الناسسقوط بشار الأسد، الرئيس الفار والمخلوع

القضاء السوري… جهود لتجاوز عقود من الفساد والمظالم/ ضياء الصحناوي

22 ابريل 2025

تحاول السلطة القضائية السورية التخلص من إرث النظام السابق الحافل بالتجاوزات والفساد والقوانين والمحاكم الاستثنائية، لكن الأمر يحتاج إلى وقت وجهد، كما تحتاج المحاكم إلى تحديث شامل.

في مبنى محكمة دمشق المدنية، والذي يُشبه متاهة من الممرات الضيقة، ينتظر السوري محمد (52 سنة) لساعات دورَه للاستماع إلى قضيته التي تخص نزاعاً على ملكية أرض ورثها عن أبيه. يقول وهو يقلّب أوراقاً بالية: “قبل سقوط نظام الأسد، كنتُ أخشى حتى الاقتراب من المحكمة. اليوم آمل أن أنال حقوقي، لكن البيروقراطية تلتهم الوقت”.

حالة محمد ليست استثناءً في قاعات المحاكم السورية التي بدأت تشهد تحولات جذرية، لكنها تظل رهينة الكثير من تعقيدات المرحلة الانتقالية، كما أنها محاصرة بإرثٍ طويل من الفساد، فقبل سقوط النظام في 8 ديسمبر/كانون الأول 2024، كان القضاء السوري أداةً في يد الأجهزة الأمنية.

ووفقاً لتقرير صدر عن منظمة هيومن رايتس ووتش في عام 2021، كانت المحاكم تُدار بتعليمات مباشرة من جهاز المخابرات، خاصةً محكمة الإرهاب التي أنشئت في عام 2012، والتي حاكمت آلاف المعارضين من دون ضمانات أو إثباتات قانونية. وبعد سقوط النظام، أعلنت الحكومة الانتقالية نيتها إطلاق إصلاحات شاملة تتضمن إلغاء المحاكم الاستثنائية، وتدريب القضاة.

وأشار رئيس عدلية دمشق، علي المغربي، في تصريحات إعلامية، إلى أن النظام السابق أصدر نحو مليون مذكرة بحث، معظمها لأسباب سياسية أو بناءً على تقارير أمنية مُلفقة، بالمخالفة للأصول القانونية، معلناً إغلاق محكمة الإرهاب التي استُخدمت لقمع المعارضين، وبدء تحضير ملفات قضائية ضد رموز الفساد، بما في ذلك جرائم المقابر الجماعية، والفساد المالي، لعرضها أمام القضاء المحلي والدولي، مع دراسة تطبيق آليات “العدالة الثورية” لإنهاء الأحكام السياسية السابقة.

وبيّن المغربي أن المحاكم تعمل حالياً وفق القوانين السابقة، مع تدوير الدعاوى القديمة، بما في ذلك تلك القادمة من مناطق مثل إدلب، تمهيداً لتوحيد الإجراءات القضائية مستقبلاً، وتحويل منصب “المحامي العام” إلى “رئيس نيابة عامة” جزءاً من إصلاحات هيكلية تهدف إلى فصل السلطات، رغم التحديات المتمثلة في البنية التحتية المتهالكة للمحاكم.

تشهد محاكم سورية تحولات جذرية رغم تعقيدات المرحلة الانتقالية

ويقول المحامي باسل سعيد مانع لـ “العربي الجديد”؛ إنه “في ظل تحوُّلات سياسية غير مسبوقة، تُجسّد المحاكم السورية مشهداً مركباً جزءٌ منه يحمل بصيص أمل بإصلاحات متدرجة، وآخر لا يزال يرزح تحت إرث عقود من التسلط الأمني والفساد، بينما العدالة لا تُبنى إلا بسلامة القضاء. المحاكم لم تعد ساحةً لتدخلات الأجهزة الأمنية كما في السابق، لكنها لا تزال تعاني من إشكالات جذرية، فإلغاء محاكم الإرهاب الاستثنائية لم ينهِ معاناة المُتضررين من أحكامها، والتي لا تزال بانتظار مراجعة لجانٍ فنية شكلتها وزارة العدل حديثاً، هناك أيضاً إشكالية القوانين النافذة، والعديد منها أدوات قمع موروثة عن النظام المخلوع. نطالب بعدالة انتقالية تطهّر الجهاز القضائي من العناصر المتورطة بجرائم النظام السابق، ونقابة المحامين تُجهز لعقد مؤتمرها العام قريباً لإقرار مشروعها في هذا الصدد”.

بدوره، يؤكد المحامي هشام عارف قهوجي، أن عودة المحاكم إلى العمل لا تعني اكتمال وظيفتها، ويوضح لـ “العربي الجديد”: “بالنسبة للقضاء المدني، فقد توقفت دعاوى نقل الملكية بسبب تعطُّل السجلات العقارية ومديريات النقل، وبالنسبة للقضاء الجزائي، فقد تم توقيف المحاكم العسكرية كلّياً، أما في محاكم الجنايات فهناك حالة ترقب حذر إزاء إصدار الأحكام، انتظاراً لتوجيهات جديدة”.

ويقول القاضي طارق برنجكجي، رئيس محكمة الاستئناف الجمركية في دمشق، لـ”العربي الجديد”، إن “المشهد القضائي الحالي، وإن بدا ظاهرياً مشابهاً لما كان عليه في عهد النظام السابق، فإنه يشهد تحولات تدريجية نحو استعادة عافيته، وعدالة القضاء هي مؤشر العافية. وزارة العدل أولت تطبيق القانون وتحقيق العدالة أولوية قصوى، ما انعكس إيجاباً على سير المحاكمات ومرونة إدارة الملفات، وبات بإمكان القاضي تحديد مواعيد الجلسات وفقاً لطبيعة كل قضية”.

ويلفت إلى أن “العدالة لا تعني المساواة الآلية، بل مراعاة الظروف، وهناك فرق بين هدم غرفة غير مرخصة في فيلا فاخرة، وهدم غرفة بسيطة تشكل مأوى لعائلة فقيرة، وهذا رهين بضمير القاضي وحريته في تقدير العدالة، وهي حرية لم تكن متاحة سابقاً. القضاء السوري بدأ يستعيد استقلاليته مع غياب تدخلات السلطة التنفيذية والأجهزة الأمنية، على عكس الماضي، حين كان تدخل وزراء العدل سافراً”.

ورداً على انتقادات استمرار بعض القضاة الذين ارتبطوا بالنظام السابق، يوضح برنجكجي أن “شواهد القضاة هي أحكامهم، وليس الانطباعات، والقضاة بشر لا ملائكة، وهم يطبقون القانون ولا يشرعونه. هناك تحديات تواجه القضاء، أبرزها ارتفاع الرسوم القضائية التي تشكل تعقيدات إدارية تعيق مسار الإصلاح، وتوقف سجلات الأحوال المدنية، ما يؤثر على أعمال المحاكم الشرعية، رغم استمرارها في تسجيل عقود الزواج والطلاق، وضعف التنسيق بين المؤسسات، والحاجة إلى إصلاحات تشمل تفعيل السجلات العقارية والأحوال المدنية”.

وفي جولة داخل أروقة المحاكم التي تعمل بوتيرة بطيئة، يوضح محام شاب فضل عدم ذكر اسمه لـ”العربي الجديد”: “العمل القضائي بطيء بعض الشيء، وهذا طبيعي في ظل مرحلة ما زالت البلاد فيها تعمل للخروج من أزمة تشريعية، ومن التسلط الأمني للنظام السابق. نحاول تطبيق القانون من دون تدخلات من أية جهات تنفيذية، والحقيقة أن ذلك أصبح غير مستحيل، لكن يجب إعادة تأهيل السلك القضائي، فمن غير المعقول أن يبقى من كان في صف النظام، والذين نفذوا أوامر الأجهزة الأمنية في السلك القضائي. شخصياً لا أقبل ببقاء أي شخص أصدر حكماً بإيعاز من النظام السابق على رأس عمله”.

وتشير إحصاءات لوزارة العدل إلى أن محاكم العاصمة دمشق تُعالج نحو 20 دعوى يومياً، وجلها قضايا فصل نزاع أو جنح بسيطة، فيما كانت في أواخر حكم النظام السابق تعالج نحو ضعف هذا الرقم يومياً، بينما كان متوسط عدد القضايا التي يتم علاجها قبل 2011، يقترب من 100 يومياً، ويرجع هذا التراجع الكبير إلى عوامل عدة، من بينها هروب عدد كبير من  الكوادر القضائية التي شاركت النظام السابق فساده، وأيضاً تعطّل آليات العمل بسبب الحرب، بينما يتراكم نحو مليوني قضية معلقة منذ عهد النظام السابق. 

داخل قاعة المحكمة الجزائية، تقول المحامية لينا أبو حمدان لـ”العربي الجديد”: “معظم القضايا اليوم بسيطة، مثل السرقات، والعنف الأسري، والنزاعات على أملاك، أما القضايا السياسية وقضايا الفساد الكبرى، فما زالت مؤجّلة بانتظار التشريعات الجديدة. من القضايا المؤجلة محاكمة ضباط ومسؤولي نظام الأسد الذين شاركوا في سفك الدم السوري”.

ويتفق مصدر قضائي فضل عدم الكشف عن هويته مع كلام المحامية أبو حمدان، ويؤكد لـ”العربي الجديد”، أن “القضايا الكبرى مؤجلة لعدة أسباب أهمها هروب الجناة أو اختفاؤهم عن الأنظار، ويعطي مثالاً على ذلك؛ باللواء علي مملوك رئيس مكتب الأمن القومي السابق، ووفيق الناصر ولؤي العلي اللذين شغلا منصب رئيس فرع الأمن العسكري في المنطقة الجنوبية، وثلاثتهم متورطون في جرائم ضد الشعب السوري. رغم صدور مذكرات اعتقال بحقهم، ترفض الدول التي لجأوا إليها تسليمهم، وهذا يعطل مسار العدالة”.

في عام 2018، كشف تسريب لوثائق من محكمة الإرهاب عن توجيهات مباشرة من المخابرات إلى القضاة حول توجيه التهم للمعتقلين السياسيين. أما اليوم، فلم يعد هناك أجهزة أمنية كي تتدخل. يقول أحد المحامين الذين عملوا في سلك القضاء خلال فترة حكم بشار الأسد، لـ”العربي الجديد”: “كانت الرشوة تُدفع للقاضي عبر وسطاء معروفين، وتقدم العمولات لموظفي المحكمة لتسريع إجراءات ملفّات المتنازعين. أحد الأمثلة على ذلك قضية عائلة الحسيني، والتي حصلت على حكم باستعادة عقارٍ مصادَر في عام 2015، لكن لم تُنفذه إدارة السجل العقاري إلا بعد دفع مصاريف غير رسمية بلغت 500 دولار. الأمر أصبح مختلفاً جذرياً، فلم يعد يجرؤ أحد على فعل ذلك، وهذا جيد إن استمر، فالقضاء على الرشوة ضرورة لضبط سير القضاء”.

ومن أبرز الإشكاليات التي تواجه القضاء حالياً التعامل مع قضاة النظام السابقين، خاصةً من كانوا يُلقّبون بـ”الشبيحة” لارتباطهم الوثيق بالأجهزة الأمنية القمعية، وتشير التقارير إلى أن 40% من قضاة النظام فروا إلى دول أجنبية، من بينها روسيا وإيران، بينما بقي نحو 60% في مناصبهم.

ويقول المحامي إياد أبو حمدان لـ”العربي الجديد”: “هناك ملفات عديدة تثبت تورط عشرات القضاة في تزوير أحكام قضائية لصالح النظام، لكن محاسبتهم تتطلب وقتاً، وبعضهم سيُحاكم، والبعض الآخر سيحاول استخدام علاقاته القديمة للضغط على المسؤولين الجدد، أما بالنسبة للمحامين الموالين للنظام السابق، فقد ألغت نقابة المحامين تراخيص 70 محامياً ثبت تورطهم في تزوير مستندات، لكن بعضهم لا يزالون يمارسون المهنة عبر مكاتب وهمية. النقابة نفسها كانت تُدار سابقاً من أعضاء في حزب البعث، بينما تسعى الآن إلى تطهير سجلاتها عبر لجان قضائية”.

وتنتشر في أوساط السوريين شائعات حول منع المحاميات من الترافع عن موكلين ذكور في المحاكم الشرعية، والعكس، للتحقق من ذلك، في حين أكد عدد من المحامين الذين يترافعون في قضايا الأحوال الشخصية أن القانون لا يمنع ذلك، لكن أحياناً تفرض العادات الاجتماعية هذا الواقع، إذ يطلب بعض القضاة من المحاميات عدم الترافع في قضايا الطلاق أمام الرجال، ويتم الطلب بشكل غير معلن.

ونفى مصدر في وزارة العدل بشكل قاطع وجود أي قرار رسمي يقيّد عمل المحامين حسب الجنس، مؤكداً لـ”العربي الجديد” أن “المحاكم الشرعية تعمل وفق القانون، ومن دون تمييز”.

ورغم إعلان خطط إصلاح طموحة، مثل مشروع الدستور الجديد الذي يُناقش فصل السلطات، تواجه الحكومة الانتقالية عراقيل كبيرة، أحدها تعطّل إقرار قانون “المصادرة والاسترداد” الذي يُفترض أن يُنظم استعادة أملاك المُهجرين قسراً.

ومن الناحية العملية، تعاني المحاكم مشكلات بنيوية، مثل عدم توفر أنظمة رقمية لإدارة الملفات، إذ لا تزال المحاكم تعتمد على الأرشفة الورقية.

رغم هذا المشهد المعقد، هناك إرادة دولية لدعم الإصلاحات عبر برامج تدريب للقضاة، مثل مبادرة الاتحاد الأوروبي “دعم القضاء السوري”، بينما تُحذر منظمات حقوقية من أن “الفوضى الحالية تُنتج فساداً جديداً”، ويلخص أحد القضاة الوضع قائلاً: “نحاول إصلاح ما يمكن إصلاحه، لكن جذور المشكلة أعمق من أن تُحل بين عشية وضحاها. تحتاج العدالة إلى وقت، والشعب السوري تعود على الانتظار”.

العربي الجديد،

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى