كي لا تكون تركيا إيران أخرى في سوريا/ إياد الجعفري

لا نعرف إلى أي حد يمكن الرهان بإيجابية على أن الدروس المستقاة من التجربة الإيرانية مع نظام الأسد في سوريا، واضحة المعالم في أذهان صنّاع القرار في أنقرة ودمشق، اليوم. إذ يمكن تسجيل مؤشرات إيجابية بهذا الصدد. في الوقت ذاته، يمكن التقاط مؤشرات أخرى مقلقة. لكن ما يمكن الرهان عليه بصورة أكيدة، أن استنساخ تجربة طهران مع “سوريا الأسد”، في مشهد العلاقة التركية- السورية الراهنة، لن يؤول إلا إلى النتائج ذاتها التي آلت إليها التجربة الإيرانية.
أما مناسبة هذا الكلام، فهي تلك الزيارة المهمة التي قادها وزير التجارة التركي، عمر بولات، على رأس وفد ضم رجال أعمال وصناعيين أتراك، إلى العاصمة دمشق، نهاية الأسبوع الفائت. حيث التقى بوزراء الاقتصاد والمالية والنقل، وعقد لقاءً حوارياً مع تجار وصناعيين سوريين، ليتحدث عن رغبة بلاده في التفاوض على اتفاقية شراكة اقتصادية شاملة مع سوريا.
يشكّل المفصل الاقتصادي في العلاقة السورية- التركية، واحداً من أكثر مفاصل تلك العلاقة حساسية، وتأثيراً، في استدامتها بصورة إيجابية، مستقبلاً، من دون أن نتجاهل أهمية المفاصل الأمنية والعسكرية والسياسية، أيضاً. إلا أن الاقتصاد قد يكون “قبلة الموت” لهذه العلاقة، على المدى المتوسط، أو بالعكس.
وبالعودة إلى الدروس المستقاة من التجربة الإيرانية مع “سوريا الأسد”، في 14 سنة الأخيرة، يمكن إيجاز أبرزها، بالنظرة الإيرانية إلى سوريا، بوصفها ساحة لتعزيز قدراتها التنافسية في الإقليم، من زاوية أمنية- عسكرية، بصورة أساسية. وهو ما حوّل سوريا، بصورة متصاعدة، إلى مساحة اشتباك إسرائيلية- إيرانية، وإيرانية- أميركية، أضرّت بشدة بمصالح السوريين. ومن ثم، كان الرهان الإيراني على التشكيلات الميليشاوية، والعمل على تعزيز استقلاليتها. أما على الصعيد الاقتصادي، فكانت النظرة الإيرانية لسوريا ذات ثلاثة وجوه، ساحة للمغانم الاقتصادية السهلة لاسترداد الديون، وسوقاً لتصريف المنتجات الإيرانية، ومصنعاً للكبتاغون. وفي الوجه الأول، ضاربت طهران على مصالح بشار الأسد الشخصية، فكانت تنازعه في القطاعات التي حاول احتكارها لصالحه، فظهر تضارب المصالح هذا جلياً في السنتين الأخيرتين. كذلك، عرقلت طهران معظم محاولات الأسد لاستجلاب دعم مالي خليجي، عبر تقصّد إظهار نفوذها عليه. وقد تسبب النفوذ الإيراني في إبقاء العقوبات المشددة سارية على سوريا. فأدى مجمل العوامل السابقة إلى تعزيز أسباب الانهيار الاقتصادي والمعيشي غير المسبوق في البلاد، وصولاً إلى خروج أصوات علنية في الحاضنة الموالية للنظام، تهاجم إيران مباشرةً، وتحمّلها مسؤولية ما وصل إليه السوريون من فقر وضيق حال.
اليوم، تنظر تركيا إلى سوريا أيضاً، بوصفها ساحة لتعزيز قدراتها التنافسية في الإقليم، لكن من زاوية مختلفة، هي الاقتصاد. ونستطيع أن نراهن على أن صراعاً عسكرياً مباشراً بين تركيا وإسرائيل على الأراضي السورية، لن يقع قريباً. وأن أنقرة ستكون أكثر حرصاً على استقرار سوريا، بالمعنى الأمني، لأسباب مرتبطة باستقرارها هي. لكن في البعد الفصائلي، نجد مؤشرات مقلقة، بالفعل. فالفصائل المقرّبة من تركيا، في “الجيش الوطني” بشمال غرب سوريا، لا تزال تتمتع بهامش استقلالية ملحوظ، رغم اندماجها الرسمي في جيش موحد، تحت قيادة “هيئة تحرير الشام”. ويمكن الذهاب إلى أن تفكيك عقدة الفصائلية يتطلب مزيداً من الوقت والعمل الحثيث والهادئ. فليس من مصلحة تركيا وجود مناطق نفوذ متصارعة على التراب السوري. كذلك في السياسة، يبدو النهج التركي متوازناً إلى حدٍ ما. وتبقى العقدة الرئيسية في الاقتصاد.
بُعيد الأيام الأولى من سقوط نظام الأسد في كانون الأول الفائت، عرفت الأسواق السورية فيضاناً من البضائع التركية منخفضة الجودة والسعر، فتلقفها المستهلكون السوريون بترحاب كبير بعد سنوات من ضيق الخيارات وغلائها، فيما تلقى المنتجون السوريون آثارها السلبية. وتم الحديث عن إغلاق عدد كبير من المنشآت الإنتاجية جراء العجز عن المنافسة. ولتدارك المشهد قبل انهيار آخر المؤسسات الإنتاجية المحدودة المتبقية في البلد، إلى جانب الحاجة لتمويل الخزينة شبه المفلسة، أصدرت حكومة تصريف الأعمال السورية، مطلع العام الجاري، قائمة رسوم جمركية، شكّلت صدمة للتجار الأتراك. فتشكوا منها علناً. ودخل المسؤولون في أنقرة على خط الضغوط، وصولاً إلى الإعلان من جانب واحدٍ، تركي، عن تخفيض الرسوم الجمركية على 269 سلعة تركية، قبل أن ينفي الجانب السوري هذا الخبر. قبيل ذلك وخلاله، كان المسؤولون الأتراك يتحدثون عن سوريا، بصيغة الغائب. فتحدثوا عن اتفاقات مزمعة في التجارة الحرة، وترسيم الحدود البحرية، ومسائل أخرى، تبدى لاحقاً أن السلطات السورية في دمشق، استطاعت النفاذ من الضغوط بخصوصها، وتجنبت تقديم تنازلات مباشرة فيها.
ومنذ أسابيع، أصبحت تصريحات المسؤولين الأتراك في الشأن السوري أكثر توازناً وضبطاً. وجاءت زيارة وزير التجارة التركي إلى دمشق، ولقاؤه مع الوزراء المعنيين بالحكومة السورية الجديدة، مرفقة بتصريحات مطمئنة، إلى حدٍ ما. من ذلك إشارة وزير الاقتصاد السوري، محمد نضال الشعار، إلى تعزيز الصناعة المحلية وحماية المنتج المحلي. وهي إشارة قابلها نظيره التركي، بالحديث عن حل الإشكالات التي تعترض عمل الصناعيين والتجار، بما يضمن تحقيق النمو والازدهار في سوريا الحرة الجديدة، حسب وصفه.
وهكذا نأمل أن تُترجم تلك التصريحات المطمئنة إلى سياسة تركية، ترى في سوريا شريكاً لا تابعاً، واقتصادها مساحة لتقاطع المصالح والمكاسب المتبادلة، لا ساحة خلفية لتصريف المنتجات التركية الكاسدة، والمكاسب الاقتصادية السهلة على حساب مصالح السوريين. لأن ذلك يعني، في المستقبل المتوسط وليس البعيد، انفضاض الحاضنة المؤيدة اليوم للسلطة في دمشق، ولتحالفها القائم مع أنقرة، من حولها. كما حدث عشية سقوط نظام الأسد قبل بضعة أشهر فقط.
المدن