تشكيل الحكومة السورية الجديدةنقد ومقالات

معارك وزير الثقافة المبكرة/ منهل عروب

2025.04.22

 أن يُخطئ الوزير، فهذا من طبائع الأمور وربما ضرورات العمل الحتمية. ولكن طريقة التعاطي مع ذلك الخطأ وتحمّل مسؤوليته، فهذا أمر آخر وله دلالات تطول ليس فقط شخصه، ولكن منصبه الاعتباري والجهة التي يُمثّلها، وتطول حتى التيار السياسي أو الفكري الذي ينتمي إليه.

هذا ما حصل مع وزير الثقافة السوري السيد محمد ياسين صالح، الذي قام بزيارة لمدينة البوكمال بدت للوهلة الأولى مجاملة اجتماعية تهدف إلى الاهتمام بالثقافة المحلية لمنطقة الجزيرة التي طالما تجاهلها نظام البعث، أو جولة بروتوكولية يريد أن يتعرّف من خلالها على الشخصيات والتيارات الثقافية هناك، وحلّ ضيفاً على مضافة الشيخ فرحان المرسومي. ولكن الزيارة سرعان ما أثارت جدلاً واسعاً، وفجرت غضب كثير من السوريين الثوريين؛ بسبب ارتباط “المرسومي” السابق بميليشيات إيرانية وتهريب المخدرات، كما يُتّهم بأنه لعب دوراً مركزياً في تجنيد الشباب ضمن “الفوج 47” المدعوم من إيران، وساهم بقوة في تعزيز نفوذ طهران في البنية الاجتماعية والعسكرية للمنطقة قبل سقوط نظام الأسد.مما أدّى إلى موجة من الاستياء الشعبي في المنطقة الشرقية وعلى وسائل التواصل الاجتماعي.

أمام تلك الحقائق اضطر الوزير إلى الاعتذار في تغريدة على منصة إكس ـ وهذه سابقة تُحسب للحكومة الجديدة ـ، فثقافة الاعتذار لا تنتمي لمفردات القائد الخالد ولا لفريق عمله بالتبعية. وقد حاول الوزير صالح القطيعة مع تلك الثقافة في خطاب تنصيبه حيث قال نصاً: “إذا أردتُ أن أتحدّث عن الثقافة باختصار شديد، فأقول هي أن نفتّت ونبتعد عن كلّ المنظومة الثقافية التي كان يتبناها الوضيع البائد الهارب الذي كان يحتلّ هذا القصر”. ولكن المشكلة أن هذا الاعتذار لم يكن على مستوى فصاحة كلمات تنصيبه وزيراً، بل جاءت أقرب إلى تبرير بيروقراطي منه إلى اعتراف حقيقي بالخطأ. فلم يوضح السيد الوزير أسباب الزيارة، ولا سبب اختيار هذه المضافة تحديداً ضمن جولته. وحتى في مضمون الاعتذار، فقد حمّل الخطأ للموقف الظرفي، وليس للخلل في التقدير أو نقص في المعلومات لديه أو التحضير السياسي والأمني لفريق عمله.

الزيارة سلّطت الضوء على كثير من جوانب الخلل في عمل الوزارة: منها أنه هل يعقل أن وزيراً لا يعرف طبيعة من يزورهم، وتفاصيل الزيارة ومع من سيلتقي، وما هي المواضيع التي يريد أن يتحدّث بها؟ خصوصاً مع ظهور شقيق الرئيس الشرع ضمن الوفد، مما يدلّ على تداخل واضح في أهداف الزيارة بين الثقافي والسياسي؛ حيث لا رفاهية في فترة تأسيس حكومي ـ لزيارة المجاملات. لا شك أنّ هذا من مهمة فريق العمل في الوزارة، الذي يقوم بتحضير وتجهيز جميع التفاصيل ويُطلع الوزير عليها، ولكن في النهاية الوزير هو من يتحمّل النتائج بصفته الاعتبارية، وموقعه الرسمي.

كما بيّنت الزيارة وسياقاتها غياب أو ضعف “الحساسية الثورية” عند الحكومة الوليدة. فهذا ليس الخطأ الأول لشخصية رسمية في حكومة الشرع، بل سبقه مثلاً لقاء لوزير الصحة السابق (وبغضّ النظر عن كونه شقيق الرئيس، بل نتكلم عن شخصية حكومية) مع الراهبة المؤيدة للأسد والمنكرة لمجزرة الكيماوي في الغوطة الشرقية. هذه الأخطاء فتحت الباب واسعاً أمام سؤال العدالة الانتقالية. التشكيك بجدية الحكومة في التعاطي مع قضية العدالة الانتقالية خطير جداً. ولا يبدو أن أعضاء الحكومة تعيره الأهمية المطلوبة؛ ذلك لأن عدم وضوحه يشكك في شرعية الحكومة الوليدة، ويفتح الباب أمام ثقافة الانتقام خارج إطار القانون. كما ينال من رصيد رئيس الجمهورية الذي أغلق هذا الباب، وطلب الثقة بالحكومة الجديدة، وإعطائها الوقت اللازم، وقد نال تلك الثقة. وآخر ما نريد أن نراه هو انهيارها!

ما يجعل هذه الحادثة أكثر إشكالية هو موقع الوزير ذاته. فمحمد ياسين صالح، القادم من خلفية لغوية وأدبية، يُفترض أن يكون ممثلاً لقيم الفكر والنقد والتنوير. واحترام ثقافة الناس ووعيهم. وأن تكون لديه حساسية أكبر تجاه الإجرام ورموزه. هذا الإشكال يعبّر عن قلق أعمق: إذا كانت رموز الدولة الجديدة تزور بهذه السهولة شخصيات متهمة ومحسوبة على النظام المجرم دون

حرص وتدقيق، فماذا عن تطلعات الناس للعدالة، والمحاسبة، والتمثيل الحقيقي؟

فالثقافة ليست زينة سياسية. إنها تمثل الذاكرة الجمعية والضمير العام، الذي يحرص السوريون على الاحتفاظ به. وحين تقف مؤسسات الثقافة ـ ونحسبها بالطبع دون قصد ـ بجانب شخصيات متهمة بالتورط في مشاريع الهيمنة وجرائم الحرب، فهي تفقد حيادها الأخلاقي وتشوّه رسالتها الوطنية.

ما بعد الصورة: أسئلة تنتظر الإجابة

لا يبدو أن السيد الوزير يولي الموضوع الأهمية اللازمة، وهنا تكمن المشكلة. فليست المشكلة في الصورة وحدها، بل في غياب التفسير المقنع، والمحاسبة الواضحة، والموقف المؤسسي. حتى الآن (على الأقل حتى كتابة تلك الكلمات)، لم تُصدر وزارة الثقافة أي بيان توضيحي، ولم تُطرح أسئلة من داخل الحكومة حول مدى مشروعية هذه الزيارة أو مآلاتها الرمزية والسياسية. بل تركت للناشطين الردّ والتبرير، وبالتالي تأجّج الصراع أكثر، وانتقل من قضية واضحة يمكن حلّها بموقف رسمي واضح، إلى مماحكات على وسائل التواصل الاجتماعي بين معارض ومؤيد، وتخوين وتجييش، أوقعت السيد الوزير تحت سياط وسائل التواصل الاجتماعي وشدّها وجذبها، فتحت المجال أمام العديد من الأخبار الزائفة، ستكون المؤسسة الرسمية أول المتضرّرين منها على المدى المتوسط والبعيد. وأولى مفاعيله السلبية، هو المطالبة باستقالة السيد الوزير.

وفي حين أن الاستقالة لا تمثل حلّا في ظروف كهذه، حيث يشكل الأمن والاستقرار أولوية بالغة الأهمية، إلا أنه أيضاً مواجهة هذا الحدث لا يكون بمثل ذلك الاعتذار الباهت، بل بتحمل المسؤولية أمام الناس، وفتح نقاش واسع حول العلاقة بين الثقافة والسلطة، بين الرمزية والتمثيل، والتفريق والتمايز الواضح بين الدولة وعناصر الميليشيات السابقة. لا يمكن للمجتمع السوري أن يبني مستقبلاً ديمقراطياً في حين رموزه الثقافية تتورط ـ بوعي أو غفلة ـ في علاقات ملتبسة مع شخصيات تُمثل النقيض التام لمشروع العدالة والحرية.

الصورة التي التُقطت في مضافة المرسومي لن تُمحى بالاعتذار. لكنها قد تكون فرصة لإعادة تعريف ما تعنيه “الثقافة الرسمية” في سوريا الجديدة. هل هي تكرار لمنهج النظام البائد في تدجين الثقافة لصالح السلطة؟ أم تمثيل صادق لمصالح الناس وآمالهم؟ ما نحتاجه اليوم ليس فقط نقد صورة، بل إعادة بناء الثقة بين المؤسسات الثقافية والجمهور، عبر ، اعتذار مسؤول وليس شكلي، وشفافية ووضوح في التعاطي مع ذلك الخطأ وحيثياته، والجرأة في الاعتراف بالخطأ.. حتى لا تصبح الثقافة مجرد مرآة للنفوذ، بل صوتاً حيّاً للكرامة.

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى