القمح السوري في سنوات الثورة: عندما عبث النظام بخبز السوريين/ نور ملحم

22 ابريل 2025
يختلف المؤرّخون والأنثروبولوجيون على أشياء كثيرة في تاريخ العالم، لكنهم يتفقون جميعاً، على أن زراعة القمح بدأت من سورية. وأن تدجين هذا النبات العشبي البري، جرى أول مرة قبل 12 ألف عام في منطقة ما في شرق سورية أو غرب العراق (بحسب الخرائط الحالية)، وأن ذلك واحدٌ من أهم التحولات التي جرت على النوع البشري، إذ حوّلته من صياد ملتقط، إلى فلاح مستقر.
دفع ذلك الاكتشاف إلى تغيير نمط حياة الإنسان بالكامل، والانخراط في مجتمعات بشرية أوسع وأكثر تعقيداً، وأن تلك اللحظة التي قدمتها سورية للبشرية، هي نقطة التحول الأساسية في مسار الحضارة. منذ ذلك الوقت، حافظت سورية على مكانها بوصفها أعرق منتج للقمح وأهمّه، ولم تتخلَّ عن ذلك الدور حتى في أحلك حقب التاريخ. ودائماً كانت تنتج خبزها بنفسها، وفي أغلب الفترات كانت تطعم منه الآخرين أيضاً. وما كان لشيء أن يفقدها هذه الميزة، سوى نظام بشّار الأسد، الذي حولها إلى بلد يستورد خبزه، بل يفعل ذلك بشروط مجحفة، وسط أجواء من الفساد والتلاعب والاستغلال.
رحلة استيراد القمح
مع مطلع العام 2012، بدأت سورية رحلتها في استيراد القمح من دول البحر الأسود، (روسيا ورومانيا وأوكرانيا والقرم)، بعد أن كانت عبر التاريخ من الدول الرائدة في إنتاج القمح وتصديره… ووفقاً لتصريح رئيس شركة “إيكار” للاستشارات الزراعية (إحدى الشركات المصدرة للقمح الروسي إلى سورية)، دمتري ريلكو، لوكالة تاس الروسية، تحتل سورية اليوم المرتبة الـ 24 بين مستوردي القمح الروسي باستهلاك سنوي يبلغ مليوني طن، ويعود هذا التحول إلى انخفاض إنتاج القمح محلياً إلى أقل من مليون طن سنوياً، بعدما كان يصل إلى أكثر من ثلاثة ملايين طن قبل عام 2011.
بدأت حكومة النظام السابق منذ 2017 اعتماد عقود حصرية مع روسيا لتأمين القمح. وبحسب وزير التجارة الداخلية وحماية المستهلك (في حكومة النظام السابق)، عبد الله الغربي، جرى توقيع اتفاقية لاستيراد ثلاثة ملايين طن من القمح الروسي على مدى ثلاث سنوات (2017- 2018-2019)، بقيمة تبلغ نحو 494.25 مليون يورو، مع تسهيلات دفع تمتد ثماني سنوات. يبلغ سعر طن القمح حوالي 164.75 يورو، ما يعادل 99 ليرة سورية للكيلوغرام (بسعر صرف 600 ليرة سورية لليورو).
سلة الخبز الإقليمية
يعد القمح من المحاصيل الاستراتيجية الرئيسية في سورية، وكان متوسط إنتاجها قبل الحرب أربعة ملايين طن، ووصلت في بعض السنوات إلى ما يقرب 5 ملايين طن. كان يستهلك منها 2.5 مليون طن محلياً، فيما يصدر الفائض، كانت سورية تُعرف بأنها “سلة الخبز الإقليمية”، بفضل إنتاج وفير من الحبوب تجاوز الاحتياجات المحلية، ووفقاً لإحصاءات وزارة الزراعة، حافظت البلاد على مساحة مزروعة بالقمح بلغت نحو 1.6 مليون هكتار، 43% منها أراضٍ مروية و57% بعلية تعتمد على الأمطار. خلال تلك الفترة (1990-2011)، بلغ متوسط إنتاج القمح نحو أربعة ملايين طن سنوياً، وبلغ ذروته عام 2006 بإنتاج 4.9 ملايين طن.
اتبعت الحكومة آنذاك سياسة شراء جميع المحاصيل من المزارعين، حيث كانت تتسلّم 2.5 مليون طن سنوياً لتموين الأفران والاحتفاظ بمخزون استراتيجي يكفي لعامين، فيما كانت تصدّر نحو 1.5 مليون طن لدول مثل مصر واليمن والأردن.
بداية التراجع
وفقاً للمهندس الزراعي محمد رامز خضر (موظف سابق في مديرية زراعة دمشق)، بدأ إنتاج القمح بالتراجع في السنوات الثلاث التي سبقت الثورة السورية عام 2011. وأرجع ذلك إلى ارتفاع تكاليف الإنتاج نتيجة زيادة أسعار الوقود والأسمدة، فضلاً عن تأثير الجفاف الذي ضرب مناطق واسعة، وأدّى إلى هجرة آلاف الفلاحين من منطقة الجزيرة السورية، التي تنتج أكثر من 70% من الإنتاج الوطني. لافتاً أنه، في عام 2008، ظهرت مؤشّرات أولية للتراجع عندما بدأت سورية استيراد القمح لأول مرة، مع استقبالها 1.2 مليون طن من بلغاريا عام 2009. وتراجعت الكميات المسلّمة من المزارعين إلى 2.4 مليون طن في 2010 مقارنة بـ2.8 مليون طن في العام 2009. وأفاد الخبير الزراعي بأن تزايد الاعتماد على الاستيراد مع بداية عام 2011، مع تفاقم الصراع، أصبح استيراد القمح ضرورة مُلحّة، حيث تركزت الزراعة في المناطق الخاضعة لسيطرة النظام، بحوالي 700 ألف طن من المحصول الإجمالي، أما المحافظات الشرقية الرئيسية “الحسكة، الرقة، دير الزور” فقد خرجت عن السيطرة، وأصبحت تحت سيطرة قوات سوريا الديمقراطية، المدعومة من واشنطن، وهي التي تنتج حوالي 70% من إجمالي الإنتاج. الأمر الذي دفع الحكومة السورية منذ عام 2011 إلى استيراد احتياجها من القمح عبر شركات وسيطة من أجل التحايل على العقوبات الاقتصادية التي فرضت على سورية منذ ذلك التاريخ، وكانت الحكومة السورية تستورد القمح من معظم دول البحر الأسود ومن خلال مناقصات للحصول على أدنى سعر، ولكن في عام 2017 تم حصر الاستيراد من روسيا فقط.
ووفقاً لبيانات “بيزنس إنسايدر”، بلغ سعر القمح في بورصة شيكاغو 228.13 دولاراً للطن في 2024، بينما بلغ سعر القمح الروسي المصدّر إلى سورية 345 دولاراً للطن في العام نفسه، بحسب تصريحات الرئيس التنفيذي لشركة “سي تي غي إينجينيرينغ” الروسية، دميتري تريفونوف. ويمثّل هذا السعر زيادة قدرها مائة دولار مقارنة بسعر القمح الروسي المصدّر إلى مصر، والذي يبلغ 245 دولاراً للطن وفقاً للشركة نفسها.
إحصاءات
وقال المدير العام السابق لمؤسسة الحبوب، يوسف قاسم لـ “سورية الجديدة” إن النزاع تسبب في أضرار جسيمة للبنية التحتية، إلى جانب تفاقم الأزمة الاقتصادية، الفساد، الانقسامات الإقليمية، النزوح الجماعي، كما ساهمت الظروف الجوية السيئة والحرائق في انخفاض إنتاج القمح بنسبة تجاوزت النصف تقريباً. ووفقاً لإحصائيات وزارة الزراعة، بلغت مساحة الأراضي السليخ المزروعة فعلاً خلال الموسم الزراعي 2023 ــ 2024 نحو 3,134,469 هكتاراً، منها 1,276,409 هكتار مخصصة لزراعة القمح، أي ما يعادل 40.7% من إجمالي الأراضي المزروعة. وتصدرت محافظة الحسكة قائمة المناطق المزروعة بالقمح بنسبة 36.7% من إجمالي المساحات، تلتها محافظة الرقة بـ16.8%، ثم محافظة حلب بنسبة 14.4%.
شهدت المساحات المزروعة بالقمح انخفاضاً بنسبة 33% بين عامي 2005 و2024. ففي عام 2005، بلغت المساحة المزروعة 1,904 ألف هكتار، بينما تقلصت إلى 1,276 ألف هكتار في عام 2024. كما تناقصت الكميات المسوقة إلى كل من المؤسسة السورية للحبوب ومؤسسة إكثار البذار من 70% في عام 2005 إلى 35% في الموسم الزراعي الماضي.
حصر العقود مع الشركات الروسية
وقال القاسم إن الحكومة السورية اعتمدت منذ عام 2017 على استيراد القمح من روسيا بشكل حصري، بكميات راوحت بين 1.2 و1.5 مليون طن سنوياً. وقد أدّى حصر العقود على الشركات الروسية إلى استغلال الوضع، حيث بيع القمح بأسعار أعلى من السوق العالمية.
وفي عام 2018، أعلنت المؤسسة العامة لتجارة وتصنيع الحبوب التابعة لحكومة الأسد أولَ عقد استيراد مائتي ألف طن من القمح الروسي بسعر 224 دولاراً للطن الواحد، وهو سعر يزيد بنحو 31 دولاراً عن السعر العالمي آنذاك. في المقابل بلغ سعر القمح الروسي المصدر إلى مصر 215 دولاراً للطن الواحد، وفقاً لوزارة التموين والتجارة الداخلية المصرية، ما يظهر تفاوتاً واضحاً في الأسعار. وأمّا ما يخص الخسائر الاقتصادية الكبيرة في عام 2023، فقد استوردت سورية نحو 1.4 مليون طن من القمح الروسي. ووفقاً لتقدير السعر الوسطي للطن بـ250 دولاراً، بلغ إجمالي تكلفة العقد نحو 350 مليون دولار. هذا الرقم يُعتبر ضخماً مقارنة بميزانية سورية المبدئية لعام 2024، التي تقدر بنحو 2.5 مليار دولار (وفق سعر الصرف في السوق السوداء).
وبحسب الخبير الزراعي المهندس محمد رامز الخضر، فإن السياسات التي كانت متبعة من قبل النظام السابق أسهمت في تقليص زراعة القمح المحلي، دعماً لمصالح أقلية من التجار المرتبطين بالنظام، فضلاً عن المكاسب التي تحققها روسيا شريكاً رئيسياً في هذه العقود، ما يعزز العلاقة التحالفيّة بين الطرفين. وفي المقابل كشف، المدير العام السابق لمؤسسة الحبوب، أن روسيا فرضت شروطاً مشددة على القروض التي قدمتها للحكومة السورية في عام 2020، حيث اشترطت استخدام هذه القروض حصرياً لاستيراد مواد ذات منشأ روسي عبر شركات محددة. تضمنت هذه الاتفاقيات استيراد مليون طن من القمح بأسعار تفوق السوق العالمية، في ظل معاناة النظام من نقص الإيرادات ومحدودية وصوله إلى العملات الأجنبية، مما عزز نفوذ روسيا في تجارة القمح في سورية.
أسعار أعلى من السوق الدولية
عرضت شركة OZK الروسية، في إبريل/ نيسان 2021، القمح على الجانب السوري بسعر 355 دولاراً للطن، رغم اتفاق سابق على سعر 340 دولاراً، وبعد التفاوض، تم الاتفاق على 350 دولاراً للطن، بينما كانت أسعار القمح العالمية لا تتجاوز 257 دولاراً للطن في الشهر نفسه. وفي أكتوبر/ تشرين الأول من العام نفسه، قدّمت شركة STG Engineering عرضاً بسعر 319 دولاراً للطن، في وقت لم يكن فيه سعر السوق العالمي يتخطى 283 دولاراً، وفي ديسمبر/ كانون الأول، عرضت “OZK” القمح بسعر 317 دولاراً للطن، بينما بلغ سعر السوق الدولي أقل من 290 دولاراً في تلك الفترة.
حيث تتم توريدات القمح الروسي إلى سورية بشكل رئيسي عبر شركتي STG Engineering وشركة المتحدة للحبوب، التي كان مقرها بريف دمشق، برئاسة رجل الأعمال فراس بدرا حتى عام 2017. (بحسب مدير عام سابق في وزارة الزراعة). في المقابل، تواصل شركة STG Engineering تصدير القمح إلى سورية منذ ثلاث سنوات، (وتعود ملكية الشركة إلى جينادي تيمشينكو، الملياردير والصديق الشخصي لبوتين). وأضاف تريفونوف أن الشركة لديها ديون على الحكومة السورية بقيمة 116 مليون دولار، ورغم أن أسعارها تزيد “قليلاً” عن السوق، قدّمت تسهيلات دفع مريحة من دون طلب ضمانات مسبقة، وبلغ سعر طن القمح الذي تبيعه الشركة لسورية 345 دولاراً، وهو ما وصفه بأنه يتناسب مع طبيعة الاتفاقيات المعقودة.
ووفقاً لتفاصيل القروض الروسية، كان من المُتوقع أن يتم سدادها على مدى عشر سنوات بأقساط نصف سنوية، مع أسعار فائدة تبدأ من 1.5% في السنة الأولى وتصل إلى 8% بحلول عام 2033. وعن فروق في الأسعار والتساؤلات المطروحة علق وزير الزراعة الأسبق نور الدين منى على الأسعار المرتفعة للقمح الروسي، وقال لـ “سورية الجديدة” إن سعر الطن في السوق العالمية راوح بين 220 و240 دولاراً في 2021، بحسب نوع القمح ومصدره. واستنكر منى الفارق الذي يتجاوز 40 دولاراً للطن، متسائلاً: “كيف دفعت سورية هذا المبلغ؟ أين يذهب الفرق؟!”.
لجنة القمح ودورها في عقود الاستيراد
استمرّت سورية في شراء القمح الروسي بأسعار تفوق السوق العالمية، حيث راوح الفرق في السعر بين 40 و100 دولار للطن، وأكّد مصدر (كان ضمن فريق حكومة حسين عرنوس)، فضل عدم الكشف عن اسمه، أن لجنة القمح التابعة للقصر الجمهوري هي المسؤولة عن قرارات الاستيراد والتصدير، وتتألف من وزير شؤون رئاسة الجمهورية منصور عزام، ووزير المالية كنان ياغي، ووزير الاقتصاد سامر خليل، وحاكم مصرف سورية المركزي عصام هزيم. وقال المصدر لـ “سورية الجديدة” إن العقود تُنفذ غالباً عبر السفير السوري لدى روسيا، رياض حداد الذي يوقع الاتفاقيات. وأوضح المصدر المسؤول أن الوضع المالي المتعلق باستيراد القمح في سورية كان في غاية التعقيد، نظراً إلى عدم توفر العملة الأجنبية، ما يضطر الحكومة إلى قبول الأسعار والشروط المرتفعة، وأضاف أن العقوبات الاقتصادية تزيد من تكاليف النقل وتحد من قدرة سورية على إيجاد شركاء تجاريين دوليين، وفي ظل هذه الظروف، اقترحت الحكومة السورية توقيع خط ائتمان بقيمة ثلاثة مليارات دولار لاستيراد القمح، إلا أن الكرملين الروسي رفض ذلك نتيجة الحرب الأوكرانية.
استيراد القمح أسهل قبل حصره بدولة
وقال المدير السابق لمؤسسة الحبوب، يوسف قاسم، إن استيراد القمح كان أسهل وأبسط قبل حصره بدولة واحدة، موضحاً أن سورية كانت تستورد القمح من مختلف دول البحر الأسود بأسعار قريبة من السوق العالمية، مع زيادة تراوح بين دولارين إلى عشرة دولارات للطن. وأفاد القاسم بأن الاستيراد كان يتم عبر شركات وساطة خاصة، معظمها في لبنان والإمارات، يتم الاستعانة بها للالتفاف على العقوبات الاقتصادية، ويرى القاسم أن قرار حصر الاستيراد من روسيا فقط فتح الباب أمام استغلال الشركات الروسية، حيث بدأت تبيع القمح بأسعار أعلى بكثير من السوق العالمية. وأضاف أن روسيا، التي قدمت القروض للحكومة السورية، اشترطت استخدام أموال القروض حصرياً للدفع لشركات روسية محدّدة بالتعاون مع لجنة القمح التابعة للقصر الجمهوري، التي يرأسها وزير شؤون رئاسة الجمهورية منصور عزّام. ومع انخفاض الإيرادات والعملة الأجنبية نتيجة الصراع، وجدت الحكومة نفسها مضطرة إلى قبول شروط تمويل مجحفة لتأمين السلع الأساسية مثل القمح.
وبحسب المسؤول السابق، تمت صفقات بأسعار مرتفعة في عام 2022، إذ أبرمت سورية عقدين لاستيراد القمح مع شركتين روسيتين بكمية إجمالية بلغت 1.4 مليون طن، مع زيادة تصل إلى 25% عن الأسعار العالمية، وبلغ سعر الطن 350 دولاراً مقابل 250 دولاراً في السوق الدولية، وفي عام 2024، تم توقيع عقدين آخرين مع الشركتين نفسيهما بكمية إجمالية 700 ألف طن، نُفذ منها 500 ألف طن فقط، بالأسعار المرتفعة نفسها بحجة التسديد الآجل وقد بلغ إجمالي العقود مليوني طن ومائة ألف وتم تنفيذها بواسطة رئيس لجنة القمح في القصر الجمهوري.
تحدّي العقوبات
أظهرت بيانات منصة Refinitiv Eikon، التي توفر وصولاً غير محدود إلى الإحصائيات المالية وأسواق الشحن، أن سورية وروسيا اعتمدتا بشكل متزايد على سفنهما الخاصة لنقل القمح، بما في ذلك ثلاث سفن سورية مشمولة بالعقوبات الأميركية، تأتي هذه الخطوة في ظل العقوبات المفروضة على البلدين، التي صعّبت التجارة عبر طرق النقل البحرية المعتادة، وأعاقت الحصول على تأمين ملاحي. حيث شهدت كميات القمح المرسلة إلى سورية من ميناء سيفاستوبول في القرم المطل على البحر الأسود ارتفاعاً كبيراً في عام 2022 مقارنة بعام 2021، إذ زادت بمقدار 17 ضعفاً مقارنة بالسنوات السابقة، لتصل إلى 1,4 مليون طن. وتمثل هذه الكمية حوالي ثلث إجمالي واردات سورية من القمح. وتولت عمليات استيراد القمح شركات روسية مثل “سوليد1” و”سيستوس”، بالإضافة إلى شركات روسية – سورية أخرى، ما يعكس التعاون المتزايد بين البلدين في ظل التحديات الاقتصادية والسياسية المفروضة عليهما.
وأكد الخبير الاقتصادي والمدرس في جامعة قاسيون بدمشق، عمر الجندي، أن روسيا تسيطر بشكل كبير على سوق تصدير القمح العالمي. وقال لـ”سورية الجديدة” إن السوق السورية أصبحت وجهة جديدة للقمح الروسي، ما وفّر للشركات الروسية فرصاً استثمارية مميزة ومربحة. وأوضح الجندي أن استيراد القمح من روسيا يواجه تحدّيات عدة، منها مشكلات التحويل البنكي وصعوبة تأمين النقل عبر البحر الأسود. ورغم ذلك، استغلت روسيا حاجة سورية الماسة إلى القمح ورفعت أسعاره بشكل كبير. وبيّن أن تكلفة استيراد مليون ونصف مليون طن من القمح الروسي زادت بأكثر من 150 مليون دولار، وهو مبلغ كان يمكن استخدامه لاستيراد كميات إضافية من السوق العالمية تصل إلى 580 ألف طن، لولا سياسة حصر الاستيراد من روسيا التي اتبعتها الحكومة السورية لتسديد ديونها المستحقة لروسيا جرّاء الحرب.
تدمير الزراعة المحلية وسورية دولة مستوردة
وأفاد الجندي بأن السياسات الاقتصادية المتبعة في ظل نظام الأسد ساهمت في تدمير قطاع الزراعة ورفع الدعم عن الفلاحين، مما أدى إلى تقليص الإنتاج المحلي من القمح بشكل حاد. وفي عام 2019، نُقل ملف القمح بالكامل إلى القصر الجمهوري، حيث استخدمت روسيا صادرات القمح لتحقيق ثلاثة أهداف رئيسية: الحصول على النقد الأجنبي، من خلال الدفع النقدي ثم رفع الأسعار تدريجياً بحجة التسديد الآجل. وتخفيف أعباء التسديد عبر المقايضة، بمبادلة القمح السوري القاسي بكميات من القمح الطري الضروري لصناعة الخبز. وتأمين احتياجات النظام السوري الغذائية، لضمان استمراره وتجنب المجاعات التي قد تستدعي تدخلاً دولياً يضر بمصالحها.
وقال الخبير الزراعي والمدرس في جامعة حلب، المهندس أكرم العبد الله، لـ”سورية الجديدة” إن الحرب أدخلت سورية في نفق مظلم لتأمين احتياجاتها من القمح، بعد خسارة المخزون الاستراتيجي وتحولها إلى دولة تعتمد بالكامل على استيراد القمح الروسي، وفقاً لإحصائيات وزارة الزراعة السورية. وأفاد بأن العقود والمناقصات غالباً ما تُمنح لشركات روسية بفضل التفضيلات السياسية والاقتصادية، مضيفاً أن القمح السوري القاسي، الذي يُعتبر من أفضل أنواع القمح عالمياً، كان يُباع إلى الدول الأوروبية بأسعار مرتفعة، بينما تستورد سورية القمح الطري المنخفض الجودة. ولفت العبد الله إلى وجود تلاعب في أرقام الإنتاج المحلي بهدف تبرير استيراد القمح الروسي، مؤكّداً أن المسؤولين يتجنبون التصريح بالكميات والأسعار. وتساءل عن مستقبل الأمن الغذائي في سورية وسط السياسات الاقتصادية والزراعية المتدهورة، محذّراً من استمرار العجز عن تحقيق الاكتفاء الذاتي.
فطر الأرغوت… سمٌ أكلناه مع الخبز الروسي
لم تقتصر الصفقات والعقود الموقعة لاستيراد القمح من روسيا على ارتفاع أسعارها المبالغ فيه، بل شملت أيضاً تجاوزات خطيرة للمعايير والمقاييس المعتمدة للاستخدام البشري، وفقاً لوثيقة صادرة عن مركز الأبحاث الحكومية السورية حصل عليها “سورية الجديدة”، وأوضحت أن رئاسة الحكومة السورية في عهد نظام بشّار الأسد خالفت القوانين والأنظمة في صفقات توريد القمح والطحين، بما في ذلك إلغاء شرط فحص المواد الغذائية بعد وصولها إلى البلاد قادمة من روسيا، في مخالفة واضحة لدفاتر الشروط المعتمدة، وتُظهر الوثيقة أن الهيئة المركزية للرقابة والتفتيش في محافظة الرقة أكّدت في 20 إبريل/ نيسان 2015، أن الجهات الرسمية استوردت قمحاً وطحيناً مصابَين بفطر الأرغوت السام عبر شركتَي الفوز وغرناطة. وتعود ملكية الأولى لرجل الأعمال سامر الفوز، المقرّب من نظام الأسد، والذي توسعت استثماراته في مجالات عدة مثل توريد القمح، وصناعة الأدوية، والقرى السياحية، وتجارة السكر. ويملك شركة غرناطة المساهم الكويتي رياض فرحان خليف شبيلي العنزي بنسبة 60%، فيما يملك اسكندر غنوم النسبة المتبقية.
بحسب التقرير، أدخل وزير الزراعة والإصلاح الزراعي (آنذاك) أحمد القادري، بعد موافقة رئيس مجلس الوزراء وائل الحلقي، شحنة قمح طري مصابة بفطر الأرغوت، بناءً على تحليل مخبر خاص، ليجري إرسالها إلى المطحنة مباشرة من دون المرور بمستودعات مؤسسة الحبوب أو شركة الصوامع، وهو ما أثار مخاوف صحية كبيرة.
وفي عام 2020، كرّرت الحكومة السورية هذه المخالفات عندما استورد يسار إبراهيم، مدير المكتب المالي والاقتصادي لرئاسة الجمهورية، شحنة من القمح الروسي المخالف للمواصفات المعتمدة للاستهلاك البشري. وبضغط من القصر الجمهوري، جرى الالتفاف على القوانين السورية، وتفريغ الشحنة في مطحنة خاصة بمحافظة طرطوس، بعد رفض المؤسسة العامة للحبوب استلامها، حسب المدير العام السابق.
حذر أستاذ العلوم البيئية والزراعة العضوية في جامعة دمشق محمد الأبرشي، من خطر دخول فطر الأرغوت إلى سورية، موضحاً أن هذا يسبّب أمراضاً خطيرة تصيب النباتات العشبية، خاصة عائلات القمح والشعير والذرة الرفيعة، وأفاد بأن فطر الأرغوت يصيب بين 5% و10% من الحبوب عالمياً، ما يدفع دولاً عديدة إلى منع تداول الحبوب التي تحتوي على أي نسبة منه، نظراً إلى تأثيراته السلبية الخطيرة على صحة الإنسان والحيوان والبيئة، وأكد أن سورية تُعدّ من الدول الخالية من هذا الفطر، مشدداً على أهمية اتخاذ تدابير مشددة لمنع دخوله إلى البلاد. وقال الأبرشي إن فطر الأرغوت يُعد شديد السُّمية على الإنسان، إذ يحوّل حبة القمح إلى جسم حجري بفعل مكونات الفطر، ما يؤدّي إلى تدمير الأنسجة العصبية، ويسبّب الشلل وضعف الدورة الدموية، ويمكن أن يُحدث غرغرينا في أصابع اليدين والقدمين.
وبالنسبة للحيوانات، يتسبّب الفطر بخسائر اقتصادية كبيرة. على سبيل المثال، يؤدّي تناول الدواجن أعلافاً مصابة بالأرغوت إلى مشكلات تنفسية حادة وإسهال شديد يفضي إلى الموت الجماعي، كما يسبّب إجهاضاً في الماشية، وانخفاضاً في إدرار اللبن، بالإضافة إلى إصابتها بالإسهال الشديد الذي قد يؤدّي إلى الوفاة.
العربي الجديد