تقنية

“تعفّن الدماغ”… أو أن يُدمّر الاستهلاك الرقمي عقولنا/ بشار نرش

24 ابريل 2025

نشر الكاتب الأميركي هنري ديفيد ثورو، في العام 1854، كتابه “والدن”، انتقد فيه النزعة المجتمعية لتفضيل الأفكار البسيطة على المفاهيم العميقة، معتبراً ذلك علامة على تراجع الجهد الفكري والمستوى العقلي للمجتمع. وقد عبّر عن ذلك بقوله: “بينما تسعى إنكلترا لعلاج تعفّن البطاطس، ألا يجب أن نحاول علاج تعفّن العقول الذي ينتشر على نطاق أوسع وأكثر خطورة؟”.

ومنذ ذلك الوقت، برز مصطلح “تعفّن العقول” مجازاً ثقافياً وفكرياً يُعبّر عن حالة الانحدار العقلي، وتراجع التفكير النقدي، وانشغال الأذهان بالتفاهات على حساب المعنى والمعرفة. لكنّ ما كان في نظر ثورو ظاهرة اجتماعية محدودة في القرن التاسع عشر تحوّل في عصرنا الرقمي إلى ظاهرة عالمية متفشّية، تتجاوز حدود الثقافة واللغة والجغرافيا. وقد بلغ هذا المصطلح ذروة حضوره في العام 2024، حين اختاره قاموس أكسفورد البريطاني ليكون “كلمة العام”، بعدما سجّل ارتفاعاً بنسبة 230% في معدّل استخدامه بين عامي 2023 و2024، مدفوعاً بتداوله الواسع على وسائل التواصل الاجتماعي، من جيلي “زد” و”ألفا”، لوصف التأثيرات السلبية للمحتوى الرقمي منخفض الجودة على البنية الذهنية والنفسية للمستخدمين، ليعكس بذلك قلقاً جماعياً متزايداً من التأثيرات العميقة للتكنولوجيا الرقمية، ولا سيما مع نشوء جيل كامل داخل حضن الشاشات، وتشكّل وعيه تحت وقع التنبيهات، والإشعارات، والمحتوى السريع القابل للابتلاع من دون أي جهد ذهني حقيقي.

يشير مصطلح “تعفّن الدماغ” (Brain Rot)، حسب قاموس أكسفورد إلى “التدهور المفترض للحالة العقلية أو الفكرية للشخص، خاصةً عند النظر إليه نتيجة استهلاك مواد تُعتبر تافهة أو غير محفزة فكرياً”، أي أنّ تعفن الدماغ يعبّر عن حالة من الخمول العقلي وفقدان القدرة على التركيز والتفكير العميق، ناتجة عن التعرّض المستمر لمحتوى رقمي منخفض الجودة، أو متكرّر، أو مفرط في التحفيز، ويشمل ذلك مشاهدة المقاطع القصيرة على منصّات مثل “تيك توك” و”إنستغرام” و”يوتيوب شورتس”، أو الانجراف خلف العناوين الجاذبة للمقالات، أو متابعة التعليقات المتداولة على المنشورات، وبذلك يُعبّر هذا المصطلح، الذي يرتبط بفكرة “الفيضان المعلوماتي”، ببلاغة عن روح العصر التي تتجلّى في الإدمان الرقمي والإرهاق الذهني، إذ يؤدّي هذا الكم الهائل من المحتوى المتاح عبر الإنترنت إلى إنهاك قدرة الدماغ على معالجة المعلومات والاحتفاظ بها. ومع مرور الوقت، يتسبّب هذا في صعوبة التركيز، ومشكلات في الذاكرة، وشعور عام بالإرهاق العقلي، وهو خطرٌ لا يجب أن نستخف به، بل أن نواجهه قبل فوات الأوان.

وعليه، تبدو المفارقة اليوم أكثر وضوحاً من أي وقت مضى، ففي زمنٍ أصبحت فيه الشاشات نافذتنا الأولى إلى العالم عند الاستيقاظ صباحاً، وآخر ما نودعه قبل الغوص في عتمة النوم، تحوّلت ليالي كثيرين إلى سباق محموم بين مقاطع لا تنتهي، حيث تتلاشى الحدود بين الدقائق والساعات تحت إغواء التمرير اللامحدود، وبذلك لم يعد “تعفّن الدماغ” مجرّد حالةٍ فرديةٍ من الانفصال المعرفي أو الكسل الذهني، بل صار نمطاً جمعياً له ملامحه المميزة كتقلّص مدى الانتباه، والإدمان على المحتوى القصير والمثير، والتعلّق المرضي بالتحديثات اللحظية، والاعتياد على المعارف المجتزأة التي لا تُبنى فوقها معرفة ولا تنشأ عنها أسئلة، فكل هذا المحتوى الرقمي السطحي، والذي غالباً ما يكون مصمّماً لجذب الانتباه بسرعة على شكل فيديوهات قصيرة كـ”الريلز” و”يوتيوب شورتس” و”تيك توك”، يعتمد على إثارة مشاعر فورية من المتعة عبر إفراز هرمون السعادة (الدوبامين). ومن خلال الاستهلاك المفرط للمحتوى غير المفيد وتكرار هذا التحفيز السريع، يتشكّل نوعٌ من “الوعي المشطور” الذي يقفز من معلومة إلى أخرى، ومن انفعال إلى سواه، من دون تروٍ أو تأمل، الأمر الذي يخلق نوعاً من الإنهاك العقلي المزمن، ويجعل الدماغ يعتاد على عدم بذل جهد في التفكير، وهو ما يؤدي إلى ضعف القدرات العقلية، وحتى التبلّد الشعوري التدريجي مع مرور الوقت. وهذا ما أكّدته دراسات علمية حديثة ربطت بين كثافة الاستهلاك الرقمي وارتفاع معدلات القلق والاكتئاب واضطرابات النوم وتراجع الأداء الأكاديمي، خاصةً لدى المراهقين، مؤكّدة، في الوقت نفسه، أن الاستخدام المفرط للمحتوى الترفيهي السطحي يعيد تشكيل الدماغ على نحو يقلّص قدرته على التركيز الطويل أو الانخراط في نشاطات ذهنية تتطلب جهداً معرفياً مستمرّاً. وفي هذا الصدد، تقول غلوريا مارك، عالمة النفس الأميركية، والمستشارة في جامعة كاليفورنيا، إنًها وجدت، بعد دراسة عملية الانتباه أكثر من 20 عاماً، تقلّصاً بشكل كبير في الانتباه، وأنّ متوسط انتباهنا لأي شاشة يبلغ حوالي 47 ثانية فقط قبل الانتقال إلى شيء آخر.

وللاستدلال على مدى الخطورة، أكدت دراسة أجرتها جامعة بريتش كولومبيا الكندية أخيراً، شارك فيها 400 طالب وشخص جرى منعهم من الاتصال بشبكة الإنترنت على الإطلاق أسبوعين، والاكتفاء باستخدام الهاتف الذكي في إجراء المكالمات الهاتفية وإرسال الرسائل النصية واستقبالها فقط، أنّ التوقف عن استخدام الإنترنت لهذه المدة القصيرة أظهر تحسناً كبيراً وملحوظاً في الانتباه والتركيز بدرجة تعادل انتباه شخص أصغر بعشر سنوات، كما أظهرت الدراسة أن 90% من المشاركين أكدوا أنهم يشعرون بتحسّن ملحوظ في حالتهم النفسية والذهنية، وارتفاع معدّلات الرضا عن الحياة، تماماً مثلما تفعل مضادات القلق والاكتئاب التي يلجأ إليها كثيرون.

باختصار، يمكن القول إنّ الإنسان اليوم أصبح عبداً للتكنولوجيا، بكل ما تعنيه الكلمة من معنى، بحيث لم يعُد “تعفّن الدماغ” مجرّد انشغال بالقشور أو بالتفاهات العابرة، بل تحوّل نمطاً يومياً للحياة، تغذّيه خوارزميات مُعدّة بعناية لجذب الانتباه، وتحفيز استهلاك سريع ومتواصل للمحتوى، وإبقاء الفرد في حالةٍ من التيقظ الدائم، لكن من دون وعي فعلي أو إدراك عميق. لذا لا بد من إعادة ضبط العادات الرقمية من خلال تقنين استخدام الشاشات، وموازنة التعرّض للمحتوى الرقمي بأنشطة تعزز الإدراك، وتنمي التركيز، وتحفّز الإبداع.

العربي الجديد

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى