الناسسقوط بشار الأسد، الرئيس الفار والمخلوع

المدينة: الكائن الاقتصادي الحي/ مصطفى سيد عيسى

2025.04.22

بعد تخرجي في كلية الهندسة المدنية بسنوات، أجريتُ عددًا من مقابلات العمل للانتقال إلى بيئة عملٍ جديدة. وفي إحدى المرّات قابلت المديرة الإقليمية لشركة استشارية هندسية، وتبادلنا الحديث حول عدد من الجوانب المهنية، وكان من بين ما تحدّثنا به موضوعٌ فتحَ أمامي أفقًا لم أكن قد فكّرت فيه من قبل في مساري المهني. أخبرتها أنني أسكن مؤقّتاً في مدينة قريبة من العاصمة استوكهولم. فأجابت أن المدينة التي ذكرتُها لم تَعد تُعَدُّ مدينةً بالمعنى الحضري الحديث، بل منطقة سكنية بين مدينتين، وأضافت أنّها من أقلّ المناطق جذباً للسكان في السويد. 

رأت في عيني اهتماماً واضحاً فاستفاضت في الشرح. قالت إنّها تعمل على تقريرٍ حكومي لجاذبية المدن السويدية للعمل والاستثمار، وكيف أنّ لكل مدينة وظيفة اقتصادية معيّنة تُعزَّز بالتخطيط الحضري والسياسات الحكومية والتسهيلات الإجرائية حتى تبقى لأطول فترة ممكنة محرّكاً للاستثمار والاقتصاد في السويد. 

حين نسمع مصطلح “إعادة الإعمار” أو “التخطيط الحضري” وغيره من المصطلحات المتعلّقة بإعادة تأهيل المدن، غالبًا ما تتجه مخيّلتنا إلى مشاهد الإسمنت والجرافات. ولكنّ المساكن وحدها لا تضمن الحياة في المدينة ولا تضمن دورة اقتصادية فعّالة ومستدامة. ولهذا وجب علينا تحديث هذه المفاهيم في أفهامنا وربطها بتصوّر أوسع يساعد على خلق كائن اقتصادي حي في كل مدينة، لا تكون طوبةً صامتة تُبنى اليوم لتعرقل حركة اقتصادية مستقبلية. 

في زيارتي لإحدى الدول كُنتُ مهتمّاً بإيجاد سكنٍ مؤقّت فاطّلعت على عدد من البيوت والشقق. كان مظهرها من الخارج لافتاً جداً، وكُنتُ أقرأ عن مساحتها الواسعة وأسقفها المرتفعة، ولكن سُرعان ما دخلتُ البيت لأرى تقسيماته وشعرتُ بضيق غريب وعدم ارتياح لتفاصيله. ممرّات طويلة من دون إضاءة طبيعية، كالدهاليز لا تنقلك على نحوٍ مريح للغرف التي ترغب في الوصول إليها. كان بيتاً كبيراً وواسعاً وجديداً ومبنياً على نحوٍ حديث، ولكنّه كان ضيقاً وخانقاً. هذا بالضبط ما قد يحدث في سوريا إن لم نهتم بهندسية المدينة بشكلٍ يحتضن الحياة ويُنمّي الاقتصاد. 

نعيش الآن لحظة مفصلية. فسوريا التي تتأهب لمرحلة إعادة الإعمار، لا تملك ترف الخطأ. وعملية إعادة الإعمار لا يجب أن تكون قراراً للمهندسين أو المقاولين فقط ولكن لخليطٍ شاملٍ من المعماريين والمهندسين والمستثمرين والاقتصاديين وغيرهم من الخبراء. 

هناك عددٌ من الأسئلة التي يجب أن تُطرح قبل الانهماك في إعادة البناء. ما هي الرؤية الوطنية لسوريا المستقبل؟ وما هي انعكاسات هذه الرؤية التفصيلية على الأقاليم والمحافظات والمدن؟ ما هي الوظيفة الاقتصادية التي ستُنمّى في المدينة الفلانية؟ وما هي المميزات التنافسية لكل منطقة؟ هذه ليست تساؤلات نظرية، بل مفاتيح لمستقبل سوريا، تتوقف عليها تحولات حقيقية في التنمية والاستقرار.

التموضع الاقتصادي للمدن

عندما نقول إنّنا نريد للمدن السورية أن تكون محرّكاً للاقتصاد وأن تكون كل مدينة كائناً اقتصادياً حياً فيجب علينا التعريف بمفهوم تخطيطي مهم ألا وهو “التموضع الاقتصادي للمدن” والذي يُعرف بالإنجليزية بـ (Urban Economic Positioning) يبحث هذا المصطلح عن وظيفة المدينة وما تُقدّمه للرؤية الوطنية وما يميّزها عن غيرها من المدن.

وتنعكس الإجابة عن هذه التساؤلات في عناصر عديدة كتوزيع الطرق والشوارع، وتموضع المؤسسات والشركات والمناطق السكنية وكذلك تنظيم الأسواق والبنية التحتية والخدمات التي يجب أن تكون في تلك المدينة حتى تستطيع القيام بوظيفتها على نحوٍ صحيح. فكيف لمدينة زراعية أن تغيب فيها الأسواق الزراعية أو المهرجانات الزراعية أو حتى المعاهد والمختبرات العلمية التي تبحث في تطوير المنتجات الزراعية؟ وكيف لمدينة صناعية أن تغيب فيها الشبكات اللوجستية أو الكليات الهندسية الصناعية أو المشاغل التي تصلّح الآلات وتطوّرها؟ 

خذ مثلًا مدينة حسياء الصناعية قرب حمص. رغم موقعها المتوسط بين حمص ودمشق وتوفر بنية تحتية جزئية، إلّا أنّه لم يُستكمل ربطها بالأسواق والمرافئ والمناطق الصناعية الأخرى فعليا. هذا وقد بقيت معزولة عن مدينة حمص، دون شبكة خدمات حضرية أو لوجستية متكاملة تُشجّع اليد العاملة على العيش فيها أو بالقرب منها. ولهذا كانت النتيجة ضعفاً في الإنتاجية، وتباطؤاً في دوران رأس المال، رغم الاستثمارات الكبيرة التي ضُخت فيها. 

أمّا بالنسبة للجانب الزراعي فيُمكننا أن ننظر لمدينة السلمية في ريف حماة التي تملك من المقومات ما تفتقر إليه مدن سورية أخرى كأرضٍ زراعية خصبة وموقع جغرافي استراتيجي يربط البادية بالساحل وتُراث زراعي عريق يُأهّلها لأن تكون محرّكاً اقتصادياً مهمّا في الجانب الزراعي. ومع كل هذه المقومات، لا تزال المدينة غائبة عن مشهد التنمية. فلم يُركَّز عليها لتكون محرّكاً تنموياً أساسياً يجد المزارع فيها سوقاً أوسع من السوق المحلي لبيع منتجاته ومصانع تحويلية تعينه على تنويع منتجاته الزراعية والمشاركة في التنافس الإقليمي عبر شبكة لوجستية توصل بضائعه لمناطق مختلفة في سوريا وخارجها. وهذا يصبح ممكنًا فقط عندما نضع مدينة السلمية على الخريطة الاقتصادية لسوريا، وندمجها في الرؤية الوطنية للتخطيط الحضري في سوريا.

ولكن وجبت الإشارة إلى أنّ التخطيط الاستراتيجي للمدن (Strategic Urban Planning) لا يهتم فقط بـ أين نبني؟ بل لماذا نبني، ولمن؟ ما الميزة التنافسية التي تملكها المدينة؟ ما نمط المهارات المتوافرة بين سكانها؟ هل فيها جامعات؟ هذه الأسئلة لا تُسأل بعد البناء، بل قبله.

هناك أمثلة كثيرة لمدنٍ ومناطق سورية وجب الوقوف عندها وإعادة النّظر في تخطيطها والاستفادة منها. تُمثّل دير الزور مثلًا، عقدة جغرافية على طريق التجارة مع العراق، يمكن أن تصبح محورًا اقتصاديًا حيويًا إذا ما أُعيد تنظيم حدودها، وتوفير المنافذ التجارية، وبناء بنى تحتية ذكية. أما بعض المدن الساحلية كبانياس وجبلة وما حولها، التي تجتمع فيها الأرض الزراعية والميناء، فيمكن أن تكون نموذجًا لمركز غذائي وتصديري متكامل. كل ذلك يحتاج إلى تخطيط استراتيجي واعٍ.

الفوضى العمرانية، حين تنتج، لا تكون فقط مشهدًا بصريًا مشوهًا، بل عبئًا اقتصاديًا متراكمًا. المدن التي تُبنى دون رؤية اقتصادية تتحول إلى مناطق سكنية هامدة، تستنزف الدولة بالخدمات ولا تقدّم لها شيئاً في المقابل. أما المدن التي تُبنى بناءً على تموضعها ووظيفتها، فتتحول إلى مراكز جذب واستثمار وتنمية.

ما نحتاجه اليوم في سوريا ليس فقط إعادة إعمار، بل إعادة تعريف لمدننا السورية الحبيبة. يجب أن ننظر لكل مدينة وكأنّها مشروع مستقل، له دراسة جدوى وخطة تشغيل ورؤية طويلة المدى. لا يكفي أن نعيد بناء ما تهدّم، بل أن تكون عندنا الجرأة أن نسأل: هل بُنيت أصلًا على أسسٍ صحيحة تخدم سكانها؟ وهل ما نريد بناءَه الآن سيخلق حياة اقتصادية فيها أم سيكون كتلاً خرسانية فقط؟

لا نريد أن نرى المدن السورية بعد سنوات من الإعمار مدناً يُهاجر النّاس منها لانعدام الحياة الاقتصادية فيها بل مدناً يُهاجر النّاس إليها للاستفادة من الحلول الذكية وسلاسة الحياة فيها. لأنّ المدينة في النهاية إمّا أن تكون كائناً اقتصادياً حياً وإما منطقة سكنية ميّتة. 

الصمود والاستدامة – ما المقصود بهذا؟

ويقودنا ذلك إلى مفهوم جديد يستحق التعمق والفهم، ويجب أن نأخذه بعين الاعتبار في رحلتنا نحو سوريا المستقبل. كيف نخطط لمدنٍ تُقاوم المتغيرات المستقبلة بأشكالها وأنواعها؟ وكيف تكون الحياة فيها مستدامة ولأطول فترة ممكنة؟ هذا ما سنعرّج عليه في المقال القادم بإذن الله. 

تلفزيون سوريا

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى