع أسهم اليمينَين المحافظ والمُتطرّف، وثقافياً بالارتداد عن قيم التسامح والتعدّد وقبول الآخر المختلف.
حسب أبرز مؤشّرات الديمقراطية العالمية، التي هي برامج تقيس حالة الديمقراطية في مختلف الدول، وتعتمد معاييرَ متنوّعةً تحاول تقييم جوانب مختلفة في حياة الشعوب والدول، مثل الحقوق السياسية، والحرّيات المدنية، والعمليات الانتخابية، والمشاركة السياسية، وثقافة الديمقراطية، وأداء الحكومة. ووفق أحدث التقارير الصادرة عنها (في 2024 – 2025)، ثمّة خشية من تراجع خطيرٍ للديمقراطية والليبرالية على مستوى العالم. يمكن الإشارة سريعاً إلى أبرز نتائج دراسة نُشرت أخيراً في هذا الخصوص. فأولاً، تراجع متوسّط مستوى الديمقراطية، إذ سجّل مؤشّر الديمقراطية لوحدة الاستخبارات الاقتصادية في عام 2024 إلى أدنى مستوىً له على الإطلاق. وبالمثل، يشير تقرير V-Dem لعام 2025 إلى أن مستوى الديمقراطية للمواطن العالمي العادي عاد إلى مستويات عام 1985، وأن متوسّط مستوى الديمقراطية على مستوى الدول عاد إلى مستويات عام 1996. ثانياً، ازداد عدد الأنظمة السلطوية باضطراد على مدى العقد الماضي. في عام 2024، كان هناك عدد أقلّ من الديمقراطيات (88) مقارنةً بالأنظمة السلطوية (91)، للمرّة الأولى منذ أكثر من 20 عاماً وفقاً لـV-Dem.
ثالثاً، انخفضت نسبة سكّان العالم الذين يعيشون في ظلّ “ديمقراطية كاملة” إلى 6.6% في عام 2024، مقارنة بـ12.5% في عام 2014 (تقرير EIU). في المقابل، يعيش 39.2% من سكّان العالم تحت حكم أنظمة سلطوية. كما تدهورت (رابعاً) الحرّيات المدنية وحرية التعبير. فيشير تقرير V-Dem إلى أن حرية التعبير هي المكوّن الأكثر تضرّراً في الديمقراطية، إذ تدهورت في 44 دولة في عام 2024. كما تراجعت نزاهة الانتخابات وحرية تكوين الجمعيات وحكم القانون في العديد من البلدان.
وخامساً، لا تزال “الموجة الثالثة” من التراجع الديمقراطي مستمرّةً منذ 25 عاماً على الأقلّ، فتشهد 45 دولة حالياً تراجعاً في مستوى الديمقراطية (تقرير V-Dem). وعلى الرغم من أن عام 2024 شهد انتخابات في العديد من البلدان، إلا أن ذلك لم يؤدِّ إلى تحوّل كبير في الاتجاه العالمي للديمقراطية. فقد تدهور مستوى الديمقراطية في عدد أكبر من البلدان التي أجريت فيها انتخابات مقارنةً بتلك التي شهدت تحسّناً. وأخيراً، سجّل مؤشّر أداء الحكومة التابع لمؤشّر الديمقراطية لوحدة الاستخبارات الاقتصادية أكبر انخفاض في عام 2024، ممّا يسلّط الضوء على أزمة أوسع في الحوكمة تؤثّر في الدول الديمقراطية وغير الديمقراطية على حدّ سواء.
تشير هذه الدراسات بشكل جليّ إلى انحسار تأثير الجماهير في الشأن العام بشكل مضطرد، وهذا يعني أنّ السياسة بدأت تعود لتصبح شأناً حصرياً لمجموعة قليلة من المجتمع، كما كان الحال سابقاً قبل الثورة الصناعية. هذه الفئة هي الأكثر ثراءً ونفوذاً في الدول المصنّفة ديمقراطيةً كاملةً، فكيف هو الحال إذاً في الدول المصنّفة ديمقراطيةً جزئياً أو المصنّفة استبداديةً؟ وكيف هو الحال في الدول الخارجة من ثورات مثل سورية، أو حروب أهلية مثل السودان؟… الوضع بحاجة إلى كثير من العمل الجاد، فمن دون إعادة تشكيل الفضاء العمومي بشكل يسمح بأوسع مشاركة سياسية للشرائح المجتمعية كلّها، لن يكون بالإمكان حلّ المشكلات المستعصية في هذه البلدان، وفي مجتمعاتها المتأخّرة كثيراً عن ركب الحضارة والمدنية.
المشاركة السياسية ليست ترفاً، بل ضرورة ملحّة لتفادي إعادة إنتاج الاستبداد من جهة، وللحاق بركب التطوّر من جهة ثانية. لا يمكن أن يبقى الحال على ما هو عليه في بلداننا الخارجة من ثورات وصراعات دموية شديدة، ولا بدّ من اختراقات بنيوية لإعادة تشكيل الحياة العامّة، ومن دون ذلك سنبقى على هوامش الحياة، وفي طيّ النسيان.
العربي الجديد