“الدولة المصفّحة”.. الكارتيل العسكري بوصفه بنية فوق سيادية في سوريا ما بعد الأسد/ مالك الحافظ

أبريل 14, 2025
في الفكر السياسي المقارن، يُقاس التحول نحو الدولة الحديثة بإعادة بناء العلاقة بين القوة والشرعية، بين من يحتكر العنف ومن يمثّل المجتمع. هذه المعادلة التأسيسية تتعرّض في سوريا الجديدة حالياً، لانحراف يتجلى في تشكّل ما يمكن تسميته بـ”الكارتيل العسكري–السياسي”، وهو تكتل سلطوي مغلق لا نريد تكرار صفات منه كانت قد تشكلت في فترة استبداد نظام الأسد الابن وتوظيف أدوات الإجرام ضد الشعب السوري في ثورته. هذا التكتل الخطير يتلبّس مؤسسات الدولة، بينما يُعيد تشكيلها وفق منطق فوق وطني، لا يعترف بالحدود ولا بالمواطنة السياسية.
الكارتيل، كمفهوم مستعار من الاقتصاد السياسي، لا يشير هنا إلى تآلف مصالح مؤقت، بل إلى بنية موازية تُدمج فيها أدوات العنف، والمصلحة الفئوية، والهيمنة الأيديولوجية، في جهاز واحد يُدير السلطة لا من خلال مؤسسات الدولة، بل عبر شبكات الولاء والانتماء. في سوريا اليوم، تُمنح مفاصل القرار العسكري لعناصر أجنبية بشكل عبثي أو شخصيات مدعومة من الخارج بسبب الخضوع لتجاذبات المشاريع السياسية الإقليمية، وهذا الأمر لا يمكن اعتباره مجرد خلل ظرفي، بل هو تحوّل بنيوي من الدولة إلى التكتل، ومن السيادة إلى التمثيل الوظيفي.
الأمر لا يتعلّق فقط بانتهاك مبدأ الاحتراف العسكري، أو بإقحام مقاتلين أجانب في مؤسسة يُفترض أن تمثّل الإرادة الوطنية، بل بانتقال جوهري في تمثّل السلطة لنفسها. فالجيش في هكذا صيغة لا يُبنى على عقيدة وطنية، ولا على أساس وظيفي يرتبط بحماية الدولة، بل هو مُصمَّم ليحمي منطق السيطرة لا منطق العقد، وهو بذلك يُشبه “الميليشيا المؤسّسة”، أو بلغة أدق؛ البنية العسكرية التي ترتدي جلد الدولة، بينما تُفككها من داخلها.
هذه التحولات لا تُفشل مسار الانتقال فحسب، بل تُعيد تعريفه بالكامل. ما يُقدَّم اليوم بوصفه مشروعاً للجيش الوطني الجديد ليس سوى إعادة تموضع لقوى ما قبل الدولة، التي تستند في شرعيتها إلى القوة، وفي بقائها إلى الدعم الخارجي، وفي خطابها إلى مزاعم الاستقرار، بينما تُقصي كل منطق للمساءلة أو التمثيل.
حين تصبح المؤسسة العسكرية قناة لتدوير شخصيات خاضعة لعقوبات دولية، أو منصة لتوزيع النفوذ العابر للحدود، فإن المشروع برمّته يفقد قدرته على إنتاج ذاته كوطن. تتحوّل الدولة إلى كيان إداري هشّ، يعمل على هامش كارتيل متماسك يُدير القرارات الأساسية، ويحتكر امتلاك القوة الرمزية والمادية، فيما السلطة السياسية تتحول إلى واجهة لموازين قوى غير معلنة، تتقاطع فيها المصالح الأمنية مع الرهانات الإقليمية.
في هذا السياق، لا يمكن الحديث عن بناء سيادة وطنية، لأن مفهوم السيادة نفسه يصبح غريباً عن بنية الحكم. فحيث لا يُعاد تعريف السلطة على قاعدة العمومية والتمثيل، وحيث لا تُفكّك شبكات الغلبة القديمة، بل يُعاد ترسيخها تحت لافتات مختلفة، وحيث تستمر آليات الإقصاء للنخب العسكرية المنشقة عن نظام الأسد، وكذلك التفويض الخارجي، فإننا لا ننتقل إلى دولة، بل إلى نظام عسكري–أمني بلبوس مدني هش، تحكمه شبكات لا تظهر في واجهات الحكم، لكنها تتحكم في مساراته العميقة.
إن أخطر ما في هذا الكارتيل أنه يدمّر إمكانية تشكّل خطاب وطني جامع، ويحوّل المواطن إلى كائن معلق في مساحة رمادية، لا يثق بالدولة، ولا يجرؤ على الاعتراض، لأنه يعلم أن من يحكمه محصّن بالسلاح، تماماً كما فعل نظام الأسد البائد.
ولذلك، فإن مشروع بناء الدولة السورية الجديدة، إذا لم يبدأ بتفكيك هذا الكارتيل، واستعادة السلطة إلى الداخل السياسي والاجتماعي، فإن كل ما يُبنى فوقه سيظل هشاً، مصطنعاً، وعرضة للانهيار.
إن ما يُعمّق المأزق، ويضفي عليه بعداً سوسيولوجياً أكثر خطورة، هو أن هذا الكارتيل لا يعمل فقط كسلطة قهر فوق مؤسسات الدولة، بل كـ”نظام ثقافي بديل” يعيد صياغة مفردات الانتماء الوطني نفسها. فبدلاً من بناء هوية جمعية جامعة، يعاد ترسيخ الانتماء على قاعدة الولاء العسكري أو المذهبي أو الجهوي، ما يُضعف الهوية الوطنية ويُدخل الدولة في مرحلة إعادة تفكيك رمزي. في هذا السياق، تصبح المدرسة، النقابة، والإعلام مجرد امتدادات لهذا البناء الفوقي، تُكرّس ثقافة القوة والتبعية على حساب ثقافة الحق والمسؤولية.
أما الخطاب السياسي الناتج عن هذا الكارتيل، فهو لا يتحدث بلغة الدولة، بل بلغة “المظلومية المؤسّسة”؛ حيث يتم تقديم السلطة الجديدة بوصفها ضحية سابقة تستحق احتكار القرار، وهذا الخطاب بالضرورة يُفرغ المفاهيم من مضمونها، فيُعاد تعريف السيادة باعتبارها أداة صراع، لا إطاراً قانونياً محايداً.
هكذا، ومع كل توسّع لهذا الكارتيل، يخسر المجتمع السوري فرصة جديدة لبناء دولة حديثة تقوم على عقد اجتماعي حر. بل يُعاد إدخاله في دوامة من الإخضاع الرمزي، حيث لا أحد يملك صوته، ولا شيء يعلو على منطق القوة. وما لم تتم مساءلة هذه البنية تفكيكاً وتمثيلاً، فإن سوريا ستظل رهينة لمرحلة انتقالية بلا أفق.
———————–
بين الدولة الحديثة والمنظومة الجهادية/ أحمد مولود الطيار
22 ابريل 2025
(كتبتُ هذا المقال بوحي من تعليق كتبه أحمد نظير الأتاسي على مقال مالك حافظ “نحو كارتيل عسكري في سورية؟”. يقول الأتاسي (مع الاحترام وحفظ الألقاب للجميع) موجّهًا كلامه لحافظ: “أنت تستخدم المصطلحات الحديثة، أنا مؤرخ وأستخدم مصطلحات قديمة محلية. نحن أمام تحالف من الجماعات المقاتلة الخاضعة لقانون عشائري وقيادة أمير حرب. الآن يحاولون مأسسة هذا التحالف. وأعني المأسسة كغطاء لتقاسم السلطة والغنائم. وهذا ما فعله الأسد الأب. إننا لا نزال نعمل ضمن منطق الدولة القروسطية”).
في قلب الصراع المُعاصر بين الدولة الحديثة والجماعات السلفية الجهادية لا تكمن فقط مصالح متضاربة أو مشاريع سياسية متناقضة، بل تتجلّى مواجهة معرفية ومفاهيمية عميقة، تصل إلى مستوى التأسيس الفلسفي لما يعنيه أن تُدار جماعة بشرية. فالدولة الحديثة، كما تشكّلت عبر تحوّلات القرن الثامن عشر وما بعده، تقوم على جملة من المفاهيم الجوهرية؛ الدولة، المواطنة، الدستور، العقد الاجتماعي، المساواة بين الجنسين، وحقوق الإنسان. أما الجماعات السلفية الجهادية، فإنها ترفض هذه المفاهيم بوصفها بدعًا حداثية ومخالفات شرعية، وتستبدل بها منظومة مفاهيم موروثة أو مُعادة التأويل، تتجذّر في فقه تقليدي صارم وعقيدة نضالية صدامية.
أوّل هذه المفاهيم مفهوم الدولة، فبينما تُعرّف الدولة الحديثة بوصفها كياناً قانونياً مدنياً يقوم على احتكار العنف المشروع ضمن حدود جغرافية مُعترف بها، ترى الجماعات الجهادية أنّ الدولة لا تكون شرعية إلا إذا كانت خلافة إسلامية أو إمارة شرعية تقوم على “تحكيم الشريعة” بمعناها الحرفي. الدولة لديهم ليست نظاماً إدارياً لضبط المصالح العامة، بل هي تجسيد لحكم الله في الأرض. لذا فإنهم يرفضون الشكل الجمهوري أو البرلماني، ويستبدلونه بما يعتقدون أنه نموذج نبوي أو خلافي، وإن بصيغ مؤدلجة.
أما مفهوم المواطنة، الذي يعني في الدولة الحديثة انتماءً قانونياً متساوياً يضمن الحقوق والواجبات بغضّ النظر عن العرق أو الدين أو الجنس، فإنه يُقابَل في الذهنية السلفية الجهادية بمفهوم الولاء والبراء. فالأفراد يُقيَّمون بحسب عقيدتهم، لا بحسب صفتهم كمواطنين. الولاء لا يكون للدولة أو للقانون، بل لـ”جماعة المؤمنين” أو “الأمة”، والبراء يكون من كلّ مخالف عقائدي، سواء كان من “أهل البدع” أو من “الكفار الأصليين”. ويفصّلهم الإمام ابن باز بالقول: “فأعداء الله سواء كانوا يهوداً أو نصارى أو وثنيين أو شيوعيين أو غير ذلك كلهم يسرهم ما يضرنا، ويسوؤهم ما ينفعنا”. ووفقاً لذلك، هذا يقوّض إمكانية التعايش المدني، وينفي فكرة التعدّد والتنوّع أساساً.
في ما يخصّ الدستور، الذي يُعدّ المرجعية القانونية العليا في الدولة الحديثة، تراه الجماعات الجهادية تشريعاً وضعياً يُنازع الله سلطانه. الدستور لديهم هو الشرع، لكن ليس كما تفهمه غالبية المسلمين عبر العصور، بل كما تفهمه وتؤوله قراءات سلفية صارمة ترفض المقاصد وتتمسّك بالظاهر وتنتقي من الفقه التراثي ما يخدم مشروعها القتالي. ومن هنا كان رفضهم للدساتير، ولو تضمّنت إشارات إلى الإسلام، ما لم تكن مرجعيتها الوحيدة هي “الكتاب والسنة بفهم السلف”.
أما العقد الاجتماعي، الذي يؤسّس العلاقة بين الحاكم والمحكوم على الرضا والتفويض المتبادل، فليس له محلّ في الفقه الجهادي. عوضاً عنه نجد مفهوم البيعة، التي هي عقد طاعة دينية لا تُشترط فيه الإرادة الحرّة كما في العقد المدني، بل يُرى الخروج عليه خروجاً على الدين. الحاكم ليس موظّفاً عاماً، بل “أمير المؤمنين”، وطاعته من طاعة الله. والمخالفات لا تُحاسَب بالقانون، بل تُواجَه بالتكفير أو القتل أحياناً، كما فعلت داعش مع خصومها ومعارضيها.
وعندما ننتقل إلى المساواة بين الجنسين، نكتشف حجم الهوة بين المنظومتين. الدولة الحديثة تؤسّس لهذه المساواة بوصفها حقاً طبيعياً ومدنياً، نابعاً من كرامة الإنسان كإنسان. أما الجماعات الجهادية، فتتعامل مع المرأة من منظور وظيفي صرف؛ فدورها بيولوجي أو تعبوي أو تحريضي. لا مكان لديها للمساواة، بل هناك تفاوت شرعي تُبرّره بنصوص فقهية ترفض إعادة تأويلها أو النظر في سياقاتها. الفتاة قد تُزوّج بالإكراه، والمرأة لا تُولّى ولا تُمكّن، والمشاركة العامة لها مقيّدة بضوابط صارمة.
هذه الجماعات ترفض أيضاً مفاهيم الحرية، وتعيد تعريفها لا باعتبارها حرية اختيار وممارسة، بل باعتبارها تحرّراً من الجاهلية، أي من كلّ ما هو غير إسلامي (وفقاً لفهمهم). وبهذا، يصبح المفهوم المعاكس للحرية في الدولة الحديثة هو العبودية لله، لكن هذه العبودية لا تُفهم هنا على أنها تحرّر روحي أو علاقة فردية مع الإله، بل خضوع مطلق لجماعة تزعم تمثيل الله وتنصّب نفسها وصية على عقائد الناس وسلوكهم.
وفي السياق ذاته، تُلغى مفاهيم الحدود الوطنية والسيادة، ويتم استبدالها بتقسيمات عقدية؛ دار الإسلام ودار الكفر. لا قيمة للهوية الوطنية، بل المطلوب إزالة الحدود واستعادة “وحدة الأمة” تحت “إمام واحد”. وهي فكرة بدت جاذبة لبعض الشباب في ظلّ تراجع الدول وفشل أنظمتها، لكن تطبيقها الواقعي أنتج كيانات عنيفة دموية لا تعترف إلا بالقوة.
أخيراً، ترفض هذه الجماعات، التعدّدية، سواء الدينية أو السياسية. فـ”الآخر” ليس مواطناً له حقوق، بل هو إما كافر يُستتاب أو يُقاتَل، وإما مبتدع يُحذَّر منه، أو علماني يُكفَّر. فمفاهيم الديمقراطية، التعدّد الحزبي، حرية المعتقد، حرية التعبير… كلّها بدع محدثة في نظرهم، ولا يجوز القبول بها حتى تكتيكاً. وفي دراسة حديثة صدرت عن مركز حرمون للدراسات بعنوان “الإسلام السياسي السوري: قراءة في تحولات الفكر والممارسة” للباحث السوري مناف الحمد، نقرأ موقف جبهة النصرة ، قبل أن تغيّر اسمها إلى هيئة تحرير الشام، موقفها من الديمقراطية على لسان منظّر القاعدة الأبرز أبو مصعب السوري، وهي، حسب الحمد، “رؤية تبناها الجولاني لفترة طويلة قبل أن يغير مواقفه تغييراً كبيراً ظاهرياً، ولا يُدرى هل كان تغييراً حقيقياً، أم كان مجرد تكتيك براغماتي”، يقول أبو مصعب: “إن الديمقراطية كفر، نعم، دين كفري يناقض شريعة رب الأرض والسماء، جملة وتفصيلاً، ولا نرى أن لأحد استثناءً يرقع به فعله… ونرى أن معتقدها كافر مشرك خارج عن ملة الإسلام، وأن المتلاعب بها على وجه من وجوه التأويل ضال فاسق متلاعب بدين الله”.
بهذا، نرى أنّ المواجهة مع الفكر الجهادي السلفي ليست فقط مواجهة أمنية أو سياسية، بل هي مواجهة بين نمطين معرفيين: أحدهما يضع الإنسان في مركز المفهوم السياسي، ويمنحه الحقوق ويطالبه بالواجبات؛ والآخر يضع العقيدة كما يفهمها في المركز، ويُخضع الإنسان لجماعة تملك التأويل والسلاح معاً.
العربي الجديد